الشيخ حسن غندر
وما أدراك ما الشيخ حسن غندر؟ لقد كان الشيخ غندر من مباهج مصر، وآية يَتِيهُ بها ذلك العصر على كل عصر، نعم لقد كان المفْرَدَ العلم في «فن» التطفيل، وهيهات يجود الزمان بمثله «فإن الزمان بمثله لبخيل»!
كان رحمه الله، طويل القامة، ليس بالبدين ولا بالهزيل، مستطيل الوجه، شديد حمرته، لو نَضَا عنه عمامته لخِلْتَهُ من أبناء التاميز، تدور حوله لحية دقيقة بيضاء، لا أثر في شعراتها لسواد، أزرق العينين، رقيق الحاجبين، مقوَّس الأنف، ولعلك في غير حاجة إلى من يَزْعُم لك أنه لم يكن دقيق الفم، وكيف يُتَصَوَّر له هذا، وفمه هو سبيله إلى ذهاب صيته، وشُيُوع ذِكْرِه، وخُلُود اسمه؟!
وكان ضَخْم الصوت، إذا تَحَدَّث أحْسَسْتَ أن صَوْتَه إنما يجيء من أقصى حلقه!
ثم لقد كان حسَن السمت، نظيف الثوب، فاخر البزة، لا يلبس القباء إلا مِنْ صُنْع الحمصاني، ولا يُفَصِّل الثياب إلا عند أشهر الخياطين، فإذا كان الصيف وضع عليه الجبة من الحرير المتموج (موريه) المعروف عند أولاد البلد «بالألاج».
وترى في إصبَعه خاتمًا كبيرًا من الماس النقي، فإذا اقتحم به مهرجان العرس وتساقطت عليه أضواء الثريات، تَمَوَّجَتْ من حوله ألوان الطيف، وبرقت من أقطاره أشعة تكاد تخطف الأبصار!
وهو إذ يُحَدِّثُك في هذا ترى شدقَه دائم الاختلاج، وشفتيه لا تَفْتُرَان عن التحلب، شأن من أَلَحَّ عليه الجوع، وهو يرى أشهى الطعام بين يديه، ولكن لا سبيل له ألبتة إليه!
ولقد يجول الشيخ غندر في غير حديث الطعام، فيُبْدِع في حديثه، ويُلَوِّن في سَمَره، ويَفْتَنُّ في إيراد النكتة كُلَّمَا دَعَت مناسبات الكلام، وبهذه الخلال فيه كان أثيرًا عند كثرة الخاصة، مُحَبَّبًا إلى نفوسهم، يشتهون مجَالَسَتَه بِقَدْر ما يَشْتَهِي هو مُؤَاكَلَتَهُم والاستواء إلى موائدهم، حتى إذا انتظمهم الخوان في عُرْس أو نحوه، لم يَتَبَرَّمُوا بتَدَسُّسِه — في سِرٍّ من رب الدار — بينهم، بل ربما فَسَحُوا له وكَفُّوا سطوةَ رب الدار عنه، وأنت خبير بأن هؤلاء في العادة، إنما يجيبون دعوة الداعي لإرضائه، وإظهار الاحتفال لشأنه، لا ليصيبوا عنده دَسَمًا، ولا ليشبعوا من طعامه نَهَمًا، فلا بأس عليهم بأن يَختار هذا الطفيلي الظريفُ الطعامَ دونهم، ويملكه كله عنهم، بل إن تقبيحه في طعامه، وشهودهم لافتراسه والتقامه، لَمِمَّا يُعْجِبُهُم ويُدْخِل السرور عليهم!
