الشيخ أحمد ندا١
عزيز عَلَيَّ، وعزيز على من شهدوا من أهل مصر هذا الجيل، ومن شهدوا فيها أواسط الجيل الماضي أو أعقابه، عزيز علينا جميعًا أن يُرْسَل علينا نَعْيُ المرحوم المغفور له الشيخ أحمد ندا، وأنت دائمًا إذا ذَكَرْتَ الشيخ ندا في هؤلاء، تمثلوا فيه شيئًا جليلًا عظيمًا، تمثلوا فيه عنصرًا كبيرًا مما تتسق به الحياة في مصر، وما تنتظم به ثروتها الأدبية، كذلك كان أحمد ندا، وكذلك يتمثله القائمون من هؤلاء في الحياة ما داموا في هذه الحياة.
ومن عجب أن يموت أحمد ندا في نفس اليوم الذي يموت فيه حافظ إبراهيم فيُضْرَب هذا البلد في يوم واحد ضربتين قاسيتين حتى على أغنى البلاد وأحفلها بعظماء الرجال!
ومن أعجب هذا العجب أن هذين الرجلين، وإن اختلفت فنونهما وتفارقت في أبواب العظمة وسائلهما، كانت تجمع بينهما خلة جليلة الخطر بعيدة الأثر، وهذه الخلة هي شعور كل منهما أبلغ الشعور بالكرامة في فنه، وأن أحدًا منهما لا يطيق أن يَبْرَعه أحد أو يسبقه إنسان، إذا استن الأقران في حلبة السباق!
نعم؛ وليردِّدْها القارئ عني كما يشاء! ليست الموهبة وحدها هي التي ارتفعت بكلا الرجلين إلى هذا المكان، فلقد كان الشعور بالكرامة، ومواتاتها بغاية ما يترامى إليه العزم والقوة أثرٌ جليل فيما بَلَغَا من المنزلة وبُعْد الصيت في جمهرة النابغين.
ولنكسِر القولَ هذا اليوم على الشيخ ندا، فلصديقي حافظ بَعْدُ كلام طويل.
كان الشيخ أحمد ندا عليه رحمة الله ربعة القوام، مكتنز اللحم وإن ترَهَّل لحمه في غاية العمر بتراخي السنين، وكان وجهه أشبه بمربع متحيف من زواياه الأربع؛ على أنه كان قَسِيمًا حلو العينين، حلو الفم على فَوه فيه قليل، تضرب في بياضِ لونِهِ صُفْرَةٌ لا أدري إن كانت من الخفة أو من مرض طارئ دخيل.
وكان إذا تَحَدَّثَ تَفَخَّم عليه اللفظ، فخرجت تاؤه بين التاء والطاء، وخرجت زايه بين الزاي والظاء، وسينه بين السين والصاد، وهو بَعْدُ حسن السمت، حسن الدل، متأنق الهندام، يُكَوِّر عمامته على نسق خاص يترسمه فيه كثير من المعممين، وخاصة جماعة القراء.
وكان، أثابه الله، كأمثاله العظماء بالحق، جَمَّ التواضع، وافِرَ الأدب، لا يذكر الناس — إن هو ذَكَرَهُمْ — إلا بالخير، عظيم التوافي لمن يعرفهم، طلاعًا عليهم ما اعتراهم المكروه.
•••
مات الشيخ أحمد ندا الكبير، وترك ولديه حامدًا وأحمد فَتَيَيْنِ، فوُصِلَ حامد وهو أسنهما، بمنصب أبيه، واتكأ أحمد في عيشه على ترتيل القرآن في مَهَمِّ الناس من المناحات والأعراس ونحوها على سنة «الفقهاء» في هذه البلاد.
ويوم درج أحمد ندا في هذه السبيل كان المقدمون من حذاق القراء الذين طار صيتهم في البلاد كل مَطار، هم الأشياخ الثلاثة محمود القيسوني، وحسين الصواف، وحنفي برعي، على أن أولهم لم يكن يُؤْجَر على القراءة في أسباب الناس، لأنه كان المؤذن الخاص لِوَلِيِّ الأمر، وإن كان يُجَامَل أحيانًا بالترتيل في بيوت من يؤثرهم من العظماء في مهمهم، فلم يكن في الميدان في الواقع من قراء الطبقة الأولى إلا السيد حسين الصواف والشيخ حنفي برعي، وسرعان ما وُصِلَ بهما القارئ النابت الشيخ أحمد ندا!
