إفلاس!١
لا أَكْذِبُ القراء الخبر، فلقد اجْتَمَعْتُ اليومَ لأكتب «حديث رمضان» فإذا بي
مُفْلس لا أصيب زادًا، ولا أجد لشأني عُدَّة ولا عتادًا، ولست أعني الإفلاس من
المال، فهذا شيء قد أزْمَنَ وطال ثواؤه، حتى نَزَلَ منا والحمد لله منازل العادة،
بحيث لو فارقنا لالتمسناه وتفقدناه، ووجدنا له من الشوق والحنين، ما لا يجد في
وحدته مالك الحزين،
٢ ورحمة الله على المتنبي حين
يقول:
خُلِقْتُ ألوفًا لو رَجَعْتُ إلى الصبا
لَفَارَقْتُ شيبي مُوجَعَ القلب باكيَا!
وبهذا ارتقينا، بفضل الله تعالى، عن مرتبة الرياضة على الصبر، إلى مقابلة المكروه
بالحمد والشكر، فبتنا خيرًا من كُثَيِّر عَزَّةَ حين يقول:
فقُلْتُ لها يا عَزُّ كُلُّ مصيبة
إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفْسُ ذَلَّتِ
فليس الإفلاس المَعْنِيُّ إذَنْ إفلاسَ مال، ولكنه إفلاسُ مَقال!
•••
لقد فَصَحَنِي النهار، وعليَّ أن أَكْتُبَ «للجهاد» حديثَ رمضان، وأنبعث إلى مكتبي
فأستوي له، وأبسُطُ القرطاس بين يديَّ، وأشرَعُ اليراع ثم أهوي به، فإذا هو يتعصَّى
علَيَّ ويركَبُ رأْسَهُ، ويشْرُدُ تارةً إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، ما يُكَفُّ
له جِمَاحٌ ولا يُطَامَن مِنْ نِفَار!
يا ويلتا! ماذا أكتب «للجهاد» اليوم وكيف أقول؟ اللهم لا شيء!
أترى الأرض كلها قد أقْفَرَتْ من موضوع يَكْتُب كاتبٌ فيه، ولو بالإصابة من أطرافه
ومَسِّ حوافيه؟ اللهم لا!
وإني لأبسُط العزم وأشُدُّه، وأذكي الذهن وأَحُدُّه، وأَمُدُّ الفكر وأثنيه،
وأنشره ثم أطويه، وأتَصَعَّد به إلى السماء، ثم أَغُوصُ به في جوْف الدأماء،
٣ فلا يُجْدِيني ولا قَطرة ماء!
ثم إني لأرمي بالقلم وأتطاير عن مكتبي، وأنفر إلى حديقتي الصغيرة، فأتفقد أشجارها،
وأتوسم أزهارها، وأُهَرْوِلُ من ها هنا ومن ها هنا، لعل خاطرًا يعتريني فأصيب به
كلامًا، فإن ظَفِرْتُ بعد هذا بشيء، فظفر القابض على المزقة من الفيء.
٤
ثم أعود فأستوي إلى مكتبي فأستندي ذهني فلا يَنْدَى، وأَرُوضُه على القول فلا
يُطِيع ولا يَرْضى، وأَسْتَبِينُهُ فلا يَبِين، وأستعطفه فلا يَرِقُّ ولا يلين،
وأستمنحه فلا يَمْنَح، وأستعطيه فلا يُعْطي ولا يَنْفَح، وإني لأهز القلم هِزَّة الكمي
٥ ساعة يخرج للنزال،
ويبرز لقراع الأبطال، فإذا هو يتعايا في يدي ويتثاقل، وإذا هو يتراخى ويتزايل، وإذا
بي أراه قد تفلَّل من غير حرب، وتثَلَّم من غير طعن ولا ضرب!
ويلي عليك وويلي منك يا هذا القلم!
هذا ميزان النهار قد اعتدل، وهذا البريد يتهيأ للسفر، فإن لَمْ أُرْسِل على
جَنَاحِهِ حديثي «للجهاد» فبأي وجه أُطَالع القُراء من غدي؟ إذن فلأبعث بهذه الشكوى
العاجلة، لعل في معشر القارئين مَنْ يَعْذِر الكاتب إذا ونى أو قَصَّر، ويرثي له
إذا تَعَاصَى عليه البيان وتَعَذَّرَ!