الفصل الخامس
نظريات الحرية في العالم اللاحتمي
(٢٤) كفانا دورانًا في الدائرة المفرغة أو نفخًا في قربة مثقوبة، كما
يقول العوام. المسألة أبسط من أن تستحق كل هذا سواء نظرنا من اليمين أو
من اليسار، فلا حرية في العالم الحتمي. وإذا أردنا إثبات الحُرية
إثباتًا متسقًا مع العلم ومع العقل حتى ننفذ من طرفين كليهما مر: إما
اللاحرية، وإما الانقسام على العلم والعقل وعلى النفس وعلى الواقع …
وإذا أردنا ذلك فإنه لا خروج البتة من بين طرفي أو قرني هذا المعضل،
إلا بنفي أصلهما: نفي الحتمية الكونية.
بعبارة أخرى: لا حرية أنطولوجية إلا مع اللاحتمية، شريطة أن تكون
لاحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية في آن واحد، وليست لاحتمية إبستمولوجية
فقط كتلك اللاحتمية الفرنسية.
ولكن، من أين وكيف نجيء بمثل هذه اللاحتمية؟ إنه الأمل المفقود مع
العلم الحديث الكلاسيكي أو النيوتوني، والذي تحول إلى واقع أنطولوجي في
العلم المعاصر … علم النسبية والكوانتم، الحُرية لا تأتي إتيانًا
حقيقيًّا إلا حين يكون الواقع أنطولوجيًّا لاحتميًّا، والعلم به
إبستمولوجيًّا لاحتميًّا، فها هنا الحُرية الحقيقية والحديث المشروع
عنها، وعن كل أبعادها وإيجابياتها وعلى رأسها المسئولية الخلقية
والجِدة والإبداع.
لقد انتهى الفصل السابق بنهاية القرن التاسع عشر، معنى هذا، أنه
يمكننا الآن أن نحط الرحال في القرن العشرين حيث نجد الطريق إلى
الحُرية الأنطولوجية معبدًا ممهدًا، إنه التمهيد الذي تكفَّل به تمهيد
الكتاب أو المدخل الذي أوضح كيف انتقل العلم من الحتمية إلى
اللاحتمية.
•••
(٢٥) سنستضيف الآن وطبعًا بمزيد من الترحاب والتفصيل، أهم فلاسفة
الحُرية في العالم اللاحتمي، وتفرض طبائع الأمور أنهم فلاسفة القرن
العشرين الآتي في إثر مد عقلي جعله يظفر باللاحتمية الأنطولوجية
المؤسسة عقلانيًّا تأسيسًا راسخًا مكينًا على لاحتمية إبستمولوجية، هذا
حق ولكن ثمة طبيعة أخرى للأمور لا تقل حقيقية، وهي أنه لا شيء ينبت من
فراغ والبحث عن الأصول التاريخية مهمة أساسية في كل بحث فلسفي
متكامل.
وهذه على أية حال مهمة لن تصعب علينا؛ إذ نجدها في صفاء بلوري مع،
وفقط مع، أبيقور وبصورة معجزة، حتى إن أساسها اللاحتمي يبهر العلماء
المعاصرين، والحُرية فيها واقعة أنطولوجية أكيدة، ولم يلقَ أبيقور إلا
الاستخفاف والاستهانة إن لم نقل الازدراء، فقبع في زاوية مهملة من
تاريخ الفلسفة وراحت الحُرية في غياهب الليل الحتمي الطويل، والذي
فصلنا الحديث عنه فيما سبق أيما تفصيل.
وبعد أبيقور نغادر الأصل التاريخي، لنقبل على إشراقة اللاحتمية في
القرن العشرين، فيأتي أهم فلاسفة الحُرية وليام جيمس المخضرم الذي عاش
حياته في قلب مرحلة الانتقال من الحتمية إلى اللاحتمية العلمية، إنه
فيلسوف عظيم وعالم في الوقت نفسه، أخلص للفلسفة إخلاصه للعلم، وأبدع
فيها وأسدى إليها وأضاف إليها، حتى إنه بفضله قد أصبح ثمة أخيرًا كيان
مستقل ذو شخصية متميزة تمامًا ألا وهو الفلسفة الأمريكية؛ لكل هذه
العوامل أوليتُه عناية كبيرة.
وبتوديع وليام جيمس، نتوجه إلى قلب القرن العشرين إلى عصر اللاحتمية،
ولما كان العلم هو صاحب الفضل في هذه اللاحتمية، ولما كنا علميين نبحث
عن الحُرية من المنظور العلمي، ولما كنا قد أهملنا — إلى حد ما —
العلماء خصوصًا الفيزيائيين طوال حديثنا السالف عن الحُرية وبعد أن
تعاهدنا وتعاقدنا معهم في مقدمة البحث على أن يكون لهم حق الحديث أولًا
ونحن لا نريد أن ننسخ العقد ولا أن ننقض العهد … لهذه العوامل سنعرض
لنظريتين فلسفيتين للحرية في العالم اللاحتمي هما لعالمين فيزيائيين
عظيمين، ذوي اهتمامات فلسفية لا تقل عظمة، إنهما آرثر إدنجتون وهولي
كومتون، ثم نردف هذا بالنظرية العامة للحرية في العالم اللاحتمي، غير
المقترنة بفيلسوف معين، إنها الاتجاه الفلسفي الموسوم باسم
Libertarianism الذي وضعت له ترجمة
لم أجد أفضل منها هي: مذهب الحريين، وقد تناولته بصورة واسعة بحيث لا
يعود مذهبًا أخلاقيًّا فحسب، بل مجرد اتجاه يعبر عن الاعتراف بالحُرية
في — وفقط في — العالم اللاحتمي، ويبدو هذا وكأنه مسلمة فلسفية أو أصل
من أصول التفكير الفلسفي بغير الاقتران بأي اتجاه.
•••
(٢٦) «في الأبيقورية»: «تنحرف الذرة أيسر انحراف؛ لكي توجد الأجسام
والكائنات الحية والمصادفة فلا تضيع إرادتنا الحرة» كما يقول بلوتارخ،
وقد كان إمامها أبيقور
Epicurus
(٣٤١–٢٧٠ق.م.) أول فيلسوف في التاريخ حاول إدخال عنصر المصادفة
الموضوعية في بنية الطبيعة؛ لكي يكسر الحتمية الفيزيقية والضرورة
الكونية فيستطيع إثبات حرية الإنسان، فقد أدرك أولًا الأهمية القصوى
لمقولة الحُرية، وأنها واقعة معاشة جياشة في الصدور، وأن أي «مذهب في
فلسفة الأخلاق لا بد وأن يضع مصادرة حرية الإرادة كي ما يصبح فعالًا»،
١ وأدرك ثانيًا: «أننا لكي نصون حرية الإرادة لا بد وأن
نقرَّها في صميم أساس العالم الفيزيقي»،
٢ أدرك إذن الارتباط اللزومي بين الحُرية الإنسانية وبين
اللاحتمية الأنطولوجية فاستطاع أن يحل الإشكالية بفرض أسماه
الانحراف الذري
Atomic Swerve،
وأبيقور بهذا الفرض، صاحب الفلسفة الطبيعية الوحيدة في الفكر القديم
التي استطاعت الوصول إلى اللاحتمية فانحل معها معضل الحُرية، وقد سبق
أن استضفنا إمام الذرية ديموقريطس في المدخل إبان الحديث عن تاريخ
الحتمية العلمية ورأينا مدى تمثيله المعجز لها، يبدو إذن أن الفلسفة
الذرية الإغريقية بتمهيدها للعلم تحمل أكثر مما قد يبدو للوهلة الأولى،
فتمامًا كما كان العلم الذري صاحب الفضل الأول في كسر الحتمية
الفيزيقية التي ورثها عن العلم النيوتوني وذرية دالتون، نجد أن الذرية
الهلينستية/ذرية أبيقور هي صاحبة الفضل في كسر الحتمية الفيزيقية التي
ورثتها عن ذرية ديموقريطس والفلسفة القبل سقراطية، فهل يمكن أن نعتبر
مبدأ الانحراف الذري لأبيقور مناظرًا لمبدأ اللاحتمية في الفيزياء
المعاصرة؟ ولم لا؟ لقد كان هذا الأخير أصلًا من أجل النسق الفيزيائي
إبستمولوجيا؛ فأدى تحققه الموضوعي إلى صورة أنطولوجية تحل معضل
الحُرية، وقد كان، الأول هكذا إلى حد ما، ولئن بدا لنا ساذجًا فجًّا
فلأنه في عصر فيه كانت الفيزياء بأسرها ساذجة وفجة، وكما أشارت
الدكتورة أميرة مطر، أننا إذا نظرنا إليهم بمنظار عصرنا كنا أحق، ولكن
لو نظرنا إليهم بمنظار عصرهم سنكون أعدل، وأردفت هذا بالدعاء: «رباه
اكتبني من العادلين.» فلنكن عادلين وننظر إليهم بمنظار عصرهم.
