القصص في الأدب العربي١
أخذ العرب عن اليونان فلسفتهم وحكمتهم، كما نقلوا عنهم إلى العربية علومًا شتى كالطب والنجوم وغيرها؛ ولكنهم لم يأخذوا عنهم فن القصص، وخاصة القصص التمثيلي (الروايات المسرحية)، ولا أدري أكان ذلك يرجع إلى اعتبار ديني، وكراهة الشرع والطبع العربي أيضًا أن تَسْنَح امرأة لجمهرة النظارة تُمَثِّل عاشقة أو معشوقة؟ أم يرجع إلى أن العرب في مطلع حضارتهم كانوا ككل الأمم الناشئة، تُعْنَى أول ما تُعْنَى بالضروريات، حتى إذا أصابت منها حظًّا محمودًا لَفَتَتْ بعض سعيها للكماليات؟
وهنا أرجو ألا تنسى أن العرب إنما عَنُوا بنقل فلسفة اليونان ومنطقهم إلى لغتهم لغرض ديني، فقد وصلوهما بالعقائد، وأقاموا عليهما عِلْم الكلام (التوحيد)، والدينُ كما لا يذهب عنك من أخص الضروريات.
أم أن انصراف العرب عن ذلك الفن يرجع إلى أن الحياة الاجتماعية لم تَكُنْ قد اسْتَقَرَّتْ عندهم استقرارًا يدعو الأذهان إلى التغلغل في تحليل حياة الفرد والجماعة، والخروج بفكرة عامة تجلو على الجمهور رواية قصصية أو تمثيلية، أم أنه يرجع إلى بعض هذه الأسباب دون بعض، أم يرجع إليها جميعًا؟ ومهما يكن من شيء فذلك الذي وَقَعَ والسلام.
على أن العرب كانوا إذا عالجوا القصة لم يَعدوا إثبات شيء وَقَعَ، أو شيء يتخيلون وقوعه، فكان حظهم في هذا الفن ضئيلًا؛ لأن شيئًا من ذلك لم يَتَعَرَّضْ لتحليل ناحية من حياة المجتمع، والخروج بفكرة عامة، هي في الواقع مَعْقِد القصة والغاية مِنْ وضْعِها.
ولقد نزل القرآن الكريم فجاء بكثير من قصص الأمم الغابرة، وبَيَّنَ كيف فُتِنُوا وكيف ضَلُّوا، وأتى على من بُعِثَ فيهم من المرسلين، ومن آمنوا بهم ومن كفروا برسالاتهم، وما أعد الله لأولئك وكيف صنع بهؤلاء.
والقرآن كتاب الله تعالى لا تخييل فيه ولا اختراع، ولا خَلْق لحوادث لم تَقَعْ، ولا تجلية لِأَنَاسِيَّ لم يكونوا، تصويرًا لفكرة، واستدراجًا لفهم الجمهور بوسائل التلفيق والتخييل، إنما هو القول الحق يَرْوِي به الكتاب العزيز ما وقع للسالفين للعبرة والادِّكار.
ولقد بَقِيَت القصة مقصورة، في الجملة، على الشعر، ولكن بالقَدْر الذي أسلفناه عليك، حتى إذا كان عهد الدولة العباسية، الْتَفَتَ الناس لِلْقَصَص، وتَرْجَمَ ابن المقفع «كليلة ودمنة»، وتَرْجَمَ غيره كتاب «هزار أفسانه» ألف خرافة، وهو الذي قالوا إنه أصل كتاب «ألف ليلة وليلة».
وعلى ذكر كتاب «ألف ليلة وليلة» أقول لك إن أَبْسَطَ نظرة فيه تُعَرِّفك أنه لم يُكْتَب بقلم واحد، ولم يُؤَلَّف في زمان واحد، ولا في مكان واحد، فإنه قد يَعْلُو في أغراضه ومعانيه وعباراته علوًّا كبيرًا في بعض المواضع، وإنه لَيُسِفُّ في ذلك إلى غاية الإسفاف في مواضع أُخَر، وإنه لَيُحَدِّثك حديث شاهد العيان عن بغدادَ في أزهى أيامها، كما يُحَدِّثُك حديث شاهد العيان عن القاهرة في أَظْلم عهودها إلخ، كما أنكَ تَجِدُ هذا الكتاب في العربية غيرَه في التركية، وتجده في كلتيهما غيرَه في الفارسية.
ولست هنا بصدد البحث في كتاب «ألف ليلة وليلة» وكيف نَجَمَ، وكيف تَأَلَّفَ، ولعلي إن تَجَرَّدْتُ في هذا البحث لا أَبْلُغُ منه مدًى؛ وإنما هي كلمة اطَّرَدَ بها القلم، ومن حَقِّنَا أن نعود بعدها إلى ما نحن بسبيله.
