بطولة (٢)
رأيت في العدد الماضي من «المصور» بعض صفة سادتنا الإخصائيين هؤلاء «الأبطال»، وعَرَفْتُ كذلك بعض الفروع التي تخصص فيها كل منهم والآن نحدثك عن الأبطال «المُطْلَقِين» أو «العموميين»، وهؤلاء الذين لا تتوافر بطولتهم على فَنٍّ، ولا تقتصر على فرع، ولا تنتهي من أسباب الدنيا عند حد، فهي تتناول كل شيء، ولا ينشز عنها في جميع مظاهر الحياة شيء.
ولعلك رأيت أو سمعت بمحل «سلفريدج» مثلًا في لندرة، ففيه مكتب للسياحة، وفيه مكان لبيع جميع صحف العالم، وفيه مطعم فاخر، وبهو (صالة) لتناوُل الشاي، ومكان للمطالعة، وآخر لِبَيْع جميع المأكولات، وَمَخْزَن كبير لبيع الأثاث القديم، و«صالونات» فاخرة للحلاقة، للرجال والسيدات، وغير ذلك كثير، فإذا أعوزك شيء مما ليس عنده، وافَاكَ به عَجَلًا ولو كان في أقصى أطراف المعمورة، ومثل هذا المحل في بلاد الغرب كثير!
أما أنا فلم أشخص طوال حياتي إلى أوروبا، ولا إلى أمريكا، ولا أستراليا، ولم أَشْهَد حتى بيت المقدس، ولا الصخرة المقدسة، ولا المبكى الشريف الذي تدور حوله كل هذه المعارك بين المسلمين وبين من صَبَّهُم وَعْد بلفور عليهم من الصهيونيين!
ولكن أرجوك يا سيدي القارئ أن تُصَدِّقَنِي إذا زَعَمْتُ لك أنني سافرت إلى بنها، وأعني بنها العسل، وكان هذا السفر من نحو ثلاثين سنة خَلَتْ.
وكُتِبَ لي يومئذ أن أشهد فيها متجر المرحوم إبراهيم باشا عبده (سر) تجارها، يومئذ، فإذا هو أشبه بسوق عظيمة رُفِعَتْ من بين خاناتها ودكاكينها الحدود والحوائل، ومن هذا المتجر تشتري الحرير، و«الباتستا»، والبياض، ومنه تشتري الفحم، والجير، والإسمنت، ومنه تشتري المصوغات الذهبية والفضية، كما تشتري الحديد والخشب والطوب الأحمر!
ثم إنك لواجد فيه حاجتك من الجوارب و«الفانلات»، والقفازات، كما أنت واجد فيه مطالبك من النظارات، وساعات الجيوب، وساعات الحائط أيضًا! ولا تَنْسَ السرر وأصناف الأثاث (الموبليا) وأصص (قصاري) الزهور!
ثم هناك تَجِد آنية النحاس على اختلاف أشكالها وأحجامها، كما تَجِد أصناف العطارة من أولها إلى آخرها، وهناك السمن والعسل، وهناك الزيت والخل والبصل، وهناك كل ما شَئْتَ من أدوات المائدة وفراجين (فرش) الحلاقة، والحلوى، و«الشربات»، و«الكازوزة» والطرابيش، والأحذية، وحلل (بدل) السيدات والرجال والأولاد! وهناك الورق والأقلام والمحابر والمفكرات والكراسات والدفاتر.
هناك كل شيء، ولا شيء إلا وهو هناك!
وتسألني: أكان هذا الضرب من المتاجر في بلادنا مصر؟
وأجيب: نعم، وكان في بنها؛ وكان، كما زعمْتُ لك، من نحو الثلاثين من الأعوام.
وموضع الشاهد في هذا أن صاحبنا «البطل» المُطْلَق أو العمومي، لا يَقِلُّ عن مثل هذا المتجر الضخم العظيم كفاية ولا غنى ولا مواتاة، ولا إسعافًا «للزبائن» بما يريدون من جميع الطلبات!
