ما شاء الله! …
أرى شابًّا لا أعرف له عملًا إلا الطواف بمتون القهوات، والوقوف على من يَعْرِف من الناس، والتحدث إليهم في الأسباب الدائرة في البلد، فإذا حَدَثَ حَدَثٌ في الهندسة، وكان لإسماعيل سري باشا رأي فيه، وَقَفَ بِكَ وَطَرَحَ عليك الأمر، وكرَّش وجهه ومطَّ بُوزَه، وقال في استخفاف واستهزاء: «لم يَبْقَ علينا إلا أن يتكلم إسماعيل سري في الهندسة!» فإذا كان الحديث في الطب، وأُثِر عن علي بك إبراهيم عَمَل جِرَاحِيٌّ له خطر، قال لك في تلك الصورة: «لقد هَزُلَتْ حتى إنَّ علي إبراهيم يتعرض لإجراء عملية جراحية!» فإذا كان الأمر في القانون، وكان لبدوي باشا رأي مأثور قال لك: «ما شاء الله، حتى عبد الحميد بدوي هو الآخر يتكلم في القانون!» وإذا كان الحديث في الأدب وكان للدكتور طه حسين فيه مقال قال لك: «لقد طابت الهجرة من هذا البلد، لم يَبْقَ علينا إلا أن طه حسين يتكلم في الأدب؟!» ثم يهزُّ كَتِفَه ويوليك قفاه، ولعله أَكْرَمُ على الله وعلى الناس من وجهه، وينطلق عنك المسكين وهو يظن أنه قد قضى حَقَّ العلم أولًا، وحق الوطن ثانيًا، وحق التعالي على هؤلاء الذين يسلكهم إجماع الناس في نوابع الدنيا، وتدسَّى بعد ذلك في فراشه، ولا يكاد يتسع ما بين الأرض والسماء لعبقريته الهائلة!
لسْتُ أجد أية غضاضة على العالَم في أن يُفْسِح لمثل هذا المسكين في سعادته تِيكَ، ما دام أذاه لا يتجاوز ذلك التصور، وخَيْرٌ أن يبقى في «القسم الخارجي» من أن يُجَشِّم الحكومة نفقات طعامه وكسوته وملاحظته في إحدى «السرايات» القائمة في أقصى العباسية!