والذي يهمنا الآن أن المشكلة المطروحة — وأيضًا حلها — قد تراءت
لأبيقور بوضوح ناصع، ولدرجة تمكننا من أن نعده رائدًا لكل الفلاسفة
المعاصرين المعنيين بهذا.
•••
(٢٧) وقد يُفاجَأ البعض بتخويل مثل هذه الريادة لأبيقور؛ لأنه فيلسوف
شاهت صورته في نظر العامة حيث نجد الأبيقورية سبة ووصمة بالتسيب
والانحلال، وقد يعود ذلك إلى حاقدين راموا الإساءة إليه، وعلى رأسهم
تيموقريطس Timocrates الذي كان
تلميذًا له ثم طرده، فترك مدرسته حانقًا عليه، وأيضًا الرواقيون؛
فلأنهم خصومه الفلسفيون فقد عملوا على تأكيد أن فلسفة أبيقور ضعيفة
فلسفيًّا ولاأخلاقية، فشاعت صورة خاطئة مفادها أن الأبيقورية فلسفة
سطحية ومريضة لأنها تدعو إلى الإقبال على اللذة، والحق أنها ليست
هكذا.
كل ما في الأمر أن أبيقور رفض قول أنتستيز الكلبي: «إني أوثر أن
أبتلى بالجنون على أن أشعر باللذة.»
٣ ورفض دعوة الكلبية بوأد الذات وتعذيب النفس بالحرمان
والتقشف؛ لذلك تلحق الأبيقورية عادةً بمربع الذين يناهضون الكلبية، أي
قورنائية أريستبوس، والحق أن المدرسة القورنائية هي التي لها فعلًا هذا
الشأن، شأن الفلسفة السطحية المريضة التي تدعو للرثاء؛ لأن مفهوم
الحياة عندهم تقلص في اللذة الحسية الوقتية، ووظيفة الفلسفة تركزت في
الدعوى إلى الإقبال الشبقي عليها.
أما الأبيقورية فبعيدة عن هذا، إنها فلسفة مستنيرة متبصرة، لم تر
التمتع بطيب الحياة مستحقًّا في حد ذاته للعداء، بل فقط للتنظيم
والمفاضلة، صحيح أن أبيقور قد أقر باللذة الحسية؛ لأن الإنسان كالحيوان
من حيث إنه بفطرته يتجنب الألم ويطلب اللذة، وإن استخدم عقله في هذا،
وإنه اعتبر كل لذة خيرًا ما لم تقترن بألم، إلا أن أبيقور قد توخى
اللذة التي تدوم، أي دعا إلى الحياة السعيدة، فرأى أن يحرص الإنسان على
ألَّا تستعبدَه رغبة شخصية أو لذة فردية وأوجب أن يسيطر على شهواته
ويتحكم في أهوائه، وآثر اللذات الروحية والعقلية على لذات الحس، وزاد
فرفع الصداقة وحب البشر والتسامح فدعا إلى حسن معاملة الرقيق، وأوصى
بعتق جميع عبيده، وعلَّم عبده موسى Mouse الفلسفة، حتى برز فيها فأعتقه، تسامحه النفسي
هذا جعل العبيد ينضمون لمدرسته بل وحتى الغواني، فتمكن خصومه من
التشهير به، بأنه يرافقهن.
لقد وضع صورة للحكيم الأبيقوري وهو يتطلع إلى حالة الأتراكسيا: أي
حالة الخلو من الألم والسعادة المتصلة والطمأنينة الدائمة، مستمدًّا
إياهما من باطن نفسه، ومستخفًّا بالظروف الخارجية حتى ولو كان — بتعبير
أبيقور — فوق آلة التعذيب، وحريصًا على البشاشة والبساطة والاعتدال والتعفف،
٤ وأيضًا حريصًا على الإقلاع عن اللذات الكمالية، فقد قسم
أبيقور اللذات الحسية إلى: ما هو طبيعي وضروري كالأكل، وما هو طبيعي
وليس ضروريًّا كاللذة الجنسية، ثم ما هو لا طبيعي ولا ضروري كالرغبة في
مأكل أو ملبس معين وهذه ينبغي الزهد فيها،
٥ والزهد أيضًا في المال والصيت والطموح وكل ما من شأنه أن
يجلب الهموم، كالزواج والمناصب السياسية.
٦
وعلى هذا النحو كانت دعوة أبيقور للإقبال على الحياة متبصرة ومعقولة
بل ولا تخلو من عنصر الزهد، ثم إنه هو نفسه كان رجلًا فاضلًا متعففًا
بأتمِّ ما في الكلمة من معانٍ، أخذ على نفسه بالزهد في المأكل والملبس
ولم يتخذ زوجة، وكان يقنع بالخبز الجاف والماء، وكتب إلى صديق له يطلب
قطعة جبن حتى يجد مأكلًا حسنًا حين يتوق إلى ذلك، عذبه المرض طويلًا
فاحتمله برباطة جأش وصبر؛ لهذا أقامت له مدينته عشرين تمثالًا من
البرونز، وأكد ديوجين — المؤرخ الثقة لسير الفلاسفة القدامى — أن التهم
التي وجهت له كاذبة،
٧ إنه بحق الفيلسوف المفترى عليه.
وثمة سبب قوي واحد لذلك التشهير الذي لحق به، هو إصراره على التخلص
من الآلهة، وسلبها أية قدرة على توجيه العالم والحياة الإنسانية؛ لذلك
لقبه رجال الكنيسة منذ بلوتارخ وحتى لوثر بلقب: الفيلسوف الملحد
بالمعنى الآثم،
٨ وساعدوا على إذكاء هذا التشهير طوال العصور الوسطى.
•••
(٢٨) ولكن حتى في هذا لو تلمسنا طبيعة العصر وطبيعة الديانات وطبيعة
الفلسفة في عهد أبيقور لتمكنَّا من ناحية أن نلتمس العذر له، ومن
الناحية الأخرى الدخول في جوهر ما يعنينا من فلسفته، وهو بالطبع ليس
الدفاع عن شخصه، وإنما عن رؤيته المتكاملة للمشكلة القائمة بين الحتمية
الكونية والحُرية وعن التلازم القائم بين اللاحتمية والحُرية.
فقد كان العصر الهلينستي عصرًا هائجًا مضطربًا، تميز بانعدام الأمن
والعنف والقلق، فالتمس الناس الخلاص في عبادة آلهة الحظ والبخت (التوخا
والفوتونا)، وأصبح الباعث على التفلسف الرغبة في الهروب من متاعب
الحياة وشرورها؛ لذلك أراد أبيقور نفي الآلهة لما تثيره من مخاوف
كمفاجآت القدر وتوجس الحساب والعقاب، ولكيلا توجد قوة تضمر للإنسان
شرًّا ولا خيرًا فتثير قلقه.
