المُفْتَنُّ أبو نُوَاس١
تُرَى هل بلغ أبو نواس ما بَلَغَ في شعراء العربية، وذَهَبَ له ما ذَهَبَ من ذِكْر وصِيت لأنه قال في مدح الرشيد:
أو تُرَاه أصاب هذا الحظ كله لأنه قال في مدح ابنه الأمين:
أو لعله قد دَوَّى باسمه السهلُ والجبلُ لأنه قال كيت وكيت، فأتى في المديح والهجاء والرثاء، ووصف الجياد والنجاء، بألوان من المبالغات كثيرًا ما كانت سبيل السيرورة، ومَبْعَثَ النباهة وسطوع الصيت؟
اللهم لا! وإذا ظُنَّ أن مِنْ متقدمي الشعراء مَنْ رَفَعَ بعضُ النَّقَدَة بمثل هذا أقياسَهُم وأقدارَهُم، فثبت به ذِكْرُهُم على الأيام، فإن أبا نُوَاس لم يخلد به، ولا كان قَطُّ مدينًا له، وإن كان قد جاء منه بما لو يَنْتَهِ فيه كثير من أعلام البيان منتهاه!
الواقع أن أبا نواس كان من أولئك الأفذاذ الذين يَشُحُّ الزمان بهم فلا ينتضح بأمثالهم إلا نِطَافًا في أثناء الحقب الطوال، ولعل كلمة «فلان نسيج وحده» التي ينفضها أبناء العرب على المرء إذا عَزَّ أكفاؤه، لا تبلغ موضعها الحق من الجد والصدق والإشراف قدْرَ ما تَبْلُغ إذا أضيفت إلى هذا الرجل العظيم!
أبو نواس شاعر فحْل، يرفعه نَقَدَةُ البيان إلى الذروة، ويسلكونه في نظام جميل مع أشعر شعراء عصره، وقد يُؤْثِرونه على بعضهم، ويَرْفَعون منزلته عليهم، ما في هذا شك ولا كان يومًا في مَطْرَح الحوار بين أهل البصر بمَنَازِع الكلام.
إذَنْ فأبو نواس شاعر من أفحل شعراء العصر العباسي الأول، وقد أَحَلَّه عند كثرة الناس هذا المَحَلَّ أنه مَدَحَ فلم يَتَخَلَّفْ عن أبلغ المادحين، ووَصَفَ فكان من أجود الواصفين، وضَرَبَ في سائر فنون الشعر فما وَنَى في شيء ولا قَصَّر، بل لقد أرسل من سوابق القريض ما لا يُتَعَلَّق بغباره، ولا يَسْهُل تَرَسُّم آثاره، وما له لا يبلغ هذه المنزلةَ في الشعراء، وهذه قصيدته في مدح محمد الأمين: «يا دارُ ما فَعَلَتْ بِكِ الأيام».
والتي جاء فيها:
•••
وهذه قصيدته التي يمدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور، وأولها:
وهذه مِدْحَتُه في الخصيب:
•••
وتلك طواله وقصاره في مدح الرشيد، والأمين، والعباس بن عبيد الله، والفضل بن الربيع، وولديه العباس ومحمد، والخصيب بن عبد الحميد، وإبراهيم بن عبيد الله الحجبي، والحسين بن عيسى، وغير هؤلاء كثير.
ثم هذه مراثيه للرشيد، والأمين، وأستاذه والبة بن الحباب وسواهم.
وهذه قصائده ومقطوعاته في العتاب، والزهد، والطرد، والغزل، والوصف، وغير أولئك مما تستهلك الإلمامةُ به أضعافَ القدر المقسوم لهذا المقال، دعْ أحاديث الخمر والمجون الآن، فسينعطف عليها بعْدُ الكلام.
