الباعة الجوالون١ ومساحو الأحذية
سيداتي، سادتي
لعلكم كنتم تتوقعون مني في اليلة أن أُتِمَّ لكم حديث الأسبوع الماضي، بل لقد استحثني على هذا كثير ممن لهم فتيان ما برحوا في مطلع الشباب، ولكنني، والحمد لله أكره الأثرة لنفسي، ولا أُحِبُّها في غيري، وذلك الحديث فوقَ ما فيه من جفاف أو ما يشبه الجفاف، فإنه مما يعني مباشرةً طبقةً خاصةً من الناس، وإنني لم أَنْسَ وعدي لكم أن أُدَاوِل بين فنون الأحاديث، ففي التلوين والتغيير كما قُلْتُ، راحة واستجمام، وأَعِدُكُم وعدًا صادقًا أن أُتِمَّ ذلك الحديث في نوبة أخرى إن شاء الله.
سأحاضركم الليلة في موضوع لا يمكن أن يرد لِأَحد منكم على خاطر، وإني لأتحدى من شاء منكم أن يحزر، فإن أصاب فله عندي عشرة جنيهات إزاء جنيه واحد إذا أخطأه الحظ، وهو مخطئه لا محالة.
سيداتي، سادتي
لقد تحديتكم جميعًا، وتعرضت لمخاطرة من شاء منكم، في حين لا أعهد في نفسي بعض هذه الجرأة، وليس من عادتي المخاطرة أبدًا، والواقع أنه لم يبعثني على هذا ويُشَجِّعني عليه إلا أنني أتناول موضوعًا لا يمكن أن يخطر ببال أحد، لأنه من التفه والسخف في الحضيض الأوهد، وأنا واثق بأنني حين أباديكم بعنوان هذا الموضوع سيأخذكم العجب، ويتملككم الدهش.
إي والله يا سادة، إني لمحدثكم الليلة عن البياعيين «السريحة»، وعن «البويجية» وكنت والله أحب أن أُقْرِنَ بهاتين الطائفتين ثالثة الأثافي ألا وهي طائفة سادتنا الشحاذين، ولكن الوقت أضيق من أن يحتمل هذا كله، فللسادة الشحاذين وحدَهم حديث طويل، ولعلنا نُلِمُّ به في فرصة أخرى، إذا أذنوا هم لنا بساعة من النهار أو الليل واحدة، نتدبر فيها أمرهم، ونتقَصَّى بعض سعيهم.
إذن سأحدثكم الليلة عن الباعة المترفقين بأبدانهم المضطربين في السبل ببياعاتهم.
سيداتي، سادتي
أرجو ألا تتابعوا أوهامكم، فهي ولا شك، تَكْذِبكم إذا مَثَّلتْ لكم هذا الموضوع بهذا المكان من التفه والسخف، وإني لأرغم أنها مسألة ذات خطر كبير، بل لقد أستطيع أن أزعم أنها من مشاكلنا الاجتماعية التي ينبغي أن تتظاهر الجهودُ على حَلِّها وتوليها بالعلاج، كُلُّنا يفكر في غلاء القمح، وكلنا يتدبر في هبوط أسعار القطن، وكلنا يجزع إذا عرض الحديث في أزمة الديون العقارية، وكلنا مشغول بكيت وكيت من المشكلات التي تستهلك تفكيرنا وجهدنا وتفيض بها الأنهار الطوال في صحفنا، مع أن تلك الأزمات مهما بلغ مِنْ بَعِيد أَثَرِها وعَظِيم ضَرَرِها، فإنها وَقْتِيَّة سيحلها الزمان إذا لم تحلها جهود العاملين، أما هذه فالقضاء الحتم علينا أبد الآبدين، ودهر الداهرين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين!
البدارَ البدار! النجدةَ النجدة! يا مفكري الأمة، يا جماعة العاملين فيها، يا معشر المتحدثين عليها: هيا هيا أنقذوا البلاد، وأريحوا العباد؛، فقد بلغ السيلُ الزُّبى، وجاوز الحزام الطبيين!
