التجديد والمجددون١
سيداتي، سادتي
أَتَحَدَّث إليكم الليلة في التجديد والمجددين، فإننا الآن في شبه ثورة، بل في ثورة بالقديم من الآداب والفنون: فهناك ثورة في البيان، منظومة ومنثورة، وهناك ثورة في الموسيقى، وهناك ثورات في غيرهما من الفنون، وكل أولئك إنما يُعَبَّر عنه بالتجديد، ويُعَبَّر عن المضطلعين به بالمجددين، وإني لأخشى في التعبير بكلمة «الثورة» أن أكون من المتجوزين! وقبل أن أخوض في لجَّة الموضوع، أرجو أن تأذنوا لي في أن أعرض عليكم نموذجًا مما سَلَفَ لي من الرأي في هذا الباب، وأرجو أن يكون كافيًا في استراحة إيمانكم إلى أنني لست من الجامدين المتشبثين بلزوم القديم، بل إنني لأطمع في أن يُقْنِعَكم بأنني من أشد أنصار التجديد والمجددين، ولكن على صورةٍ أُحِبُّ أن يَتَفَطَّنَ إليها بعض هؤلاء المجددين!
إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تَطَوُّرُها ونموُّها وتَجَدُّدُها، فالأدب ولا شك من هذه الكائنات التي لا تُكْتَبُ لها الحياةُ إلا على التطور والنمو والتجديد، وإلا كان ميتًا، أو أشَلَّ على أيسر الحالَيْن!
ولكنني أحب أن أَلْفِتَ النظر في هذا المقام إلى مسألة قد تَدقُّ على أفهام الكثير أو القليل، وتلك أن هناك فَرْقًا بين التربية والتجديد، وبيْنَ المسخ والتغيير، ولسْتُ أجد مثلًا أسوقه في هذا الباب خيرًا من حياة الطفل وحياة النبات: كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يَبْلُغَ الحَدَّ المقسوم لكماله، وقد تَتَغَيَّر بعض معارفه، وقد تَحُول بعض أعراضه، ولكنه في الغاية هو هو لا شيء آخر، فحَسَن الوليد، هو حَسَن الطفل، وهو حَسَن الفتى، وحَسَن الشاب، وهو حَسَن الكهل وحَسَن الشيخ، وتلك الفسيلة الصغيرة، هي النخلة الباسقة، كلٌّ نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء.
لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التزكية والإرباء، فاحتجز منها ما واءمه وما تَعَلَّقَتْ به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه، ولا حاجة به إليه، ثم أساغ ما أمْسَكَ وهَضَمَهُ، فاستحال في جسم الفتى — مثلًا — دمًا يجري في عِرْقه، ولحمًا وعظمًا يزيدان في خَلْقه.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر وله مقومات، وله شخصية بارزة معَيَّنة فمن شاء فيه تجديدًا — وحتْمُ الحتم على القادرين أن يُجَدِّدوا — فليتقدَّمْ ولكن من هذه السبيل.
سيداتي، سادتي
لعلِّي أطلْتُ عليكم في دفاعي عن نفسي وإثبات براءتي من الجمود والجامدين، ولكن مما يَشْفَعُ لي عندكم في ذلك أن هذا الدفاع قد صَرَّحَ لكم في الوقت نفسه عن رأي في التجديد والمجددين، وهذا ولا شك وثيق الصلة بالموضوع الذي عَقَدْنا له هذا الحديث.
عرفتم إذَنْ أنني لَسْتُ والحمد لله، من الجامدين العاضِّين بالناجذ على كل ما هو قديم لأنه قديم، وعَرَفْتُم كذلك أنني أرى وجوبَ التجديد لأن طبيعة الحياة تَقْتَضِيه، بل إن التطور والتجدد من علامات الحياة، على ألا يكون هذا التطور والتجديد ضَرْبًا من المسخ والتشويه!
وبعد، فالمقام ما برح محتاجًا إلى شيء من البسط والتفصيل، فلْنَمْضِ على اسم الله، في معالَجة هذا البيان بقدر ما يتسع له الوقت المقسوم.
تعلمون أيها السادة، أن العلوم على وجه عام، إنما تَسْتَمِدُّ قضاياها من العقل والتجارب، أما الفنون الجميلة على وجه خاصٍّ، فإن استمدادها في الجملة من الذوق، فهي من الذوق تنشأ وإلى الذوق تعود، والذوق شيء ليس في الكتب.