ولقد أخرج الجاحظ كتاب «الحيوان»، بَحَثَ فيه طبائع الحيوانات وعاداتها، وعَقَدَ المناظرات الكثيرة بين أصحابها، والجاحظ رجل واسع العلم، شديد التمكن من النفس، قوي الحجة، يملك من ناصية البيان ما لا أحسب أن قد مَلَكَه بَعْدَه كثير، فهو لا يزال يُمَهِّد على لسان هذا الرأي، ويُفَلِّج بالحجة، ويَبْعَث بالشاهد في عَقِب الشاهد، ويَضْرِب المثل بَعْد المثل، حتى يأخذ عليك مَخَانق الطرق، فلا تَجِد بعدها محيصًا من الإذعان والتسليم، ثم يَبْعَث لك الطرف الآخر، فما يزال يدافع تلك الحجج، وينقض ما قام بين يديك من الأدلة والشواهد، ثم ما يزال يَبْريها ويَفْريها حتى تَسْتَحِيل هباءً يَتَفَرَّق في الهواء، ثم يَرُدُّك إلى مكانك الأول، ثم يَعُود بك إلى الثاني، ويَظَلُّ يُرَجِّحُك بين الرأيين المختلفين بقوة حجته، وسلاطة بيانه، حتى إذا قدر أنه دوَّخَك وأرضى شهوته بإذلال ذِهْنِك، رحمك فَعَدَل بك إلى حديث آخر!
ولقد عرض الجاحظ في كتاب «الحيوان» لمسائل من العلم ومن الحكمة، وحلَّل شيئًا من الطباع والأخلاق، بل لَعَلَّه بالتكنية الغامضة والتورية البعيدة قد مَسَّ أشياء تتصل بحياة المجتمع، ولكن لا تَنْسَ، مع هذا، أنه لا الجاحظ ولا ابن المقفع، ولا مَنْ نَحَا نَحْوَهُمَا عَرَضَ لاصطناع القصة على النحو الذي كان يَعْرِفُه قدماء اليونان ونَعْرِفُه نحن اليوم، وكل ما طلبوه من هذا فيما أَخْرَجُوا من الكتب لا يَعْدُو أن يكون حِكَمًا منثورة، وعظات جزئية لا يَنْتَظِمُهَا سَبَب، ولا يَجْمَع بينها نَسَب «أما القصة بمعنى اختراع الأشخاص، وتمهيد المكان، وابتكار الحوادث، وخَلْق الوقائع، ونَفْض الصفات على ممثليها، على أن يتَّجِه كل ذلك إلى غاية واحدة، ويَدْرُج إلى غرض معين، فذلك ما لم يُعْنَ به العرب ولم يتوجهوا إليه».
ولكن لا ينبغي لنا أن نغفل، في هذا الباب، أمرًا آخر له أثره وله خَطَرُهُ: ذلك أن العرب، وخاصة في عصر الدولة العباسية، قد عُنُوا بِلَوْن من القصص، وهو الحكايات القصيرة يُضِيفُونها إلى بعض الناس لتشهيرهم والعبث بهم، أو لمجرد التفكيه والترفيه بما يتندرون به عليهم، وهذه الأقاصيص وإن عَرَضَتْ في بعض الأحيان لتحليل جانب من نفس إنسانية، فإن ذلك لا يَتَرَامى إلى الغرض الذي تجتمع له القصة على ما كان يعرفه لها قدماء اليونان ونَعْرِفُه لها نحن اليوم.
وعلى هذا كتاب «البخلاء» للجاحظ، ولا أظن أن الجاحظ كان صادقًا في أكثر ما رَوَى عن بخلائه، ولعله إنْ صَدَقَ في أصل بعضٍ فقد غلا فيه غلوًّا كبيرًا! وعلى كل حال، لقد كان الرجل في تصويره وتخييله، وتشبيهه وتمثيله، بارعًا تامَّ البراعة، رائعًا بالغ الروعة!
وهناك غير أحاديث «البخلاء» أحاديث فيها عجب وفتنة، ما أحسب أكثرها إلا قد اخْتُرِعَت اختراعًا لا لشيء إلا للتشهير والعبث، أو لمجرد التفكيه وإدخال السرور على نفوس الناس، ولعلي أُوَفَّق يومًا إلى أن أَعْرِض طائفة منها للقارئ الكريم.
وعلى أي حال فإن أثر هذا اللون من القصص لا يُجَاوز التسلية والتفريج عن النفوس بالإتيان بالعجيب يَتَعَاظَم الأحلام!
على هذا فَهِمَ العرب القصة، وعلى هذا اتخذوها، فنشأ القُصَّاص تُعَد لهم الحَلَقُ ليُحَدِّثوا الناسَ عن أبطال الحرب، وعن أبطال الجود، وعن أبطال الغرام وعن غير أولئك من الأبطال، وتَجَمَّعَت أحاديث «ألف ليلة وليلة»، وبرزَتْ قصة «عنترة»، ووُضِع كتاب «قصص الأنبياء»، وخَرَجَ كتاب «بدائع الزهور، في وقائع الدهور»، وكتاب «سيف بن ذي يزن»، ثم استَرْسَلَت العامية في مصطفى منظومها ومنثورها في سيرة أبي زيد الهلالي وأصحابه، واحْتَفَلَت الاحتفال كُلَّه لذكر وقائعهم ومغازيهم وفتوحهم، وما يكون منهم، إذا استَحَرَّ القتال، وتداعَى الأبطالُ للنزال، فتَرَى الواحد منهم يَقُطُّ الأعناق عشرين وثلاثين بضربة من السيف واحدة! … إلخ.
