النكتة المصرية في العصر الحديث١
سيداتي، سادتي
لقد استهلَلْتُ كلامي معكم في الأسبوع الماضي بأنني كُنْتُ عَقَدْتُ النية على أن أحدثكم حديثًا فكهًا قصدًا إلى ترفيهكم والتسلية عنكم، ثم انصرفت عن هذا لأنه غير لائق في ليلة مولد الرسول الأكرم ﷺ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وأما نحن فنمزح وقَلَّ أن نقول في مزاحنا حقًّا، نسأل الله السلامة، من عقبى الحساب في يوم القيامة.
أحدثكم الليلة حديثًا إذا هو بَعُدَ بُعْدًا شاسعًا عما سَبَقَ لي أن تناولته من الموضوعات في هذا الموقف، فهو داخل في جملته في تلكم الدائرة المرنة، التي تتسع لما تضيق به أوسع دائرة مرنة في العالم، ألا وهي دائرة الأدب، ومن يُنْكِرْ أن هذا لون من الأدب، فهو امرؤ لا أحسبه يعرف الأدب.
موضوعي الليلة هو النكتة المصرية في العصر الحديث، فإذا فَرَغْنَا من القول في ذلك ألممنا بشخصية من الشخصيات التي حَذَقَتْ هذا الفن، وبَرَعَتْ فيه أيما براعة، وهي شخصية المرحوم إمام أفندي العبد.
وهنا أرجو أن ترخصوا لي في أن أتكلم، ما دَعَت الحاجة، بالعامية الخالصة، لأن النكتة إذا سُبِكَتْ في العربية الخالصة فقد يَنْضَب ماؤها، ويحول بهاؤها، وإنني لأذكر أنني قرأت للإمام الجاحظ شيئًا في هذا المعنى، وأين نحن من إمام البيان غير مدافع، وأين بَيَانُنا من بيانه، وأين تجويد أقلامنا من عفو لسانه؟
سيداتي، سادتي
– كده العدل!
وفي «قافية» الجرائد يقول له: أنت مسميينك في البيت.
اشمعنى؟
البرص! وهكذا، فهذا هو التلفيق الذي عَنَيْتُ.
لا أريد بالضرورة هذا اللون من النكتة، لأنه لا أثر فيه للذكاء، ولا مجال لسرعة الخاطر، هذا إلى أن حَظَّه من التصوير غير جليل، وإلى أنه ثابت مُدَوَّن محفوظ؛ يُقَال لكل من شارك فيه في كل مَقام.
إنما أريد ذلك النوع الذي تُلْهِمه دقة التفطن، وسرعة الخاطر، وحضور البديهة، والقدرة القادرة على لطف التصوير والتخيل، ولقد يكون للنكتة من هذا اللون مغزًى بعيد قد تُعْيِي إصابتُه على الرجل الحكيم، وقد يكون لها من قوة الأثر، ما لا يكون لمقالة الكاتب مهما أَطَالَ وأسهب، ولا لقصيدة الشاعر مهما أضفى وأسبغ.
سيداتي، سادتي
لعلكم عَرَفْتُم مِنْ هذا، أن البراعة في النكتة على هذا، تحتاج في المرء إلى خلال: منها الذكاء اللماح، وسرعة الخاطر، وقوة اللسن، وأَعْنِي بها هنا القدرة على دقة التصوير والتخييل باللسان، والعلم بأحوال الزمان والبيئة والأشخاص، وشيء من الجراءة، ولا أحب أن أقول: شيء من قلة الحياء، وأخيرًا لا بد لها من خفة الروح، فلا خير في نكتة تجيء على لسان ثقيل.
والرجل الذي أوتي هذه المواهب يَلْحَظ الانحراف مهما دَقَّ، في خُلُق المرء أو في خَلْقه، أو في بعض عمله أو حديثه، أو في أي شيء من الأشياء على جهة العموم، فسرعان ما يسوي له بخياله صورة مكبرة، مهما تبعد في شكلها عن الأصل، فهي متصلة به بسبب أو بأسباب، ولقد يخلق الحديث خلقًا، ولكنه إنما يترجم به عن حالِ مَنْ يَتَنَدَّر عليه، ولقد تجيء النكتة في صورة جواب مسكت استنادًا إلى حال واقعة، أو في شكل ملاحظة لطيفة، ولقد تجيء بالاشتقاق اللفظي، أو من تحريف اللفظ عن جهته، كما روي عن البابلي رحمه الله أنه سَمِعَ المغني يقول: «أهل السماح الملاح دول فين أراضيهم؟» فأجاب من فوره: «في البنك العقاري!» وقد تَقَع بالمقابلة والطباق، فقد اخترع رجل طريقة سهلة لترويق الماء، وكان البابلي يستثقل ظله، فقال: بقى يا إخواننا، الراجل ده يروق الميه ويعكر دمنا!