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، لقد كُتِبَ على سكان المدن في هذه البلاد الحرمانُ الأبدي السرمدي من الراحة والدعة، والأمن على الأموال والأعصاب.
أنَّى جَلَسْتَ فَأَذًى، وأنى سَعَيْتَ فَكَيْد، وأنى اضطربْتَ فعناء، وأنى تَوَجَّهْتَ فبلاء فوقه بلاء وتحته بلاء!
تَهَافُت مستمر، وإلحاح لا ينقطع، وشخوص متواردة متتابعة متتالية، لا يكاد ينفذ بينها الهواء، وأصوات منكرة عالية لا تَسْكُن ولا تفتر، ولا تَرِقُّ ولا تهدأ، وكَذِب لا تَعْتَرِيه مَذْقة من الصدق أبدًا، وأَيْمَان كلها غَمُوس، لولا حِلْم الله وإمهاله لأُعْمِيَت العيون، وصُمَّت الآذان، وبُتِرَت السوق، وقُصِمَت الظهور، وجُدِعَت الأنوف، وعُجِّلَت مواقع الحتوف.
ولنتكلم عن الباعة أولًا، ولنبدأ من حديثهم بخراب الذمة، والغش وقلة الحياة — أستغفر الله — بل انعدام الحياء، أما الغش والكذب والحلف بالباطل، فهذه خلة مشتركة بينهم جميعًا لم أَرَ في حياتي من سَلِمَ منها إلى الآن، يَعْرِضُ الواحدُ منهم عليك السلعة، فتسأله عن ثمنها، فيجيبك بأنه ريال مثلًا، فتعمد إلى مقابلة الكيد بالكيد، فتعرض عليه فيها أربعة قروش، فيُظْهِر لك الغيظ والسخط على هذا الوكس، فتصر فيحلف بالطلاق والعتاق، وبالعين والعافية، والولد (ولَّا يعدمه) وينذر الحج إلى بيت الله ماشيًا، أنها «واقفة عليه» في الجملة بثمانية عشر قرشًا صاغًا، فهو يبيعها لك برأس المال، لأنك «مش غريب»، وهو «لسه ما استفتحش» فتصمم، فيعرض ستة عشر، ثم يتدلى إلى أربعة عشر، ثم إلى عشرة، ثم ينذرك الإنذار الأخير بأنه لن يبيعها بما دون الثمانية، فتشيع عنه بوجهك، فيُوَلِّي مسرعًا حتى يغيب عن نظرك، ما لم تبادر فتتبعه بندائك، ثم ما يلبث أن يعود فيقول لك: «وبستة ما تخدش؟» فتسكت! فيقول لك: «طيب عاوز كام واحدة؟» وهكذا يأبى كل واحد منهم إلا أن يحقق في كل لحظة قول الشاعر:
ثم إنه يغش غشًّا مفضوحًا قَذِرًا وقد يغش «زبونًا من زبائنه» الثابتين الذين يعاملونه فيجدون عليه كل يوم، وقد يكون هذا الغش في نوع البضاعة، كأن يبدل سلعة بأخرى في أثناء غدوِّه بالمساومة ورواحه، أو أن يصيب الغرة من المشتري فيدس له الفاسد العطب، أو أن يؤكد له أن صديقه فلانًا اشترى بسعر كذا كذبًا وبهتانًا، وهو يعلم أنه مُلَاقيه في غَدِه إن لم يَلْقَه في يومه، وقد لا يزيد الخطب كله على دراهم قليلة، ثم يكون من أثر هذا الانتفاع الحقير المُحَرَّم أن يخسرك ويخسر معك كل جلسائك بالاختفاء عن مجلسك الشهور الطوال، بل السنين ذات العدد.
وأنا مسمعكم نموذجًا مما جرى لي من هذا القبيل، وأقول نموذجًا لأن هذه أشياء لا يدركها عَدٌّ، ولا يحيط بها حَصْرٌ (وهنا أورد المُحاضر طائفة من النوادر العجيبة التي وَقَعَتْ له مع هؤلاء الباعة.)
