رسالة الأدب!
من الصيغ التي يَكْثُر دورانُها هذه الأيامَ على أقلام المتحدثين في الفنون «رسالة الأدب أو الفن» و«رسالة الأديب أو الفنان»، تَشِيع هذه الصيغة في حديث المتحدثين في أسباب الفنون، ويَكْثُر دورانها على أقلام المتعلقين بالآداب منهم خاصة، شأن كثير من الصيغ والكلمات التي يَعْتَمِدها بعض الظاهرين من الكُتَّاب لأداء بعض المعاني الطريفة يستحدثونها في العربية استحداثًا، وهذا في القليل النادر، أو يُتَرْجمون بها عن تعبيرات إفرنجية، وهذا في الكثير الغالب، وسرعان ما تَنْتَضِح بها الأقلام، حتى لقد تَنْتَظِمُها أقلام نشء المتأدبين من غير حساب، إلى أن تُمِلَّ بكثرة الابتذال، وإلى أن تَفْقِد معناها بطول تَذْرِيَتِها ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال! وإنك ما تكاد اليومَ تَشُقُّ صحيفة من الصحف حتى تأخذ عينيك من جميع أقطارهما كلمةٌ من هذه الكلمات الدائرة من نحو «القدَر الساخر»، أو «يا لَسخرية الأقدار»، و«رسالة الأدب» أو «رسالة الأديب» وغير ذلك مما تراه فاشيًا في رسائل بعض المتأدبين في هذه الأيام، حتى يكاد يَشيع فيك الاعتقادُ بأن هذه الكلمات أو تلك الصيغ المستطرَفة هي مادة المَقال ومِلاكه، والغرض المقسوم بنظمه والتشمير في وضعه وإنشائه، وإن طلبت تعبيرًا أبلغ دِقَّة وصراحة، قُلْتُ إنك لا تخرج من النظر في بعض هذا إلا بالشعور بأن الكاتب لا يَعْنِي من حديثه شيئًا، وأنه لَمْ يجتمع لتأليف مَقاله ليؤديَ غرضًا، لأنه لا يتراءى له غرض، وأن كل ما يريد من الأمور وما يملك، أن يُزْجِيَ طائفةً من الصيغ والكلمات الطريفة التي أَثَرَها عن بعض مشهوري الكُتَّاب!
هذا غَرَض يَدلُّك بنفسه على مَنْجَمِه، ويهديك — في غَيْر عُسْر — إلى جَوْهر عِلَّته، وهي لا تعدو في الغاية إرخاصَ الأدب وتيسيرَ انتحاله لمن شاء مِنْ أَهْون سبيل، وليس أدلَّ على هذا ولا أبلغَ في الاحتجاج له من شيوع هذه الكلمة التي اتخذناها موضوعًا لهذا المقال، أعني «رسالة الأدب»، وكثرة دورانها على الأقلام!
•••
وبَعْد، فهل للأدب، أو للفن على جهة العموم، رسالة؟ وما رسالته التي يُحَمِّلُها الأدباءَ أو المُفْتَنِّين؟
هذه كلمة فيما أعلم جديدة، أعني أنها لَمْ تَقَعْ لي في كل ما قَرَأْتُ للمتقدمين، فإذا كانت مما سَبَقْتُ به الأقلامَ ولكنها لم توافقني في كل ما أرسَلْتُ فيه النظر، فإن علمي بها على ذلك هو الجديد.
وكيفما كانت الحال، فإنه ما خَفَق معنى هذه الكلمة في ذهني إلا راعني وتعاظمني، فأسرعْتُ إلى ردِّه عنه وتوجيه القول فيه على لغو الحديث، وأَحَلْتُهُ إلى ذلك الضَّرْب الشائع من الألفاظ في هذه الأيام، لا يَضْبِط معنًى من المعاني، ولكنه يُبْذَر فيه على الطرس بذرًا، قصدًا إلى محض التزيُّد والإطراف.
