الشيخ علي يوسف١
في يوم ٢٥ أكتوبر من سنة ١٩١٣ والقلوب واجفة، والأبصار زائغة، ومصاير الأمور تتواثب للأوهام في صُوَرٍ مبهَمَة غامضة، تضطرب بين اليأس كلِّه وبين الرجاء كلِّه، والناس يتساءلون متهامسين من الخوف ومن الوَرَع: تُرَى ماذا عسى أن يكون قَسْمُ مصر من هذه الحرب العامة، وماذا كَتَبَتْ لها الأقدار، في صفحتي الليل والنهار؟
في ذلك اليوم من تلك الأيام السود، مات رجل ليس كمثله في مصر كثير، رجل إذا أَحَبَّه ناسٌ أَشَدَّ الحُبِّ، فلأنه قوة كبيرة في مصر، وإذا كَرِهَه ناس أشد الكره، فلأنه قوة كبيرة في مصر، فالشيخ علي يوسف، على تَفَرُّق الأهواء فيه، كان قوة هائلة في هذه البلاد يحسب الناس جميعًا لها كل حساب.
ولقد كنت من الذين أبغضوا الشيخ عليًّا أبْعَدَ البُغْض، ثم كُنْتُ من الذين يحبونه أغلى الحب، ولا والله ما رأيتُهُ في حالَيْ بُغْضِي وحُبِّي له إلا رجلًا عظيمًا!
مات الشيخ علي يوسف في ذلك اليوم، فما قامت الدنيا لِمَوْتِه كما كان ينبغي أن تقوم، ولا قَعَدَت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تَقْعُد، بل لقد شُيِّعَ ودُفِنَ كما يُشَيَّع ويُدْفَنُ أوساط الناس، وكأن الناس لم يُشَيِّعوا فيه مفخرة من مفاخر مصر، ولا أودعوا الضريح كنزًا من كنوزها الثمان!
لا أقول إنه الإهمال السيئ، ولكن أقول إنه الظرف السيئ، ولا أريد المزيد، والآن تسأل الشباب المثقفين المتعلمين عن الشيخ علي يوسف، وكيف كان خطبه في البلاد من إحدى وعشرين سنةً فقط، فترى أقلَّهم من لا يعرف عنه كثيرًا، وترى أكثرَهم من لا يعرف عنه كثيرًا ولا قليلًا!
أهكذا، وبهذه السرعة السريعة، تختفي سِيَرُ الرجال عندنا كما تختفي الصُّوَر إذا ساد الظلام، أو كما تختفي أشبَاحُ الرُّؤَى ساعةَ الهبوب من المنام؟
وإنني لأضيف الوِزْر في هذا أيضًا على الظروف، والحمد لله الذي جعل لنا من هذه «الظروف» تُكْأةً نعتمد عليها كلما غَشِيَتْنَا غاشية من الإهمال، أو طاف بنا طائف من سَيِّئ الأعمال!
•••
ولقد قُلِّد الشيخ علي منصب مشيخة السجادة الوفائية، فاستحق بهذا أن يُسَمَّى السيد عليًّا، وقَلَّدَهُ الخليفة العثماني الرتبةَ الأولى من الصِّنف الثاني، فاستحق بذاك أن يُدْعى علي بك أو علي باشا يوسف؛ ولكنني لا أُعَبِّر عنه إلا بالشيخ علي يوسف، هذا الاسم الذي طالما رَنَّ في الآذان، وتَجَاوَبَتْ به الأصداء من كل مكان: الشيخ علي يوسف! الشيخ علي يوسف! وحَسْبه بهذا لقبًا، بعد ما اعتز بنفسه حَسَبًا، وكُرِّمَ بالرسول الأعظم نَسَبًا.
كان الشيخ علي يوسف رجلًا عصاميًّا بأوفى معاني الكلمة، نجم في «بلصفورة» من بلاد مديرية جرجا، في أسرة إذا كَرُمَ أَصْلُها فقد رَقَّتْ حالها؛ ولا تَنْسَ أن المال هو كل شيء في هذا الزمان، وتَعَلَّمَ القراءة والكتابة في كُتَّاب القرية، وحَفِظَ القرآن الكريم، ثم انْحَدَرَ إلى بني عدي من أعمال مديرية أسيوط، فطَلَبَ العلم هناك على الشيخ حسن الهواري، ثم قَدِمَ الأزهر فَطَلَبَ العلم فيه بضع سنين.