ومن أجل هذا عمد أبيقور إلى تفسير الكون تفسيرًا ماديًّا محضًا
باستبعاد الآلهة، فتصبح «الطبيعة حرة تسير من تلقاء نفسها بلا سادة
متحكمين وفي غير حاجة لمعونة الآلهة»،
٩ واستبعد أيضًا الغائيةَ والعلةَ الخارجية من كل شيء حتى من
تفسير نشأة الحياة وتطوُّر الكائنات الحية فرأى أنها نشأت على الأرض،
بحيث بقي منها الأصلح واندثر غير الصالح،
١٠ إن الكون في رؤية أبيقور مادة خالصة، وكل شيء فيه مادي، له
علة مادية وأقرَّ بأن المجموع الكلي للأشياء لا يزداد بإضافات جديدة،
وأن كمَّ المادة لا ينقص بخسارة مطلقة، فالشيء المنفرد لا يتحطَّم
نهائيًّا بل ينحلُّ إلى الذرات المكونة له، وهذه هي الفكرة المعروفة
حديثًا باسم مبدأ بقاء المادة.
١١
ولتشييد مثل هذه الفلسفة المادية، استفاد أبيقور من مادية الأيونيين،
١٢ وأخذ بذرية ديموقريطس القائلة إن الكون يتكوَّن أساسًا من
عنصرين: الذرات والخلاء، وكل الموجودات الأخرى مركبة منهما فانتهى إلى
أن الكون أزلي فلا يوجد شيء من العدم ولا ينتهي شيء إلى العدم، وأن
هناك عددًا لا نهائيًّا من الأكوان تتكوَّن وتفنى من عدد لا نهائي من
الذرات المتحركة في خلاء لا نهائي،
١٣ وعلى الرغم من أن الذرات جميعها في حركة دائمة فإن مجموعها
يبدو وكأنه يقف بلا حركة، وهي تبدو لنا هكذا لأن الذرات تقع بعيدًا عن
مدى حواسنا،
١٤ وهي لهذا مجردة في حد ذاتها من كل الصفات الحسية، مجردة من
لون وحرارة أو برودة وأصوات أو روائح أو طعوم؛ على ذلك فما يبدو
محسوسًا هو في حقيقته لا يعدو أن يكون مكونًا من ذرات غير محسوسة،
١٥ الخاصة الوحيدة التي ينسبها أبيقور إلى الذرات هي الثقل
والوزن.
وإذا كان من المستحيل الشكُّ في الوجود الحقيقي للروح
Soul فينا وفي الآخرين، فإن أبيقور لم يدع
هذا يخلُّ بماديته، فاستهلَّ أبحاثه بتقرير أن الروح جسد، وافترض أنها
مثلها مثل كل الموجودات الأخرى مركبة من الذرات والخلاء، ووضع خطوطًا
مادية للتفسيرات السيكولوجية وتفسير الإحساس، وزاد شارحه لوكريتوس
بتوضيح أن الروح تبعث الحركة في الأطراف، وهذا لا يمكن أن يحدثَ بغير
اتصال، والاتصال يتضمَّن جسدًا، والروح أيضًا تعاني مع الجسد، على كل
هذا يجب أن تكون الروح ذات طبيعة جسدية أو مادية، ووصل أبيقور لذروة
التفسير المادي باستنتاج أن الروح تفنى مع الجسد، فما دامت الروح مجرد
مركب ذري، فلا بد وأنها كالجسد تمامًا تفنى، ولا يمكن أن يكون لها وجود
من أي نوع بعد الموت.
١٦
هكذا لم يصعب على الأبيقورية تفسير الروح أو النفس تفسيرًا ماديًّا،
ولا هي ابتدعت بدعة في هذا؛ ذلك لأن ثمة «فكرة خاطئة سادَت الفكر
القديم ولا تزال عالقة باللغة حتى اليوم»، وهي أن النَّفْس هي النَّفَس
(من التنفس) فكانت سائر الكلمات القديمة التي أطلقت على النفس تعني في
أصلها الهواء أو التنفس، كما هو الوضع في اللغة السنسكريتية، والذرية
القديمة لها أصل هندي، وفي اللغة العربية، وأيضًا في الإنجليزية
الحديثة كلمة
Expire تعني يزفر الهواء،
وتعني أيضًا يسلم الروح، ولما كان هذا النفَس هواء وكان الهواء مكونًا
من ذرات فإن النَّفْس مكونة من ذرات.
١٧
على أن الفكرة الإغريقية عن الروح كانت واسعة وشاملة إنها تتضمَّن من
ناحية عنصرًا لاعقلانيًّا هو روح المبدأ الحيوي الذي يهب الجسم الحياة
وهو مكمن الانفعالات السلبية واللاعقلية التي تُصنف معًا تحت اسم
الإحساسات، ومن الناحية الأخرى تتضمن الروح مبدأ عقلانيًّا هو الذهن
مكمن الحركات الفعالة للتفكير والإرادة، معظم الفلاسفة قد فرقوا بين
هذين الجزأين أو الجانبين، على الأقل من الناحية النظرية، وأبيقور
بدوره قد فعل هذا بتوضيحه أن الروح منفعلة وفعالة بقدرتين تملكهما، هما
التفكير والإرادة، وبالنسبة للتفكير قد أثبت أبيقور أنه حركة في الذهن
تخلق صورًا جديدة بواسطة الربط والمقارنة بين الصور السابقة الموجودة
ومادة الموضوع Subject Matter —
أي موضوع التفكير، وهي مختلفة عن مادة موضوع الظن
Opinion لأن الظن لا يُعنى بتفسير
معطيات الحس، بل عليه أن يخلق معطياته الخاصة.
والعقل الفعال له وظائف أخرى غير التفكير، فهو موضوع لعواطف الفرح
والخوف والحب والكراهية، وكلها تنشأ عن العقل الكائن في الصدر، وتتميز
هذه العواطف المركبة عن العواطف السلبية المنفعلة — وهي اللذة والألم —
بأن هذه الأخيرة موضوعٌ للحس الفوري والموضعي.
١٨
ولكن الأبيقورية تمسَّكت بما لم يره ديموقريطس رائد الذرية
الإغريقية، تمسَّكت بأن الذرات تسقط بحركة أبدية عبر المكان
اللامتناهي، هذا في حين أن ديمقريطس نفى الثقل عن الذرات، ولم يعيِّن
الذريون القدامى اتجاهًا لحركتها، فلم يروا في الوزن خاصية أساسية لها،
الخاصية الأساسية هي فقط الحركة الأبدية، أما الوزن والحجم والشكل
فمجرد خصائص ثانوية، على أن الأبيقورية قد استنتجت أن الذرات ذات ثقل،
وحركتها في خطوط مستقيمة متوازية من أعلى إلى أسفل «فنشأت معها مشكلة
لم تنشأ في الذرية القديمة، وهي كيفية تفسير تلاقي الذرات لتتكون الأشياء».
١٩
هذا من ناحية، ومن الناحية
الأخرى نجد أن المادية الأيونية والقبل سقراطية على العموم، والذرية
الديموقريطية على أخص الخصوص قد أفضت إلى حتمية كونية لا سبيل إلى
الخروج منها، وفي هذا يقول أبيقور: «أن نتبع أساطير الآلهة، أفضل من أن
نصبح عبيدًا لقدر الفلاسفة الطبيعيين.»
٢٠ لقد شعر بخطورة الحتمية الكونية على الحُرية الإنسانية،
والتي لم يشعر بها ديموقريطس؛ حيث إنه — كما يقول سبريل بيلي — لا يترك
في مجال الأخلاق آثارًا تدل على أنه قد أدرك متضمنات نظريته الفيزيائية
التي تأخذ بصرامة العلية والضرورة، من حيث إنها تؤدي على التو إلى
الصراع بين الحتمية وبين الإرادة.
٢١
راح ديموقريطس بكل حتميته الصارمة ينادي في فلسفته الأخلاقية بحرية
الإرادة والفعل ومسئولية الفاعل، فكأنه بهذه الشيزوفرينيا يُكمل تمثيله
لأصول الفكر العلمي الحتمي بجملة مزاياه ومآسيه.
هذا بينما حقق أبيقور — أو حرص على أن يحقق — التكامل والاتساق
المفروض بين أرجاء النظرة الفلسفية، حين أراد أن يصون الحُرية في عالم
يبدو كنتيجة محتومة لقوانين العلة والمعلول، فجعل نظريته الفيزيائية
ونظريته الأخلاقية واحدة واحدة تفسر كل منهما الأخرى، وذلك بأن أرسى في
أسس العالم الفيزيقي عنصر التلقائية والمصادفة، الذي يجب أن نعتبره
استثناءً، بل رفضًا للعِلية الصارمة ولحتمية القوانين الطبيعية.
