إقناع معدة …!
أعرف شابًّا من ذوي البيوتات ذكيًّا غنيًّا، يضطرب دَخْلُه بين الثمانية الآلاف والاثني عشر ألف جنيه في كل عام «عدا وظيفته التي يجريها عليه المنصب في كل شهر»، وهو فوق هذا ظريف حاضر النكتة، وأنه ليعرف كيف يصوغها بالقلم كما يحذق إطلاقها باللسان.
وإذا أنت لَابَسْتَه واطَّلَعْتَ على دخيلة شأنه حَيَّر رأيك فيه، فما تدري أهو أكرم الناس أم أبخل الناس؟
والواقع أن مما يغلط فيه سوادُ الناس، ظَنُّهم أن البخيل من لا يجود بالمال، وَمَنْ تَغْلب عليه عادة الشح به، وَشِدَّة الحرص عليه، وأن السفيه من لا يعتد بالمال، ومن يبادر إلى إتلافه ما وقع إلى يده، وقد دَلَّت المشاهدة على أن هذا على إطلاقه غير صحيح، فإنك لتجد في الناس من يَحْرص على الدانق، ويَضِنُّ حتى في موضع المروءة بالسحتوت، وتجده نفسه لا يكترث بالآلاف، ويعمد في غير حاجة، إلى السرف والإتلاف، وذلك شأن صاحبنا الذي أومأنا إليه في مستهل هذا الكلام: ولقد يعلم أن مِنْ عُمَّاله على ضِياعه من يَفْتَلِذُ من غَلَّاتها الآلاف فلا يَكْرُثه الأمر ولا يعنيه، ولقد يولم لأصحابه، بل لمن لا ترتبطه بهم الصداقة القوية، فيقرب إليهم أشهى الطعام، وأفخر الشراب، ويُسْمِعُهم أحذق المغنين، وقد يدعو لهم بفاخر الطرف وغالي الألطاف، ثم تراه في غده يَشُحُّ بالدرهم، ولو سُئِلَهُ لتغير وجهُهُ وتقلصت شفتاه، وظهر عليه من الكزازة والكيص ما لا يرضى به لنفسه أحد في الدنيا، ولقد يكون في المجلس المونق، يغمره لطف الحديث أو حلو الغناء، فينتفض عنه فجاءة زاعمًا أنه قائم لبعض شأنه «وما به من حاجة»، ولكنه إنما يطلب مرافق الدار أو المقهى ليشعل سيجارة، خيفة أن يفتح في المجلس علبة سجايره، فيتورط في الميل بها على من إلى يمينه أو مَنْ إلى يساره!
ومن عجيب شأنه في حسابه أنه قَدَّر لنفقته اليومية الخاصة قدرًا لا يَعْدُوه أبدًا، فجعل لسجايره عشرة قروش مثلًا، ولنُزْهَته عشرين، ولعشائه خمسة عشر إلخ، فإذا اختل حسابه بالزيادة في أحد هذه الأبواب، التمس القصد في غيره والتعويضَ من سواه، وراح يجري ألوان التعديل في أبواب «الميزانية»، حتى لا يزيد الخارج في النهاية درهمًا واحدًا، فإذا ازدادت نفقة الطعام قرشين مثلًا عَوَّضَها من باب «البنزين»، فرَدَّ السيارة من مطلع شارع الهرم، وإذا زادت نفقة السجاير قرشًا مثلًا، أسرع إلى «التليفون» فأمر الخدم أن يطفئوا نور الدار، ولا يُطْلِقوا إلا مصباحًا واحدًا، وإذا تورط في عشرين قرشًا لم تَدْخُلْ في حسابه، اعْتَلَّ على أحد الخدم فطرده ثلاثة أيام أو أربعة ثم أعاده، وهكذا.
ومن أظرف نوادره في هذا الباب أنه اعتاد العشاء في أحد المطاعم، وكان فيها «حاتٍ»، وكانت وجبتُهُ في كل ليلة رطلًا من الكباب، فلُوحِظَ عليه ذات عشية أنه دعا بنِصْف رطل فقط، وتَبَيَّنَ بعد ذلك أنه تورط في عشرة قروش لم تكن في حسابه، فأراد أن يُعَوِّضَها «خصمًا» على «بند» العشاء، فأتى على نصف الرطل، ولكن المسكين لم يَشْبَع، لأن مَعِدَتَه لا تزال تتطلع إلى مزيد!
وهنا تستطيع أن تتمثل أبدع حوار جرى بين إنسان وبين معدته: هو يحاول إقناعها بالحجة الكلامية، بأنها قد شَبِعَتْ وهي تَرُدُّ عليه بالحجة الفعلية إنها ما برحت جَوْعَى، فيَكُرُّ عليها بالدليل العقلي أنها قد أَخَذَتْ قسطها، واستوفت من الطعام حقها، ويستشهد على دعواه بفلان وفلان ممن لهم في نصف الرطل أو في ربعه مَقْنَع! فتَدْمَغُهُ بتهييج الشهوة وتفتيح اللهوة، وسيلان اللعاب على ما يضْطَرب به الخدم من صحاف «الكفتة» والكباب، فيباديها بأنها ما دامت قد انحرفت عن سبيل القناعة، وتمَرَّدَت على رأي الجماعة، فإنه مضطر إلى أن يردها إلى حدود الطاعة، بإنزالها على المخمصة وتعذيبها بطول المجاعة!
فتجيبه في عزة واستكبار، وعزم لا يطاوله وعيدٌ ولا إنذار: إذَنْ أَهُدُّ حَيْلَك، وأُؤَرِّق لَيْلَك، وآخذك عن نفسك، فما تدري أفي يقظة أنت أم في منام، وحقيقة ما ينتظر لك من ألوان الطعام، أم هي أضغاث أحلام!