وإلى هنا كانت حياة الشيخ علي حياةً عاديةً بحتة، فلم يَزِدْ خَطْبُه على مُجَاوِرٍ مغمور في ذلك الخِضْرِم الزاخر بآلاف المجاورين.
وتَسْتَشْرِف نفْس الفتى للأدب، والأدب في ذلك الوقت أن تقول شِعْرًا مُقَفًّى موزونًا، فإذا أَعْوَزَكَ العروض، وعُمِّيَتْ عليك أوزان الشعر، فحَسْبُكَ أن يكون المِصْرَاع في طول المصراع، فإن زاد الكَلِمُ ففي تصغير الكتابة وتدقيق الحروف مُتَّسعٌ للجميع، وعلى شرط أن تَتَغَزَّل فتتغَزَّلَ كلما طَلَبْتَ مديحًا، وتتغَزَّل كلما أَرَدْتَ رثاء، وتتغَزَّل كلما ابتغَيْتَ هجاء، وكانت هذه — وخاصة في البيئة الأزهرية — أهم فنون الشعر، إن لم تَكُنْ جميع فنون الشعر!
وعلى هذا قَرَضَ الشعرَ المجاورُ علي يوسف، فذهب له بين المجاورين صِيتٌ وذِكْرٌ.
ولقد كان الأدب يُحْمَد من المجاور عند أشياخه، إلا أن يُسْرِف فيه، ويُجَرِّد له صدرًا كبيرًا من وَقْتِه، فإنهم كانوا يَكْرَهون ذلك منه، لأنه في الواقع يَشْغَله بقدْر ما، عن توفير الذهن على الدرس والاستذكار، ويَرَوْنَ هذا منه آيةً على «عدم الفتوح» والعياذ بالله! وحسْبُهُ في العام قصيدة يَمْدَح بها شيخَه يوم يختم الكتاب، وقصيدة أو اثنتان يرثي بهما من يموت من عِلْية العلماء.
وأسرف الشيخ علي في قَرْض الشعر، فَمَدَحَ ورَثَى، وتغزل «بالطبع» وهجا، حتى اتسق له مِنْ هذا النظم ما جَمَعَهُ بعدُ في ديوان كامل، وبهذا أصبح مُجَاوِرًا ممتازًا وإن حق عليه القول، وتراءى له شَبَحُ الهول!
إذَنْ أصبح الشيخ مُجَاوِرًا ممتازًا بين المجاورين بالأدب، أو إنْ شِئْتَ قُلْتَ: لقد أدركَتْهُ من الناحية الأزهرية حِرْفَة الأدب.
ولقد دعاه هذا إلى الاختلاف إلى مجالس الأدباء، ومساهرتِهِم ومسامرتهم والتروِّي عنهم، ثم إلى غِشْيان دور بعض العلية ممن كانوا يجلسون لأهل العلم والفضل والأدب، فيتحاضرون ويتذاكرون، وأقبل الشيخُ علَى هذا الشأن بقَدْر ما أَدْبَرَ عن الكد في دروس الأزهر، ثم جعل يُرْسل المقالات المنثورة في الصحف والمجلات التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وكان يكتب أوَّلَ الأمر على طراز الكاتبين في عصره: مقدمات طويلة تُمَهِّد بين يدي كل موضوع ولو لم تدْعُ إليها حاجة الكلام، واحتفال للمحسنات البديعية تُسْتَكْرَه استكراهًا، ولو استَهْلَكَت الغرض المطلوب!
على أن من حُسْن حظ الشيخ علي أنه ابتدأ في معالجة الكتابة في الوقت الذي انبعثَتْ فيه تلك النهضة البيانية الفاخرة، تلك النهضة التي نفخ في ضرامها بالإرشاد والتنبيه السيد جمال الدين الأفغاني، وبالفعل من الإنشاء والتعليم والتأليف الشيخ حسين المرصفي، وللشيخ علي طبيعة، وفيه فطنة قوية، فجعل يدَرِّب قَلَمَهُ ويُرَوِّضُه على إرسال البيان سهلًا جزْلًا خاليًا من الاعتساف، متطلقًا من تكاليف البديع.