وإذا كانت العقول الصحيحة قَلَّ أن تختلف بإزاء الحقائق الواقعة باختلاف الأشخاص أو البيئات والعصور، فإن الاثنين مثلًا ضعْفُ الواحد، وزوايا المثلث تساوي قائمتين، وهذا في كل زمان وفي كل مكان، إذا كان هذا هكذا، فإن الفنون التي مَرَدُّها إلى الذوق — أعني الفنون الجميلة — تفترق افتراقًا قد يكون يسيرًا وقد يكون شديدًا، طوعًا لاختلاف الأشخاص والعصور والبيئات، فما يُعْجِب قومًا ويُلَذِّذُهم ويُشِيع الطرَبَ فيهم، لقد يَنْشُزُ على أذواق آخرين ويُدْخِل الضَّجر عليهم، بل لقد يُزْعِجهم ويُغْثي نفوسهم.
ذلكم بأن حاجة الأذواق ليست من آثار منطق العقل، ولا هي وليدة الحقائق الواقعة حتى تشترك الخلائق على اختلاف أصنافهم وأَعْصُرِهم في تَقَبُّلها والتسليم بها، بل إنها لوليدة البيئة والتاريخ، ومأثورة العادة والإلف الطويل، ولا شك في أن من عناصرها المهمة كذلك حظَّ الأمة من العلم والثقافة، ولونَ هذه الثقافة، ومبلغَ الأمة كذلك من دقة الحس ورهافة الشعور.
من هنا كان لكل أمة أَدَبُها، وكان لكل أمة موسيقاها، وكان لها غَيْرُ هذين من ألوان الزخرف والتصوير، وغير الزخرف والتصوير، من كل ما يَدْخُل في معنى الفن الجميل، فليس من حق جماعة أن تقول لأخرى: إن هذا الأدب الذي تصطنعين لا يُتَرْجِم حق الترجمة عن شعورك، ولا يواتي مَنازِعَ عواطفك، أو إن هذا اللون الذي تتخذين من الموسيقى لا يوائم ذوقك.
ولا يُلَذِّذك ويُدْخِل الطرب عليك، ذلكم بأن مظاهر هذه الفنون إنما هي أمور نسبية، لا تكاد تتصل بأحكام العقل أو الواقع خلافًا لقضايا العلوم، وقد تَقَدَّم في ذلك الكلام.
•••
لَكُمْ بعد هذا أن تسألوني عن كيفية التجديد إذَنْ وعن مدى آثار المجددين؟
والواقع أنه حين يعرض هذا السؤال تَعْرِض للنفس مسألةٌ أخرى: تُرَى الأذواق هي التي تؤثر في الفنون؟ أم الفنون هي التي تؤثر في الأذواق؟
لقد سبق القول في أن منشأ الفنون الجميلة إنما هو الذوق أولًا، وهي إنما تُصْطَنَع لتنعيم الذوق وتلذيذه آخرًا، فهي منه تبدأ وإليه تعود، ولكن ليس معنى هذا أن الفنون لا أثر لها ألبتة في تكييف الأذواق، بل إني لأزعم أنه قد يكون لها في بعض الأحيان الأثر البعيد، إذَنْ فهناك تَفَاعُل من الجانبين، أعني بين الأذواق والفنون، ونحن إذا عَبَّرْنَا في هذا المقام بكلمة «الفنون» فمن الواضح أننا إنما نريد أَثَرَ المُفْتَنِّين، أو على الصحيح أَثَرَ العبقريين من جماعات المفتنين.
ومن الجَلِيِّ أن العبقري هو الذي يَرْتَفِع على مجموع قومه، وأحيانًا على أهل عصره في صفة أو في أكثر من صفة، بحيث يتهيأ له أن يُدْرِك في بعض الأمر ما لا يدركون، ويَشْعُر بما لا يتعلق لهم به حس ولا شعور، ولنقصر الحديث على عباقرة المفتنين، ما دام الحديثُ في الفن والمُتَفَنِّنِين.