•••
(٢٩) «وكان سبيله إلى هذا مبدأ الانحراف الذري»: انحراف الذرات
وميلها عن مساراتها، إنه مبدأ يفسح المجال للحرية الإنسانية، وهو أصلًا
يحل المشكلة الفيزيقية البحتة، مشكلة التقاء الذرات.
أما عن المشكلة الفيزيقية، فإن الذرات تنحرف لكي تتلاقى، ولولا هذا
الانحراف غير المعين أو اللاحتمي لظلَّت الذرات إلى الأبد في خطوطها
المستقيمة إلى أسفل عبر المكان الفارغ، ولن تتجمع في أشياء، وبالتالي
ما كانت الطبيعة لتخلق أي شيء
٢٢ على هذا فالحركة الطليقة للذرات والتي لم تتراءَ
لديموقريطس، يحدث فيها انحراف أو ميل، فطالما أنها تسقط إلى الخلاء في
أوقات لامحتمة
Undetermined فإنها
تندفع قليلًا عن مسارها، مما يجعلها تغير اتجاهها، وهذا الميل أو
التغيير في الاتجاه يسبب تصادمًا مع ذرات أخرى، فيتغير اتجاهها لهذا
التصادم، والمحصلة الفورية هي اضطراب حركة الذرات في كل مكان، فينشأ عن
هذا اتحادها في مركبات وتكوين العالم الفيزيقي المحسوس.
هكذا حل المبدأ المشكلة الفيزيائية، ولكن كيف حل مشكلة أو معضل
الحُرية؟ لقد حلها كالآتي: العقل مُرتكز في الصدر على شكل مجموع
الذرات اللطيفة
Fine atoms التي
تكونه، ومثلها تلك التي تنتشر خلال الجسم مكونةً المبدأ الحيوي (نلاحظ
الجمع بين مبدأي الروح الإغريقية).
٢٣
ومجموع الذرات اللطيفة (الذهن) يوجهه الخيال إلى الحركة، سواء أتى
هذا التخيل من أشياء خارجية أو أثاره توقعٌ في الذهن ذاته، ولنفترض
أنني في هذه اللحظة قد أتت أمام ذهني صورة لنفسي سائرًا، فطالما أن
ذرات الذهن نفسها قد أثيرت فسوف يتحرَّك المبدأ الحيوي وستتحرك ذرات
الجسد بدورها؛ وبالتالي أسير، ولكن قبل أن يحدث كل هذا ثمة عملية أخرى
لا بد وأن تحتل مكانها، إنها عملية الاختيار الإرادي الحر، فصورة السير
في حد ذاتها لا تحرك الذرات حتى أسير، فقد أقبلها وقد أرفضها فأقرر أن
أسير أو لا أسير، فكيف نفسِّر عملية الاختيار الحر هذه بخطوط مادية
بحتة؟ يجيب أبيقور عن طريق انحراف الذرات اللطيفة التي تُكون الذهن،
والحركة العَرَضية اللاحتمية للذرات المفردة في الخلاء هي التركيب
الواعي للذهن، والذي يُترجم إلى فعل إرادي مقصود.
٢٤
ولنلاحظ أن الانحراف الذري حركة تلقائية محض ميكانيكية، يمكن أن تقوم
به أية ذرة في أي مكان، وفي أية لحظة؛ لذلك ففي مجموع
Aggregate ذرات الروح يحدث الانحراف
الذري كنتيجة للإرادة الواعية، ولكن لم يفترض أبيقور أي وعي أو إرادة
حرة في انحراف الذرة المنفردة، ولو كان قد فعل لكان قد نقض الأسس
المادية لمذهبه نقضًا بينًا؛ لأنه كان سيقحم عنصرًا فائقًا للطبيعة في
حركة أبسط أشكال المادة، ولكنه لم يفترض حتى أي إحساس في الذرة،
وانحراف الذرات المنفردة ليس واعيًا على الإطلاق، إنه على وجه الدقة
حرية ميكانيكية تناظر الحُرية النفسية للإرادة.
٢٥
ولسنا الآن بإزاء أية قوى
خارجية، بل فقط صميم الصورة الأنطولوجية التي رسمتها الفيزياء
الأبيقورية للعالم، والتي حافظت على أبعاد فلسفته المادية، وحقَّقت
هدفها في نفي كل ما يثير المتاعب، ثم استطاعت إفساح المجال لحرية
الإنسان، لقد حل أبيقور المشكلة الفيزيقية ومعضل الحُرية بتحطيم
الحتمية عن طريق افتراض اللاتعيُّن والمصادفة في الانحراف غير المتوقع،
أي عن طريق اللاحتمية، أفليس لنا الحقُّ في أن نعدَّه الرائد؟!
•••
(٣٠) وبعد أبيقور نجد تابعَه الوفي الشاعر الروماني تيتوس لوكريتوس
كاروس (٩٩–٥٥ق.م.) الذي وجد في فلسفة أبيقور اقتناعه العقلي التام،
وطمأنينة نفسه المضناة بنوبات الجنون، فتعهَّد بعرضها عرضًا خلابًا،
ودافع عنها بحماس وكال لها وعلى خصومها الحجج والأسانيد، وذلك في قصيدة
خالدة من الشعر اللاتيني العذب بعنوان «في طبائع الكون» أو في طبائع
الأشياء (وثمة ترجمة إنجليزية جيدة لها واردة في الهامش)، تعد المرجع
الأول للمدرسة الأبيقورية، وفي الآن نفسه تُعطينا أكمل صورة يمكن أن
يعطيها الفكر القديم بظروفه المعرفية الضحلة لمبدأ اللاحتمية ولكيفية
حله لمعضلة الحُرية.
كانت الحتمية عند لوكريتوس أعمق من فرض الانحراف الذري؛ فقد رسم صورة
أبيقورية للوجود تجعله تعدديًّا والعَرَضية صفة قائمة في صلبه وأحداثه،
ومن ثم فكل الأحداث في هذا الكون عرضية ولا ضرورة إلا للجسم والمكان،
أو للذرة والخلاء، وهذه العرضية تستبعد الآلهة والشياطين والغائية عن
العملية الطبيعية الحرة، فتؤكد طبيعة الوجود؛ لأنها لاحتمية، الحُرية
الكائنة في الصدور، يقول لوكريتوس: «لو كانت كل حركة دائمًا مرتبطة
ارتباطًا داخليًّا بغيرها، وكانت الحركة الجديدة تنشأ عن الحركة
القديمة في نظام محتم، وكانت الذرات لا تنحرف أبدًا لتنشأ عنها حركة
جديدة تنفصم معها قيود القدر والسلسلة الأبدية للعلة والمعلول، فما هو
إذن مصدر حرية الإرادة التي تملكها الأحياء على هذه الأرض؟ وإني لأعيد
القول: ما هو مصدر قوة الإرادة المنتزعة من الأقدار والتي تجعلنا نخرج
عن سبيل مقرر أو نتبع سبيلًا في مكان وزمان لامحتمين؟ لا ريب أنه في
مثل هذه الأحداث تصدر حركات الأطراف عن إرادة الفرد.»
٢٦
على الإجمال عرف لوكريتوس كيف يأتينا بلاحتمية فيزيائية، إبستمولوجية
وأنطولوجية ينحل معها مأزق الحُرية، بيد أن كل ما قاله لوكريتوس أولًا
وأخيرًا لا يعدو أن يكون الفلسفة الأبيقورية وإن كانت متبلورة
ومُدعمة.
مرة أخرى أوليس لنا الحق في أن نعد أبيقور الرائد؟!
•••
(٣١) أحسب أن لنا هذا الحق على الرغم من النقد الوبيل الذي انهال من
الأقدمين والمحدثين على أبيقور وعلى مبدأ الانحراف الذري.