•••
ولما أعْنَتَتْهُ بطول نشوزها على رأيه، وشدة تمردها على حُكْمه، جَمَعَ كُلَّ عَزْمه، وشد مجامِعَ أعصابه، وتَنَحْنَحَ وتَسَعَّل، ثم استمكن من كرسيه، وأعلن في صراحة وحَزْم، أنه قد شبع والحمد لله!
ولكي يضَع مَعِدَتَه أمام الأمر الواقع كما يقولون، دعا بفنجان قهوة «سادة» وشربه ولعق ما ترسب في قراره! وجعل يتشاغل بالحديث عن المقيم المقعد من أمر تلك المعدة، عليها خيبة الله!
ثم أطرق إطراقةً طويلةً لم يَدْرِ حاضروه ما عِلَّتُها، ثم بان أنه يحاول المعدة ويصاولها، ويصابرها ويطاولها، وما زالت حجتها عليه تقوى وتشتد، وسطوتها به تقسو وتحتد، وما زال عزمه أمامها يَضْعُف ويتخاذل، ويسترخي ويتزايل، ويظل على هذا قرابة عشر دقائق، ثم إذا هو يهب فجاءةً ويُصَفِّق، حتى إذا أقبل الخادم، عاجله بطلب … «واحد رز»!
ويَحْسُن أن أقول لك: إن ثَمَن صفحة الرز في ذلك المطعم هو قرش صاغ واحد ولله في خلقه شئون!
ملحق …
ومما يتصل بهذا الباب، ويُضَمُّ إلى هذا الجنس، حديث «فلان بك» رحمه الله، وكان معروفًا بسعة العلم، وشدة العقل، وكان شديد البخل، قاسيًا في الضن على النفس، وقد أُلْحِقَ في شباب سنه بخدمة الحكومة ويده لاصقة بالتراب من شدة الفقر، فكان يَدَّخِر وظيفته الشهرية كلها إلا ما يكفي لشراء رغيف «وطعميتين» كل يوم، وأما الثياب فلا يكفي لتغييرها أن تَحُول، أو يلحقها النصول، أو أن تَبْلى خيوطها، أو أن تَتَخَرَّق عروضها، فهو لا يتركها بل هي التي تتركه حين يُدْرِكُها الفناء، فتَطَايَرُ عنه تَطَايُرَ الهباء، وعاش كذلك يجمع الدرهم إلى الدرهم، ويضم المليم إلى المليم، حتى اجتمع له في غاية عمره نحو أربعمائة فدان من أجود أطيان الدنيا، وحوالَيْ عشرة آلاف الجنيه، أرضخها للوارث نقدًا وَعَدًّا.
وليس شيء من كل هذا بعجيب، إنما العجيب ما اسْتُكْشِفَ من خلاله في مؤخرات سِنِي حياته، ذلك أنه ظهر — بحكم إحدى المصادفات، وللمصادفات أَبْلَغُ الفضل فيما يجري في هذا العالَم من وجوه المستكشفات — أقول ظَهَرَ أن الرجل لم يَكُنْ يحب المال ولا يحفل به، ولا يعنيه أن يجتمع له منه كثيرٌ ولا قليل، ذلك أن كل هَمِّ الرجل وكل خلته أنه لا يحب المتاع، ولا يطيق التقلب في النعمة، فإذا أَكَلَ أصاب أَيْسَرَ ما يُمْسِك الحوباء، وإذا لبس ففي ستر الجسم بالخَلَق غَناء، وإذا استصبح تغنى بالزيت، وإذا أوى استغنى بالكُوخ عن البيت، فهو إذا جمع بعد ذلك المال، فليس يجمعه لحب فيه أو شهوة إليه، وإنما يجمعه لأنه لا يجد له مفيضًا عن الكفاف وهو غاية مُنَاه!
قلت لك إن هذه الخلة قد اسْتُكْشِفَتْ في أخريات سِنِيه، وذلك أن بعض من يحملهم لاحظوا بعد طول ما أعتروا به من ضيق الحياة وشَظَفِ العيش في كنفه، أنه لا يَضِنُّ عليهم بشيء مما يطلبون من الأموال، بالغة ما بَلَغَتْ، على شَرْط أن يستأثروا بالمتاع بها وَحْدَهم، فلا يُشْرِكوه في طعامهم، ولا في شرابهم، ولا يُفْرِغوا عليه مثل أرديتهم، ولا يُرْقِدُوه على مثل فُرُشِهم، ولا يُدْخِلوا عليه شيئًا من رفاهيتهم ولِينِ عَيْشِهم!
•••
بقِيَتْ هنالك مشكلة، وهي أنهم يحبون أن يستصبحوا بالكهرباء، وهو لا يطيق أن يُطْلِق النظر على ضوئها، فكيف الحيلة في هذا الإشكال؟ لقد ظَلَّت المشادة دهرًا بين الطرفين، حتى عرض هو حلًّا معقولًا: ذلك أن يستأجر لهم دارًا في حي المنيرة ذات غرف وأبهاء، ليزينوها بما شاءوا من ثريات الكهرباء، على أن يَدَعُوه في مثواه ببير المش، يستصبح بالزيت ويفترش القَشَّ!
•••
في الحق إن المؤلفين في علم الأخلاق في حاجة إلى مراجعة كُتُبِهِم لاستقصاء مثل هذه الأحوال، وضبط الكلام فيما تدل عليه من الغرائز والخلال.