المُفْتَنُّ الموهوب إنسان أُوتِيَ كمالَ الذوق، ودقة الشعور، ورهافة الحس، وحِدَّة العاطفة، والقدرة القادرة على الأداء والتصوير، وليس يُشْتَرَط فيه أن يكون واسع العِلْم غزير المادة، بل بِحَسْبِه أن يُحَصِّل من قضايا فنه صدرًا لا يُزَلُّ معه ولا يُضَلُّ.
ولقد قلنا إنه يسبق بتلك المواهب جمهرةَ قومه، ولقد يسبق أهْلَ عصره؛، إذ تَهْدِيه فطنَتُهُ إلى أشياء لم يفطنوا لها، وتذيقه رهافةُ حسه ألوانًا من الشعور لم يتذوقوها، فينفُضُها بما رُزِقَ من براعة الأداء كما أَحَسَّها، ويحاول أن يُذَوِّقَها غَيْرَه كما تَذَوَّقَها، وكذلك تزيد ثروةُ الفنون وتشحذ الفطن، وترهف الأحاسيس على اطراد الأيام.
نعم، لقد ينصب بعض هؤلاء العباقرة للعدول بالفن عن مذهبه، وقد يقلبه رأسًا على عقب، وتِلْكُم هي الثورة بعينها، والثورات كما تعلمون حالات شاذة لا ينبغي أن تجري على مظاهرها الأحكام العامة.
وكيفما كان الأمر، فإن ما تجيء به الثورات إما أن يختفي ويزول جملة بعد الدعة والاستقرار، وإما أن يَتَخَلَّف منه صدْر ترى الطبيعة أنه صالح للبقاء، وهذا القدر بالنسبة إلى الفنون، مهما يكن في مبتدأ الأمر نابيًا عن بعض الأذواق، فإن مما لا شك فيه أنه مع طول الزمن وكثرة تقليبه على الذهن أو السمع أو البصر، وانعقاد الإلف، تتكيف به الأذواق وتتلون، ولقد يكون تَكَيُّفُها به وتلوُّنُها إلى حد بعيد.
بَقِيَتْ مسألة دقيقة أُحِبُّ أن يُجِيلَ الرأيَ فيها سادتُنا المتصدُّون للتجديد شعراء كانوا أم كُتَّابًا أم موسيقِيِّين أم مُصَوِّرِين، وهذه المسألة أن المرء مهما يكن على حظ من المواهب، وخاصةً فيما يتعلق بالأذواق والعواطف، فإنه لا بد متأثِّر بقَدْر غير يسير، بالبيئة التي دَرَجَ فيها، وبعادات قومه، ومَنَازِع عواطفهم وما أَلِفوا بطول الزمن، وغير أولئكم مما انحدر إليهم من التاريخ البعيد، هو متأثر بكل هذا حتى ليكاد يتصل بطبعه وغريزته، فالأصل فيه أن يُحِسَّ الأشياء كما يُحِسُّها قومه، وأن يَذُوقَ ألوان المعاني كما يَتَذَوَّقُها معشره، وذلكم بحكم ضرورة الاشتراك في الجملة، في عناصر تكوين الذوق العام، فهو على هذا إذا ابتدع طريفًا، واستحدث في الفن جديدًا، فَفَنُّ قومه القائمُ هو ولا شك أساسُ ابتداعه، وملاكُ ابتكاره واختراعه.
وهذا إلى أنه إنما يسعى في هذه السبيل سَعْيه لِيُرَفِّهَ عن قومه أولًا، ولينعمهم ويُدْخِل الطَّرب والسرور عليهم، فينبغي له بالضرورة ألا يُسْقِطَ من حسابه في تجديده ألوانَ عواطفهم، وما تستريح إليه من صُوَر الجمال أذواقُهُم.
نعم لقد تَفْتر الأذواق في مبتدأ الأمر عن الجديد، ولكنها سرعان ما تألفه وتَتَذَوَّقه وتَلْتَذُّه، ما دام يَمُتُّ إلى فن القوم بسبب، ويُدْلِي إليه بنسب، ولا حرج على المُفْتَنِّ، بل إن من واجبه أنه إذا حَرَّكَ عواطفه، وهز مشاعِرَه شيءٌ من آثار فنون الأمم الأخرى، أن يبادر إلى اقتناصه، يسرع إلى معالجته بالتسوية والتثقيف، حتى يَتَّسِق لفن قومه، ويُطْبَع بطابعهم ويَسُوغ في مذاقهم، حتى ليترجم عن بعض ما يَعْتَلِج من العواطف في نفوسهم.