ولا زال الشعراء — وليسامحنا شوقي وحافظ ومطران وإخوانهم في هذا التعبير فإنه الشائع في السواد — ما زال هؤلاء الشعراء يتَّخذون لهم مجالس عالية في بعض المقاهي البلدية لِيَقُصُّوا على العامة سيرة أبي زيد وأصحابه في ترتيل وتنغم يُوَقِّعونه في لباقة ولطف أداء على «رباباتهم»، ولأولئك العامة بهم ما شاء الله من افْتِتَان، ولهم ما شاء الله من التطريب على تلك الألحان!
على أن تأليف الحكايات في العربية وإجراءها مجرى الخيال لم ينقطع في زمن من الأزمان، ولعل أبرز ما ظهر من ذلك أثناء هذه النهضة الحديثة كتاب «عَلَم الدين» للمرحوم علي مبارك باشا، و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد بك المويلحي، و«حديث موسى بن عصام» لأبيه إبراهيم بك، عليهما رحمة الله، وما قام على ترجمته المرحوم عثمان بك جلال.
ومن أوائل من وضعوا القصة في مصر، بالمعنى المعروف، أحمد شوقي بك «النضيرة بنت الضيزن»، وأحمد حافظ بك عوض «رواية اليتيم»، ولقد تَرْجَم المترجمون مع هذا في هذا العصر من قصص الغرب ما لا يُحْصَى كَثْرَةً.
وأما القصص التمثيلي «الروايات المسرحية» فأول عهد العربية بها هذا العصرُ الحديث، وقد بَدَأَتْ بالترجمة من لغات الغرب، وأولُ مَنْ عالج هذا في الأمم العربية إخواننا السوريون، لأنهم أول من عالج التمثيل المسرحي في أبناء العرب، وأول ما شَهِدَت مصر التمثيل المسرحي، وكان ذلك في عصر إسماعيل، شَهِدَتْه من فِرَقِهِم التي هَبطَتْ مصر في ذلك العهد واحدة بعد أخرى، على أن تَخَلُّفَنا في هذا الباب عنهم يَرْجِع إلى أسباب لا محل لها لذكرها في هذا المقام.
وإذا كانت مادة التمثيل إلى هذا الوقت هي ما يُتَرْجم إلى العربية من لغات الغرب، فإن كثيرًا من أبناء العرب عالَجوا بعد ذلك الوضع والتأليف، وكان من أَسْبَقِهم إلى هذا الشيخ نجيب الحداد وإسماعيل بك عاصم.
ولقد كثر في هذا الوقت الذي نعيش فيه واضعو القصص التمثيلية؛ على أنها في جوهرها وغاياتها ومغازيها وسائر أسبابها لَمْ تبلغ مبلَغَ الروايات الغربية.
وكلتا القصتين تاريخية، إذا رَمَتْ إلى غَرَض فلا شَأْن لنا به، ولا دَخْل لعيشنا الحاضر فيه!
وهنا يَنْبَغي لنا ألا نُغْفِل أن مؤلفي روايات الريحاني والكسار ومَنْ يَنْحَون نَحْوَهما في أسلوبهما التمثيلي يَعْرِضون لِنَوَاحٍ من الحياة المصرية، ولكن على سبيل التهكم عليها والزراية بها، في أساليب رشيقة طلية، طلبًا لإضحاك النَّظَّارة والتسلية عنهم؛ فإذا كان لشيء منها مغزًى بعد ذلك، فهو مَغْزًى ضئيل لا يَتَّسِق لما نخوض إليه من جِسَام المَطالب، هذا إلى أنها كلها تُفْرَغ في لغة عامية بَحْت، فهي ليست من الأدب الذي نَعنِيه في كثير ولا قليل.
وبَعْد، أفلا يمكن أن يَسْتَشْرِف الأمل إلى أن يَخْرُج فينا مؤلفون مسرحيون يُضارِعُون كُتَّاب الغَرْب في سَبْك رواياتهم، وإمعانهم في التحليل بطريق التخييل والتمثيل، وإصابة الأغراض البعيدة وتجليتها على النَّظَّارة بطريق التلويح لا بالمواجهة والتصريح؟ فذلك الأشحذ للأذهان، وذلك الأبلغ مَوْقعًا من النفوس، بحيث يكون موضوع هذه الروايات مصريًّا بحتًا يُصِيب من عاداتنا، ويُحَلِّل جوانبَ من حياتنا، ويهدينا في بعض أسبابنا السبيل.
ألا ليس ذلك على الله بعزيز!