بين القاضي والمأمور
كان قد وَقَع خلاف في الرأي في مجلس ببا الحسبي بين القاضي الشرعي ومأمور المركز أثناء نَظَرِ إحدى القضايا، ثم استحال الجدل إلى مهاترة، فمشاتمة، فاشتباك بالأيدي، وقد كان الضرب الذي كاله المأمور لصاحبه قاسيًا مؤلمًا، ولولا لطف الله، ودخول الحاضرين بينهما، لكانت فيها نفس القاضي المسكين. وقد كتب المؤلف هذه الكلمة عقب الحادث، ونشرها في «الأهرام» في يونية سنة ١٩١٦.
سَبَقَت «الأهرام» إلى ذِكْر تلك الحادثة الجلية التي وقعت في مجلس ببا الحسبي بين فضيلة القاضي الشرعي وحضرة مأمور المركز.
ونحن لا نَجْزَع من تهاتر اثنين ولا من تضاربهما، فإن جرائد البوليس وجداوِل المحاكم، تحتفل كل يوم بما لا يُحْصَى عديدُه من حوادث السب والقذف، والطعن والقتل، ولكن جَزِعْنا أنَّ قاضيًا تأدَّب بأدب الشرع، وقَرَأَ المنطق، ودَرَسَ آداب البحث والمناظرة؛ ومأمورًا أَخَذَ القانون، ووَلَّتْه الحكومة القيام على الأمن، وتنفيذ الأحكام، وصيانة الآداب — يجمع بينهما مجلس الحكم والولاية، ويتفرغان للنظر في شئون الأيتام، ومصالح العاجزين عن تدبير أموالهم، ليقضيا فيها بحكم الله — فإذا اختلفا على رأي، وافترقا في النظر إلى مصلحة، حَصِرا على إيراد الحجة، وعَيِيا عن تأييد الرأي بقوة الدليل، ولم يَطْلُبا من وسائل الفلج وأساليب الإقناع إلا التلاحي بالألسن، والتصافح بالأكف، والتضارب بالعصي، والترامح بالأرجل، ونعوذ بالله.
يقعد المأمور في صدر المجلس الحسبي، والقاضي عن يمينه، والأعضاء الأعيان عن يساره، والجند والحُجَّاب، آخذون مذاهب الأبواب، ولا أقل من ثلاثة نفر أو أربعة من عُمَد البلاد ووجوهها، وفدوا لبعض شأنهم في المركز — ولو لمحض بث الشوق إلى «البك» المأمور.
ولو أَجَلْتَ طَرْفَك قليلًا لوقع في زاوية الغرفة على جناب مفتش البنك الزراعي، وهو مُقْبل بالحديث على حضرة المعاون حتى يأذن الله بالفراغ من تلك الجلسة، أما الصراف فمشغول بالتسلل بين الكراسي والمكاتب، وطلب الطريق إلى «سعادة» المأمور، ولو من فوق رءوس الأطفال، أو من دون آباط الرجال، فلا يكاد ينفلت من مأزق إلا إلى مأزق.
وفي بهرة القاعة «أم القُصَّر»، وقد تعلق الثلاثة الأيتام بذيلها، وإلى جانبها حماتها أم الفقيد وأخواه، وأمامهم شيخ البلد والشاهدان، ومن خلفهم أهل القرابة غير الوارثين، ووراء الجميع جمع من الحُجَّاب، يدفعون أصحاب القضية الثانية بالأيدي والمناكب إلى ما بين يَدَي الباب، حتى إذا فرغ المجلس مما بين يَدَيْه أخذ ينظر في شأنهم، «فلا يرسل الساق إلا ممسكًا ساقًا».
وفي بهو «المركز» من الأيامى والأيتام، والأوصياء والقوام، وذوي القربى ومشيخة البلاد وغيرهم من المعدلين، والمزكين، والشُّرَط والعَسَس، والأصحاب والأتراب، عدد الرمل والحصى والتراب.
