امتحان! …١
أَنْكَدُ أيامي في القضاء الشرعي، هي تلك الأيام التي قضيتها في محكمة «كذا» الجزئية التابعة لمحكمة «كذا» الكلية، ولهذه المحكمة رئيس وافر الذكاء شديد المكر، وفيها نائب وقاضٍ لا أَصِفُهُمَا إلا بما جرى بيني وبينهما في هذا الحديث.
في يوم أيوَمَ تلقَّيْتُ كتابًا من «الرياسة» بندبي إلى «الكلية» لتكملة «الهيئة» لجلسة امتحان المأذونين، وفي اليوم «الموعود» مضيت كارهًا، ورأيت ألا أُضِيع الوقت سدًى، فأنشأْتُ وأنا في الطريق أَضَعُ الأسئلة التي تطلبها لائحة المأذونين، سواء في الفقه الحنفي، أم في الأحكام النظامية للزواج والطلاق، أو في الحساب، أو الإملاء، أو الخط، وسَوَّيْتُ كل سؤال على صورة حادثة مما يعرض للمأذونين في مهنتهم كُلَّما دُعُوا إلى زواج أو إلى طلاق.
وبَلَغْتُ المحكمة فإذا حُجْرَتها الكبرى تموج بحضرات المتقدمين للامتحان، وقد كُبُّوا على الأرض كبًّا، وأعني الأرض نَفْسَها لأنها متجردة ليس عليها بساط ولا حصير، وهم بين متربع، وبين مُقْعٍ، وبين معتمد على كعبيه وقد تعلق سائره، وبين جالس على إحدى ركبتيه، وفي يمين كل منهم قلم، وفي يساره كاغد وبين يديه دواة من فخار، وفي صدر الحجرة دكة انحط عليها صاحبا الفضيلة النائب والقاضي، والجميع جاثمون في انتظاري، فاتخذْتُ لي بين الشيخين مجلسًا، وأومأت إليهما فتجمعت رءوسنا نحن الثلاثة، وقلْتُ لهما هامسًا: لقد هيأت أسئلة الامتحان، فإذا راقَتْ لكما ألقيتُهَا على المشايخ، وبذلك يتهيأ لي أن أعود إلى محكمتي في الحال، ففيها عمل كثير يحتاج إلى طول علاج، فقالا: هات ما أعددْتَ؛ فتلَوْتُهُ عليهما؛ فهبَّا في نفَس واحد:
لا، لا! وهَتَفَ النائب عن يميني: نحن لا نوافق، فرجع القاضي عن شمالي: أبدًا أبدًا! وهمس النائب: «إحنا ما نخرجوش عن اللائحة»، فردد القاضي، بعد أن رَفَع كلتا يديه حتى حاذتا فَوْديه، وأهوى بهما على فخذيه: «لا لا، ما نقدرشي نخرج عن اللائحة»، فحَقَنْتُ غيظي وقُلْتُ لهما في رِفْق: فما حكم اللائحة في ذاك؟ فدعا النائب باللائحة فجاء بها الحاجب ودفعها إليه، ففرها حتى وَقَعَ منها على الفصل الذي تجري فيه أحكام الامتحان، وتلا ما معناه: يؤدي طالب المأذونية امتحانًا في أحكام الزواج والطلاق وما يتعلق بهما شرعًا ونظامًا، وفي الإملاء والحساب والخط، ثم أقبل علي وقال: أَرِحْ نفسك، فقد وَضَعْنَا أسئلة تَنْطَبِق على أحكام اللائحة تمامَ الانطباق، قُلْتُ: فهاتها.
- السؤال الأول: ما هو الفقه على مذهب أبي حنيفة؟
- السؤال الثاني: ما هي الأحكام النظامية للزواج والطلاق؟
- السؤال الثالث: ما هو الحساب؟
- السؤال الرابع: ما هو الإملاء؟
- السؤال الخامس: ما هو الخط؟
وهنا لم تَعُدْ جدران صدري تَقْوَى على حَقْن الغيظ، فانفجر انفجارًا وَصُحْتُ فيهما: ما الخط؟ أجيبا أنتما عن هذا السؤال! فأجابا في نَفَس واحد، لا نخرج عن اللائحة، لا نخرج عن اللائحة! فقلت لهما: «وإني لأول مرة أُفْشِي سِرَّ مداولة» إنني غير موافق، فصاحا: ولكن الأمر تَمَّ بالأغلبية، فقُلْتُ لهما: إذَنْ فامضغا هذه الأغلبية، وتركتهما ونهضْتُ من فوري أَطْلُب وزير الحقانية لأتغداهما قبل أن يَتَعَشَّيَانِي، وكان صاحب الدولة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، وقَصَصْتُ عليه القصة، فضحك رحمه الله حتى انكشف ناجذه.
ولم يصارحني برأي، على أنني قد اطمأننت إلى أنني لن يَمَسَّنِي سوء من أَثَرِ فعلي، وأَحْمَد الله تعالى أن أحد هذين الشيخين قد خَرَجَ بالسن، ولا أدري ماذا صَنَعَ الله بالآخر، وأمثالُهُمَا — لا أكثر الله من أمثالهما — في القضاء غير كثير.
وهنا مسألة يجب أن تُثَار وأن يُبَتَّ فيها بالرأي: إذا مَالَتْ أغلبية القضاة إلى حُكْم واضح الشذوذ أو ظاهر السخف، فهل يَحِقُّ للقلة أن تَنْسَحِبَ ضنًّا بكرامتها على الابتذال، أو يجب عليها الخضوع لِحُكْم الكثرة طوعًا لظاهر نَصِّ القوانين؟ اللهم إن كان الثاني فيا ويل الأقليات من الأكثريات!
ولعل لي عودة إلى بعض ما عانيت من هؤلاء في محنة القضاء!