وعندي أن النكتة على العموم ضرب من التصوير «الكاريكاتوري» أو على الأصح، أن التصوير «الكاريكاتوري» ضرب من النكتة، لأن صاحب هذه يملك ما لا يملك المصور من الاسترسال في التصوير والتخييل، بالاشتقاق والتوليد، فلا يزال يقلب الصور ويلونها، ويخرجها واحدة بعد أخرى في أشكال وأوضاع مختلفة؟ حتى يأتي على جميع المعاني التي يحتملها المقام.
وهنا يجب أن يُعْرَف أن النكتة قد تكون بارعة رائعة، حتى لتهز مجلس السمر هزًّا، بل لقد ترُج البلد كله من الإعجاب والضحك رجًّا، ومع هذا إذا تناولها المتناول، بعد عام أو عامين أو أقل من ذلك أو أكثر، لم يجدها شيئًا، ذلك بأن للظروف والأشخاص، والمناسبات والملابسات، أثرًا قويًّا في براعة النكتة، فإذا حال شيء من ذلك وتغير، ضعف بقدره أثر الكلام، وإذا كان هذا مما يلحق الشعر الجيد، والنثر المصفى المتخير، فإنه في باب التطرف والتندر أَظْهر وأَبْين.
ولقد كانت البيئات الراقية، مصرية ومتمصرة، تحتفل للنكتة البارعة وتكلف بها، فإذا أَعْوَزَها من يتندَّر بين يدي المجلس، راحت تتناقل ما قال بالأمس فلان وما أعاد فلان.
وإياكم أن تظنوا أن من ذهب لهم في هذا الباب صيت وذكر، كانوا من جماعات المتبطلين أو الجهال، أو الذين يتعرضون بهذا لمعروف الناس — أستغفر الله — فلقد كان فيهم الأديب الكبير، والكاتب العظيم، والشاعر الفحل، والسري المليء، وفيهم من برعوا في أشرف المهن وأعودها بالكسب، وحسبكم أن تعرفوا أنه كان في الصدر من هؤلاء المرحومون: الدكتور بكير الحكيم، وحسن بك رضا المحامي، ورشاد بك القاضي فالمحامي، ومحمد بك رأفت الطبيب، والسيد محمد بك البابلي، وهو إمامهم غير مدافع، والسيد محمد بك المويلحي، وحافظ بك إبراهيم، وساويرس بك ميخائيل المحامي، ونعمان باشا الأعصر، وخليل بك خير الدين، وكلاهما من الأعيان الموسرين.
على أنهم لم يتخذوا هذا ويصطنعوه، رغبة في إضحاك الناس، بل ليتضاحكوا هم به على الناس، والويل كل الويل لمن تزلُّ به القدم بين أيدي هؤلاء، فإنهم يتطارحونه، مهما جل قدره، كما تُتَطَارَح الكرة بصوالج الجبارين من اللعباء، تولاهم الله برحمته ورضوانه، وشملهم بفضله وإحسانه.
إمام العبد
سيداتي، سادتي
الآن جاء دور الكلام على المرحوم إمام أفندي العبد، وهو ولا شك ممن كُتِبَتْ لهم في هذا الفن البراعة والتبريز.
كان إمام «رحمه الله» زنجيًّا بمعنى الكلمة، (كما يقولون) لولا فصاحة لسانه، ولولا أنه ولد وعاش في مصر، ففُطِرَ على أخلاق أهلها، وأخذ بعادتهم وسائر أسبابهم، فلقد كان غليظ المشفرين، أفطس الأنف، مُحْمَرَّ الحدقتَيْن، أملد العارضَيْن، مُفَلْفَل شعر الرأس، أما لون جلده فأشد من فحمة الدجى سوادًا.
وكان بعْدَ هذا، ربعة إلى الطول، مكتنز اللحم، موفور القوة، لا أدري أين نشأ ولا كيف نشأ، إنما الذي أدريه أنه عالج الأدب، وأول ما عالج من فنونه نظم الزجل، فأجاد فيه أيما إجادة، ولكن طماحه دفع به إلى قرض الشعر، فمدح وهجا، وتغزل وفخر، وتصرف في كثير من فنون القريض، وما أحسبه بلغ في هذا جليلًا.
على أنه كان جيد الإلقاء، جهير الصوت، إذا أنشد الجمهرة هزَّ الناس ورجَّهم، وبعث بالتصفيق أَكُفَّهُم، وأطلق بالهتاف حناجرهم، حتى إذا قرأ الناقدُ شِعْرَه من غده أنكر على نفسه، ما كان منه في أمسه، ولعل ذلك الأديب قد أصاب بعض الإصابة حين وصف شعر إمام بأنك تأخذه درًّا، وتلقيه حجرًا.