فهذا جون بيرنت يندد بالأبيقوريين بسبب ضحالتهم الفلسفية وافتقارهم
للأصالة والسمة العلمية؛ مما جعلهم لم يتمكَّنوا من استغلال الأيونية
استغلالًا سليمًا، وأنهم لم يعنوا بدراسة الرجل الذي يدينون له بالكثير
— أي ديمقريطس — لأنهم كانوا نافرين من الدراسة الجادة من أي نوع،
وربما لم يعتنوا حتى بنسخ كتاباته؛ لأنها أعظم بينة على الافتقار
للأصالة الذي يميز مذهبهم.
٢٧
ونعترض على هذا؛ أولًا: لأنه الافتقار إلى الأصالة وإلى السمة
العلمية الحقيقية شامل لكل هذا العصر الهلينستي الذي اختفت من فلسفته
الروح العلمية الخالصة والرغبة في طلب الحقيقة لذاتها، فكيف نطالب
أبيقور بالذات بالشذوذ عن روح العصر الذي أنجبه؟ — ولنتذكر دعاء د.
أميرة مطر العذب: «رباه اكتبني من العادلين.» — وماركس نفسه قد أخطأ
حين قال دفاعًا عن أبيقور إنه حاول تنوير أذهان معاصريه؛ وذلك لأن
المسائل الذهنية برمتها لم تكن مطروحة في هذا العصر ولم تكن الفلسفة
هادفة للوعي والتنوير، بل لمعاونة الإنسان على تحقيق السعادة السلبية،
وهذا ما هدف إليه أبيقور، وكرس له جهوده، وقد استطاعه عن طريق معالجته
الشاملة، لما أسماه بحالة الأتراكسيا Atraxia.
لا شك أن ديموقريطس ذو أصالة فكرية ونزعة علمية أرجح من أبيقور، ولا
شك أيضًا أن أبيقور من نواحٍ عديدة كان مجبرًا على تبسيط الصعوبات،
ولكن هذا الحكم لا ينبغي تعميمه وإطلاقه فثمة تحفظات معينة؛ أهمها
شيزوفرينية ديموقريطس في مقابل نجاح أبيقور في تحقيق أبسط بسائط
التفلسف — بغض النظر عن ظروف أي عصر — أي تكامل واتساق المذهب وبواسطة
فرض الانحراف الذي الذي ابتدعه ابتداعًا.
ولئن انهال القُدامى بالنقد على هذا الفرض فلنتذكر ما أثبته المدخل
من صعوبة استقبال وقبول القدامى لمبدأ اللاحتمية، فقد أسماه شيشرون
«الاختراع الصبياني السخيف»، ورأوا فيه تخليًا من أبيقور عن موقعه
الذري، تخليًا غير محترم لأن هذه الحركة الطليقة للذرات تُعارض قوانين
الطبيعة التي يقوم عليها مذهبه، وهي خرق واضح لمبدئه الأول: لا شيء
يُخلق من لا شيء، ولقوانين العلة والمعلول؛ إذ إنه يقر بقوة أننا لا
نستطيع أن نضع للانحراف الذري علة.
وهذا يعني أن ذلك الانحراف مقحم على بنائه الفيزيائي بغير علة على
وجه الإطلاق،
٢٨ أما إذا قلنا إن الذرات من طبيعتها أن تنحرف، فكأننا وضعنا
الطبيعة بدلًا من إله
الآلة
Deux de Machina٢٩ الذي يأتي فجأة ليفعل ما لا يستطيع سواه أن يفعله،
٣٠ فيحل المشكلة في التراجيديا الإغريقية، ومعنى هذا أن
أبيقور حاول أن يتخلَّص من الحتمية العلمية فأتانا بجبرية
دينية!
فهل هذا صحيح؟ وهل حقًّا أن
انحراف الذرات وافتراض اللاحتمية مبدأ أقحمه أبيقور إقحامًا؟ إن
الإجابة عن هذا بالنفي، فلو عاودنا مراجعة الصفحات السابقة لوجدنا
الانحراف الذري في صلب نظرية أبيقور الفيزيقية، وفي الآن نفسه صلب حله
لمعضل الحُرية، بحيث إنهما يدوران معًا وجودًا وعدمًا، فكيف يكون
مقحمًا؟ وكما يقول سيريل بيلي: «أبدًا لم يعتبر أبيقور مبدأ الانحراف
الذري نقطة ضعف، بل اعتبره ذا أهمية أساسية في مذهبه، وليس في الأمر أي
جبرية أو ما يشبه إله الآلة؛ إذ يقول الفيلسوف الفرنسي جان ماري جويو
Jeau Marit Guyau (١٨٥٤–١٨٨٨)
إن ذلك الانحراف الذري في الطبيعة اللاعضوية — والذي هو المصادفة
والعرضية — يهتك الضرورة الحتمية الصارمة في العالم الحي واللاحي على
السواء، وبغير أن يعاود تقديم عنصر المعجزة الذي كان هم أبيقور الأول
إبعاده؛ لأن المعجزة تتضمن فعل قوى خارجية تعوق القوانين الطبيعية وتغيرها.
٣١
فضلًا عن هذا يجب أن ننتبه إلى طبيعة العلة وطبيعة المصادفة عند
أبيقور، فصحيح أنه مثل ديمقريطس يجعل مبدأ العلية والدوام
Permanence نقطة البداية، فلا شيء يخلق
من العدم أو من اللاشيء، ولكنه خلافًا لديمقريطس — ولننتبه إلى هذا —
لا يجعل افتراض العلية في سلطة المركز الذي يدعم بقية الفروض، بل يدعمه
بحجة، ها هنا نعالج المدرك والقابل للإدراك على حد سواء، فالمشكلة كلية
ولا يمكن أن تعالج مباشرةً بالحواس ولكن علينا أن نسأل ما إذا كانت
الحواس تعطينا أية شارة لتدعيم مبدأ العلية أم أنها تناقضه. ويجد
أبيقور هذه الإشارة في النشأة المنظمة للأشياء في العالم المدرك، فلا
شيء يخلق من العدم؛ لأنه إذا أمكن هذا لأمكن أن يخلق كل شيء بغير
احتياج للبذور،
٣٢ أي للذرات، ومن شأن هذا أن يهدم مادية أبيقور الصارمة، على
هذا نلاحظ أن العلية تزحزحت كثيرًا عن هيلمانها الديموقراطي.
أما عن المصادفة، فقد اعتبرها
أبيقور مجرد علة غير معينة تحكم فقط أشياء معينة في العالم، وهي أشياء
مشتتة ومتباعدة عن بعضها،
٣٣ وهي بهذا تختلف عن تلقائية حركة الدوامة عند ديمقريطس من
حيث إنها أصل كل شيء، فلا تكون المصادفة مقحمةً لحل مشكلة الحُرية، بل
هي مصادرة أساسية لفلسفةٍ آلت على نفسها أن تمزق جدران الحتمية.
يقول جان فال إن الكثيرين قد دأبوا على الإطاحة بنظرية أبيقور في
الحُرية، على أساس أن المصادفة حين يتم تحليلها أو يتحقق العلم الشامل
بظروفها سوف تختفي، ثم إنها ترجع في النهاية كما أثبت أرسطو إلى عمل
علل آلية، وكل ما في الأمر أنها علل مجهولة،
٣٤ وهذا الأساس المزعوم لا يعدو أن يكون حيلة الحتميين
البائدة في مواجهة كل مصادفة واحتمال ولاحتمية بالتفسير الذاتي، أي
بالإرجاع إلى جهل الذات عن إدراك العلل المحتمة.
وبهذا تتبلور حقيقة كل النقد السالف لأبيقور: إنه يدور في متاهات
الحتمية، وعجز عن الخروج من بين قضبانها، التي ترين على صدورهم
وعقولهم، بينما استطاع أبيقور أن يقوضها منذ أكثر من ألفين من السنين؛
ولهذا فقط — أي لأنه فيلسوف اللاحتمية — استضفناه على الرحب والسعة،
ومن غير المعقول أن نستمر في الدوران حول الحتمية بعد كل ما بذلناه في
الفصول السابقة.
