محمود باشا سليمان١
قضى محمود باشا سليمان فطُوِيَتْ صحيفةٌ حفيلة بالعظائم في تاريخ مصر الحديث، وليست تَتَّسِع مثل هذه «اليوميات» لترجمة مثل هذا الراحل العظيم الذي كان آخر عهدي برؤيته غاية ربيع سنة ١٩٢٣، وإني لمُحَدِّثُك عنه في هذا العهد حديثًا يسيرًا ما كُنْتُ لِأُفْضِي منه بما يتَّصِل بولده وهو ثابت في الحياة.
كُنْتُ مفتشًا في وزارة الحقانية سنة ١٩٢٣، وبُدِّلَ الحُكْمُ غَيْرَ الحكم، ورَأَت الوزارة الجديدة، لسَبَبٍ لا أَعْلَمُه إلى هذه الغاية، أن تُقْصِيَني إلى أسيوط، حيْث وَلَّتْنِي عملًا تافهًا أشْبَه بلا عمل، فكنْتُ أَتَحَيَّن أيام الفراغ من الأسبوع فأقضيها عند محمود باشا سليمان في ساحل سليم.
ولقد كنْتُ أصحَبُه أحيانًا، فإذا مَشَيْنَا أَخَذَ بأطراف الحديث، فكان حديثه كقطع الروض قد طَلَّه الندى.
وانظر بعد هذا إلى دِفَّة هذا الرجل العظيم وكَرَمِ شمائله: لقد كان رحمه الله يَرَاني شابًّا غريبًا ليس لي هناك من لِدَاتِي مَنْ آنَسُ بهم، وأستريح بألوان السمر إليهم؛ فيأبى — على جلالة محله — إلا أن يَتَبَسَّطَ معي في فنون القول، فيقصُّ علَيَّ نوادر مَنْ حَضَرَهُمْ من مشيخة الأدباء، أمثال المرحومين الشيخ القوصي والشيخ علي الليثي، ويروي الطريف من أشعارهم وأزجالهم، وأجلَّ ما انْتَضَحَتْ به قرائحهم في محاضراتهم ومناقلاتهم؛ فتزول وَحْشَتِي، ويغمرني الأنس، حتى لأحسَبُني في مجلس رُفْقة من الشباب الفاره، وهو على هذا ما يَبْرَح حدود الواجب لسِنِّه ووقاره وتاريخه الجليل، وبذلك أيضًا استدرجني لمسامرته والتسرية عنه بما يَحْضُرُني من مُلَح ونوادر وأفاكيه، مما لا يَنْشُز على مثل مجلسه الكريم.
وما برحَتْ له في تلك السن فطْنَتُهُ القوية، وعينه العالية، واتصال ذهنه من الأسباب العامة بكل دقيق، فكان إذا جاء البريد بالصحف السيارة قرأها بنفسه واحدة بعد أخرى، حتى يأتي عليها جميعًا، وكان قد اعتزل السياسة، ولكنه لم يستطع أن يعتزل الرأي، فإذا وقع له في إحدى الصحف حديث لا يرى للبلد فيه خيرًا صاغ الكلام في صورة استفهام يريك ظاهِرُهُ أن الأمر لا يشغله ولا يعنيه، فإذا فتَّشْتَه أصَبْتَ فيه كل صِدْق الرأي وكل حكمة الحكيم.
وقلْتُ له ذات يوم: ألا تهبط يا باشا مصر فتقضي في «ذهبيتك» أيامًا كسابق عهدك؟ فرأيت الدمع يترقرق في عينيه، وقال: ومع من أجلس يا بُنَيَّ؟ لقد مات قرنائي وأصحاب عمري، فأنا لا أَجِدُني في أبناء هذا الجيل إلا غريبًا!
الله أكبر! …
سيذكرون في نعي محمود باشا سليمان إيثارَهُ لبنيه، فلقد خرج لهم حيًّا عن كلِّ ما مَلَكَتْ يمينه، وما دَرَوْا أنه آثرهم بما هو أعز من المال، لقد آثرهم بالحياة!