أما أن يهجم على القطعة من فن غيره فينتزعها انتزاعًا، ويمتلخها امتلاخًا، على حين لا يتذوقها هو نفسه ولا يسيغها، ولا هي مما يُمْكن أن يُسِيغه قومه ويتذوقُّوه، ومع هذا يأبى إلا أن يَسْتَكْرِه استكراهًا على فنهم باسم التجديد، فذلكم لَعَمْرِي هو المسخ والتشويه!
سيداتي، سادتي
ليس في هذا اللون من «التجديد» إساءة إلى الفنون، وإساءة إلى الناس بما يُفَوِّت عليهم من الاستمتاع بالفنون الجميلة فحسب، بل إن من شأنه أن يبلبل أذواقَ الجمهرة ويُشَتِّتها تشتيتًا!
اللهم إن براعة المُفْتَنِّ هي في أن يطبع ما يسنح له بطابع فنه، ويَنْظُمه في سمطه، فلا يُشَوَّه به الفنُّ ولا يتنكر، بل يظل هو هو، على ما زِيدَ في ثروته، ووُسِّعَ في آفاقه، ومُدَّ له في تلطيف العواطف وإرهاف الأحاسيس، وحسبكم ما صنع المرحوم عبده الحامولي بالموسيقى المصرية، وما كان له في التجديد البارع حقًّا من أثر بعيد.
وبعد، فإذا كان عندنا بفضل الله، نوابغ أَكْفَاء للتجديد الصحيح في الآداب والفنون، فإن فينا مع الأسف العظيم، من يَعْبَثُون أشَدَّ العبث بالآداب والفنون، ليظفروا هم الآخرون بلقب «الأبطال المجددين»، وما أرخص الألقاب، إذا كانت لا تُنَال إلا بمثل هذا الإغراب!
إن بعض هذا الذي تَقَعُ عليه أسماعُنا وأبصارنا في الفنون والآداب ليس تجديدًا، ولكنه مَسْخٌ وتشويه، وما ظَنُّكم بمن كُلُّ جهده هو مَحْض الإغراب، والإتيان بكل نابٍ عن الطباع ناشز على الأذواق، وكيف لمن لا يُحِسُّ شيئًا بأن يُشْعِرَهُ غَيْرَه، وقد قال الأقدمون: إن فاقد الشيء لا يعطيه؟!
هؤلاء رَأَوْا أن فُلَانًا ذَهَبَ له صِيت وذِكْر لأنه أتى في الفن بما لم يكن يَعْهَد الناس، فما لهم هم أيضًا لا يُغْرِبُون، واقعًا هذا الإغراب حيث وقع، لِيَذْهَب لهم كذلك في الفن ذِكْر وصِيت؟
•••
لقد عَبَّرْت في صدر حديثي بكلمة «الثورة»، وخَشِيت أن أكون في هذا التعبير من المتجوِّزين، فالثورة كما تعلمون، إنما هي الانفجار من أَثَرِ فِكْرَة تغلي في الصدر، غَلَيَانَ الماء في القِدْر، ثم إنها تَضْطَرِم وتَحْتَدِم في سبيل تحقيق غاية معينة، فهل بعض هذا الذي نرى ونسمع في الأدب والفن كذلك؟ أي أن الفكرة قد مَلَكَتْ على هؤلاء جميعَ مذاهبهم، وغَلَتْ في صدورهم فثاروا بالقديم، وراحوا يُقِيمون فنونًا جديدة واضحةَ المعارف بَيِّنة الرسوم! أم أن الأمر كله لا يَعْدُو التلفيق من هنا ومن هنا تلفيقًا كله تَعَسُّف واستكراه، حتى تَبَدَّت للفن صورة متناكرة الأعضاء، متنافرة الأجزاء، وذلك في سبيل الإغراب طلبًا للظفر كما قلنا بلقب «البطولة في التجديد»؟!
إذا كان الأمر كذلك، فليس ما نحن فيه بثورة، ولا هو من الثورة في كثير ولا قليل، إنما هو الفوضى بأجمع معاني الكلمة، فحَذَارِ أيها الإخوان حَذَارِ، وإلا لَحِقَ الفنونَ البوارُ، وحَقَّتْ عليها «بتجديدكم» كلمة الدمار!