بالتحرر التام من وثن الحتمية ننتهي إلى أن مبدأ الانحراف الذري،
صورة الأبيقورية، غير مقحم على فلسفته بل متسق معها واتسقت هي معه، فهو
مصادرة أساسية لها إما عن المبدأ في حد ذاته من حيث كونه بلا بينة أو
برهان مقنع، ففي الرد على هذا نسأل: لماذا ندَّعي أن الذراتِ تتحرَّك
أصلًا وأن من طبيعتها تلك الدوامة التي قال بها ديمقريطس؟ وليس ثمة
ضرورة في تكون حركة الذرات مستقيمة ولا حتى ثمة براهين على هذه
الاستقامة والتي لم يعترض عليها أحدٌ في حد ذاتها، فلماذا يعترضون على
الانحراف الذري؟ ولماذا لا يكون كالحركة نفسها، أي مبررة بغير علة؟ وما
الفارق بينه بين قول الرواقيين مثلًا إن كل الأشياء تتَّجه نحو المركز؟
وبالمناسبة، لوكريتوس ما فاته الدحضُ التام لأمثال هذه المبادئ
المناقضة لفيزيائهم،
٣٥ إن الانحراف الذري فرض ناجح متسق لا يستحق كل هذا الهجوم،
ما لم يكن الهجوم نابعًا من أن المبدأ يُخلُّ بالحتمية المقدسة، أي
ينادي بلاحتمية!
وأخيرًا، إذا كان شيشرون يراه اختراعًا صبيانيًّا، فإن علماء وفلاسفة
علم معاصرين لهم رأيٌ مناقض؛ فقد لاحظوا أنه قبل روبرت براون بتسعة عشر
قرنًا كانت صورة الحركة الجزيئية التي اكتشفها «الحركة البراونية» قد
رسمها من قبل خيال لوكريتوس، في قصيدته الخالدة بالتفصيل،
٣٦ وهم يبدون دهشتهم من مدى حصافة فرض الانحراف الذري، وكان
إدنجتون قد أوضح أن الكون، لا يكون في حالة توازن ثابت من حيث إن أبسط
اضطراب يحدث فيه يؤدي إلى بدء حركة تتمدَّد وتُفضي إلى التطور الذي
يدوم اثني عشر ألف مليون من السنين، كما تقول قوانين الفيزياء الفلكية.
وبعد فترة التطور يصل الكون مرة أخرى إلى حالة التوازن، ولكنه يكون
ميتًا؛ نظرًا إلى التدهور الميكانيكي الحراري، وهذا معناه أن التوازن
ثابت وأن الاضطرابات البسيطة لا تؤدي إلى تغيير هام في الكوزموس
اللاحتمي، وكما يقول رايشنباخ: «الواقع أن هذه الصورة مشابهة إلى حد
يدعو إلى الدهشة لنظرية ديمقريطس
٣٧ وأبيقور في الذرات التي ظلت تتحرك بانتظام في الفضاء
زمانًا لا متناهيًا حتى حدث اضطراب بسيط أدى عن طريق سلسلة من ردود
الأفعال إلى تحويل الحركة المنتظمة إلى خليط مضطرب، تطورت منه
التركيبات المعقدة لعالمنا، ويبدو أن الفيزياء القائلة باللاتحدد تقبل
افتراض أبيقور الذي يقول بحدوث اضطراب بسيط لا سبب له، وهو الافتراض
الذي قوبل في كثير من الأحيان بهجوم من أنصار الحتمية الدقيقة.»
٣٨ لم نُغالِ إذًا حين قلنا إن فرض الانحراف الذري ممهدٌ أو
مناظر للاحتمية في العلم المعاصر.
وطالما اعتمدنا من أبيقور الأساس الأنطولوجي أي اللاحتمية فإن معضل
الحُرية ينحل من تلقاء نفسه كما اتفقنا وكما بينت نظرية أبيقور.
•••
(٣٢) «وليام جيمس»: لأن المفكر الأمريكي وليام جيمس
William James (١٨٤٢–١٩١٠) فيلسوف
حق وفي الآن نفسه عالم متمكن من العلوم الطبيعية بالإنسان:
الفسيولوجيا، فإن نظرية الحُرية جاءت معه لتمثل تقدمًا وانفراجًا
ملحوظًا للأزمة المستعصية،
٣٩ فقد ارتكزت على لاحتمية فلسفية أنطولوجية واثقة وعنيدة، ثم
حتمية علمية متقلصة إلى الحد الأدنى الميثودولوجي الصرف كمحض فرض
تنظيمي للوقائع بأضيق المعاني المنهجية التي لا ضرر منها ولا ضرار على
المشكلة الأنطولوجية أو حتى الإبستمولوجية، فاقتربت الحُرية معه كثيرًا
من الصورة المنشودة دومًا ولا طائل، وإذا تذكرنا فلاسفة الحُرية
الفرنسيين بدا واضحًا كيف جاءت نظرية الحُرية مع جيمس متأصلة في بنية
هذا الوجود ومتسقة معه، ومكملة له.
البرجماتية هي منهاج جيمس، فأمدَّتْه بمنهاج إقامة الدعوى بالحُرية،
وهو منهاج لتحسين هذا العالم وتقليص نطاق الشر فيه، والتعددية، الرافضة
جدًّا للواحدية، هي هندسة بنائه الأنطولوجي اللاحتمي حتى الصميم والذي
شمل العالم كله، فلا مجال لنفي الحُرية، وتنغلق متاهات المطلق والشيء
في ذاته والنومينا … وتغدو الحُرية واقعة كائنة في صميم العالم، أما
التجريبية الراديكالية فهي التي أعطت جيمس مادة هذا البناء فوجد فيها
مادة اللاحتمية والحُرية.
هكذا كان جيمس في طليعة أنصار الحُرية، وفي طليعة أنصار اللاحتمية،
بيد أن لاحتميته ما كانت ترقيعًا لإيمانه بالحُرية، ولا كانت الحُرية
ترقيعًا لإيمانه باللاحتمية، فقد «كانت فلسفته دائمًا مجموعة وثيقة
التركيب من المعتقدات التي وفقت بينه وبين الحياة، والتي نادى بها ودعا
إليها، كما يبشر صاحب الدعوى بسبيل الخلاص»،
٤٠ وسنلاحظ فيما يلي كيف تتكاتف وتتجادل جوانب فلسفته، لتأتي
بهدفنا الأول، أي إثبات الحُرية الأنطولوجية للإنسان طالما أن العالم
لاحتمي، ثم الهدف الأبعد والمترتب على هذا، في القضاء على ثنائيات
الشيزوفرينيا التي أتَت من استحالة إثبات الحُرية في العالم
الحتمي.
•••
(٣٣) وقد كان لجيمس أسفاره العديدة، وصلاته الشخصية الحميمة
ومراسلاته مع أقطاب الفكر في عصره، ولكننا نجد شتاء (١٨٧٢-١٨٧٣) فصلًا
هامًّا في حياته كمعلم، وبدء تراسله مع شارل رينوفييه أعظم المؤثرين
عليه بلا جدال، منه تعلم التعددية وكان ذروة ما أخذه منه، بعد أن أتم
قراءة الجزء الأول من محاولاته، هو ما سجله في مذكراته اليومية بتاريخ
٣٠ إبريل ١٨٧٠: «أول عمل لي من أعمال الإرادة الحرة هو أني سأؤمن
بالإرادة الحرة».
٤١
من الناحية الأخرى، استفاد جيمس من علاقته بتشارلز ساندرز بيرس Ch. S. Pierce
(١٨٣٩–١٩١٤)، وهو في طليعة فلاسفة العلم التقدميين المنشقين على عقيدة
الحتمية العلمية انشقاقًا بائنًا، من منظور قضية الحتمية واللاحتمية
العلمية يعد بيرس أعظم فيلسوف علم لأنه الوحيد الذي تفرد بالإقرار
باللاحتمية العلمية — إبستمولوجيا، مع الاعتراف بصدق نظرية نيوتن،
وبغير أن أو قبل أن يتسلح بانهيار الميكانيكية الكلاسيكية؛ لأنه لم
يدرك زمانيًّا نظرية الكوانتم، وتبوءها السيادة في الفترة ١٩٢٥–١٩٢٧،
ولأن بيرس بلاحتميته كان سباقًا لعصره، فإن معاصريه لم يهتمُّوا به
وكان الإهمال والغبن الذي لاقاه في حياته أمثولة.