تُذْكَر أمامه الفروسية في الحرب، فيَذْكُر لك ما أبلى فيها من كر وفر، وكيف سداده في البِرَاز والنزال، وكيف يَحْمِل وَحْده على الجمع الكثيف من الأبطال، ولا تَسَلْ كيف يصنع في هذه الحملة، من قط الرءوس وبري الرقاب «بالجملة»؟
فإذا كان الحديث في النساء وغرام النساء، أَسْرَع فحمد الله تعالى على أن المرحوم «فالنتينو» قد مات وأكله الدود، وإلا لكان الآن في التماس النظرة على رصيف سيدي أبي السعود!
وقل مِثْل هذا وأبْلَغَ منه إذا كان الحديث في جياد الخيل أو في الطعام والشراب، أو في الأثاث والثياب، أو في الصيد والقنص، أو في الحجل والرقص، أو في الموسيقى وفنون النغم، أو في تنسيق الحدائق وتربية الطير والنعم، وادخل فيما شئْتَ أن تَدْخُل فيه، فإنه «ببطولته» ولا شك موافيه، حتى لو عَرَضْتَ لكنس الدار وغسل «الحلل»، لجلى عليك من نفسه في هذا بطلًا أي بطل!
•••
وبعد، فإنني أتشرف الآن بأن أَقُصَّ عليك طائفةً يسيرةً من أحداث بطولات هؤلاء «الأبطال»، سواء أكانوا من الإخصائيين، أم من الشائعة بطولَتُهم الجبارة في جميع شُعَب الحياة.
ولعلك لم تَنْسَ أنه قد سبق لي أن وصَفْتُهُم بكرم الخلق والتواضع، وشدة التوافي للناس، حتى لِمَن لا تَرْبِطُهُم بهم إلا «المعرفة» البسيطة في أضيق الحدود والآن فاسمع أعانني وأعانك الله: لقد تكون جالسًا في مقهى عام كالنيوبار، أو الإسبلنددبار، أو بار اللواء، أو في جروبي قديمه وجديده، أو ليمونيا الحلواني في القاهرة، أو في فرعه في مصر الجديدة، فلا يرُوعك إلا أن يَطْلَعَ على مَدْخَل المقهى «بطل» من هؤلاء الأبطال، ثم تراه قد ثَبَتَ في موقفه لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يتزحزح ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولا يتحرك منه إلا عنق كاللولب، يتجه إلى هنا ثم يتجه إلى هنا، صُنْعَ مروحة الكهربا المتحركة، وقد أرسل «البطل» نظرًا حديدًا يدور بالضرورة مع رأسه حيثما دار، فلا يزال ينقد الجالسين نقدًا، ويَفْحَصُهم فَرْدًا فردًا، فإذا أصاب فيهم بَعْدَ طُول التفقد والاختبار صديقًا أو شِبْه صديق، ولو كان جالسًا فيمن لا يَعْرِفهم — أعني البطل — ولم يَرَهُمْ من قبل، أسرع فأهوى إليهم «كجملود صخر حطه السيل من عل!»، وبادر فسلم على صديقه أو «بحيث» صديقه في شوق ولهفة، ثم استدار فسلم على أصحابه في تأدب وتظرف، قد تزينهما بعض الضحكات الناعمات!
فإن لم يُصِب صديقًا ولا شبه صديق، «فالمعارف» بفضل الله كثير؛ ومهما يكن من أمر، فإن أدبه وتواضعه لَيَأْبَيَان عليه إلا أن يَمُدَّ يده فيُمَهِّدَ له بين الجماعة كرسيًّا، ولو غفلوا هم عن دعوته، أو تجافى بهم سوء الأدب عن أن يبادروا فيفسحوا له في مجلسهم موضعًا، وكذلك تكون مكارم الأخلاق!