وأنت ترى من هذا أن ندا لم يَنْبُهْ بعد خمول، ولم يطاوله الزمن في المواتاة بارتفاع الصيت، وكان إذا اجتمع ثلاثتهم للتلاوة تقدم السيد حسين الصواف لعلو سنه، ولِحَسَبِهِ ومنزلته في كرام الناس، ثم قَفَّى على أثره الشيخ حنفي، ثم أحمد ندا لأنه أصغر الثلاثة في عدد السنين.
على أننا لم ندرك السيد الصواف إلا وهو في أعقاب العمر، فلم يتهيأ لنا أن ننعم بصوته، أو نتذوق فنه، إما لأن صوته كان قد علاه الشيب، أو لأننا نحن كنا أحداثًا لا ندرك في هذا الباب ما يُدْرِك الرجل التام؟ فكان الصراع لأول عهدنا دائمَ الشبوب بين الشيخ حنفي برعي وبين الشيخ أحمد ندا.
وكان الشيخ حنفي رحمه الله رجلًا مكور الوجه، مكور الجسم، تحسبه إذا جلس إحدى القدور الراسيات، وكان على هذا حلو الصوت دقيقه، أشبه ما يكون بصوت العود يتلعب بأوتاره الحاذق الحسان، وكان إلى هذا على حظ من الفن عظيم، يقرأ على طريقته التي ابتكرها هو ابتكارًا واحتذاها بَعْدُ كثيرون.
كان الصراع كما حدثتك بين الشيخين عنيفًا دائمًا ما اجتمعا، فيكون الغلب لهذا مرة، ولهذا مرة، والسامعون هم الفائزون على كل حال، وكانت لهما مواسم يطلبها الناس من كل مكان، وكان أَجَلُّها وأفخرها في بيت المرحوم داود بك العيسوي في مولد الحسين بن علي رضي الله عنهما.
على أن الشيخ أحمد ندا ما زال يقوى ويشتد، ويُبْدِع ويَفْتَنُّ، إذ الشيخ برعي ما برح يضعف ويهزل حتى أسلم سلاحه وخرج من الميدان بسلام.
•••
نعود بعد هذا إلى صوت الشيخ أحمد ندا وفنه وطريقة أدائه:
لم يكن صوت الشيخ ندا حلوًا بالمعنى الذي يُدْرَك من أصوات مثل المرحومين الشيخ يوسف المنيلاوي وعبد الحي أفندي حلمي، ولا من مثل صوت الآنسة أم كلثوم وصالح أفندي عبد الحي، ولكن له جمالًا من نوع خاص، فلقد كان قويًّا شديد القوة، يرتفع إلى ما تتقطع دونه علائق غيره من الأصوات وكان مع هذا عريضًا بعيد العرض، حتى إذا جلجل وانصقل، صار أشبه في وضوحه وبُعْد عرْضه بصفحة الأفق ساعةَ ينصدع عمود الصباح.
وعلى أن مثل هذا الصوت، إن كانت له مشابه، مما يتعذر معه إحكام النبرة (العفق) سواء في بعض الترنيمة أو في غايتها، فإنه لم يَكُ يلحق ندا في هذا الباب إلا الأقلون ممن رُزِقُوا رقة الأصوات ولينها، ومن هنا تُدْرِك قَدْر الموهبة التي أُوتِيها أحمد ندا في هذا الباب، فإن لم يكن الأمر فيه إلى الموهبة، فقَدِّر ما كان يلقاه ذلك الرجل في هذا من عظيم العناء!
وقبل أن نجاوز هذا الموضع من صفات الرجل، نقرر أن صوته لم يكن له حظ كبير في قراراته، أو ما يسميه أهل الفن «بالأراضي»، بل كانت أَرَضُوه واضحةَ الإقفار، حيث كانت ثرواتُه كلها في أثنائه «البدنية»، وفي أعاليه، فكان لهذا دائم الاتكاء عليهما في ترجيعه عامة ليله، فلا يتنزل إلى قراره إلا ليصيب راحة ضئيلة يستجم فيها، في الوقت نفسه، لوثبة يرتفع فيها إلى عنان السماء!
أما فنه، وهنا ألتفت بالكلام إلى الأستاذ التفتازاني، وقد كتب عن الشيخ ندا في «الأهرام» كلامًا ذهب فيه، إن صَدَقَتْ ذاكرتي الكليلة، إلى أنه رحمه الله كان يجري على عرق عظيم من العلم بفن الموسيقى، وهذا لا يشايع الواقع في كثير ولا قليل.
