في رثاء صبري١
مضى المغفور له إسماعيل باشا صبري إلى جوار ربه كما مضى قبْلَه وكما يمضي بعدَه كلُّ مَن يتكلف شِعرًا أو يعالِج فنًّا أو يُشارِك في عِلْم، وعقدوا له يومًا للرثاء كما عقدوا وكما يعقدون لأولئك كلهم، ودعَوْا للقريض شوقي وحافظًا ومطران والهراوي وعبدَ المطلب كما يدعونهم للقريض في كلِّ ذاهب، وشمَّر شوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب والهراوي للشعر كما شَمَّروا لغير إسماعيل صبري، ولقد قالوا في صبري كما قالوا في الناس كُلِّهم: إن وجْهَه آلق من البدر، وإن راحته أندَى من البحر، وإن شمائله أزكى من الزهر، وإن عبقريته أبقى على الدهر من الدهر!
ولقد قالوا مِثْل هذا كله فيمن خَفُّوا لرثائهم ممن لا نحب أن نزدريَ أقدارَهم، أو نتهاون أخطارَهم، أو نَذُمَّ أشعارَهم، ولكنهم على كل حال لم يَبْلُغوا كثيرًا ولا قليلًا مما بَلَغَ إسماعيل باشا صبري جلالة نفْس، ولا عظمة خُلُق ولا فصاحة شِعْر، ولا فتحًا في الأدب هذا الفتح!
لقد أخرج الأولون «الموازين» لِيُقَدِّروا خفيف الأجرام وثقيلها، وصنعوا «المكاييل» ليَعْرِفوا كثيرَ الحبوب وقليلَها، وضبطوا «المقاييس» ليحددوا قصير الأَمْدية وطويلَها، ونحن إلى الآن لَمْ نُوَفَّقْ إلى ذلك «الميزان» الذي يَضْبط لنا المقال، إذا تصدينا يومًا لِقَدْر أقدار الرجال!
سَنُطْوَى نحن وسَيُطْوَى مَنْ بَعْدنا، وسَيَخْلُف مِنْ بعد أولئك خَلْفٌ لم يتصلوا بمجالسنا، ولم يَتَرَوَّوْا شيئًا مما يجري على ألسنتنا، فإذا أحَبَّ هؤلاء أن يعرفوا مقدار حُكْمِنا على كل رجل من رجالنا، صاروا ولا محالة إلى ما نحن مُثْبِتُوه في صحائفنا، ولكأني أنظر إلى هؤلاء الخَلَف وقد شاع فيهم العجب، ومَلَكَ الدَّهَش عليهم كلَّ مذهب، لأنَّ وَصْفَنَا لكل علمائنا واحد، ونَعْتَنَا لكل أدبائنا واحد، وقدرنا لكل شعرائنا واحد؛ حتى لَأَحْسَبُهُم يحسبون أنه كانت لدينا مطبعة لكبار الرجال، فمهما تتكرر نسخها فإن صورتها كلها واحدة!
لقد يطمع الرجل الحُسَان في ثواب التاريخ أكثرَ مما يطمع في ثواب دنياه، فيا وَيْح «العبقرية» ويا ويح الإحسان من حكم التاريخ، إذا كان الناس جميعًا سيُجْلَوْنَ غدًا في صورة سواء!