من خلق الله! …
يَظْهَر أن عند بعض الناس كثيرًا أو قليلًا من الشك في أنهم موجودون، أو على الأقل إنهم يشكون في أنهم من ضمن الناس، فهم دائبون جاهدون كل يوم، بل كل ساعة، في جمع الأدلة على إثبات وجودهم، أو على إثبات أنهم ناس من الناس، ومن هؤلاء المساكين شاب حَدَرَتْ له الظروف مالًا جليلًا يُهَيِّئُ له العيش في أخفض العيش، والتَّقَلُّب فيما شاء من النعم، إذ كان الإنسان إنما يطلب إكرامَ نفْسه وتنعيمها لإيتاء لذائذها، لا لِيُثْبِتَ بمظاهر الترف وجوده، أو إنسانيته عند الناس!
هذا شاب غير بائن الطول، ولا مُفْرط لا البدانة، وإن كان مكْتَنِزَ اللحم متوافر الشحم، رُكِّبَ على جَسَده وَجْه شاحب غليظ، لا ترى فيه ضاحيةً يستريح فيها النظر، وقد مَيَّزَتْه الطبيعة بعينين حادتين واسعتين تملؤهما أحداقهما، على أنك تراهما ثابتتين في محاجرهما، لا تنحرفان إلى اليمين، ولا تعدلان إلى الشمال، حتى لكأنهما في صورة منقوشة لا في وجه إنسان، وإلى هنا لا أجد على الرجل بأسًا، فإنه وإنني وإن صديقيَّ الأستاذ توفيق فرغلي، ومحمد بك رشدي غير مسئُولِين عن أننا خرجنا كذلك للحياة! أما الباقي فصاحبنا عنه جِد مسئول.
لقد أرسل سَالِفَيْه حتى حاذتا سُفْلَى شفتيه، ورفع طَرَفَيْ شاربيه حتى شَارَفا أعلى وجنتيه، وبالغ في تزيين هذا الشارب وتنسيقه، حتى ما ترى فيه شعرة تميل عن صفها، أو تَنْحَرِف عن موقفها، كأنما هو «قره قول شرف» يفتشه قائد عظيم! وقد نَصَبَ على رأسه «طربوشًا» طويلًا استهلك أصله جبينه الدقيق، أما «زرُّه» فقد تأنَّق في ترجيله وإرسال خيوطه بنِسَب مُعَيَّنَة تزداد كلما تَدَلَّت انفراجًا، وقد رَكَّبَ على عَيْنِه اليسرى «مونوكل» مؤطرًا بالذهب، ودسَّ في فمه «سيجارًا» طويلًا غليظًا، ولسْتَ تراه إلا ثانيًا معطفه على ذراعه اليسرى ولو نزلت درجة الحرارة عن ٥ تحت الصفر، وإن مما يُطِير نومي أحيانًا أنني لم أَهْتَدِ بعْدُ إلى الوقت الذي يَتَّخِذ فيه هذا المعطف كما يتخذه سائر الناس! فإذا الْتَفَتَ رأيتَهُ يَلْتَفِتُ جميعًا، كأن ما بين رأسه وكتفيه كتلة من الخشب لا تَلِين ولا تَنْثَنِي، وذلك كله خِيفَةَ اخْتِلَال «القيافة» باختلال شعر الشارب؛ أو اضطراب خيوط «الزر»!
وإني أؤكد لك أنني حين رأيته لأول مرة حَسِبْتُه فارًّا من لوح «سينما»!
وقد جمعني وإياه يومًا شيطانٌ من شياطين الإنس، وما انتظَمْنا المجلس حتى قال لي: «أُقَدِّم لك صديقي الفيلسوف الكبير فلان بك، أفلا تعرفه أو لم تسمع عنه؟ فقُلْتُ تَشَرَّفْنا، فقال: حَسْبُه فخرًا أنه صاحب نظرية «الانعكاسات اللافطرية» فأدركْتُ أن الخبيث يريد أن يَعْبَثَ! فقلت: وهل يَجْرُؤ أحد على أن يقول في هذا بعد الذي قال أوجسْت كنت؟ على أنه لم يخرج له من هذه القضية كثير ولا قليل، فقال صاحبي: بل اهتدى إلى ما لم يَهْتَدِ إليه أوجست كنت؛ بل لقد وَفَّقَ بين رأي القائلين «بالإبداع التناسبي»، وبين رأي الذاهبين إلى حماية التجارة، فقلت له: إذَنْ لقد خالف رأيَ لامارتين، فأجاب بل لقد كَسَّره تكسيرًا، وأفضنا في هذا، وجُلْنَا في الفلسفة والعلم والآداب استظهارًا لتلك النظرية، وهو يوافقنا بالإيماء، ويَسْرُد معنا أسماء لا أدري من أين حَفِظَها، ثم جعل يَتَقَبَّل منا الإعجاب بتلك العبقرية الفخمة.
