آداب العراك في الجيل الماضي١
سيداتي، سادتي
لقد أمسى من حقكم علي، بعد أن والَيْتُ الحديث في جد القول أسابيع طوالًا، أن أعمد هذه الليلة إلى مفاكهتكم، والتحدث إليكم بما أحسب أنه لا يُمِلُّكم ولا يُضْجِركم، إلى ما لعل فيه بعض الفائدة بتجلية بعض نواحي التاريخ الحديث.
وموضوع حديثنا الليلة هو: «أدب العراك في مصر في الجيل الماضي»، والعرب كانوا يطلقون كلمة «أدب» في بعض إطلاقاتها على معنى القانون، فيريدون بأدب الشيء قواعده وتقاليده، وعلى هذا دَعَوْا قانون الجدل والمحاورة، بعلم آداب البحث والمناظرة، كذلك أريد بأدب العراك، فلقد كان للعراك في مصر قوانين محترمة، وتقاليد مَرْعِيَّة!
وفن «الخناق» على تعبير أصحاب الشأن، في مصر قديم يَكْلَف به أولاد البلد ويتباهون، إذ كان يُعْتَبَر ضربًا من الفروسية، والسعيد السعيد من يذهب له في «الخناق» صيت وذِكْر في البلد، بل ربما شارك في هذا بعض أولاد «الذوات» فيشَمِّرون ليوم النزال، ويتقلدون «الشوم» للحرب والقتال.
وليس يغيب عمن قرأ التاريخ الحديث منكم أن بونابرت حين بَلَغَ بجيوشه إمبابة في طريقه إلى مصر، استنجد الأمراء المماليك بالأهلين، بعد إذ تخاذلت جنودهم، فخرج له أولاد الحسنية بعِصِيِّهِم، ونازلوا الجيش الفرنسي فحصدتهم مدافعه مع الأسف الشديد حصدًا!
وهؤلاء الأبطال يُدْعَوْن «الفتوات» جمع فتوة، أو العصبجية جمع عصبجي، وكان في كل حي من أحياء القاهرة فُتُوَّاته، فللحسنية فُتُوَّاتها، وللسيدة فتواتها، وللخليفة فتواته، وهكذا، ولفتوات كل حي زعيمهم، والمتقدم في البطولة عليهم، لا يُعْصَى أمرُه، ولا يُخَالَف حُكْمُه، وهو الذي يدعوهم إلى الصراع، ويُدَبِّر لهم الخطط، ويقودهم في المعارك الكبرى، فإذا كانت المعركة مما لا يرتفع إلى شأنه، عقد لواء السرية لمن يختاره ممن قبله من الفتوات!
وكان لكل فتوة «مشاديد»، جمع «مشدود»، وهم من أنصاف الأبطال الذين ينتسبون إليه ويلوذون به، ويحتمون باسمه، والويل كل الويل لمن يعتدي عليهم، أو يعتريهم بالمكروه، فإن الاعتداء على أحد منهم يُعْتَبَر اعتداءً على الفتوة نفسه، لما في ذلك من الغض من كرامته، والاستهانة بحمايته، وعلى هذا كان من أشد التحدي للفتوة أن يُقَال لمشدوده: ينْعَل … على أبو اللي يِشَّدِّدْلَك! فسرعان ما تشب لظى الحرب، ويتواثب القرنان للطعن والضرب.
وكانت العداوات مستمرة بين بعض الأحياء وبين بعض، فلا يبيت الموتور منها إلا على تهيؤ لشفاء الحقد، والأخذ بالثأر، ولقد يتحالف الحيان على ثالث إذا جمعهما الحقد وضمهما الوتر!
