الغرام المجاني!
هناك في ميادين العتبة الخضراء، والخازندار، والسيدة زينب، وباب الخلق، وغيرها من المواطن التي يَكْثُر فيها الصاعدون إلى مركبات الترام، والهابطون منها، في هذه المواطن ترى طائفة من الشبان ماثلين دائمًا، وقد رَجَّل كل منهم شعره، وأمال طربوشه، وحمَّر شفتيه، وصقل عارضيه وحذاءه، وتأنق في سائر ثيابه، ودلَّى طرف منديل حريري على نهده الأيسر، وراح يتمشى على الطوار «الرصيف» في لين وتكسر، حتى ما ندري حقيقة شأنه: هو فتى متأنث، أم آنسة متفتية؟! ولا يزال ذلك شأنه حتى يقبل القطار، فإذا انحدرت منه سيدة أو فتاة عذراء عليها مسحة من جمال، أسرع فتراءى لها وهو يَصُفُّ خيوط «زره» ويُسَوِّي شعر حاجبيه؛ ويضبط ربطة عنقه، وتأخذ السيدة أو الفتاة سمتها، فيمشي وراءها، فإذا تيامنَتْ تيامَنَ، وإذا تياسرَتْ تياسَرَ خَلْفَها، حتى لتحسبه من بَعْض ظِلِّها، وهو يُتَمْتِم بكلام غير واضح ولا مفهوم، حتى إذا أَمِنَ غفلة العيون، أسرع حتى حاذاها وعرض عليها نزهة في الجزيرة، أو حدائق القبة مثلًا، فلا يكون شأن الحرائر دائمًا مع هؤلاء العشاق إلا السكوت المطلق، أو سوء الرد بالسب والشتم، ومع ذلك فهيهات أن ينثني «صاحبنا» أو يتداخله شيء من الحياء أو القنوط، بل ما يزال على ذلك حتى يُبْلِغَهَا الدار التي تطلبها، ولا يرجع إلا أن تَصُكَّ مصراع الباب في وجهه صكة يُسْمَع لها دَوِيٌّ كهدة الهدم، ويعود إلى «الموقف» الذي اختاره لهواه، وتعاهده لغزله، وفصْد صبابته، وهكذا ما يزال هذا شأنه وديدنه من الساعة الثامنة صباحًا إلى ما بعد الساعة التاسعة مساء!
ولعله، لكيلا يضيع ساعة الهجير في الانقلاب إلى البيت للغداء، إن كان لمثل هذا بيت، يَدُسُّ من الصباح الباكر غَدَاءَه في جيبه فيجرد «للهوى» عامة نهاره وليله!
وإنك لو فَتَّشْتَ نفوس هؤلاء وامتحنت عقلياتهم، لخرج لك مِنْ بَحْثِكَ شيء عجيب: ذلك أنك تَحْسَب أنهم يؤمنون إيمانًا وثيقًا، ويعتقدون اعتقادًا راسخًا أن جميع نساء القطر المصري وساكناته مُبَاحات مبذولات الأعراض لهم، اللهم إلا البغايا فقط، فهؤلاء وحْدَهُنَّ العفيفات الشريفات المصونات، اللائي ينبغي إذا طَلَعْنَ عليهم أن يُطَأطِئوا رءوسهم، ويَغُضُّوا أبصارهم، ويَعْقِدوا ألسنتهم!
وذلك الظن يخرج لك من أنك تراهم لا يَتْبَعون إلا مُحْتَشِمَة في طريقها، مُتَوَقِّرة لا تَتَثَنَّى ولا تتخلع، ولا تُرْسل على الناس نظرًا حادًّا، أما المائعة المترجحة في مِشْيَتها، المُفْتَنَّة في إبداء زينتها، الدائمة التَّلَفُّت إلى يمينها ويسارها، المثبتة نظرها في كل من لَقِيَها، فهذه يولونها ظهورهم، لأنها لا مطمع لهم فيها ولا أمل!
والواقع أنك يا سيدي فيما استنتجْتَ من شأن هؤلاء جِدُّ مخطئ، ولو أَرَدْتَ أن تَقَعَ من أمرهم على الصواب، فاعمد إلى أي واحد منهم، وفتش بأية وسيلة جيوبه، فلن تَظْفَر فيها إلا بثلاثة قروش «تعريفة» على الأكثر، وصورة فتاة رائعة الجمال استلَّهَا من علبة دخان، وكتاب خَطَّه بيده لنفسه، على لسان فتاة تكاشفه بهواها، وتصف ما لحقها عليه من الوله، «وكان الله بالسر عليمًا».