وفي هذا المقام يجدر بي أن أُنَبِّه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك أن حُسْن البيان وجَودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تَمَكُّن الكاتب من ناصية اللغة، وتفقُّهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصَدْر صالح من بلاغات بلغائها، إلى حُسْن ذَوْق ورهافة حِسٍّ، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فِكْرَته أنوَر صياغة، ويصورها أبدع تصوير، بل إن ذلك لَيَرْجِع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جدًّا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة رُوحه، فقد لا يكون الرجل وافِر المحصول من متن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعنيِّ بتقصي مَنَازِعِ البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام، ذلك لأن شدة نفْسه، وجبروت فِكْرته، تأبى إلا أن تَسْطو بالكلام فتنتزع البيان انتزاعًا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني، وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبينَ مثال على هذا الذي نقول، ولقد يَعْجَب القارئ أشَدَّ العجب إذا زَعَمْتُ له أن المرحوم حسين رشدي باشا، وكان رجلًا قَلَّ أن تطرد على لسانه ثلاثُ كلمات عربية متواليات، لقد كان أحيانًا يرتفع بالعبارة إلى ما يَتَخاذَل من دونه جُهدُ أعيان البيان!
والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف — على أنه تعلم في الأزهر، وقرأ طَرَفًا من كتب الأدب، واستظهر صَدرًا من مَظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها — لم يكن مدينًا في بيانه لشيء من هذا، بقدْرِ ما كان مدينًا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحدًا لم يَنْتَهِ في البيان منتهاه، ثم تُقْبِل على صيَغِه تفتشها وتَفُرُّها، فلا تكاد تقع على شيء من هذا النظم الذي يتكلفه صدورُ الكُتَّاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبًا، أو على الصحيح لقد خَطَّ قلمه القوي نهجًا من البلاغة غير ما تعاهَدَ عليه الناس من مَنَازع البلاغات.
ولندع الآن بيان الشيخ عليٍّ وأثرَهُ، فلذلك موضعٌ آخرُ من هذا الحديث، ونعود إلى تاريخ الرجل فنقول: إنه ما كان يستوي له ذلك القدر من الأدب حتى أنشأ مجلة دعاها «الآداب»، وهي وإن لم تكن شيئًا يُذْكَر بالقياس إلى المجلات الأدبية القائمة الآن، لقد كانت شيئًا مذكورًا بالقياس إلى المجلات التي كانت قائمة في ذلك العهد، وخاصةً بعد إذ عَفَّى الزمن على مجلة «روضة المدارس» التي كان يقوم على تحريرها وإجالة الأقلام بروائع البيان فيها صدور العلماء والشعراء والكُتَّاب.
المؤيد
وإذا قُلْتَ «المؤيد» قلْتَ شطْرٌ من تاريخ مصر محتفل بالأحداث العظام راع أهل الرأي في مصر أنْ ليس لهذه الأمة — أعني للمسلمين وهُمْ كَثْرَتُها الكثيرة — صحيفة تتحدث عنها وتُدلي بحاجاتها، وتُتَرْجِم عن أمانيها، وتذود عن حقوقها وكرامتها، وإنَّ أمة ليس لها في هذا الزمان صحيفة، لهي أمة لا تُحِسُّ لنفسها وجودًا، ولقد قَوِيَ الشعور بشدة الحاجة إلى صحيفة وطنية إسلامية بعد إذ صدرَ المقطم صحيفةً تُظاهر الاحتلال الإنجليزي، وتُروِّج للسياسة الإنجليزية في هذه البلاد، وتدفع في صَدْر الأماني القومية ما اعترضَتْ تلك السياسة في يوم من الأيام، وهنا يتقدم الشيخ عليٌّ مع صاحب له يدعى الشيخ أحمد ماضي، فينشئان جريدة «المؤيد» يومية سياسية وطنية إسلامية، ثم لا يلبث الشريكان أن يختلفا، ولا يخرج أحدهما عن الشركة إلا على مال، والمال في يد الشيخ علِيٍّ أقل من القليل، وهنا تحركت أريحية بعض كبار المصريين، فأدوا المالَ عن الشيخ إلى صاحبه، وهكذا خلص المُؤَيدُ للشيخ علي يوسف، وكان للمرحوم سعد باشا زغلول في هذا سعيٌ مشكور.