وقبل أن يَهُولك مني هذا الكلام ويَرُوعك، أرجو أن تُطِيل النظر والتدبير في معنى «رسالة العلم أو الفن»، وقولهم: «إن فلانًا أدى رسالة الأدب أو الفن»، فإنك إذا نزلت من فورك على الحقائق اللغوية، استحال عندك أن يكون لشيء من الأدب أو الفن أو ما يجري مجراهما رسالة يُحَمِّلُها الناس أو غيرَ الناس، إنما يُبْرد البُرُد ويبعث الرسل من له عقل وإرادة ورأي في تصريف الأمور، وليس للأدب ولا لسائر الفنون حظ من هذا بالضرورة، كثير ولا قليل!
لَمْ يَبْقَ إلا أن تعود بالتجوز باللفظ والانحراف به عن أصل موضوعه، وتصير به إلى المعنى الأشكل بمراد البُلَغاء، ما دامت علائق المعاني تأذن لك بهذا التجوز والانحراف، وهنا يَتَمَثَّل لك الفنُّ في صورة العاقل المريد القادر على التدبير والتصريف، وتَتَمَثَّل له رسالة يتقدم إلى المُفْتَن بتبليغها إلى من يشاء أو إلى ما يشاء من العالَمين، وأنت خبير بأنه ليس للفن لسان يُتَرْجِم به عما يُريغ من فنون الأغراض، فكيف الحيلة في أن يتقدم إلى الرسل بتبليغ ما شاء من الرسالات؟ اللهم إن له من أسباب البيان، ما هو أفصح وأبْيَن من تعبير اللسان، بل إن له على رُسُله من السلطان ما لا يقاس به سلطان، إن له تلك السطوة الساطية التي تُكْره المُفْتَنَّ إكراهًا وتُرْغِمه إرغامًا على أن يؤدي رسالته، لا يستطيع لِأمْره معصية ولا يجد منه سبيلًا إلى الفِرار!
لقد تعتلج الصور الرائعة في نفس الفنان، ولقد تزدحم في صدره وتَقوى وتشتد في طلب المَفيض والمتنفَّس، ولا تزال كذلك حتى تَتَفَصَّد عنه، ما يكاد يجد في حقنها حيلة أو يكون له في تفصُّدها خيار، فهو في شأنها منفعل أشبه منه بفاعل، إذا صح تعبير أصحاب الفلسفة في مثل هذا المقام.
هذه رسالة الفن، وكذلك يؤديها الفنان!
ذلك بأنهم لم يَصنعوا مثل ذلك الشعر صنعًا، ولا جاءت روعَتُه من التشمير في التجويد والافتنان، ولكنه فَيْض يُفَاضُ على الشاعر مِن عالَم الغيب فيتحرك به لسانه، أو تجري به على الطِّرس بَنَانُه، لا أقول نَزَلَ به جِبْرِيله ولكن وَسْوَسَ به شَيْطَانه!
ولعل هذا المعنى يفسر لنا ما كان يزعم العرب من أن لكل شاعر شيطانًا يُلْهِمُه الشعرَ ويَفِيض به عليه، كأنه حين تَعَاظَمَهُمْ أن يقع للشاعر من فنون المعاني ما لا يتسق في العادة لِفِكْرِه، ولا يَتَعَلَّق به ذهنه، راحوا يلتمسون المصدر من عالَم الغيب، ويَصِلونه بما وراء آفاق الحس، فَفَرَضُوا لكل شاعر شيطانًا يُسْدِي بدائع الكلم إليه، ويُفِيض بروائع الحكم عليه! والله أعلم.