وأذكر أنني كنت جالسًا ذات عشية مع صديقي المرحوم حافظ بك إبراهيم فطلع علينا نفر من الشبان، فسألهم صاحبي من أين أقبلوا؟ قالوا: من حفلة المدرسة التحضيرية حيث سمعنا إمامًا ينشد قصيدة له لم ينظم الشعراء قط مثلَها بلاغةً وسحرَ بيان، قال فأنشدوني قالوا: وكيف لنا بحفظ شعر نسمعه لأول مرة؟ قال: فكيف عرفتم مبلغ القصيدة من البيان؟ قالوا: لأنه نال من آيات الاستجادة ومن التصفيق ما لم يَنَلْ غيرُه، وكانت في نفس حافظ بك ذلك اليوم لأمر ما موجدة على إمام، فقال: والله ما صفق الناس لبلاغة إمام ولا لجودة شعره، وإنما هو عبد «كان لما يعمر اللمبة كويس يقولوا له برافوا يا إمام!» فكيف بهم إذا رأوه ينشد شعرًا؟
سيداتي، سادتي
قلت لكم: إن إمامًا كان يُنْشد الشعر، وإني لأحفظ له بيتين جيدين في حسن التعليل، تعليل ترهبه وانصرافه عن الزواج:
وأحسبه لمح في هذا قول المعري، وإن كان قلب المعنى وعكس الآية، وذلك من البراعة على كل حال: قال أبو العلاء:
يعتذر إمام من عدم زواجه بأن الشموس — يريد النساء الحسان — لا يجتمعن والليل — يريد سواد جلده.
قلت لكم: إن إمامًا كان زجالًا من الطراز الأول، وليت الأستاذ بديع خيري أو الأستاذ رمزي نظيم، وكلاهما من كبار الزجالين، يُعْنِى أحدهما أو كلاهما بأن يبعث عيون أزجال إمام وهو منهما بهذا كل حقيق.
سيداتي، سادتي
ليس من موضوعي على أي حال، البحث في شعر إمام ولا في زجله، وإنما عرضت لهذا لأجلُوَ عليكم صورة واضحة من كفايات الرجل، أما موضوعي فهو إمام المتندر، أو بالعامية الصحيحة، إمام «القفاش».
كان إمام العبد رحمه الله خفيف الروح، حاضر البديهة، مرسل النكتة، لا يكاد يسكن عنها أو يفتر بياض نهاره وسواد ليله، «يقفش» لكل إنسان، ولكل شيء، فإذا لم يجد من «يقفش» له من الناس تحول بهذا إلى نفسه، وإلى خاصة أهله، ولقد كان من ذلك الصنف الولاد، يتناول المعنى الواحد، فلا يزال يجول فيه بالنادرة بعد النادرة، ويستقصيه بالنكتة بعد النكتة، في سرعة ولباقة عجيبتين، حتى ليضحك الثكلى على حد تعبير الأقدمين! على أنه لم يكن في تطرفه وتندره بعيد المغازي، شأن بعض الذين أوردت أسماءهم عليكم، على أنه قد كانت له ميزة لا أحسب أن كثيرين قد شاركوه فيها، ألا وهي خلق الأحاديث الفكاهية من العدم، لقد يَتندَّر بها على نفسه، أو يتطرف بها على غيره.
ومن المزايا التي ينبغي أن تُذْكَر للرجل أنه كان عفًّا في مزاجه، لا يفحش ولا يقذع، ولا يتدسس إلى المكاره، بل لعل أشد الناس كان اغتباطًا وضحكًا من «قفش» إمام، من كان يتولاه «بالقفش» إمام!
سيداتي، سادتي
الآن أروي لكم طائفة من مجونيات إمام العبد في نوادره، لا في نكاته المختصرة، سواء مما شاهدته بنفسي، أو مما رواه لي هو بنفسه، وهنا أرجو أن تأذنوا لي بالتمهيد بين يدي بعض هذه النوادر بذكر بعض الأشخاص أو الملابسات التي اتصلت بها حتى تأخذ النكتة سِمَتَهَا، وتقع من النفوس موقعها.
قالت الجهاد الغراء: «وهنا أورد المحاضر مرتجلًا طائفة مما حضره من نوادر إمام المُضْحكة التي تَدُلُّ على قُدْرَته الفائقة على الاختراع والابتكار في هذا الباب، ولم يرَ تدوينها لأنها إن ظَرُفَتْ في الحديث، فإنها قد تفتر أشد الفتور في الكتابة والتدوين.»