وأذكر أنه لما أتى رحمه الله بمطبعة جديدة من طراز «الروتاتيف» وعقد لذلك حفلًا جامعًا في إدارة «المؤيد»، خَطَبَ في الجمع فأتى في سيرة المؤيد على هذه الحادثة، ونوَّه بفضل سعد بك زغلول «المستشار بمحكمة الاستئناف» الذي أبى أن يسمع هذه الخُطبة إلا واقفًا.
وجرى المؤيد طلقًا، والله يعلم كم عانى الشيخ علِيٌّ في إخراجه فردًا لا مسعد له من معين أو من مال، الحق أن الرجل قد جاهد في هذا جهاد الجبابرة، وعانى عناءً لو صوَّره القلم على حقيقته لظنه الناس من إحدى القصص التي تُمَثِّلُها أخيلةُ الكتاب، وهكذا لم يَمْضِ زمن طويل حتى جَنَى ثمرةَ الصبر العجيب إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ صدق الله العظيم.
مضى «المؤيد» يحرره الشيخ علي يوسف، ويرفده بالمقالات البارعة أعيانُ أهل الرأي والعلم والأدب في البلاد، من أمثال المرحومينَ: الشيخ محمد عبده، وسعد بك زغلول، وقاسم بك أمين، وفتحي بك زغلول، وحفني بك ناصف، وكثير غيرهم من أصحاب البيان، وكانوا يُسِرُّون أسماءهم في الأحاديث السياسية بوجه خاص، فذلك مما لا تَأْذَن به المناصب الحكومية بحال، وكذلك أضحى المؤيدُ مجالًا لأفحل الأقلام وأنضج الآراء، بل لقد أضحى المدرسةَ التي تَخَرَّج عليها من شهدوا الجيل الماضي من أعلام البيان.
ويسير المؤيد، ويذهب صيته لا في مصر ولا في العالم العربي فحسب، بل في العالَم الإسلامي كُلِّه، فلقد أصبح لسانه المعبر أفصح تعبير عن حقيقة حاله، والمترجم أنصح ترجمة عن آلامه وآماله، ومتحدِّث أخبار المسلمين وراويها، وملتقى أفكارهم في قواصي الأرض وأدانيها:
وحسبنا هذا القدْرُ الآن في المؤيد وفي صاحب المؤيد، وسنعاود الحديث فيه إن شاء الله تعالى، عسى أن نُوَفِّيَه بعضَ حقه إن لم نُوَفِّه كُلَّ حقه، رحمة الله عليه.
ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، على أنه كان إلى الطول، يظهر في مَرْأَى العين نحيلًا هزيلًا، ولكنه كان مُكْتَنِز اللحم، مستطيل الوجه، واسع مساحة الجبهة، أزرق العينين، طويل الهُدْبَيْن، كثيرًا ما ترى له في إطراقه نظرةً غريبةً ساجية، ضيِّق الفم، على أن في شفتيه الحمراوين شيئًا من الغِلَظ، تعلوه صُفرةٌ ما أحسبها من أثر مرَض، وشعر لحيته الدقيقة المتسقة يميل إلى الشُّقرة، رفيق الصوت لَيِّنه إذا تحدث، فإذا رَفَعَ صوته ضَمُرَ بعض الضمور، وتسلَّخ بعض التسلخ، فلم يكن من تلك الأصوات التي تَصلح للخطابة.
