رزق …!١
وكان ﷺ يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وسأمزح أيضًا ولا أقول إن شاء الله إلا حقًّا، وكيف أتفرَّج من هَمِّي بمثل هذا؟ ولا أحسب القراء إلا أطلبَ مني لمثل هذا الفرَج!
على أنني لا أكون مصورًا في هذه المرة، إنما أنا ناقل فقط، فليس لي فضْل إذا راقتْكَ هذه الصورة، وليست علَيَّ تَبِعَة إذا هي عَدَلَتْ منك عن موضع الإعجاب: من عشرين سنة مَضَتْ كان في مصر رجل صاحب نجوم، وعلم بالكف، وزجر الطير، والسحر، والعيافة، وتسخير الجن، واستخراج كنوز الأرض، وكانت له جريدة جليلة تضرب هذه المباحث، وتشق الطرق بين يدي طُلَّاب الغنى، وأصحاب المنى، فما تترك مرضًا إلا تَصِف له علاجًا، ولا تذكر من أغراض الدنيا غرضًا إلا تَدُلُّ فيه أحسن حيلة، وتَهْدِي إليه بأنجح وسيلة، ولكن العلم أمانة!
ولعلوم الغيب أسرار لا يضطلع بها إلا الراسخون من أصحاب الأقدام، فكيف تريدون ابتذالها للدهماء من سواد القراء؟ الحق أن الخطب في هذه المسألة سهل، فإذا وصلنا إلى مواطن السر أغنى الرمز والإشارة، عن التصريح بالعبارة فإذا وَصَفَت الجريدة علاج الصرع وإخراج «إخواننا»، ذَكَرَتْ لك عقارًا أو بضعة عقاقير معروفة تشتريها من العطار بنصف قرش، على أنها لا تنجع في العلاج إلا إذا أضيف إليها نصف أوقية من «السرواق»، وعليك أنت أن تطلبه ولو في جزائر واق الواق!
وإذا هي علمتك استحضار الجن وصَرْفَها، جلَتْ عليك آية مبينة، ودعاءً واضحًا «وقسمًا مفهومًا»، ولكن هيهات أن تُقْبِل عليك الجن، وإذا هي أقْبَلَتْ فهيهات أن تَنْصَرِفَ عنك إلا إذا تَلَوْث «القسم» الأعظم، وهو سِرٌّ تُقَدُّ دونه الغلاصم وتُقْطَع البلاعيم!
أما فتح مغاليق الأرض، واستخراج ما فيها من معاليق الجوهر والدر والمرجان، والجونة التي تحتوي خاتم سليمان، فعليك أَوَّلًا أن تتوضأ بنحْيٍ من اللبن، ثم تصلي لغير القبلة، وتُهَمْهِم بكيت وكيت، ثم تحرق الجاوي بعد أن تبله بماء الورد البلدي، ثم لن ينصدع بطن الأرض عن كنزك الموعود حتى ٥٧ – ٣٤ – ٨٢٥ – يانا … ف … ك … يا طانورش … يا شمهورش … يا عولص … يا ابن بولص … – ١١ … ٣٤٥ … وفي الناس الصرعى وفيهم الزَّمْنَى، وفيهم من رَكِبَتْه العفاريت الحمر، وفيهم من أعياه طلب الغنى، وفيهم من أَلَحَّت على قلبه الصبابة والهوى، وهل لمثل هؤلاء صبر على مطاولة الدهر في حل هذه الرموز، لتَسَقُّطِ ما حَجَبَت السماء من غيب وما أَجَنَّت الأرض من كنوز؟
لا والله ودارُ الشيخ أقرب، وأجْرُه أسهل وألين.
وكان في مصر فتًى يعالج ما كان يعالجه بعض أصحاب الصحف الأسبوعية في ذلك الحين، وطَوَّعَتْ له نفسه أن يَشخص إلى الآستانة، لعله يُفِيد ببعض العبث السياسي مالًا، وما كاد يهمُّ هناك بشأنه حتى تناوله المُرْعِب الذِّكْر فهيم باشا «السرخفية»، وزَجَّ به في الطابق، فلَبِثَ في السجن بِضْع سنين لا يَرَى الشمس، لا يُحِسُّ النسيم، ثم تهيأت له فرصة للفرار، ففر على باخرة كان علاجه للخَدَمة فيها أُجْرَةَ سَفَرِه عليها، ودخل مصر بسلامة الله آمنًا، وعاد إلى مهنته القديمة، فأخرج جريدة أسبوعية، لم تَكَد تُجْدِي عليه كثيرًا من الرزق ولا قليلًا، وجعل يتحدث فيها عن «دار السعادة»، وجيش «دار السعادة»، وأسطول «دار السعادة»، والمناصب التي تَقَلَّبَ فيها، وما له عند رجالها من جاهٍ وصوت إلخ إلخ.
كما جعل يتصيد ضعاف الأحلام من طلاب رُتَب «دار السعادة»، ويُدْخِل في نفوسهم أنَّ له فيها من الوسائل والأسباب، ما يواتيه بكل ما شاء من الأوسمة والألقاب، وأنه كان وسيلة فلان إلى رتبة «الرومللي بيكلر بك»، وفلان إلى رتبة «البالا»، وفلان إلى «العثماني المرصع»، ويستخرج منهم كل ما قَدَرَ على استخراجه على هذا الحساب.