وهذا الخطاب وتلك الصورة هما كل أداته وَعِدَّته في مُهِمِّه، وهما كل وَسِيلَتِه في الإعلان عن نفسه، وأنه مُلْتَقى الأنظار، وقِبْلَة القلوب الولهى عند أصحابه المغفلين!
لهذا لا تراه يَتَقَدَّم إلى بَغِيٍّ! أو نِصْف بَغِيٍّ، لأنها ستجيبه إلى طلبه، وهو يَعْلَم أنه صفر الكف خالي الوفاض! ولو قَدْ تَشَجَّعَتْ سيدة ممن يَتْبَعُهُنَّ، ويضايق أنفاسهن، فسألته أن يجيء بمركبة أو بسيارة «تكس»، ليخرجا للنزهة التي يدعو إليها ويُلِحُّ فيها، لرأيته قد دار على كَعْبه وطار على جَنَاحَيْ نعامة!
•••
ولهؤلاء الغلمان صفاقة عجيبة، وفِتْنة بالنفس مدهشة، وهذا شيء تشهده كُلَّ يوم في شوارع القاهرة وميادينها، فإن الرجل المحترم ليكون في مركبته أو سيارته مع زوجته أو أخته أو بنته، وتقف بهما في بعض الطريق لأي عارض، فلا يستحي الغلام من هؤلاء أن يَقِف في مقابلة السيدة، ويُحِدُّ فيها عينًا ما يختلج لها جفن إلا بالغمزات، وإظهار التصابي، وترى دعوته واضحة صريحة، بحركاته الكثيرة المضحكة، إلى أن تستأذن السيدة أو الفتاة زوجها أو أخاها أو أباها، في النزول إلى «حضرته» لتروي غلتها من غرامها بهذا العاشق «السرِّيح»!
ولقد شَهِدْتُ بنفسي في هذا الباب حادثًا ظريفًا: ذلك أنني ركبت الترام يومًا من المحطة التي أمام المدرسة السنية، وَصَعدَتْ سيدة جميلة واضحة النبل والغنى والحشمة، وأخذت مجلسها في المكان المحرر للسيدات، وما إن رآها «الكمساري» حتى لجأ إلى الوقوف بباب «الحريم»، وجعل يَفْتِل شاربه، وتارةً يُمِيل طربوشه، وأخرى يسوي رداءه الأصفر «الرسمي»، وحينًا يثبت «النمرة» النحاسية في موضعها من عنقه، إذ عيناه وحاجباه أثناء ذلك لا تفتر عن التلعب وشدة التحرك والاختلاج!
ولا يترك هذا الموقف ولا يتحول عنه إلا إذا وقف القطار، وما هو إلا أن ينفخ في زمارته حتى يثبت إلى موقفه، فيصلح من ثيابه ما كَرَّشَت منها حركة النزول والصعود، ثم يعود إلى شأنه مع تلك السيدة، وظل على هذا لا «يَصْرِف لِرَاكِبٍ تذكرة»، ولا يبالي من هبط ومن صعد، حتى بلغ القطار ميدان الأزهار، فثار لهذه الحال ثائر بعض الركاب، وإن سُرَّ آخرون بما وَفَّر عليهم من قروشهم، فوثب إليه من بين الركب رجل غيور من الظرفاء، وصَكَّه على صدغه بجمع يده، وقال له: يا ابن اﻟ … هب هذه السيدة وَقَعَتْ في شَرَك غرامك، وسألَتْكَ النزول معها لنزهة تقضيان فيها حقوق الغرام! فلمن تدفع الآن هذا الخرج المعلق في رقبتك بحمائله؟ وأي فم يقوم مقام فمك لهذه الزمارة التي في يدك؟! فكان اغتباط وكان ضَحِكٌ!
•••
فإذا بَحَثْتَ بعد ذلك عما يبعث هؤلاء الفتيان على كل هذا، مع ما فيه من كدٍّ لا فائدة فيه، وعناء لا رجاء وراءه، إلى ما فيه من الهوان وشدة الابتذال، والتعرض للأذى بالشتم، أو الضرب، أو السجن، فلا ترى الأمر كُلَّه يعدو أن يكون هوايةً (غية) حمقاء لا أكثر ولا أقل، أو كما قال المثل العامي: «اليد البطالة نجسة.»
وصدق من قال: «أصحاب العقول في راحة!»