•••
وبعد، فليس هناك شك في أن زعم العرب ذاك خرافة من الخرافة، ثم لقد ترانا من ناحية أخرى قد غَلَوْنا في توجيه كلمة «رسالة الفن» على المعنى الذي وجَّهْنَا، وأن أمرها أرْفق من ذلك وأهْون، وليكن لك في هذا من التقدير ما تُحِبُّ، على ألَّا تُبَالِغ في إرهاق الأفهام، ولا تَغْلُو في النشوز على ذَوْق الكلام، فإنك مهما تجهد في الأمر وتتطلف في الاحتيال له لَوَاجِدٌ للفن رسالة يريد، على أية صورة من الصور، وبأية كيفية من الكيفيات، تَبْلِيغَها للناس، أو على الأقل لمن يجري منهم على عِرْق في ذلك الفن، وأن هذا الفن قد اصطفى من بين أهله فلانًا لِيُبَلِّغ رسالته فَفَعَلَ.
ليكن لك ما تريد من تصوير الكيفية التي يُحَمِّل بها الفنُّ أولئك المُصْطَفَيْنَ رسالته، ويقتضيهم أداءها إلى من بُعِثوا فيهم من العالمين، فإنك على أَلْيَنِ تقدير لَتَجِدُ الخطب جليلًا كلَّ جليل!
•••
هنا يُخيل إلى القارئ الجاد الذي لا يَعْرف أن الألفاظ قد تَعْبَث وأن الصِّيَغ قد تُعربِد أن مصر قد استوى لها في هذا العصر آلاف من العبقريين الذين اصْطَفَتْهُم الفنون لأداء رسالتها فَأَدَّوْها على خير الوجوه، وما للقارئ الجادِّ، أو على الصحيح القارئ الذي يَقْدِر الجد في جمهرة الكاتبين، لا يرى على هذا أن مصر كما تُخْرِج الحب وتَجُود بالقطن، أَصْبَحَتْ كذلك تُخْرِج، ولكن عفوًا بلا بَذْرٍ ولا سَقْيٍ ولا تَعَهُّدٍ، آلاف العبقريين الذين يَحْمِلُون إلى العالَم رسالات الفنون؟ وكيف لا يرى هذا وهو لا يَبْسُط بين يديه صحيفة إلا زَحَم نَظَرَه أسماءُ الحشد الحاشد من هؤلاء الموهوبين الذين يَشْتَعِبُون أقطار البلاد حاملين بريد الفنون إلى أصحاب الفنون؛ على أنك لو اطَّلَعْتَ على كثير من هذه الصحف المنزَّلة على أولئك الرسل؛ بل لو قد اطَّلَعْتَ على أكثرها الكثير لما شَكَكْتَ في أن الألفاظ قد انْحَرَفَتْ عن معانيها بقدر كبير، حتى إننا لو اطَّرَدْنَا في إجالة مثل هذه الصيغ سنصبح بعد قليل من الزمن في أشد الحاجة إلى نقض معجماتنا اللغوية لِنُقِيمَ من جديد كُلَّ لفظ بإزاء معناه الطريف، وإلا اضْطَرَبَت الأفهام، واخْتَلَّ ميزان الكلام.
لقد قُلْتُ في بعض هذا المقال إن العلةَ في هذا لا تعدو في الغاية إرخاصَ الأدب، ولقد تعلم أن هذا الأدب قد تَيَسَّر انتحالُه لمن شاء، وحسبُ المرء في تَقَلُّدِه أن يَتَكَثَّر في المقال بطائفة من تلك الألفاظ والصيغ الطريفة الدائرة، وما دام هذا سبيلَ المرء إلى ادعاء الأدب وانتحاله، فلا شك على هذا القياس في أن الترقي إلى مقام العبقرية وحَمْل رسالة الأدب يُغْنِي فيه أن يَطْبَع كلامًا منثورًا أو منظومًا يَذْهَب به إلى أي غرض أو لا يَذْهَب به إلى غرض ألبتة، وله بعد هذا أن يُضْفِي عليه ما شاء من النعوت والألقاب، وأن يستحيل في طرفة عين من حَمَلة رسالات الفنون والآداب!