والرجال قليل!١
إلى صديقي محمد راغب بك
وا رحمتاه لك: لئن فَقَدَ الناسُ بالأب واحدًا لقد فَقَدْت فيه أيها الحزين الواله اثنين: أبًا وأخًا معًا: أبًا يكاد من حَدْبٍ يخلع شَغَاف قلبه على وليده، ويعتصر من الحنان كبده ليفيضه على طفلِهِ وحيدِهِ، ولو تهيأ للأجسام أن تتبخر لاستحال جُثْمَانه عطفًا عليك، وتَرَقْرَق في الأثير حنانًا إليك.
وإذ تستوي في الدنيا فتًى لا يراك إلا أخًا يمادُّه أوثق أسباب الإخاء، وصديقًا يُصْفِيه أحلى علائق المودة والولاء.
وحين تعلو به السن، ويلحقه الوهن، وتتداخله الأسقام من كل جانب، لا يتمثل فيك إلا الأبَ يعوذ به ولدُهُ كلما أدركه العجْزُ أو أصابه المكروه من أي ناحية، فكُنْتَ للوالد البَرِّ: الوالدَ العطوفَ الحنَّان، فقارضْتَ عطفًا بعطف، وبادَلْتَ برًّا بِبِرٍّ، وقضيْتَ الدَّيْن خَيْر القضاء، ووفَيْتَ الحق وأغْلَيْتَ الوفاء.
ولقد مضى أبوك، وما أحْسَبُهُ وهو مُتَقَلِّب في رضوان الله إلا راثيًا لِشَانِك، حزينًا لبكائك وأحزانِك، حتى لَيَصِح فيكما قول الشاعر:
وا رحمتاه لك! إن عذابك لأشَدُّ من كل عذاب، وإن مُصَابك لأجَلُّ من كل مصاب.
لَسْتُ أسأل لك يا صديقي اليوم سُلُوًّا، فهيهات لي أن أطلب المحال، ولا أسأل أن يَرْقَا دَمْعُك، فالله تعالى أَرْأَفُ من أن يَكْظِمَ هذا الأسى كُلَّه في صَدْرِكَ، فإن جُمُودَ العين في مثل ما أنتَ فيه من العِيِّ بالبكاء، وهو أشد من عِيِّ اللسان بالكلام، بل إني لأدعو الله أن يُفِيضَ شئونك حتى يُرَوِّح عن هذه الروح المجروحة، ويُفَرِّج عن هذه الكَبِدِ المقروحة.
وهكذا الدنيا، ما سَقَتْ حُلْوًا إلا أَعْقَبَتْهُ مُرًّا، ولا بَسَطَتْ عُرْفًا إلى وهي تَطْوِي فيه نكرًا! فكل ما تَقَلَّبْتَ فيه من ذلك الحنان العذْب، لقد بات ذكرى تَخْزُ الكبد وتحُزُّ في القلب، كان الله في عَوْنِك يا أخي، فما يصبر أحد على ما تَجِد، إلا بعون من الله ومَدَد.
•••
وحَسْبُكَ عزاء فيه أن عاش كريمًا وفيًّا أبيًّا، وهذا تاريخه الضخم يتألق فخرًا، وتُعْتَدُّ سيرته في البلاد عُدَّة وذخرًا.
وَصَلَ الله في عُمُرِك، وأدام منك أفضلَ خَلَفٍ لأفضل سَلَفٍ، والسلام عليك ورحمة الله.