وكيفما كان الأمر، فإن هذا الرجل ما يزال إنسانًا وديعًا أنيسَ المحضر، ظريف المجلس، حتى يحضر الطعام، فإذا حضر جُنَّ جُنونه، وثار ثائره، وخيف بوادره، وتَغَيَّر خلقه، وتَنَكَّرَتْ صورته، وأمسى منظره مُفْزِعًا مُرْعِبًا، ولو قد رأيتَه وهو يَفْري الفَرِيَّ، ويلتهم اليابس والطري، لَخِلْتَ أن كُلَّ شيء فيه قد استحال فمًا: فهو يأكل بفمه، ويأكل بعينه، ويأكل بأنفه، لا تراه يلوك لقمة أو يحرك للمضغ ضرسًا، بل إنه ليكورها ثم يقذف بها في حلقه، فتكاد تسمع رنينها في قرارة بطنه، فإذا فرغ من شأنه — وما بيده أن يفرغ — لبث يتلمظ ساعة، ثم ارتد إنسانًا وادعًا ظريفًا يُلَوِّن السَّمَرَ، ويُفَنِّنُ الحديث تفنينًا.
•••
وبعد، فسترى من هذا الرجل في أسباب تطفيله العجب العاجب: لقد كانت له ضَيْعة في ضواحي القاهرة لا تَقِل عن مائة وسبعين فدانًا، وكانت له بنيات (منازل ودكاكين) في قلب المدينة يَجْبِي ريعها، وقد أَتْلَفَ هذه الثروة الضخمة، وأتى عليها تمزيقًا وتبديدًا، حتى خرج في مُؤَخَّرات أيامه عنها كلها، كما خرج بالموت عن الدنيا كلها!
لم يكن الشيخ غندر مُقَامِرًا ولا مُضَارِبًا، ولم يكن سكيرًا ولا طلب نساء، ولم يدخل في «مقاولة» أو يُجَازِف في تجارة، ولم يُدَاخِل طوال حياته سببًا من الأسباب التي تأتي في العادة، على رءوس أموال الناس! إذن فاحزُر، وما أراك بعْدُ بقادر!
لَقَد أَتْلَف الرجلُ ثروتَه كلها، وأتى عليها جميعها في سبيل التطفيل وحده لا في أي سبيل آخر!
أليس من أعجب العجب أن يُتْلِف امرؤ جلائل الأموال في سبيل الإصابة من طعام الناس بالمجان؟ وأي شيء يكون التطفيل غيرَ الارتصاد لإصابة جَيِّد الطعام بالمجان؟
إذن فإليك السبب، وإذا عُرِفَ السبب، بَطَلَ — كما يقولون — العجب!
لقد استَمْكَنَتْ شهوة التطفيل من الرجل، حتى استحالت فيه طبيعةً وغريزةً وجِبِلَّة، فأمسى يطلبها لذاتها متجردة من أي اعتبار آخر، إنه شهوان إلى طعام الناس، يَسْقط عليه، ويَقْتَحِم له مهما يصبه في سبيله من المشقة حتى في إتلاف الأموال!
ولقد كان في مصر طوائف من أولاد «الذوات» المسرفين المستهترين بألوان المنكرات، ولقد تُصفر أيديهم في بعض الأحيان، بضن الوالدين، أو بتعجيل الإتلاف لوظيفة الشهر أو لذخيرة العام، أو بغير ذلك من أسباب العسر، فكيف لهم بالمال؟
لقد عرفوا الشيخ غندرًا، وأدركوا مدى هَمُّ البطن فيه، وهداهم الرأيُ إلى استغلاله من هذه الناحية، فإذا أَعْوَزُوا واحتاجوا إلى المال، بَعَثُوا في طلب حَمَل «قوزي» أو ديك رومي، ودفعوه إلى طاهي أَحَدِهم، وأوصوه بأن يُحْسِنَ إنضاجه، وبأن يَطْهِي ألوانًا أخرى من شَهِيِّ الطعام وفاخر الحلوى، ثم دسوا على الشيخ حسن من يُخْبِره الخبر، ويستوصيه بألا يُفْشِي للجماعة سِرَّه، فيهرول من فوره إليهم، حتى إذا طلع عليهم تَنَكَّروا له، وربما رَدُّوه بالقول الغليظ، وهو يستعطفهم ويتوسل إليهم، وربما تَرَكَهُم في إصرار وانْسَلَّ إلى المطبخ، حتى إذا رأى ما رأى وشَمَّ ما شَمَّ، انقلب إليهم وقد زاغ بصره، وتَقَلَّصَتْ شفته، وجعلت أسنانه تُقَضْقِضُ قضقضة المقرور، ثم عاد يتوسل ويتدلل، فيباديه بعض القوم بأنه حَلَفَ بكل مُؤَثِّمة من الأيمان ألا يَقْرَب الطعام إلا إذا أَقْرَضَه عشرين جنيهًا أو ثلاثين لغاية الشهر، فيسرع إلى داره، إذا لم تكن حاضرةً في جيبه، ويجيء بها ما تَنْقُص قرشًا واحدًا، وهو الذي يَحْتَمل أجر المركبة إذا كانت المسافة مما يَسْتَدْعِي اتخاذ المركبات، وربما وَرَّطُوه في ضمانةٍ أو نحوها من وجوه الالتزامات، ففعل نزولًا على حكم البطن العاتي الجبار، وهكذا …!