وكان بعدُ رجلًا شديد العقل، قويَّ النفس، حديدَ العزم، وافرَ الشجاعة، لا تتعاظمه قوةُ خَصْمٍ بالغةً ما بلَغَتْ قوةُ ذلك الخَصم وبأسُه، وإذا تحداه مُتَحَدٍّ رَكِبَ رأسَه في نضاله لا يبالي أين يقع المصير، وصحَّ فيه قول الشاعر:
وأذكر أنني مضيت إليه مرة في صحْب لي من خُلْصانه، وسألناه أن يترفق بالمؤيد، فلقد تَظَاهَرَ عليه خصومه، وألَّبُوا الجمهرةَ عليه، وأَذْكَوْا عليه حماسة الشباب في رأيٍ له قد لا يُحْسِنُ فَهْمَه العامةُ، ولا يستريح إليه طُمُوحُ الشباب، فأصغى إلينا وأحسَنَ الإصغاء، وترك كل واحد منا يقول ما عنده، حتى إذا انتهينا ونحن على الظن بأنه نازل عند رأينا، عادِلٌ إلى ما سألنا، فإذا هو يَرْتَجُّ في مجلسه ارتجاجة عنيفة، ويقول في قوة وفي عزمٍ حديدٍ: «والله لا يعنيني أن يكون الناس جميعًا في صف واحد، وأنا والحق الذي أعتقده بإزائهم في صف واحد!» وتركناه ونحن نرى مُنْحَدَر المؤيد بطغيان الخصومة يومًا بعد يوم!
ولقد كان الشيخ عليٌّ رحمة الله عليه رجلًا مُتَمَكِّنًا من نفسه حقًّا، ولقد كان مما يُشَاعُ عنه — ولعل خُصُومَه هم مَبْعَثُ هذه الإشاعة — أنه كان يقول: أنا لا أبالي أن أخسَرَ هذا البلد، ففي إمكاني أن أعود فأكسبه بثلاث مقالات …!
ولقد عاشَرْتُ الرجلَ ما عاشَرْتُهُ، واستمكَنَ ما بيننا من الود والإلف إلى الحد الذي يبعثني على الاعتقاد بأنه ما كان يُخْفِي عني شيئًا، حتى من نجوى نفسه في الأسباب العامة، وشهِدَ الله ما سَمِعْتُ منه قَطُّ هذا الكلام، ولا أيةَ عبارة أخرى يمكن أن تؤدي معناه.
ولكن مع هذا لقد كان هذا هو الواقع — أعني الواقعَ من حاله لا من مقاله — فإنني لا أعرف رجلًا سياسيًّا عظيمًا كان أقَلَّ الناس أنصارًا وأكْثَرَهُمْ خصومًا كما كان الشيخ علي يوسف، وخصومه على كثرتهم، لقد كانوا من جميع الطبقات، وكانوا من جميع الهيئات، وإنهم ليحيطون به إحاطة الطوق من كل جانب، وكلهم عامل على إسقاطه، جاهد ما امتد به الجهد في هدم المؤيد، مُذْكٍ عليه الأقلام والألسن من كل ناحية، تدمغه بتهمة الخيانة الوطنية فما دونها في غير هوادة ولا إشفاق، والمؤيد يتقلص بين أيدي القارئين ويتقلص، حتى يُظَنُّ أنه قد تَشَرَّف على العفاء، ثم إذا الشيخ يَتَجَمَّع، وإذا هو يَشْرَع القلم شَرْعَ الرمح الرُّدَيْنِيِّ، وإذا هو يطعن الطعنة البكر ها هنا مرة، وها هنا مرة، فلا يُصِيب إلا الكلى والمفاصل، وإذا هؤلاء الخصوم يتطايرون عنه تطايُرَ الشَّعْراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وإذا المؤيد يَرِنُّ في البلد رَنِينُهُ، بعد ما تردَّد تأوُّهه وطال أنينُه!
وقد عَرَفْتَ أن الشيخ علي يوسف كان مُبَغَّضًا إلى الكثرة في البلاد، وإن هذا البغض لَيَرْجِع في الأكثر إلى أسباب صناعية: منها المنافسات الصحفية، ومنها الغيرةُ من موضعه يومئذ من ولي الأمر، ومنها أنه كان هنالك رجال أقوياء ببسطه الجاه وَسَعَة الغنى، وفيهم كذلك مَنْ ذَهَبَ لهم في العلم والأدب صِيت وذِكْر، كان هؤلاء لا يستريحون إلى سياسة القصر، ولربما ظاهروا المعتمد البريطانيَّ أحيانًا في عدائه للقصر، فهم بالضرورة ينقِمون من كل رجل توافيه للقصر، وخاصة إذا كان رجلًا كالشيخ علي يوسف جبار العقل، جبار القلم!