وفي رأيي أن شاعرية أبي نواس لم تَتَجَلَّ في حيث يظن هؤلاء، بل لعله إذا كان قد دخل عليها نَقْص، أو تَطَرَّقَ إليها شيء من الوهن، فمن هذه الناحية أصابه ما أصاب!
لقد كان أبو نواس رجلًا موهوبًا حقًّا وعبقريًّا حقًّا، كذلك طبعه الله وعلى هذا طواه، حتى لو جاهد نفسه على ألا يكون شاعرًا ما استطاع مهما أَلَحَّ في الجهاد، وهيهات أن يكون لامرئ بتغيير خلق الله يَدَان!
أبو نواس شاعر كما هو إنسان، وإنك إذا طَلَبْتَ الرجل المُفْتَنَّ الكامل، قد مَلَكَ الفن عليه كُلَّ مذاهبه، وطالعه من جميع أقطاره، وجرى في أعراقه مجرى دمه، واعتلج مُعْتَلَج العواطف في نفسه، فأمسى وهو لا يكاد يَشْعُر إلا به، ولا يتذوق الأشياء إلا من حيث يُذِيقه، إنك إذا طلبت هذا المُفْتَنَّ التام، فأرجو أن تجده في هذا الشاعر أبي نواس.
أبو نواس شاعر بأبلغ ما تدل عليه هذه الكلمة وأدقه وأجمعه وأكفاه، هو رجل مُرْهَف الحس، نافذ الشعور، خصب الذهن، صافي النفس، جوهري الطبع، وإن شِئْتَ قُلْتَ: إنه يكاد يكون في أصل خَلْقِه مجموعة معانٍ لولا أن تَجَسَّدَ بعضها فاستحال لحمًا وعظامًا لظل سابحًا بكل خلقه في مسابح الأرواح!
هو رجل يُشْعِرُكَ مُرْسَل شِعْره بأن نَظَرَه كان ينفذ إلى صميم الأشياء، بل لقد يُشْعِرُك بأن الأشياء كانت تَلْطُف له وتَشِفُّ ليتناول من صميمهما ما يشاء، وسرعان ما يتنفس بهذا الذي أدرك شِعْرًا إذا كَفَّ عنه القلم أو حبس دونه اللسان!
فإذا أنت طَلَبْتَ أبا نواس المُفْتَنَّ فإياك أن تَطْلُبَه في قوله:
ولا في قوله:
ولا في قوله:
كان أبو نواس في جميع أسباب حياته شاعرًا مُفْتَنًّا إذ هو إلى ذلك رجل مستهتر، خَلَعَ مثانيه، وتحلَّلَ من كل ما يأخذ الناس به نفوسهم في هذا المجتمع، أو ما ندعوه نحن في عصرنا هذا «بالتقاليد»، فإذا رأيته يصف الخمر ويغلو في مدحها أشد الغلو، وإذا رأيته يُرْسِل القريض في ألوان العبث، فلا يتحرج من قول ولا يتأثم من نُكْر، ويبتذل في هذا من نفسه للناس بما يَضِن به أدناهم مروءةً على ذات نفسه، مهما يكن في سرٍّ من الناس، إذا رأيْتَه كذلك فاعلم أنك في شعر أبي نواس المُفْتَن حقًّا، والمرسل النفس حقًّا، والمنتضح الطبع حقًّا، أما إذا رأيته في ذلك الذي أغلى أقدارَ غيره من الشعراء من المديح وغير المديح، فاعلم أن الرجل قد خرج عن طبعه، واطَّرح شاعريته، وراح يتكلف القريض تَكَلُّفًا، حتى إذا أصاب به رِزْقًا، أَقْبَلَ على نفسه واعتنق شاعريته الحق، ولا يزال في شأنه هذا حتى يَنْفذ زادُه، ويرق عَتَادُه، فلا يرى بدًّا من أن ينقلب إلى معالجة «المهنة»، وهكذا.