أما قلة الذوق فحَدِّثْ عنها ولا حرج: يراك أحدهم وأنت تتناول طعامك في أفخر مطعم، وبين يديك أشهى الأطعمة، فيمد يديه من الشباك، بالبنيكة التي يحمل عليها بياعته، حتى يحك بها ذقنك، ويصيح في وجهك: «البيض والجبنة والكحك الشامي»؛ آمنت بالله! وقد تكون في جماعة من أصدقائك في مكان محجوز من محل عامٍّ، وقد تكونون منهمكين في أدق الحديث، وقد حمي بينكم الجدل واشتد، وقد يكون معكم من يغنيكم بالصوت الكريم الحنان وقد أرهفتم آذانكم وعَلَّقْتُم أنفاسكم، وجمعتم كل إحساسكم للسمع، فلا يروعكم إلا عُتُلٌّ يقتحم عليكم المجلس، ويظل يصيح: «الفستق الحموي، الفستق الطازة!» فلا يسع المتحدث إلا أن يسكت، والشادي إلا أن يقطع الغناء، ولكنه هو لا ينقطع عن الصياح والنداء، ويرى هذا كله فلا يمسك، ولا تخجله تلك النظرات الشزراء، ولكن ما الحيلة، والعين بصيرة، والرجل قصيرة!
وثالث يراك منهمكًا، في طعامك والدهن يسيل من يديك كلتيهما، فيمد يده بورقة «اليانصيب» حتى تحول بينك وبين طعامك، وحتى تكاد أصبعه تفقأ العين «آدي اللي فضلت، السحب النهاردة، اللي تكسب ميتين جنيه!» يا سيدي أنا عائذ بالنبي! وكيف لي بأن أدس يدي في جيبي، وهي على هذه الحالة، لأستخرج الثمن؟
وعلى ذِكْر «اليانصيب» أَذْكُر لكم أنني كل يوم في مَغْداي ومَرَاحي أَشْهد عملاقًا صعيديًّا، تكاد مساحته تُقَاس «بالقصبة» طولًا وعرضًا، يَسْتَطِيع وحده أن يَشُقَّ مصرفًا ويُطَهِّر ترعة، وقد أُوتِيَ قَفًا يتحير النظر في ضواحيه، ما رَأَيْتُه مَرَّة إلا أَحْسَسْتُ كَفِّي تُنَازِعُنِي إليه؛ لو أَلَّفَ من نفسه فقط «منسرًا» لَقَطَعَ الطريق بين القاهرة والأقصر، وأصبحنا لا نبلغ أسوان، إلا عن طريق بور سودان، ولو أن الهر هتلر استولى عليه لكفاه كلَّ مَنْ يَحْذَر مِنْ خُصُوم حُكْمه، ووَفَّر عليه العناء في تأليف فِرَق للهجوم وأخرى للدفاع، وأعفاه من المئونة في القمصان الزرقاء والحمراء!
أتعرفون بماذا «يَسْرَح» هذا الكون العظيم عامَّة نهاره؟
إنه يجول كله بثلاث ورقات «يا نصيب»، إحداها «إسلام»، والثانية «رومي»، والثالثة لا أدري!
أرأيتم كيدًا أَشَدَّ مِنْ هذا الكيد، وبلاء يَعْدِل كل هذا البلاء؟
سيداتي، سادتي
بحسبنا اليوم هذا القدْرُ في جماعات الباعة المضطربين بِبِيَاعاتهم في الطرق، ولنَعُد الآن إلى طائفة ماسحي الأحذية، وما أدراكم ما ماسحو الأحذية؟ ولا جَزَى الله خيرًا ذلكم الذي اخترع هذه الأحذية الإفرنجية، حتى أَغْرَتْنَا بأن نستبدل بها نعالنا البلدية، أعني «المراكيب» الحمر.
ورعى الله أيام «المراكيب» الحمر وأيام قصبة رضوان، ولو بَقِيَتْ لأغنتنا عن رؤية تلك الوجوه في هذا الزمان!
(وهنا أورد المحاضر طائفة مما وقع له من النوادر مع ماسحي الأحذية، وبها انتهت المحاضرة.)