أرأيت كيف كان هذا الرجل مُحَاطًا من جميع أقطاره بنطاق من العداوات المختلفة، بل التي يَصْطَرِع التناقضُ أحيانًا بين أسباب بعضها وبين أسباب بعض؟ على أن إذكاء بُغْض الشباب والعامة للرجل من جهة، وبُغْض بعض الخاصة له من جهة أخرى، إنما كان يَسْلُكه له خصومه من أحد طريقي الضعف فيه — إن صَحَّ هذا التعبير — أولهما: أنه كان معتدلًا لا يرى العُنْف سبيلًا إلى استرداد حقوق البلاد؛ بل إن هذا العنف لقد يرديها في أخطار لم تكن لها في الحساب، وكان طَوْعًا لهذا يرى ألَّا يتحدث عن الشئون العامة إلا الشيوخ الناضجون المجربون، وهذا وهذا — ولا شك — مما لا يُرْضِي الشباب المشتعل حماسة لحق الوطن، ولا تَنْسَ أن العامة من وراء هؤلاء.
أما السبب الثاني فلصُوقُه بالقصر، وشدة تَوَافيه له، ومظاهرتُه له على الدوام، وأظن أن هذا مَقامٌ لا تُحْمَد فيه إطالة الكلام.
مع هذا كله ففي الجُلَّى، يوم تَحْدُث الأحداث القومية، يَنْفُض الناسُ قلوبَهم حتى يَتَسَاقط عنها كلَّ ما عَلِقَ بها من الحقد على الشيخ علي يوسف، ويُتْلِعُون أعناقهم نحو المؤيد، شاخصةً أبصارُهم، مُرْهَفَة آذانُهم، مُعَلَّقَة في انتظار ما يقول الشيخ أَنْفَاسُهُمْ، فإذا النمر الجبار يَثِبُ على فريسته من عدوان العادين وثبته، فلا يزال يُوسعها تمزيقًا بمخلبه، وضغمًا بأنْيُبِه، حتى ما يدعها إلا «أَعْظُمًا وجلودًا»!
نعم، لقد كان يقول الشيخ علي فيروي كل غُلَّة، ويشفي كل عِلَّة، ويَعْلُو بِسَطْوة قَلَمِه حتى ما ينتهي منتهاه في ذاك أحد، والناس طرًّا لهذه النصرة بين مُهَلِّل وبين مُكَبِّر! هذه كانت قُدْرة الشيخ القادرة، وهذه كانت قوته العبقرية النادرة، وهذه مقالاته في أعقاب حادثة دنشواي ما بَرِحَتْ تَرنُّ في آذان من قرأوها إلى الآن.
وإني لأذكر له حادثًا طريفًا في هذا الباب: فَشَت الفاشيةُ، لا أعادها الله بين المسلمين وإخوانهم الأقباط عَقِب مَصْرع المرحوم بطرس باشا غالي، وكان ذلك في سنة ١٩١٠ على ما أذكر، وعَقَدَ الأقباط مؤتمرًا مِلِّيًّا لهم في أسيوط، وأجابهم المسلمون بمؤتمر مِثْله في القاهرة، وأفضَوْا برياسته إلى أكبر رجل في البلاد يومئذ، وهو المرحوم مصطفى رياض باشا، واختار القائمون على هذا المؤتمر مثوًى لاجتماعه مَلعب مصر الجديدة، ومضى الناس أفواجًا في اليوم المشهود، واجتمع رِجالَاتُ البلد لم يَتَخَلَّفْ منهم إلا من انقطع به العذر، وتصدر الحفلَ رياض باشا، وتعاقب الخطباء كابرًا بَعْد كَابِر، فأَبْلَوْا في المقال أَيَّمَا بلاء، وأَبْدَعُوا في الخِطاب أيَّمَا إبداع.
حتى إذا كانت النوبة على الشيخ علِيٍّ أَذْكَى بعض شبان الحزب الوطني في المحتشدين في بَهْو الملعب طائفةً من الفتيان من طلبة الأزهر وتلاميذ المدارس، يسألون القوم ألَّا يصفقوا إذا خَطَبَ الشيخ، ولا يُظْهِروا أية إشارة تَدُلُّ على الاستحسان، فوَعَدَهُمْ أكثر الناس بهذا، وأصروا عليه مخلصين لما تنطوي صدورُهم من حقد عليه ومن بغضاء.