ولقد ترامى هذا إلى غيرهم من «أولاد البلد» فحَذَوْا في استخراج الأموال منه حَذْوَهُمْ، حتى أفلس الرجلُ وأمحل ولَصِقَتْ يده بالتراب!
•••
هذا ما كان من أمر الشيخ حسن غندر في طعامه، أما ما كان من أمر شرابه، فلقد كان لبطنه فيه كذلك عبقرية وجبروت.
وإني أبادر فأؤكد لك أنني لا أعني بالشراب الخمر، فإن الرجل لم يكن يذوقها قط، فلقد كان رحمه الله، شديدَ التأثم، حريصًا على دينه من هذه الناحية، إنما أعني بالشراب ما احْلَوْلَى طعمه، وساغ في الشرع حُكْمُه، وإن كان لا يرى حرجًا من منادمة جماعات الشاربين.
في ذات عشية سَقَطَ الشيخ غندر على «فلان بك»، وكان غفر الله له، من أبناء «الذوات» الموسرين، المتهترين بالشراب، وهو كذلك من أولاد النكتة أصحاب البدائة، وكان الشيخ غندر أثيرًا عنده، يستمتع بلطف حديثه، كما يستمتع برؤيته في ثورة نهمه.
وقبل أن يمضي إلى مباءات سُكْره وعَبَثِه، استصحب الشيخ إلى بعض المطاعم المشهورة، وحكمه فيها يَشْتَهِي، حتى إذا بلغ كفاياته من الطعام ومن الحلوى والفاكهة أيضًا، وناهيك بكفايات الشيخ غندر، انكفأ به إلى بعض الحانات الكبيرة، ودعا لنفسه بخمر مما يُشْرَب في الكئوس الدقاق، ودعا للشيخ بكوب من «الشربات»، فجاء الغلام بكأس الخمر، وجاء معه بكوب كبير جدًّا من «الشربات»، وما كاد صاحبنا يُفْرغ الخمر في حلقه في جرعة، حتى رأى الشيخ يصب كوبه الضخم في بعض جرعة، ثم دعا بالغلام وسأله كأسًا له أخرى، وهنا تقدم الشيخ حسن وقال للغلام: أريد يا بني أن تأتيني هذه المرة بشراب الورد، فإنه طيب الرائحة لذيذ الطعم، ثم طلب صاحبنا الثالثة، فأسرع الشيخ وقال للغلام: أما هذه المرة فعلي بشراب اللوز (الصومادة)، فإنه يُصْلِح المعدة ويبرد من حرارة القلب، ثم دعا صاحبنا بكأس رابعة، فقال الشيخ للغلام: علَيَّ هذه المرة يا بني بشراب البنفسج (الفيوليت)، فإنه بديع النكهة ساحر المذاق!
ثم رأى صاحبنا — على عادة المستهترين من أصحاب الشراب — أن يتحول إلى حان آخر، فدعا لنفسه بخمر، ودعا الشيخ لنفسه كذلك «بشربات»، وظلا يتحولان معًا من حان إلى حان، يشرب صاحبنا خمرًا ويشرب الشيخ بإزائه «شربات» حتى كاد ينصدع عمود الصبح، ثم انقلبا إلى الدور، فإذا هذا قد أصاب اثنين وعشرين كأسًا من الخمر، وإذا الشيخ غندر قد والى بإزائه بين اثنين وعشرين كوبًا من، «الشربات»!