وأخيرًا اجتمع مع صاحبنا المنجم، وعقدا محالفة دفاعية هجومية كانت آية في اللطف والإبداع، فقد اتفقا على أن يتظاهرا بالخصومة، ويتباديا بالعداوة، وأن يُلَوِّن كل واحد منهما لصاحبه الشتم والسب والإقذاع، ولكن على الطريقة الآتية: تخرج صحيفة المنجم فإذا فيها: «إن فلانًا يَدَّعِي أنه كان أقرب المقربين في دار السعادة، وأن له فيها جاهًا لا يتسع له جاه، وسلطانًا لا يعلو عليه سلطان، وأنه تقلد أرفع مناصب الدولة وتولى أعلى مراكزها! … ووالله ما عَرَفْنَا له جاهًا يداني جاه صاحب الدولة عزت باشا العابد، ولا سمعنا بأن له كلمةً نافذةً إلا عند الصدر الأعظم، والسيد أبي الهدى الصيادي، وتحسين باشا باشكاتب المابين، وأمثال هؤلاء، ولا علمنا أنه تقلد من مناصب الدولة إلا أنه كان رئيسًا لمحكمة التمييز، فمستشارًا لوزارة المعارف، فعضوًا في مجلس شورى الدولة، فسفيرًا للدولة في برلين، وأي شيء هذا كله؟ فإذا لم يَرْعَوِ هذا الدعي عن تبَجُّحه، فسيكون لنا معه شأن يخزيه، إذ يندم ولات حين مندم!»
وتخرج بعد يومين جريدة صاحبنا «السياسي» فإذا فيها حملة شعواء على صاحبه المنجم من الطراز الآتي: «إن جريدتنا تترفع عن مجاراة رجل مُنَجِّم فلكي في بذاءته وقلة حيائه، ولنفرض أننا لم نَتَقَلَّد من مناصب الدولة إلا ما ذَكَرَ، فما الذي تَقَلَّدَه هو من المناصب؟ نظن أنه تقلد علم الفلك، وصفة دوران السيارات، ومجال الكواكب، واستخراج الغيوب، وقراءة الكفوف، ومداواة الأمراض المستعصية بالطرق الشائنة، ونحن نمسك القلم الآن، وننذره عدم العودة إلى هذه الوقاحات، وإلا فنحن غير مسئولين عن كشف مخبآته، وإظهار سوءاته، ومن أنذر فقد أعذر، والسلام!»
وتخرج صحيفة «المنجم» على رأس الأسبوع فإذا فيها «يهددنا صاحب جريدة … بكشف مخبآتنا، فليكشفها فنحن لا نخشى أمثاله، ولكن لِيَقُلْ لنا هو عَمَّا يخدع به الأغرار والمفتونين؟ يَدَّعِي هذا الدعي أنه يأتي للناس برتب الدولة وأوسمتها، ما شاء الله؛ فهل يستطيع أن يأتي بأكثر من رتبة «بالا»، أو «رومللي بيكلر بيك»، أو المجيدي الأول، أو العثماني الثاني، وأي شيء كل هذا؟ وفي استطاعة مثل ناظم باشا أو عزت العابد باشا، أو باشكاتب المابين، أو حتى السيد أبي الهدى أن يأتي بمثله، فإن كان يدعي في دار السعادة جاهًا حقًّا، فليجئ لأي كان برتبة الوزارة أو بنيشان الامتياز المرصع، ونحن ننصح لكل من يستهويهم هذا الرجل من طلاب هذين الإنعامين ألا يصدقوه، وقد أديت حق النصيحة، «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله».»
ثم لا تستحي من أن تعالج أهل الصبابة والهوى، وتُبَرِّد ما في صدورهم من نيران الحب والجوى، ولا تستخذي من أن تَكْتُب الرقى لمهجورهم، فما هي إلا لمحة حتى يذل بين يديه من أرهقه بطول الصد والدلال، فإن لم يُسْعِدْه سحرك بشخصه أسعده بطيف الخيال!
أين الشرف أين المروءة؟ أين الدين يا حماة الدين؟ وكيف تسكتون عن هذا الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس؟
فهنيئًا لك وَحْدَك يا رجل ما أنت فيه من ذلة وهوان، ولن تكون عاقبة فِتْنَتِكَ للعالمين إلا الهلاك والخسران!» ا.ﻫ.
وهنيئًا بعْدُ هذا للرجلين كليهما بمن يَحتشد إليهما من طلاب الغنى والجاه والعافية من السقم، والتقلب عفوًا في جميع وجوه النعم!
وهل تستطيع أن تقطع عن الأرض أسباب «النصب» والاحتيال، إلا إذا أَخْلَيْت وجهها من المشعوذين وسواد الأغفال؟
ولن يستطيع العالَم أن يَبْلُغ هذا ولو بعد حين، وسيبقى أبدًا «رزق الهبل على المجانين»!