ولع! …
لبعض الناس ولع غريب بهتاف الصحف بهم وترديدها لأسمائهم، فهم دائبو الجهد في اختلاق المناسبات مهما تَفُهَتْ، ليحملوا عليها أسماءهم إلى الجرائد، وإني لأعرف رجلًا أَتْلَفَ ثروة ضخمة في سبيل بسط الثناء عليه، وترديد اسمه على متون الصحف، كما أعرف موظفين لا شأن لمناصبهم في الحكومة ولا خطر، لقد يسافر أحدهم في غير حاجة، لتنشر له الصحف خبر عودته «بالسلامة» وأنه: «ذهب توًّا إلى مكتبه بوزارة «كذا» أو بمصلحة «كذا»»، تَشَبُّهًا بما يُكْتَب عن كبار الحكام! والله يعلم أنه ما ذهب «توًّا» إلا إلى إدارات الجرائد لتَزُفَّ إلى جمهرة القراء بُشْرَى عودته الميمونة!
وأغرب ما رأيت في هذا الباب أنني مضيت في إحدى الليالي لزيارة صديق لي يتولى رياسة التحرير في جريدة كبيرة فلم أَجِدْهُ، فاستويت إلى مكتبه لِأُثْبِتَ له رقعة بحضوري لزيارته، وبث الأشواق التي جَرَت العادة ببثها، والله يعلم إن كانت مما يَطْوِي القلب أو مما يَنْشر اللسان! وإذا رجل في حدود الأربعين يلبس قَباءً أرسل عليه معطفًا استرسل إلى كعبه، وعلى رأسه طربوش متواضع جدًّا، وكان جاء لينشر في الجريدة إعلانًا يتعلق «بدائرة» مولاه، فلما فرغ من شأنه التمس غرفة رئيس التحرير فدلوه عليها، فأقبل علَيَّ في خشوع وشدة تظرف، وجرى بيننا بحضرة بعض المحررين هذا الحديث:
– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأزكى تحياته!
– محسوبك فلان ناظر زراعة سعادة فلان باشا.
– تشرفنا!
– بس من فضلك …
– من فضلي ماذا؟
– من فضلك يعني …
– من فضلك أنت، ماذا تريد من فضلي؟
– بس تسمح «تنشرني» في الجرنال!
– أنشرك بأي مناسبة؟
– يعني تقول فلان!
– أقول فلان ما له؟
– يعني تكتب فلان!
– يا سيدي، فلان هذا مبتدأ، وكل مبتدأ لا بد له من خبر، فنحن إذ نذكر فلانًا، لا بد أن نقول شيئًا جرى له أو جرى عليه، فكيف تحب أن نقول؟
– تقول: فلان جاء عندنا في الإدارة.
– كل يوم يختلف إلى الإدارة خمسمائة رجل، فلا ينشر عن واحد منهم في الجريدة كلمة واحدة!
– أمال إيه الطريقة عشان أنكتب؟
– ذكر الناس في الصحف إنما يكون لمناسبة كوقوع حادث، أو القيام بعمل عامٍّ أو خاصٍّ له بعض الشأن، كإقامة حفلة عرس، أو مأتم لا سمح الله، ونحو ذلك، فهل عزمْتَ على الزواج؟
– أنا متزوج.
– ألك ولد أقدَمْتَ على تزويجه فننشر لك نبأ عرسه أو خِطبته؟
– ولدي ما يزال صغيرًا.
– إذن فاختنه واحتفل بختانه.
– سبق أن ختنته من مدة طويلة!
– لم يَبْقَ يا صحبي إلا أن تَمْرض وننشر خبر مرضك وإبلالك!
– وحياة النبي يا بيه إن «أَشْيِتِي عَيَّانه»!
– فما شكاتُك؟
– يعني ما فيش مُرُوَّة زي زمان!
– إنما أريد المرض الذي يُلْزم الفراش، ويستدعي الطبيب، ويبعث القلق في الأهل والأصدقاء!
– طيب وأعمل ازاي في الحكاية دي …؟ (وقد أطلقها في قلق وحيرة وانكسار)؟
– قلْتَ لي كيف تصنع؟ وإني لأدلك على السبيل: ما عليك إلا أن تمضي من هنا قُدُمًا إلى البلد، فتتقدم إلى أهلك بأن يُحْمُوا لك الفرن، فتظل قاعدًا بإزائه حتى تتفصد عرقًا، ثم تستحم من فورك بماء بارد، ونحن ولله الحمد في صميم الشتاء، فتأخذك الحُمَّى يومين أو ثلاثة، وتبرأ بعدها فنسوق للقراء خبر مرضك، ونزف إليهم البشرى بشفائك!
فبسط الرجل كلتا يديه، وأدار وجهه إلى السماء، وأقبل يدعو جاهدًا: «الله يخليك، الله يعمر بيتك»!
وانطلق إلى حيث يخرب بيته هو!
شفاه الله إن كان حيًّا، ورحمه الله إن كان في الأموات، وغفر لي في الحالين.
والولع بالذكر في الصحف فنون …!