وينبعث الشيخ يَخْطُب، وهو كما قَدَّمْت لك غيرُ خطيب — أَسْتَغْفِر الله — بل لقد انبعث يتلو مقالته في أوراق بين يديه، وأنت حق خبير بالفرق الهائل بين أثر التالي وأثر الخطيب، وما إن مضى في تلاوته بضْعَ دقائق حتى أخذ الناسُ عن نفوسهم، ونَسُوا ما عاهدوا أولئك الفتيان وعاهدوا أنفسَهم عليه، فبَرَوا من التصفيق أَكُفَّهُم، وشقَّقوا بالصياح حناجرهم تشقيقًا، فكُنْتَ تَسْمَع من هُتَافِهِمْ مِثْلَ الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموُّجِهِم فعل الرِّيح بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سَعَرًا من كلام الرجل هم أولئك الفتية الذين كانوا يروضون الناس على ألا يَلْقَوْا خطابه إلا بالجمود والإعراض.
وجُهِد بالرجل فتعاور التلاوةَ عنه كلٌّ من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي، والمرحوم أحمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها في الساعة غيرُ منشئها، ما أَرْخَى إليها من قَبْلُ نظرًا، ومع هذا فما بَرِحَتْ تزداد الفورةُ ويشتَدُّ بالقوم الفتون!
ولقد أَذْكُر أنه بعد إذ فُرِغَ من خطاب الشيخ، وافَقْتُ في طريقي صديقًا لي من شُبَّان الحزب الوطني، وهو الآن من أعلام الفضل الذين يتولَّوْنَ مَنْصِبًا جليلًا في السلك القضائي؛ وكان يومئذ مُسْرفًا غاليًا في التشيع لمبادئ حِزْبه، مُفْرطًا في بغض الشيخ، شديد الحمل عليه؛ ورأيتُه يَضْرِب كفًّا بِكَفٍّ، فسألتُه: ما به؟ فأوما إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال: «على حِسِّ الخطبة دي، يقعد ابن اﻟ … يخون في البلد ثلاث سنين أُخَر!»
ولا زِلْتُ كُلَّما لَقِيتُ صاحبي أُذَكِّره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ، لا أدري: أمن تذكيري له بهذه القصة، أم أنه ما تزال في صدره بقيةٌ من هذا الضغن القديم؟! الله أعلم!
•••
وقد عَرَفْتُ أن الشيخ علي يوسف كان رجلًا مكافحًا، بل إن قَلَمَهُ لم يكن يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح، ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى سَطْوَة قَلَم قَدْر ما تخشى قَلَمَ هذا الرجل، فإنه كان — فوق كفايته البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمَكُّن من نواصي جلائل المعاني — لا يهرول إذا هرول في الصغائر، ولا يطعن إذا طَعَنَ إلا في الصميم.
ولا أُحِبُّ أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خَلَّة من خلاله في كفاحه: ذلك بأنه كان يَعْتَمد أضْعَفَ النقاط في خَصمه فيتجمع لها، ثم يَثِب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دِراكًا، حتى يُدَوِّخ رأسه، ويُذْهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تَجَهَّزَ بها لذلك النضال.
وكان في كتابته سريعًا جدًّا، حتى لَتَحْسَبَنَّه ويده تجول في القرطاس عازفًا على قانون، لا مسطرًا بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الإضمامة دَفَعَ بها إلى من يُفْضِي بها إلى المطبعة، وهكذا حتى يأتي على غاية المقال، لا يَتَتَعْتَع، ولا يَتَحَبَّس، ولا يحتاج إلى مراجعة شيء مما أسلف، ومع هذا تَجِد المقال سويًّا غايةً في الحبك وتناسق الأطراف!
ومن العجب العاجب في أمره أنه كثيرًا ما كان يكتب والغرفة محتفِلة بالزوار وأصحاب الحاجات، يرفعون أصواتهم بفنون الأحاديث والجدل، بل لقد يأخذ معهم في بعض ما هم فيه، وهو ماض لشأنه لا يَشْغَله هذا عنه كثيرًا ولا قليلًا!