ثم قام في رِفْق وانجلى لوجهه … وقد ذهب عني أن أقول لك إنه طَوَال المجلس، لا يَسْتَقِر دقيقة واحدة حتى يقوم لبعض شأنه ثم يعود مستمهلًا، ولقد تفقدته فإذا هو يمضي إلى المرآة لإصلاح ما عسى أن تكون الكلمةُ قد ثَنَتْ من شَعْر شاربه، وما عسى أن تكون الإيماءة قد خَلْخَلَتْ من رباط رَقَبَتِه! أو حَرَّفَتْ من «زر» طربوشه!
ولقد عَرَفْتُه بعد ذلك واستقصَيْتُ أخباره، وتقرَّيْتُ آثاره، فاجتمع لي منها أنه رجل شغف بأن يكون في أولاد «الذوات» فهو يأخذ إخْذَهُم، ويتشبه بهم في شكلهم ودَلِّهم، وفي مِشْيَتهم، وطعامهم، وشرابهم، ولهوهم، وعبثهم، وسائر أطوارهم، فهو يسمع أن ابن فلان باشا «يُفَصِّل» الثياب عند ديليا، فيطلب ديليا ويسأله أن «يُفَصِّل» له «بدلة» كالتي فَصَّلها أخيرًا لفلان، ثم يسمع أن الأمير فلانًا «يُفَصِّل» عند سيفاد، فيمضي من فوره إلى سيفاد، ويسأله ما سأل ديليا أمس، ثم يرى في إصبع فلان بك خاتمًا من الزمرد، فلا يزال يتحرَّى ويستخبر حتى يهتدي إلى الجوهري الذي باعه فيشتري مثله، ويرى فلانًا بك يُدَخِّن السيجار، فيدور يبحث ويستقصي حتى يهتدي إلى أغلى السيجار، فلا يفارق بعدها فمه أبدًا، وما هو «بخرمان»، ولا هو ممن يتذوقون الدخان!
•••
ثم هو رجل «شيك» فتراه يطلب جروبي القديم الساعة ١٠ من صباح كل يوم، فلا يزال هناك حتى الساعة الواحدة، ثم يركب سيارته إلى «سان جمس» فيتغدَّى، ولكن ماذا يتغدَّى؟ ما دَلَّتْه تحرِّياته على أن فلانًا طَلَبَه أمس، ثم في تمام الساعة الخامسة يكون في جروبي الجديد، وهناك شباب من أبناء «الذوات» متعلمون يخوضون أحيانًا في العلم والأدب والفلسفة، فهو يأخذ معهم فيأخذون معه أيضًا على النحو الذي رأيت، فإذا كانت الساعة الحادية عشرة، استوى في «الكازينو ديباري»، فدار يبحث عن أي الغانيات راقت الليلة الماضية فلانًا بك، أو التي تَحَدَّث عنها فلان بك، فأسرع فدعا بها وطلب لها أغلى الشراب! وقَرَّب إليها أفخر الألطاف.
ومن أظْرَف ما سَمِعْتُه في هذا الباب ما حدثني به شاب ممن يَغْشَوْن هذه الأماكن قال: دخلت المكان الفلاني فرأيت منظرًا عجيبًا، رأيت أبرع الفتيات هناك جمالًا، مستوية على منضدة، وبين يديها أفخر الشراب وأنضر الزهر وأبدع التحف، وفلان (يعني صاحبنا) جالس بجوارها وقد وَلَّاها ظَهْره، أما وَجْهه كله فإلى الباب، فوَقَفْتُ وقفة طويلة لَعَلِّي أراه ينثني ناحيَتَها فلم يفعل، فَدُرْتُ حتى وَقَفْتُ بإزائها، وسألتها هامسًا بالتليانية عن شأنها مع هذا الرجل، فأجابت ضاحكة ساخرة: إننا على هذه الحال من ساعة ونصف!
•••
وبعْدُ ففي الناس كثير إذا لم يَبْلغوا مبلغ هذا الرجل كله، فهم على كل حال لا يعيشون لأنفسهم ولكنهم يعيشون للناس؛، لأنهم شاكُّون في وجودهم أو في إنسانيتهم، فهم جاهدون دائمًا في أن يُثْبِتوا وجودَهم أو يُثْبِتوا أنهم من الناس.
•••
بعد كتابة هذا الكلام وجمع حروفه (على رأي المقطم الأغر)، انتهى إليَّ أن الرجل مع الأسف، قد لَحِقَه الفقر، وحَلَّتْ به الفاقة، ورَكِبَتْه الديون، فباع السيارة وكل ما أحرز من كرائم الجواهر ونفيس الآثار، من صنع «كريجر» في باريس وميل في لندن، وسكن في الخارطة الجديدة بَعْد الزمالك ولم يَحْتَفِظ من آثار «العز» إلا بسيجار واحد «يُرَكِّبه» في فمه ليخوض به في دير الطين، بعد التخطر في شارع المناخ وشارع عماد الدين!