فَنُّ الوظيفة؟
تدور في هذه الأيام كلمة «الفن»، تُنْفض نفضًا على كل من له عِرْق في تصوير أو نَحْت أو غناء أو تمثيل، إذ هناك «فن» أدق وأبرع، وأَجْدَى على «الفنان» وأَنْفَع، ومع هذا لم يَعْرِض له النَّقَدَة، ولا هَتَفُوا به في مقالاتهم، وإن شِئْتَ أن تَعْرِفَه، فهو «فَنُّ الوظيفة».
و«فن الوظيفة»هذا — شرح الله صدْرَكَ، وأطال عمرك، ورفع في المناصب قَدْرَكَ — فَنٌّ واسع الأطراف، رحب الأكناف، مُؤَصَّل الأصول، مُفَصَّل الفصول، مُقَعَّد القواعد، مُبَسَّط الأمثلة والشواهد، لا يَحْذِقُه الفتى إلا بَعْد الجهد وشدة المطاولة، وسهر الليالي في التفكير والتدبير، وتمرين الأعضاء في كيفية القعود والقيام، والسكوت والكلام، والدخول والخروج، والهبوط والعروج، والتشييع والاستقبال، والخنوع والاستبسال، والانقباض والتبسيط، والرضا والتسخط، وإرهاف الأنف حتى يَشَمَّ الريح على أميال، ويُدْرِكَ مدى تَحَوُّل الجو مِنْ حال إلى حال.
وهذا «الفن» الجليل لا يَكْفِي في تحصيله والتبريز فيه كل هذا؛ بل لا بد من التهيؤ والاستعداد، وأن يكون للمرء طبيعة وموهبة، شأن سائر الفنون الجميلة!
ومن أُولَى مزايا هذا «الفن» الجليل تخليد «الوظيفة» للفنان على الزمان، ولو عَصَفَتْ أحداث السياسة بِلِدَاتِهِ جميعًا! ومنها الوثب في الدرجات مَثْنَى وثُلَاث ورُبَاع، وخُمَاس وسُدَاس وسُبَاع.
وإني لأعرف طائفة من هؤلاء «الفنانين» مَهَّدَ لَهُم «الفن» الدَّرَج كُلَّه، فتناولوه وثابًا في كل وزارات: عدلي، وثروت، ونسيم، ويحيى، وسعد، وزيور، وعدلي، والنحاس، ومحمد محمود، حتى بلغوا القُنَّة بدقة الفن وحْدَه، ناعمين بثقة الجميع، ولا إيمان لهم بواحد من الجميع!
ألا حَيَّا الله هذه الهمم، وحيا معها تلك الذمم!