في عام ١٨٩٢ جاهر بيرس بأن نظرية نيوتن حتى ولو كانت صادقة فإنها لا
تعطينا أي مبرر للاعتقاد في الحتمية الشاملة، لقد اعتقد مع كل
الفيزيائيين في عصره أن العالم ساعة مهيبة الانتظام، تسير وفقًا
لقوانين نيوتن، وعلى الرغم من هذا، رفض اعتباره هكذا حتى أدق تفاصيله،
فأشار إلى أننا لا نستطيع أن نعرف مثل تلك المعرفة التي يدعيها
الحتميون، ومن ثم استنتج بيرس أننا أحرار في أن نحدس وجود لاتعينٍ ما
أو عدم اكتمال في هذه الساعة، فليس العالم في نظر بيرس محكومًا فقط
بقوانين نيوتن الصارمة، لكنه أيضًا محكوم في أحايين معينة بقوانين
المصادفة والعشوائية واللانظام، وعضد بيرس هذا بالإشارة الصائبة إلى أن
كل الأجسام الفيزيائية خاضعة لحركات الجزيئات المماثلة لحركة جزيئات
الغاز، هكذا كان بيرس أول فيزيائي وأول فيلسوف يأتي بعد نيوتن ويجرؤ
على أن يقر بعنصر المصادفة واللاحتمية،
٤٢ وقد فعل هذا لكي تكتمل إبستمولوجية اللاحتمية.
ولكي تكتمل أنطولوجية اللاحتمية أقر بموضوعية المصادفة، مؤكدًا أن
استقلال الوقائع أساس طبيعي لها. شن حربًا شعواء على تفسير الحتميين
الذاتي لها، فقال إن اعتبار المصادفة نتيجة للجهل أكثر فلسفات المصادفة
شيوعًا لأنها أكثرها ضحالة، يقول بيرس: «إنني لست في حاجة إلى أن أضيع
جهدًا في أشد محاولات التحليل ضعفًا تلك التي تجعل المصادفة تتألف من
جهلنا.» المصادفة إذن ليست اسمًا نخفي به جهلنا كما يقال، بل لها
حقيقتها الموضوعية التي تقوم عليها كثير من النظريات العلمية مثل
النظرية الحركية للغازات ونظريات الاقتصاد السياسي، والتي لا تتعارض مع
قيام الانتظام بل قد تساعد على قيامه،
٤٣ وفي النهاية جاء تحليله الفلسفي للمصادفة ليعد أرقى تصور
للمصادفة الموضوعية، قبل النتائج الأخيرة لنظرية الكوانتم في القرن العشرين،
٤٤ وفضلًا عن هذه اللاحتمية العلمية الإبستمولوجية
والأنطولوجية معًا نجد بيرس مؤسس الديانة الرسمية لجيمس أي البرجماتية.
٤٥
وأيضًا أخذ جيمس من صديقه تشونسي رايت التأويل التالي للعلم: النظام
المادي للطبيعة إذا أخذ ببساطة كما أصبح العلم يعرفه، لا يمكن حسبانه
من حيث هو كاشف عن أي مقصد أحادي روحي متناغم كما تتصور الحتمية، ولكن
مجرد جو كوني — كما أسماه رايت — في حالة تفاعل موصول ترتيبًا وتفككًا
دون نهاية.
٤٦
على أن الفضل الأساسي في اهتداء جيمس للاحتمية، لا يعود إلى أحد من
هؤلاء أو من غيرهم، بقدر ما يعود إلى ظروف موضوعية أشمل وأعم، فقد
قُدِّر لجيمس أن يحيا في العصر الذي شهد تفاقم أزمات الحتمية العلمية
فلم يصعب عليه نزع هيلمانها الطاغي وتقليم أظافرها، لقد كان الأمر
اتجاهًا معاصرًا يشترك فيه جيمس مع الآخرين، وله بالطبع أصول تاريخية،
فجاء جيمس في كتابه «البرجماتية»، ١٩٠٧، وأضاف إلى عنوانه «اسم جديد
لمنهج قديم في التفكير».
وكما يوضح الفيلسوف الأمريكي بيري، سبب هذه الإضافة أن جيمس لم يخترع
هذه الطريقة، وأن جذورها ليس فقط يمكن اقتفاء أثرها إلى الماضي البعيد
وإنما تمثل اتجاهًا معاصرًا يتضمن المنطق الحديث بتوكيده على الوظيفة
الأدائية للأفكار؛ لتمييزها عن الوظيفة التمثيلية لها، ويتضمن مذاهب
التطور والنسبية التاريخية التي تؤكد أهمية التغيير والمرونة والتكيف
في المعرفة الإنسانية، وتشمل أيضًا موضة الاحتمال.
٤٧ والفروض في الطريقة العلمية التي أصبحت طراز العصر، وكلها
أمور احتضنها منذ بدء حياته الفلسفية، وغني عن الشرح أن اللاحتمية
العلمية أو بالأدق، الانشقاق على الحتمية العلمية، يكمن من وراء كل هذه
القضايا، وفي صلبها.
ولكن لنلاحظ أننا حتى الآن ما زلنا قبل عام ١٩٢٥، أي أن المجتمع
العلمي لم يعتمد بعد مبدأ اللاحتمية، أو أنه لا يزال مبدأً وافدًا،
مجرد إرهاص بما يحمله المستقبل، وقد يبدو وكأنه بدعة، وأشد البدع
ضلالة، ونظرًا لهذه الظروف التي لم تتوطد بعد لللاحتمية العلمية، فإن
جيمس لم يأخذها كمسلَّمة انتهينا إليها، بل كقضية فلسفية أفضل من
معارضتها، وأصوب، ويكفينا أنه أتى في وقته واتخذها بحماس فلسفي منقطع
النظير كاشفًا بهذا عن استباق للعصر، ومقدرة على استيعاب الأفكار
الواردة واستشراف مستقبلها الخصيب، لم يتوجس جيمس من اللاحتمية خشيةً
كما فعل كثيرون من معاصريه، ولا يزال يفعل بعض من معاصرينا، بل آمن به
وآمن بتدخل عنصر المصادفة في بنية العالم، ورأى أنا الاطراد نفسه ليس
إلا إحصائيًّا، وإذا كانت القوانين الصغرى تفترضه مقدمًا فإن الطبيعة
لا يمكن أن تكون مطردة إلا بصورة تقريبية جدًّا.
٤٨
هكذا رفض جيمس الحتمية رفضًا جذريًّا، وأخرج كتابه
The Dilemma of Determism «معضل
الحتمية» ليوضِّح تناقضَها مع ذاتها ومع القضايا المتصلة بها، بل ومع
طبيعة الوجود، والطرق المغلقة أمامها، مثبتًا أن بعض التركيبات
الفلسفية المعينة (المقصود الحتمية) نزوات شخصية تنم عن الهوى، عبقة
بالذوق الفردي في حين أن بعض التركيبات الأخرى، تلك التي تعمل بالعناصر
المحسوسة، وبالتغير، باللاحتمية … هي أكثر موضوعية، وأكثر تشبهًا بجبلة
الطبيعة نفسها،
٤٩ ذلك هو موقفه الفلسفي الصريح، ولكن — كما ذكرنا — ظروف
عصره لم تكن تسمح له بوصفه عالمًا مسئولًا بالتسليم باللاحتمية العلمية
كقاعدة للبحث العلمي؛ لذلك جاء ليقول: «علم النفس على أية حال، من حيث
إنه يجب أن يكون علمًا لا بد وأن يماثل أي علم آخر فيسلم بالحتمية
الكاملة في وقائعه، ثم يستخلص بعد هذا آثار الإرادة الحرة، وذلك ما
سأفعله في هذا الكتاب، وليكن معلومًا على أية حال، أن هذا الإجراء على
الرغم من أنه حيلة منهجية يبررها الاحتياج الذاتي لترتيب الوقائع في
صورة بسيطة وعلمية، لا يحسم القول بطريقة أو بأخرى في الحقيقة النهائية
لبحث حرية الإرادة».