قال أبو نواس في إحدى مدائحه يصف الناقة:
وقال يَصِفُ النياق التي حَمَلَتْهُ إلى ممدوحه:
وقال غيرَ هذا وهذا في وصف النياق، ولَكَمْ وَقَفَ في أشعاره بالديار، وبكى النُّؤيَ والأحجار، فَنَحَى في قريضه مَنْحَى العرب السابقين، وأتى بالجزل من اللفظ، واستكثر من الغريب، بحيث لو أضيف أكثر هذا إلى بعض شعراء الجاهلية، ما تفطن إلى مواضع الصنعة فيه من النَّقَدَة إلا قليل، ومع هذا كله فلم يكن به الشاعرَ المُفْتَنَّ، وإن شِئْتَ التعبير الأدق قُلْتَ: إن أبا نواس لم يكن به أبا نواس؛ لأنه فيه حاكٍ مُتَرَسِّم، لا يُفضي بذات نفسه، ولا يترجِم عن شيء من حسه، وما لي أجهد في مذاهب التدليل، وهذا قول أبي نواس نفسه في تهكمه وزرايته بهذا الضرب من الشعر يُعَدُّ أَصْدَقَ دليل: قال:
وقال:
إلخ …
وقال:
إلخ …
وقال:
فإذا شئت بعضَ مذهبه في الحياة خالصًا، فلعله يغنيك في هذا قوله:
لعله قد خرج لنا من كل ذلك أن أبا نُواس إنما كان يَجْتَمِعُ اجتماعًا لِنَظْم تلك القصائد الفخمة التي يَرْفَع بها كثرةُ النَّقَدَة شاعريته، وكان يُلْهِب عصبه، ويُشِبُّ ذِهْنَه في صُنْع الأخيلة واختلاق فنون المعاني، ويُذْكِي ذاكِرَتَه في التماس ما عسى أن يكون جازَ به من غريب اللفظ ومجفُوِّه، ليكتب له التقدم والتبريز على شعراء عصره، فمشاكَلة شِعْر الجاهلية في عُرْف بعضهم، إنما كان السبيل إلى البراعة والتبريز.
ولقد يَدُلُّ هذا منه ومن غيره على كفاية كافية، ولقد يَدُلُّ على براعة في نظم الشعر بارعة، ولكنه لا يدل قَطُّ على أن مُفْتَنًّا يترجم عن حسه هو، أو بعبارة أخرى، على أن عبقريةً تُلْهِم ومُفْتَنًّا يَسْتَلْهِم، أو على أن عبقرية تأمر ومُفْتَنًّا لا سَعْيَ له إلا في التدوين والتسجيل!
فإذا تَطَلَّعْتَ إلى شاعرية أبي نواس، فالْتَمِسْها في معابثه ومباذله، والْتَمِسْها في كل ما يبعث شُعُورَه من منظر بَهِيج، ومقام يُذْكي الحِسَّ ويَهيج.
الْتَمِس شاعرية أبي نواس الحق حيث يصف آثار مجلس شراب:
وفي قوله يصف الخمر وساقيها:
وفي قوله في مثل ذلك:
•••
وحسبي هذا القدر من الاستشهاد، وإلا هويت معه من النكر إلى قرار سحيق، أسأل الله أن يغفر لي ويغفر له.
ولقد نرى عامة شِعْره في هذا سهلًا مُيَسَّرًا حتى كأنه حديث من الحديث، وهذا الذي تنقطع دونه علائق القريض؛ على أئمة البيان قد عرفوا له هذا، وأجلوا به محله، ورفعوه إلى الذروة بين نظام الكلام.
وبعد، فقد طال المقال وما زال في النفس كلام عن أبي نواس كثير، وما دام الحديث عن مثل أبي نواس لا تَسْتَوْفِيه إلا الأسفار الضخام، فطول المقال وقصره لَعَمْري في ذاك بمنزلة سواء، «والغمر فيه تستوي الأعماق»!