الشيخ علي الصحفي
ولقد كان رحمه الله، صحفيًّا بأجمع معاني الكلمة، يكتب المقال الرئيسي كل يوم بيده، ويُراجِعُ كُلَّ ما يُدْلي به إليه الكتاب من المقالات، ويَفُضُّ البريد بنفسه، فما رآه كفئًا للنشر أَذِنَ في نَشْره، وقد يَحْذِف بعضَ المقال ويُبْقي على بعض، فإذا تهيأت الجريدة للطبع وراجعها المصححون، تناولها فقرأها من أولها إلى آخرها، يصحح ما عسى أن يكون قد فات القومَ تصحيحُه ويتَثَبَّت من ألا يكون قد دُسَّ على الجريدة شيء مما يَكْرَه، أو يكون قد سَقَطَ إليها في سِرٍّ منه إعلان عن خَمْر أو غيرها من المناكر.
وكان على جلالة مَحَلِّه، وكثرة المخبرين لديه، يطوف بنفسه كلَّ يوم بأكثر الدواوين في تنسم الأخبار، يستخرجها بلُطْف حيلَتِه من النُّظَّار «الوزراء» أو من المستشارين الإنجليز فمَنْ دُونَهم من عيون الموظفين.
وهكذا استطاع الشيخ عليٌّ بكفايته وحَدِّ عَزْمِه، أن يجعل من المؤيد أعظم جريدة في مصر، برغم كلِّ ما كان يعتريها من الكيد، بل أعظمَ جريدة في العالم العربي كلِّه.
من أخلاق الشيخ علِيٍّ
وقبل أن أختم الحديثَ في الشيخ علي يوسف أرى لزامًا أن أُشِيَر إلى فضيلتين من فضائله البارزة بروزًا عظيمًا: أولاهما أنه كان خيِّرًا مطبوعًا، ما رأيته سُئِلَ الخيرَ قط يستطيعه إلا فَعَلَه مهما يَكُن فيه من عَنَت ومن إرهاق، وإنه ليفعل مغتبطًا راضيًا هاشًّا حتى ليكاد يلتمس لسائليه الخيرَ التماسًا، وحتى ليكادُ يصدقُ فيه قَوْلُ الشاعر: «كأنَّكَ تُعْطِيهِ الذي أَنْتَ سَائِلُهْ»، وإني لأعرف أنه كان يُجَرِّد صدرًا من يومه في السعي لحاجات الناس ابتغاء رضوان الله، هذه واحدة، أما الثانية فشِدَّة وفائه، ولقد عَرَفْتَ صِلَة الرجل بالقصر، ومبلغ ضَعْفِه له، ولقد يَتَغَيَّر ولِيُّ الأمر يومئذ على رجل من صُدْقَانِه، أو ممن أسلَفُوا له يدًا، فتتناهشُهم الأقلامُ من كل جانب، اللهم إلا المؤيد، فإنه الذي لا يُطْلق مقالةَ السوء فيه أبدًا، وحسبُك دليلًا في هذا الباب شدةُ توافيه للمرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد باشا زغلول، ورياض باشا، وغيرهم كثير، فإن كان قد مسَّ بعضَهم كما مس رياض باشا عقِب خطبته المشهورة؛ فلقد كان عذرُه واضحًا، وأي وطني ٍّيطيق أن يسمع الإشادةَ بفضل المعتمَد البريطاني على حساب كرامة أمير البلاد! على أنه فيما مسَّه قد كان به أرفقَ الكاتبين.
•••
فإن زعمْتَ بعد هذا أنه كانت في الرجل هَنَة أو كانت فيه هَنَات، فمن ذا الذي سَلِمَ على العيوب كلها، و«كفى المرءَ نُبْلًا أن تُعَدَّ مَعَايِبُهْ»، وحسْبُ الشيخ علي أنه كان بمجموعة مزاياه ومواهبه مفخرةً من مفاخر هذه البلاد التي لا يسخو بمثلها الزمان، و«إن الزمان بمثله لبخيل».
رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه نحن القادرين قَدْرَه أَحْسَنَ العزاء.