وممن أدركنا عصرهم من أعلام فتوات الحسنية والعطوف: المرحومون عتريس، وحَكُّورة، وكَسَلة، ومن كماة الخليفة: كُمُّ العِرْي، والملط، ويوسف بن سِتُّهم، ومن أقطاب الكبش وطيلون خاصة: بلحة، والفولي، أما أبطال السيدة فهم المرحومون: ممبوك، خليل بطيخة، الإِنُّ، وإءَّة، وكان رحمه الله أعمى، وعلي أبو ضب، وأظن أن هذا الأخير ما زال حيًّا، فقد رأيته من بضع سنين، وقد صَلُحَت حاله، وهو يدير قهوة بلدية في ميدان زين العابدين.
وسلاح كل فتوة وعدته للحرب عصًا أو عِصِيٌّ من «الشوم» يداور بينها في الخناقات، وترى كل واحد منهم شديد التتايه بعصاه، كثير الذكر لها والإشادة باسمها، نعم باسمها فلقد كانوا يطلقون عليها الأسماء، فمن العِصِيِّ الحاجة فاطمة، ومنه الحاجة بمبه، وهكذا، وربما سقوها الزيت بتثبيت قمع مفتوح على طرفها الأعلى وملئه زيتًا، وتركها على ذلك أيامًا حتى يتمشى في شعوبها ويشيع فيها، فتزداد قوة وصلابة على الطعان والضراب، وقد يُزَوَّق مِقْبَضُها بالحناء.
سيداتي، سادتي
لست بحاجة إلى القول بأن مَظْهَر هذه البطولة هو، في جراءة القلب وقوة الساعد، والمهارة في الإصابة، واللياقة في اتقاء الضربة بالعصا أو بالتحرف عن مذهبها، وكل هذا يحتاج إلى كثير من التدريب والتمرين، ولكن الذي يحتاج إلى البيان هو لون خاص من البطولة، وهو الكفاية في احتمال أشد الضرب، وطول الصبر عليه واقعًا حيث وقع من أعضاء الجسد، ولهذا النوع من البطولة قيمته وسداده وغناؤه إذا حمي الوطيس، فإن الفتوات ليقدمون هؤلاء الأبطال بين أيديهم لِيَتَلَقَّوْا عنهم بأجسامهم أكبر كمية من الضرب، حتى يستطيعوا هم أن يَصْرِفوا أَجَلَّ هَمِّهِمْ لإجالة العصى ذات اليمين وذات الشمال.
وكان علم الأعلام في هذا النوع من البطولة من فتوات السيدة هو خليل بطيخة عليه رحمة الله، فَقَلَّ أن كان يخرج إلى «الخناقة» وهو يتقلَّد عصًا، ولو تقلَّدَها ما أحسن استعمالها، ولعلها كانت «تلخمه» في ميدان القتال، وإنما سلاحه كله، سلاحه الماضي هو جسمه القوي الصفيق!
ولقد رأيته بعيني وأنا غلام بعد منصرف الناس من الصلاة في جامع عمرو في يوم الجمعة اليتيمة، وقد اجتمع عليه وَحْدَه نفر من فتوات الخارطة وأبي السعود، في أيديهم عِصِيُّهم الغليظة، وما زالوا يتهاوَوْنَ بها على جسمه بأشد ما فيهم من قوة وبأس، أما هو فقد دس رأسه في صدره، وأسرع فَتَكَوَّرَ على الأرض حتى صار أشبه بلقبه «بطيخة»، وجعل يتلوى تَلَوِّي الحية، حتى ظن النظارة أنه هالك لا محالة، ثم ما إن أَقْبَل البوليس بعد فترة طويلة، وفَرَّ أولئك الفتوات عند مرآه شرقًا وغربًا، حتى بَسَطَ جِسْمَه ووَقَفَ في أسرع من رد الطرف، وكأنه لم يُكْلَم كلمًا، ولم يَنَلْهُ كثير ولا قليل من أسباب الإيجاع والإيلام! ومضى لشأنه وهو يتحدث عن بطولته، وعما يُعِدُّ للأخذ بالثأر من أولئك الأعداء!
•••
وكانت خير الفرص لشب «الخناقات» هي في الأعراس، حيث يُحْتَفَل بإقامة «خناقة» في النهار في زفة العروس، وأخرى في الليل في زفة «العريس».
