إلحاح …!١
لا أحسب أن الله تعالى بَعَثَ خلقًا من خَلْقِه أَشَدَّ إلحاحًا من حَمَّالي (شَيَّالي) محطة منيا القمح، ولا أَشَد إلحافًا من ماسحي الأحذية في منيا القمح، تكون في المحطة صاعدًا أو هابطًا، مسافرًا أو مودِّعًا أو مُرْتاضًا، فيتهافت عليك من أولئك الحمالين من لا يُحْصَوْن كثرة: هذا يَحْمل الخريطة (الشنطة) الكبيرة، وهذا يَحْمل الخريطة الصغيرة، وهذا يَنْتَزع منك المعطف (البالطو)، وهذا يسل منك الشمسية، فإن لم تكن فالعصا إلخ، فإن لم يكن معك شيء من ذلك تحككوا بك وجسوا بأكتافهم صدرك وجانبيك معًا، فعلة خفية (بوليس سري) يرتاب في أنك تَدُسُّ في مطاوي الثياب «كوكايين» أو هارويين، لعلهم يصيبون «محفظة جيب» فيحملوها عنك إلى القطار حملًا، فإذا أيسوا من هذه الناحية أيضًا، سألوك أن «يقطعوا لك التذكرة»، فإذا أسعدك الحظ وكانت معك «تذكرة» ذهاب وإياب، سبقك اثنان منهم ففتحا لك باب المركبة ووقفا على طريقك في انتظار «الأجرة»!
أما ماسحو الأحذية هناك، فهم أَشْرَهُ وأطبع، وهم أَنْكَى وأوجع، لقد تَضَع رجلك اليمنى على سُلَّم القطار، والقطار على جناح السير، وتتعلق يداك بمقابض الباب، وتتهيأ لرفع رِجْلِك اليسرى، وفي هذه اللحظة يَلْكَز المسَّاح ساقك اليمنى بصندوقه، ويُهِيب بك «بويه»!
فإذا جرى عليك القدر بالجلوس إلى المقهى القائم بإزاء المحطة في انتظار صديق مواعدك أو مركبة توافيك، فاللهم اشهد قسوة الإنسان على الإنسان: يَثِب إليك «البويجي» إذ أنت لم تَأْخُذْ بعدُ قرارَك، فيطوِّح في وجهك بصندوقه حتى يَمَسَّ أحيانًا أرنبة أنفك، فتَعْتَذِر إليه فلا يسيغ لك عذرًا، وتتشفع إليه فلا يقبل في نعلك شفاعة، بل إنه ليجلس على الأرض ويجذب — برغمك — رِجْلَكَ فإذا رَكَلْتَه بها جذب الثانية، فإذا أنت بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما الرضا بهذه «المسحة»، وإما الانتهاء إلى «المركز» في جناية أو جنحة!
وقد اتصل بي أخيرًا والعهدة على الراوي، لا عَلَيَّ أنا، أن مساحي الأحذية في منيا القمح قد أَلَّفُوا هم الآخرون من بينهم فرقًا، كل فرقة ثلاثة: اثنان منهم يحملان «فلقة»، فإذا وقع للمقهى إنسان، أسرعا «فمداه»، وأقبل الثالث يمسح له الحذاء، وكان هذا لزائر منيا القمح نعم الجزاء!