ويهبط «الجرسون» ليسأل «البيك» حاجته، فيسرع «البطل» إلى الحَلِف بأنه لا يستطيع أن يتناول القهوة لأنها تسهد ليله، وتطير نومه، أما «الجاتو»، وأما «الكريم بالفواكه»، وأما ما يؤكل على وجه العموم فلا حظ له فيه، فقد أفرط في غدائه حتى أَدْرَكَه البشم، ووقاك الله غَائِلَة التخم، فإن كان ولا بد من شيء والأمر لله، فإنه يفضل «الكازوزة» لعلها تُسَلِّك من مجرى النفَس، ما انْسَدَّ بكثرة الطعام وما احتبس.
•••
ويصيح الجميع في نفس واحد: «الاسباجتي؟!»
ولا أحب أن أطيل عليكم، فقد جلسنا للغداء فإذا حَمَل «قوزي» مُحَمَّر لم تَقْرَبْه النار، بل لقد طمره اللئيم في الرمل حتى نضج وتورد بحرارة الشمس، ووالله! وما لكم علي يمين! إن شرائح لحمه ما تكاد تقترب منها الأنامل حتى تزحف هي إليها زحفًا، فإذا انحدر اللحم إلى الحلق تحلل فيه وسال من نفسه، ما أعوزه قضم ولا هرس، ولا جهدت في علاجه سن ولا ضرس!
ويأذن الله أن ترفع أنقاض هذا الحَمَل، فإذا ديك رومي قد حُشِيَ بالسمان المحشو بالبرغل، أما فرشه فالرز الأحمر، فيه البندق والجوز والزبيب والصنوبر.
وهنا ترى «البطل» المسكين وقد جَحَظَتْ عيناه، واتسعت حدقتاه، واحتقن وجهه، وانتفخت أوداجه، وسال لعابه، وأصبح شدقه كالطبل المشدود، وترى له إلى هذا اختلاجًا عصبيًّا، هل رأيت النمر وقد تهيأ للافتراس، وكشف عن الأنياب والأضراس؟!
ثم يدخل بك «البطل» في باب السَّمَك، حتى إذا خض بك لجج البحار، وأراك القروص وموسى والمرجان والبوري والوقار، عطف بك على قِسْم الخضر حتى أتى على جميع أسواق الخضار! فإذا شاء الرحمن وبلغ الركب غاية السفر في هذه الرحلة، فوصل سالمًا إلى صفحة الخبيزة أو الرجلة، انعطف بالجماعة إلى مَعْرِض الحلوى، فعنده للحلوى مَعْرِض لا يَتَّسِع لمساحته التصور ولا يرتقي إلى حلاوته الخَيَال.
ثم يتحول بك إلى قسم الفاكهة، وهنا يتجلى تواضعه فلا يعرض عليك إلا عشرة ألوان أو اثني عشر لونًا مما صُفَّ على مائدته في غدائه، ولقد تسأل عن هذا الزهد والإقلال، فيكون الجواب الحاضر: «بقي كلام في سرك! أخوك مالوش تقل على الفاكهة!»
•••
ولقد يَعُدُّ لك خمسين أو ستين صحفة من صحاف اللحم والطير، والسمك والخصر، والحلوى، وهي جملة ما تَغَدَّى به في يومه، ومع هذا لا يفوته أن يقف على رأس كل صحفة، فيصف لك كيف طُبِخَتْ وكيف طُهِيَتْ، وكيف قُلِيَتْ وكيف شُوِيَتْ، وبماذا تُبِّلَتْ وبماذا حُشِيَتْ، وماذا عُولِجَتْ به من فنون الصنع، حتى تَمَّ لها كل هذا البدع!
– هذا أيها الإخوان، هو السر في إيثاري «الكازوزة»، ألست معذورًا؟
فيجيبه الجميع: معذور، والله ألف معذور!
ولعل خبيثًا ممن لا يحبون الصدق، ولا يستريحون إلى كلمة الحق، يقول له: والله يا أخي لو شربت مع هذا الخواجة «إسباتس» كله لكنت معذورًا.
فيكون الرد: «مش كده ولا إيه؟ ليلتكم سعيدة لأن عندي ميعادًا مهمًّا!»
•••
وينصرف «البطل» لعله يلقى بعض الأقوام، فيفتح لهواتهم بالحديث فيما أصاب في غدائه من ألوان الطعام! …