في الجمال١
لا أَعْرِضُ لتعريف الجمال، لأنني عاجز عن تعريفه، وما الحاجة إلى ذلك وهو حاضر في كل نفْس، موصول بكُلِّ حس، يستشعره الإنسان، كما يستشعره الحيوان؟
ثم تمشي متثاقلة إلى خِدْرِها، لتتوارى عن العيون خَلْف ستْرِها، وهي تعتمد من شُعَاعِها على عكازة، كأنها شيخة أَجْهَدَهَا طولُ السرى في مَفازة، حتى إذا حاذت الأفق، جعلت تتدلى وراءه رويدًا رويدًا، كأنها تتزود ليومها من العالَم بآخر نظرة، أو لِتَنْفُث من شعاعها المهزول ما أجنت على الصبا من لوعة وحسرة، حتى يغشاها الذبول، ويُدْركها الأفول، مُخَلِّفَة وراءها فُلُولًا من جيشها الأحمر، ما تفتأ تجتاحها جيوش الظلام، وكذلك الأيام دُوَلٌ وسبحان من تفرَّدَ بالدوام!
•••
وهذا القمر يبدو لك أَوَّلَ الشهر خيطًا دقيقًا، ثم يبدو لك في ثانيه كحاجب الأشيب، ثم يستوي قوسًا، والنجوم تُحِفُّ به وتُدَلِّلُه، وتَسْهَر عليه في سُقْمه وتُعَلِّلُه، ولله دَرُّ ابن المعتز إذ يشبه الهلال بقوله:
وقوله:
ولا يزال ينمو ويدرك حتى يستوي بدرًا كاملًا، والنجوم حافة مِنْ حَوْلِهِ منها الثابت ومنها الرجراج، ومنها ما أثبتته الهيبة ومنها ما ألهبه الوجْدُ فهو دائم الاختلاج، وكيف لا تحتفل النجوم لابن الشمس ووليِّ عهدها، وحارس ليلها وقائد جُنْدِها في بُعْدِها؟
والقمر في أول مولده، وفي طفولته، وفي فُتُوَّتِه، وشباب سِنِّه، وفي شيخوخته وهَرَمِه؛ رفيق النفس، رقيق الطبع، كريم الجوهر، حُلْو الشمائل؛ ما حضر إلا أهنأ وهدى، وما غاب إلا أضل وأشقى؛ وما تألق إلا كسا الأرض بُرْدًا من لُجَيْن، إذا أَنْكَرَتْهُ اليد فهيهات أن تُنْكِرَهُ العين!
•••
وهكذا، فإنك واجدٌ الجمالَ في الكثير مما جَلَت الطبيعة، وفي الكثير مما جالت به يد الإنسان.
•••
ومن الناس من لا تخلِبه إلا الموسيقى، فهي تريه من آي الجمال بأذُنِهِ، ما لا يستطيع أن يشهد بعينه، وهي تُشِفُّه حتى يحسب نَفْسَهُ صفحةً من الماء، وتُرِقُّه حتى يَخَالها قطعةً من الهواء، وتُخَفِّفه حتى يُحَلِّق في جو السماء، وما هو أنَّ حلقًا صَلْصَلَ أو أنَّ وَتَرًا تَنَغَّمَ، ولكنَّ نفسًا صَبَتْ وقلبًا تَكَلَّم!
•••
ولقد قلْتُ لك إن الناس ليسوا على حظ سواء في إدراك الجمال ومبلغ إصابة اللذة منه، والواقع أنهم في هذا متفاوتون كلَّ التفاوت: فمنهم من يَسْمُو فيه إلى حد الافتتان والانبهار، ومنهم من يُسِفُّ إلى حد جمود الحِسِّ وصمم الشعور، وبين هذين الحدَّين مراتب بعضُها فوق بعض.
هذا وليست نعمةُ الشعور بالجمال مقصورةً على إصابة اللذة وتنعيم النفس، واستراحتِها من العناء، وتفرُّجِها من ألوان الهموم؛ بل إنَّ لها وراءَ ذلك أثرًا بعيدًا في ترقيق الحس، وتهذيب النفس، والمطامنة من جِماحها، ورياضتها على العطف والرحمة وحب الخير، كما أنَّ لها أثرًا بعيدًا في تهذيب المدارك، وتعويدها دقةَ الملاحظة، وشدة التفطن لما يُعْيى على كثير من الناس.
وإدراك الجمال، مهما يَجِفَّ الطبع، يمكن أن يُكْتَسَبَ بالتنبيه وترديد الملاحظة، ولَفْت الشعور بإظهار الإعجاب والافتتان، حتى إذا أَوْمَضَ في نفس الناشئ بَرْقُه، نَبَضَ له عِرْقُه، فأقْبَلَ على التماسه، فإذا أصابه جعل يتأمله، ويُجَرِّد له الحاسَّةَ التي تدركه، ولا يزال هذا دأبَه وَوَكْدَه حتى تستوي له مَلَكَةُ إدراك الجَمال، وله منها بعد ذلك ما شاء الله من اللذة ومن تهذيب النفس أيضًا.
•••
ولقد كان أكثرنا — نحن المصريين — إلى زمن قريب، لا يُعْنَى بهذه المَلَكَة ولا يحتفل لها، بل إن بعضنا قد كان يَعُدُّ تَفَقُّد كثير من مظاهر الجمال ضَرْبًا من العبث، بل ضَرْبًا من الفتون.
وأعرف رجلًا من الأغنياء المتعلمين المُتْرَفين أيضًا، ما خَلَتْ دارُه من سيارة أو اثنتين أو ثلاث لحاجاته وحاجات أولاده، أفتدري كيف يقضي هذا الغني المتعلم المُتْرَف كل أوقات فراغه؟
ولست بالضرورة أَسُوقُ هذين مثلًا لجميع المصريين، وعلى كل حال، فإن نهضتنا الجليلة تناوَلَتْ فيما تناوَلَتْ فنون الجمال، فلقد وثبت الأُمَّةُ لمعاضدتها، وانبعثَت الحكومة لمساعدتها، وتظاهَرَت الهمم من كل جانب على تربية الأذواق وإرهاف المشاعر، فمن تشييد المعاهد للفنون الجميلة على اختلاف ألوانها، إلى إنشاء متاحف جديدة، وزيادة العناية بالمتاحف القديمة، إلى الإكثار من إقامة المعارض لمُفْتَنِّ الصور، وأخرى لمبتدع الزهر، يتبارى فيها المتبارون، ويتسابق إليها المتسابقون، وسيكون لهذا كله أثره في تربية الأذواق، وفي تهذيب الأخلاق، فإن من البطر على فضل الله ألا يُقْبِل الناسُ على إمتاع النفوس بهذه النعمة العظيمة التي لا تكلف الناس من المال أو الجهد — إن هي كَلَّفَتْهُمْ — إلا يسيرًا!