في هذا المشهد الجليل، والموقف العظيم الحفيل، اختلف الشيخ والمأمور، فتحاورا وتناظرا، فدل الشيخ بشرف المنصب وتاهَ بجلالة الموضع، واعتز بحُرْمة الشرع الكريم، واستطال المأمور بأُبَّهة الرياسة، وباهى ببسطة النفوذ، وكاثر بمن حوله من الحرس والجند، حتى إذا نفذ ما أعداه من المكاثرة والمفاخرة وما فتح عليهما في فنون المجادلة والمهاترة، وثارت الحمية في النفوس، وتوثَّبَتْ الحفيظة في الصدور، عُقِدَت الألسنُ عن السب والشتم، وتَحَرَّكت الأيدي بالضرب واللطم، وجعلت العِصِيُّ تتهاوى على الرءوس والمناكب، كما تتهاوى في الليل البهيم الكواكب، والناس في أمر مختلط: فمِنْ جندي يتهيأ للقتال، ويتحفز للنزال، ومن خود يطلبن الأبواب، وفتيان ينظرون لمن يكون الظفر والغلاب، ومن شيخ يضج، وعجوز تعج، وطفل مذعور، وغلام يصفق من الطرب والسرور.
أما حاجب المحكمة، فقد «اختفى من الأثاث في البرم»، وانتهت المعركة ببطش المأمور بفضيلة القاضي الذي خر صريعًا، بعد أن صُدِعَت ساقه، وخُمِشَت أشداقه، وكُسِرَت ذراعه، واخْتَلَفَت أضلاعه، وكذلك ظهرت القوة على جلال الفضل، وعُقِدَ لها لواء النصر في المعركة الأولى، ولا يدري إلا الله لمن يكون الغلب في المعركة الثانية، بين يدي النيابة إن شاء الله!
تفرَّقَ الجميع، ونفر الناس إلى بلادهم قانعين بسلامة الإياب!
أما حديث الموقعة، فتسمعه مُفَخَّمًا مجسمًا من شهود الرؤية، سواء في مجامع الشيوخ على المصطبة، أو الشبان في الحقل (الغيط)، أو الفتيان في البيدر (الجرن)، أو النساء على المورد (الموردة)، أو الأطفال على سيف الترعة، ويا له من حديث، حديث تضارب الحكام، في مجلس الولاية والأحكام.
•••
وبعْدُ فإنه لا غَناء للقاضي الشرعي عن حضور المجلس الحسبي كل أسبوع مرة لأنه عضو فيه، بل لأنه الذي يقيم — بحكم موضعه — من يجتمع الرأي على إقامته من الأوصياء والقوام، فما عسى أن يَصْنع القضاة بعد الآن وقد سَنَّ مجلس ببا الحسبي سُنَّة جديدة في تَبَادُل الآراء وتَدَاوُل الأفكار، وهم كما يَعْلم الناس قاطبة قوم نحاف الأجسام، رقاق العظام، لا حيلة لهم عند الخصام، ولا سداد لهم في موقف المقارعة والصدام، أما المأمورون فهم جند أو أشباه جند، صلابة عود، وقوة ساعد، وشدة منة، وقد ازدادوا بطول الرياضة والتمرين بأسًا عند مقارنة الأقران، وصولة في يوم الكريهة والطعان!
الرأي عندي أنه ما دامت الحكومة مبقية على القضاة، وما دام يجتمع في المجلس الحسبي مثل قاضي ببا ومأمورها، فلا مندوحة لها عن اختيار واحدة من ثلاث:
فإما أن تختار القضاة الشرعيين من خريجي المدرسة الحربية، حتى تتكافأ القوتان، في فنون الضرب والطعان!
وإما أن تأمر بألا يُعْقَد المجلس الحسبي إلا إذا استوثق الأعضاء من كتاف المأمور، فلا يصل شَرُّه إليهم، ولا تَضُرُّ صولته عليهم!
والثالثة أن تخرج للقضاة الشرعيين، بَدَل الأوسمة التي تطبعها لهم، دروعًا تَقِيهم بأس المأمور وأذاه، وتعصمهم من كَفِّه وعصاه؛ وإلا فالتخلف عن الحضور، أَخَفُّ من كف المأمور، والدخول في مجلس التأديب، أَهْوَن من الدخول في هذا المعترك، والوقوع في هذا الشرك!