وقبل أن أخوض في هذه المسألة أقرر كما قررت من قبل في مناسبات كثيرة، أن الفن شيء، وأن العلم بالفن شيء آخر، فليس كل مُفْتَنٍّ عالمًا بالفن وأصوله وقواعده، وليس كل عالِم بالفن وأصوله وقواعده من المُفْتَنِّين.
إنما مَلَكة الفن ترتكز في أصلها إلى الموهبة، أما العلم بالفن فمرجعه إلى الدرس والمذاكرة وطول النظر، وشتان ما بين هذا وهذا!
بعد هذا أصارحه غير متحرج ولا متحرف عن مكان الحق، ولا متنقص لقدر هذا الرجل الذي أتجرد اليوم لذكره إيثارًا له وهتافًا بفضله العظيم، أصارح صديقي الأستاذ بأن الشيخ أحمد ندا لم يكن على حظ جليل في علم الموسيقى، بل لعل عِلْمُه به لم يَزِدْ على إدراك أوليات النغم بما تلقف في صدر نشأته من لداته: هذا صبا، وهذا سيكاه، وهذا عراق، وهذا جركاه إلخ، أما أنه تلقى هذا العلم وحذقه أو عُنِيَ عناية جليلة به، فهذا لم يَقُمْ عليه أي دليل؛ بل لقد أَعْلَم ويَعْلَم كثير غيري — وليس هذا لحسن الحظ بغاضٍّ من قَدْر الرجل ولا بمتحيف من عظمته العظيمة — لقد أعلم ويعلم كثير غيري غير ما تقول: فإن شئت الواقع، فالواقع أن أحمد ندا لم يكن عالمًا قَطُّ بالموسيقى، وإنما كان فنانًا حق الفنان، وكان حسانًا كل الحسان، كان من أولئك الأفذاذ الذين بَعَثَ الله في نفوسهم تلك الموهبة النيرة التي تَشُقُّ وَحْدَها في الفن طريقها فَتُعَبِّد فيه سُبُلًا، وتُمَهِّد له طروقًا، وتخلق فيه أحداثًا لم تكن خُلِقَتْ من قبل، وهكذا كان الشيخ أحمد ندا، وهكذا أبدع في فن ترتيل القرآن بِدَعًا لا عهد للناس بها من أول الزمان، ولن يزال يترسمها القارئون إلى بعيد من الزمان، فالشيخ ندا من أحد أولئك القلائل الذين لم يَجُدْ عليهم العلم بالفن وإنما أَجْدَوْا هم على الفن بما رزقوا من سلامة الفِطَر ودقة الإحساس، وتلك المواهب العظام!
وهؤلاء أشبه بالقُمْرِيِّ إذا سجع وغرد، وبالجدول إذا تعطف في الروض وتأود، وبالبدر إذا استوى فأشرق نوره، وبالورد إذا تفتح فسطع عبيره، اسأل ما شئت من هؤلاء كيف صنع، وعمن أخذ وعلى يد من بَرَع، وخبرني بعد هذا الجوابَ.
•••
أما أسلوبه وطريقة أدائه، فلقد جعل من أَوَّلِ نشأته يحاكي الشيخ حنفي برعي ويَسْتَنُّ سبيله، وينهج منهجه، وكذلك كان في عامة ترتيله، اللهم إلا ما كان يستحدثه ذوقه الخاص، وكان هذا قليلًا بالإضافة إلى سائر شأنه، ولقد أدركناه نحن وهو في أسلوب أدائه على هذه الحال، وتأبى عليه كرامته الفنية إلا أن يحدث كل يوم حدثًا في الصنعة من مبتكره هو ومن بِدَع ذوقه، يطرح بإزائه شيئًا مما أخذ عن أستاذه الشيخ حنفي، حتى استوت شخصيته وأدركت، وتمت له صنعة جديدة فاخرة في فن القراءة والترتيل.
كان الشيخ ندا رجلًا صائدًا لا يُخْطِئ سهمه ما سنحت له الرمية، ولقد كانت تعتريه «الحركة» في بعض ترتيله عفوًا، ما اجتمع لها ولا أسلف لها تقديرًا، إذ هي طريقة لم تَجْرِ من قبل على مثال فما يزال يَكُرُّ عليها ويُرَدِّدها في مختلف الآي حتى يحذقها ويضيفها إلى فنه السري الجليل!