أما معركة النهار فلم يكن خطبها جليلًا، إذ لا يخرج لها الزعماء ولا المقدمون، بل يكتفون فيها بتعبئة أوساط الفتوات، فيخرجون إليها ومعهم بعض الغلمان، ويتوارَوْن في زقاق أو منعَطَف، حتى إذا أقبل موكب العروس بعثوا أولًا أولئك الغلمان، وفي يد كل منهم ما تيسر من عصًا رفيعة، أو «زعزوعة قصب»، أو قبضة من الحصا، وهؤلاء الغلمة يُدْعَوْن «جر الشكل»، فيقذفون المركبات بالحصى، ويتعرضون بالعِصِيِّ لأحراس الموكب، حتى إذا صَدَّهُمْ هؤلاء وضربوهم، برزت الكتيبة من مَكْمَنِها وأدارت رَحَى القتال، بدعوى الثأر لهؤلاء الأطفال.
سيداتي، سادتي
إذا حدثتكم عن المعارك الجُلَّى التي تدور إذا كان الليل في «زفات العرسان» فإنما أحدثكم عما كان يحدث في حي السيدة زينب والأحياء المحيطة به، ولعله صورة مما كان يحدث في سائر الأحياء.
كانت هذه المعارك تُدَبَّر من قَبْل ليلة العرس بأيام، فيُعِدُّ لها الخصوم عُدَّتَهُم من جهة، ويتأهب لها أولياء «العريس» وصَحْبه من جهة أخرى، بل لقد كان هؤلاء في كثير من الأحيان يدعون لها، ويُغْرون الخصوم بها، ويستدرجونهم إليها، لأن مما يعير به أهل العرس من ذلك الصنف من الناس أن تجوز «زفة عريسهم» الشوارع فلا يتعرض لها أحد بالمكروه، فذلك دليل على تهاونهم واستحقار شأنهم، وإخراجهم في الاعتبار عن أفق الرجال، فضلًا عن الأبطال!
وكانت «زفة العريس»، واقعة حيث وقعت داره من آفاق ذلك الحي، لا بد أن تجوز بمسجد السلطان الحنفي والشيخ صالح أبي حديد، وهناك يقع الصدام والطعان، ويتهاوى «الشوم» على رءوس الأقران في هذا الميدان!
ولقد زعمت لكم أن أولياء العرس قد يُدْعَوْن في كثير من الأحيان إلى العراك، ويَسْتَدْرِجون الخصوم إليه، وأكبر مظهر لهذه الدعوة هو أن يقدموا بين يدي الموكب ما يدعونه «بخاتم سليمان»، وهو عبارة عن قطع خشبية متخالفة أقطارها، بحيث تتخذ الشكل الهندسي الذي يطلق عليه في العرف «خاتم سليمان»، وكلها ثقوب محفورة على مسافات مضبوطة، تُثَبَّت فيها كعوب الشمع المضاء، ويَحْمل كلَّ واحدة من طرفيها رجلان أو فتيان، وفي حمل هذه الخواتم السليمانية معنى التحدي للخصوم ودعوتهم إلى العراك!
وعلى قدر الرغبة في قوة العراك وشب القتال، يكون عدد تلك الخواتم، فمن الناس من يقدم الاثنين، ومنهم من يقدم الثلاثة، ومنهم من يضاعف هذا المقدار، إعلانًا للسطوة وإيذانًا بالرغبة في استحرار القتال! أما المستضعفون من الناس، فلا يقدمون شيئًا من ذلك إيذانًا بإيثار العافية، وطلب الدعة والأمان!
