يا حافظ!١
يا حافظ! هذه أربعون تَقَضَّتْ ونحن في انتظارك، إذ أنت لم تُحْسِن بطلعة ولم تُسْعِدْ بِرَدِّ خطاب!
أَطَابَ لك المُقام هناك من بين من تقدموك من إخوانك، فلم تَعُدْ تحفل بمن خلَّفْتَ هنا من صَحْبك وصُدْقَانك؟ أم لَعَلَّكَ آثَرْتَ انتظارَهُم في مثواك ليجتمع الشمل كله؛ وإنهم لموافوك عما قليل، فما في هذه الدنيا كثير!
وكذلك كان البكاء نقمة، فأبى خَطْبُك إلا أن يُحِيلَه نعمةً أيَّ نعمة!
هذه شعبة من قلبي قد انْخَلَعَتْ لموتك، ولعلها دُفِنَتْ مَعَكَ، وما لها لا تَفْعَلُ؟ وقد كُنْتَ بعضي وكنْتُ بعضك؟ فإذا أنا بكيتك فقد «بكى بعضي على بعضي معي»، فاعجب لمن جَمَعَ بين الموت والحياة، ومن تَقَسَّمَتْ هذه الأرض شَطْرَيْه: هذا يَدِبُّ على متنها، وهذا مُدْرَجٌ في بَطْنها!
وإذا كان المرء تاريخًا وذكرى، فخَبِّرْني يا حافظ كيف أَصْنَعُ بسبع وعشرين سنة، هي في مساحة العمر ملاعبُ الصبا، وهي بين أشواك الحياة أزهارُ الربى؟
يا حافظ! أين أنت؟ إني لأطلبك في كل مكان فلا أصيبك، وكيف وقد كُنْتَ يا حافظ مِلءَ كلِّ مكان؟ هذي يدي لقد أصبحت منك صِفرًا، وهذي نفسي لقد أَمْسَتْ من داعيات العيش قَفْرًا:
يا حافظ! أين أنت، وكيف صنَعْتَ؟ وأين ذهب ذلك الوُدُّ الذي ظَلَلْنَا نجمعه جمع الشحيح للمال، في مدى سبع وعشرين سنة، ونحرص عليه حِرْص الكريم على وليده، ونُدَلِّله تدليل الشيخ الفاني لوحيده، أتراه قد تَبَدَّدَ كله بضربة من الموت واحدة؟ فحق فينا قولُ مُتَمم بن نُوَيْرَة في أخيه:
لقد كنْتَ تعيب على مَن صاروا إلى الآخرة قَبْلَكَ أن أحدًا منهم لم يُبَادِ الأحياء بما سمع وما رأى؛ وكيف يكون ذلك العيش عيش الآخرة، فهلا فَعَلْتَ أنت؟ فما أَشْوَقَنَا إلى حديثك! أنت الذي ملأ الدنيا بيانًا في جميع أسباب الحياة، فهل يَعُزُّ عليك أن تحدثنا في بعض أسباب الممات؟
ليت شعري، ما الذي حَبَسَ لسانك، وقد كان أجْرَى من السيل الدافق؟
وما الذي أَخْمَدَ بيانك، وكان أسْطَع من البرق الآلق؟ ما هذا منك يا حافظ؟
•••
يا حافظ! لقد سافَرْتَ قبل أن تتزود لهذا الذي يُدْعَى بالموت، وقبل أن أتزود لهذا الذي يُدْعَى بالحياة بَعْدَك، فهلا جَلَسْنَا معًا جلسة نتذاكر فيها العيش في تلك الأيام؟
أتذكر إذ كان المترَفون يُقَلِّبون أعطافهم في ألوان المناعم، أو ما اصطلح هذا الناس على أنه من المناعم، إذ أنا وأنتَ لا نغبط أحدًا على عيشه، ولا نَنْفَسُ على امرئ ما وصَلَه الله به من مالٍ وجاه، وما لنا نفعل ونحن بحمد الله سَرِيَّان حقَّ سَرِيَّيْنِ بما رُزِقْنَا كلانا من محبة وصدق ووفاء؟ أتندر عليك ما شاء الله أن أتندر، فلا أرى عليك بَرَمًا ولا تعاظمًا لهذا الذي أَصْنَع بشاعر النيل، وتتطرف بي ما شاءت لك سطوة اللسان أن تتطرف، فلا والله ما أَحْسَسْتُ قط أن نعمةً في الدنيا تقوم بإزاء هذا الذي أنا فيه! فما حاجتنا بعد هذا إلى ما يتكاثر الناس به من جاه ومن مال؟