ولقد كان يبدأ قراءته، وخاصة في نوبته الأولى، مضعوفًا متخاذلًا حتى ليكاد يكون ترنيمه ضربًا من الحشرجة؛ وحتى يُحْضِرك قول الشاعر:
وإنه أثناء هذا لَيُكْثِر من التسعل والتنحنح، ولا يزال يدور بصوته الأجش المهزوم على فنون النغم لعله يوافق في إحداها بعض الفرج، فيدركك اليأسُ كُلُّه من أن الرجل في ليلته تيك مستور، وكلما زاد صوته علاجًا ومطاولة أقبل عليه هذا الصوتُ بشيء من المواتاة، وأحسَّ منه سامعه بشيء من الانتعاش أشبه بما يُحِسُّ العليل أحيانًا في مرضته الأخيرة، وربما عاوده الانتكاس فعاود هو المراجعة وشدة المطاولة، ولا يزال على هذا حتى يستوي قارئًا عاديا لا فَضْلَ له ولا امتياز على غيره من جمهرة القراء، حتى إذا أدَّى قسمه أخلى الميدان لقرنه فجال فيه ما شاء الله أن يجول، وصال على الشيخ ما شاء أن يصول!
فإذا جاءت نوبته الثانية واستوى في مجلس الترتيل، رأيت فيه فتاء وقوة لا عَهْد لك بهما من قبل، وخرج صوته مُرِنًّا واضحًا ليس عليه من الصدأ إلا قليل، ويقرأ ثم يقرأ؛ على أنه لا يأخذ في قراءته سمتًا واحدًا؛ بل ما يبرح يترجح بين فنون النغم؛ ولكن تَحَيُّره هذه المرة ليس في التماس النغمة التي تعيذه وتعصمه، بل في التماس تلك التي تضنيه وتتعبه، إذ صوته في أثناء ذلك يقوى ويشتد، ويعلو ويصفو، حتى يصير أوضح من فرند سيف خرج لساعته من الصقال، وينطلق في طلب الصيد من ها هنا ومن ها هنا، ولا يريغ من النغم إلا الأوابد، فإذا أصاب قنيصته راح يلون لها الافتراسَ ألوانًا، ويشكل لها الالتهام أشكالًا، فما يدَعها إلا «أعظمًا وجلودًا»، وهو أثناء ذلك يقيم الناس ويقعدهم، ويطويهم وينشرهم، ويذيقهم المهولَ الرائعَ من الطرب والانبهار، وما شاء الله لا قوة إلا بالله!
ولو قد هيئ لك أن تسمعه في نوبة ثالثة، فتلك التي لا يتعلق بها وصف واصف، وسبحان الخلاق العظيم!
•••
ولقد عاش الشيخ أحمد ندا، على هذا خمسين سنة أو تزيد قليلًا أو تنقص قليلًا، قضى منها سنين طوالًا لا يكاد يستريح من السهر ليلة واحدة، ولقد يسهر الليلة في أسيوط، ويسهر التالية في المحلة الكبرى مثلًا، فيُجَلْجِل في الثانية كما يُصَلْصِل في الأولى، ما ترى على صوته أثرًا لضعف ولا انخذال!
وإذا كان تاريخ الغناء العربي قد أحصَى نفرًا ممن عَمَّروا فيه مع القوة وسلامة الصوت من أمثال إسحاق الموصلي وابن جامع، فقد امتاز الشيخ ندا عن أولئك جميعًا بأنه أمضى جميع تنغيمه بذلك الجهد الشنيع، فهو بلا شك رجل في التاريخ عظيم ولولا أن الحديث قد طال لذَكَرْتُ كثيرًا من مفاخره في لياليه؛ وإن من حقه على مُعَاصِريه أن يُثْبِتوها له على وجه الزمان.
على أنه كان يتغنى على طريقته في القراءة، فكان غناؤه سخيفًا مضحكًا، وإن غناء القراء لأشبه بشعر الكتاب، كما أن تلاوة المغنين أشبه بنثر الشعراء؛ ومهما يكن من شيء فإنه لم يَلْبَث في هذه المحنة طويلًا، فلقد ترك الغناء بتاتًا وتوافر على تلاوة القرآن الكريم.
•••
هذه كلمة حق أُرْسِلُها خالصة لوجه الله تعالى، وفاء لحق التاريخ أولًا، ولحق الصحبة الطويلة والجوار السعيد ثانيًا.
وإني أسأل الله تعالى أن يثيب الفقيد العظيم بقدر حسناته، وأن يعزي هذه البلاد عنه أحسن العزاء.