وكان نظام الموكب — موكب «زفة العريس» — يجري على الوجه الآتي، الطبل البلدي وبين يديه طائفة من الغلمان والفتيان، ثم الموسيقى الأهلية، إذا كان «العريس» على شيء من اليسار، ثم حملة خواتم سليمان، تضطرب من فوقها ألسنة الشموع، ثم جمهرة الفتوات يُلَوِّحون بعصيهم في الهواء، ثم حملة «الشمعدانات» في صفين متقابلين، ثم «العريس» يحيط به أصدق صحبه، وفي أيديهم الشموع والأزاهير، وقد تقف القافلة بين حين وآخر لاستماع من يُغَنِّي القوم بالأغاني البلدية، فتراهم يحسنون الإصغاء، حتى إذا فرغ من نبرته عَجُّوا بأصوات الاستحسان من نفس الطبقة التي يجري فيها الغناء، وهنا تسمع الصياح من كل جانب من نحو «يا ربنا والملايكة»! و«احنا الصبوات العتر»!
فإذا بلغت «الزفة» في مسراها ذلك الموضع، أعني الرقعة الواقعة بين مسجدي الحنفي والشيخ صالح، إذ الأعداء متربصون هناك، أذَّن المؤذن بنشوب القتال، وكانت أول عصًا تهوي على رءوس الزمارين المساكين، فاكتسبوا هم الآخرون بطول التدريب والتمرين مهارة في اتقاء الضرب، وفي احتماله، وفي الفرار وتولية الأدبار؛ وكان أشدُّهم في هذا عناءً هم الطبالين لما يثقلهم من حملهم، وكثيرًا ما تتخرق طبولهم بضربة العصا، أو بقبضة يد من ضارب صَنَّاع!
ويزخر الميدان، ويتلاقى الأقران، ويسْتَحِرُّ القتال والطعان، فلا ترى إلا عِصِيًّا تتهاوى على الأبدان، فتَشُقُّ الرءوس شقًّا، وتدق الأصلاب دقًّا، وتخسف الأصداغ خسفًا، وتقصف الأضلاع قصفًا، والدماء تسيل حتى تجلُّل الثياب، وتفيض على الأرض بما يروي من غلة التراب، وهذه الدماء هي أوسمة الشرف يتحلى بها الكماة الأبطال، إذا رجعوا إلى معشرهم من معترك القتال.
ولقد تسمع الكَمِيَّ وقد واجه عَدُوَّه وشرع عصاه، وتهيأ للوثاب وهو يصيح: وارايا … وهو كلام قبيح لا يجوز رَدُّه على الآذان.
سيداتي، سادتي
لم يكن البوليس ليجرؤ، في غالب الأحيان، على اقتحام هذه الملاحم، أو يستطيع ضَبْط تلك المواقع، بل لقد كان يُوَلِّي عنها فرارًا، وهنا ينبغي أن يُذْكَر أن أحدًا من هؤلاء الفتوات أو أوليائهم لا يمكن ولو بجَدْع الأنف أن يتقدم بالشكوى إلى البوليس أو غير البوليس، ولو كان الضرب قد أَتْلَفَه وأَرْدَاه، بل لقد كان في ذلك العار ليس بعده عار، والشنار ليس وراءه شنار!
هذه كانت بعض مظاهر البطولة عند أولاد البلد في الجيل الماضي، وثَمَّ مَظْهَر آخر من مَظاهرها، وأعني به الحرب الجبلية، ولا يتسع الوقت لوصفها وعرض حديثها، ولعلنا نجرد لذلك محاضرة أخرى!
ومهما تُوصَف هذه الحالة بالوحشية، أو الهمجية، أو الاحتفال للعدوان، والخروج على النظام، فلقد كانت بطولة لها قيمتها على كل حال!
ولسنا الآن بسبيل العوامل التي قضت على هذه البطولة عند أولاد البلد، ولكنا نسجل فقط أنها قضى عليها القضاء التام، ولم يَبْقَ من آثارها إلا مُجَرَّدُ ادعائها والتظاهر بها، فيما تسمعه من هؤلاء أولاد البلد أثناء «الشروع في الخناقات» من ألوان الوعيد والتهديد، بتهشيم الآناف، وتحطيم الأكتاف، وتكسير الرءوس، وإزهاق النفوس، فليس وراء هذا النفخ «المعر» شيء أبدًا.