غرام …!
صديقي «فلان» تَعَشَّقَ في شباب سِنِّه إحدى بنات جيرانه، وقد غَلَبَتْ عليه وذَهَبَتْ بقلبه كُلَّ مَذْهَب، ولما برحت به آلامه، وفَضَحَتْهُ في الهوى أَسْقَامه، أَدْرَكَتْها رِقَّةٌ له ورحمة به استحالتا من بعدُ حُبًّا، وهو رجل يَتَذَوَّق الأدب، ويحفظ من مصطفى الشعر صدرًا، فكان إذا ذَكَرَهَا وهو فِينَا أقبل يروي لنا أَحْسَنَ ما قال قيسٌ المجنون في ليلى، وأرقَّ ما أرسل قيسُ بن ذُرَيْح من الغزل في لُبْنى، وأحلى ما قال جَمِيل في بُثَيْنة، وأبدعَ ما شَبَّب كُثَيِّر في عزة، وكلما لَحِقَه الوله عليها بكى واشتد نشيجه، فيواسيه صُدْقانه من جميل القول بما يطامن لَوْعَتَه، ويُكَفْكِفُ دَمْعَته.
وقد بانت لهذا العاشق الولهان خصوصية عجيبة جدًّا: ذلك أنه لُوحِظَ عليه أنه كلما حَدَثَ تَهَاجُرٌ بينه وبين «معشوقته»، راح يلتمس السُّلوَّ كُلَّه في الطعام، فيُلْحِق الأكلة بالأكلة، ويُتْبِع الوجبة الوجبة، إلى أن تعود إلى صلته فيعود إلى الإقلال والتخفيف! وعلى قَدْر شدة الصَّرْم والإلحاح في الهجر يكون الدَّسَم، وعلى قَدْر فتوره وضَعْفه يكون اختيار الأرفق من الألوان!
ولقد جُزْتُ يومًا بشارع خَيْرَت في طريقي إلى الدار، وكان ذلك بعد انتصاف الليل، فإذا صاحبنا مُسْتَوٍ على منضدة في دكان الحاج عبد الرحمن (الحاتي)، وبين يديه صحفة تَحْمل ستة أرطال أو خمسة على الأقل من اللحم السمين، وهو يفترسها افتراسًا، والدمع مُنْهَلٌّ على خديه، فأدركت لساعتي أن قد تَمَّت القطيعة ولم يَبْقَ إلى اللقاء سبيل! فأقبلت عليه أُعَزِّيه وأُصَبِّره، وهو ينزف من الدمع من عينه، بقَدْر ما ينزف من اللحم في شدقه، فعذرت الرجل وانصرفت عنه وأنا أدعو الله تعالى أن يرأف بحاله، ويُلَقِّيه حُسْن العزاء!
ويُسْرف المسكين على نفسه في هذا حتى كاد يكسر عَيْشَه على القَضْم والخَضْم، إلى أن بَدُن واسترْخَتْ كَرِشُه، ودعا بالطبيب وأَظْهَرَه على داخل شأنه، ولما اسْتَصْعَبَ عليه علاجه، سأل أهله أن ينأَوْا به عن القاهرة (مثوى الحبيبة) ويُعَزُّوه، ويختلفوا عليه بألوان السلوى، لعله ينسى فتصلح حاله، وتعود إليه نحافته وهزاله!