أرأيت يا حافظ كيف قدَّ بُعْدُكَ مَتْنِي، وكيف هَدَّ فَقْدُك رُكْنِي؟
يا حافظ! أتذكر كيف أغنانا هذا العيش وكفانا، وكيف كُنَّا نُدِلُّ به ونَتَتَايَهُ، حتى ما يُعْجِبُنَا من الأمر عجب، ولا يَسْتَهْوِينَا من مُغْرِيات هذه الدنيا أَرَب، فلو قد سألْتَ اليوم في سر من حارس الموت عن صاحبك، أو عن بقيتك التي ما زالت ثابتة في سجل الأحياء، لخرج الجواب في قول مسلم بن الوليد:
يا حافظ! إن الرجل العظيم ليموت فيخلو بموته موضعٌ واحد، أما أنت فلقد أخْلَى موتُك مواضعَ كثيرة: أنت شاعر النيل غيرَ مُزَاحَم؛ فلقد اتصل شِعْرُك بمَائِه، وامْتَزَجَ بواديه أرضه وسمائه، وشدا في نعمائه وسرائه، وناح في بأسائه وضرائه، وأنت الكاتب لا يلحق في حسن الصياغة غباره، ولكن تترسم إذا أعوز تجويد النسج آثاره، وأنت الأديب التام؛ تضرب في فنون الأدب كلها ما تَشْرُدُ عليك شاردة، ولا تَنُدُّ عَنْكَ منها مستأنَسَة ولا آبدة، وأنت المحاضر كأنما يخوض منك جُلاسُكَ في عُبَاب، أو كأنما يقرأون منك في كل باب أسبغ كتاب، وأنت السمير ما تَبْرَح تشيع في مجلسك الطرب، وما يبرح جلاسك يتنزون لحديثك من إعجاب ومن عجب، وأنت الذكي الألمعي ويا له من ذكاء كان مثل سنا البرق، يُومِض من جانب الغرب فيسطع في عرض الشرق، وأنت، وأنت، وأنت يا حافظ! لقد كُنْتَ معانِيَ كثيرة، وكنْتَ مباهجَ من مباهج الحياة عديدة، فَقَدِّرْ يا أخي، رحمك الله، جُمْلَة مصائبنا فيك!
أنا هنا إنما أبكي حافظًا لا أنشر مَنَاقِبَه؛ فلذلك بعدُ مَقامٌ عريض.
•••
وبعد، فَلَقَدْ تَعَذَّرْتُ على رثاء حافظ طويلًا ضنًّا بنفسي على إظهار الناس على ما يشهدون اليوم من حيرة وَوَلَه واختلال أعصاب، ولكن لقد بعثني على هذا من أصدقائي مَن لا أستطيع مُدَافَعَتَهُمْ، وإظهار الخلاف لهم، فَحَقَّتْ عَلَيَّ قَوْلَةُ الشاعر:
وبعد، فلقد كُنْتَ يا حافظ كثير الترجيع لقول صديقك وأستاذنا إسماعيل باشا صبري:
وها أنت ذا قد عُدْتَ إلى الوطن، وأُبْتَ بعد طول السفر إلى الأهل والسكن، وبُدِّلْتَ من حدث الدهر الأمن والسلامة، وضُمِّنَتْ لك الدعة والراحة إلى يوم القيامة.
فإلى الملتقى يا حافظ في الجنة إن شاء الله، فلقد كُنْتَ شديد الإيمان بالله عظيم الإحسان إلى الناس، والسلام عليك ورحمة الله.