٥٠ إذن فلندع علم النفس يقر صراحة بأنه يمكن أن ينادي
بالحتمية من أجل أغراضه العلمية، ولن يستطيع أحد أن يجد خطأ في هذا
الزعم، ولكن إذا انقلب الأمر فيما بعد، بحيث تصبح هذه الدعوى فقط ذات
أغراض نسبية ومن الممكن أن تواجهها دعاوى معارضة، فلا بد وأن نعيد
تقييم الموقف، وها هنا يصبح الفرض الحتمي محض فرض منهجي مؤقت، فكل
العلوم الخاصة تتناول معطيات مليئة بالغموض والتناقض ولكن يمكن تجاوز
هذه المثالب من زاوية أغراضها؛
٥١ وعلى هذا نتجاوز عن مثالب وتناقضات الحتمية العلمية؛ لأجل
الأغراض المنهجية الخاصة بعلم النفس أو غيره من العلوم.
هكذا كان تقليص وليام جيمس لفرض الحتمية العلمية نظريًّا إلى الحد
الأدنى المنهجي.
•••
(٣٤) وقد أردف هذا التقليص النظري بتقليص تطبيقي لنجد الحُرية معه
نظرة وظاهرة، أو فكرة وواقعة، أي كائنة في هذا العالم الذي نحيا فيه،
ونحاول فهمه بواسطة العلم، فلا هي منفية بالسلب ﺑ «لا» ولا هي منفية
خارج دائرة العلم والعالم.
وآية ذلك، أنه أتى في قلب العلم الذي تناوئه الحتمية، ووضع نظرياته
التي تسير في ركابه وتدفعه إلى الأمام، وفي الآن نفسه تفسح لحرية
الإنسان المجال، ليس فحسب، بل تعيها وتفهمها، فإذا تذكرنا أن الحتمية
السيكولوجية أخطر ضروب الحتمية العلمية على حرية الإنسان؛ لأنها
الحتمية المباشرة في نقضها للحرية، فسنجد جيمس يطرح دراسة علمية
سيكولوجية للحرية متمثلة في الإرادة وذلك في كتابه «مبادئ علم النفس»
سنة ١٨٩٠، حيث يعالج علم النفس كعلم طبيعي، هذا الكتاب من أمهات الكتب
ومن المعالم البارزة في تاريخ علم النفس، برغم التطورات التي أحرزها
العلم بعده.
وكان جيمس قد سبق له أن نشر له عام ١٨٦٢ مجلدًا من الدراسات
التجريبية عن إدراك الحواس، وبدأ يلقي محاضرات علم النفس كعلم طبيعي
بعد أن تشرب بالاتجاهات الحديثة في أوروبا، ثم تبعها بدراسات فسيولوجية
من لدنه، وأصبح واحدًا من أوائل المعلمين الأمريكيين الذين اعترفوا
بوجود علم النفس كعلم مستقل،
٥٢ وهنا أيضًا تبدو براعته في مصارعة الحتمية العلمية؛ لأن
علماء النفس الأوروبيين الذين استقى جيمس من كتاباتهم إلى أكبر حد، كما
يتجلى ذلك في الاستشهادات والمراجع المذكورة في كتاب «مبادئ علم النفس»
هم سبنسر وهلمهولتز وفُنت وبين، وجملتهم حتميون ينفون حرية الإنسان غير
أن جيمس استخدمهم وأفاد منهم ونبذهم في آن واحد.
٥٣
ثم أخرج ذلك الكتاب، الذي يقف على قمة المرحلة الثانية من تطور علم
النفس، فقد كانت المرحلة الأولى من علم النفس التي ارتبطت بهيوم وستوت
ترد الحياة النفسية إلى انطباعات تتلاقى بالتداعي عن طريق قوانين
الترابط فتصبح أفكارًا، فكأن العقل قابلية لا فاعلية أو صفحة بيضاء كما
قال لوك، لا حيلة له فيما يتلقَّاه إلا أن يسجله على صفحته تلك. أما
المرحلة الثانية فقد ربطت بين العقل وبين الحياة الفسيولوجية، وهذه هي
المرحلة السيكوفيزيقية التي يبلورها كتاب جيمس.
على هذا الأساس السيكوفيزيقي يرفض جيمس فرض النفس؛ لأنه لا قيمة له،
ويلحق به فرض العقل فلا يعود كيانًا أو جوهرًا، بل أداة فعالة نشيطة
مهمته هي مهمة أي عضو آخر من أعضاء الكائن الحي، وهي أن يكون أداة
موائمة بينه وبين بيئته، موائمة تعين الكائن الحي على البقاء إنه أداة
لا تنفك، تواجه الجديد من مواقف البيئة الخارجية وظروفها فترد عليها
بما يحفظ لصاحبها حسن البقاء ودوامه، وبهذا التفسير يكون العقل مجرد
كلمة نسمي بها نمطًا معينًا من السلوك الحي النشط المفيد، وبهذا يزول
الحاجز بينه وبين الجسم؛ لأنه إذا كان العقل ضربًا من السلوك فهذا
السلوك هو نفسه الجسم السالك الفاعل المتصرِّف، وليس هناك آمر ومأمور
أو حاكم ومحكوم بل هنالك كائن عضوي واحد يسلك في بيئته على نحو معين،
وإذا كان الأمر هكذا، فقد تحطمت الثنائية التي شقت الإنسان — والكون
بصفة عامة إلى جانبين عقل وجسم، أو نفس ومادة وهي التي سادت الفلسفة الحديثة.
٥٤
وسار جيمس في هذا الطريق حتى توصل إلى واحدية محايدة،
٥٥ فنشر مقالًا بعنوان «هل الشعور موجود؟»، يقول فيه إن
العالم مادة أولية واحدة إذا استخدمنا كلمة شعور فإنها تدل على ضرب من
الأداء لأعلى كيان مستقل قائم بذاته، فهناك أفكار تتصل ببعضها مكونة
المعرفة، لكنها ليست من مادة تختلف عن المادة التي تتكوَّن منها
الأشياء في عالم الطبيعة المادية،
٥٦ بهذا وضع جيمس الأساس للنظرية المعاصرة التي تسمى الواحدية
المحايدة وهي النظرية التي تطورت تطورًا عظيمًا بعده، خصوصًا مع راسل،
لتقضي على ثنائيات جمة، هكذا أفضت اللاحتمية بجيمس إلى النتيجة
الطبيعية لها أي قهر الشيزوفرينيا.
وبعد هذا يسهل على جيمس إرساء الوجه الثاني، أي الحُرية، على أساس أن
«العقل يمارس نشاطه مع معطيات تجربتنا، فينتقي منها ويعدِّل فيها
ويختزل، حسبما يتلاءم مع اختيارنا ويتفق مع ما نؤثره ونرغب فيه».
٥٧ بهذا تصبح الحُرية ظاهرة تمثل موضوعًا لدراسة علمية
تجريبية، أجرى جيمس مثل هذه الدراسة تحت مصطلح «الإرادة»، والإرادة هنا
مثلُها مثل النفس والعقل ليست ملكة مطوية في أعماق مجهولة ولا كائنة في
عالم مفارق، بل هي إيجابية وفعالية، وعنصر من عناصر السلوك الإنساني
تجعله متميزًا بأنه حرٌّ مُرادٌ، فكانت دراسة جيمس للحرية أو الإرادة،
هي دراسة الحركات المتميزة عن ردود الأفعال الأوتوماتيكية الانعكاسية
بأن الفاعل ينتويها قبل أن يفعلها مع تمام العلم المسبق بما سوف تصبح عليه.
٥٨
يجعل جيمس من الفعل المنعكس أنموذجًا لكل فعل، يقول:
«لا ريب أن ثمة اختلافًا جوهريًّا بين الحركات التي تصدر عن النخاع
وتلك التي تصدر عن المخ؛ ذلك أننا نستطيع أن نتنبأ تنبؤًا منتظمًا
بالحركات، حالما نعرف طبيعة المثير الخارجي، بينما تتنوَّع الحركات
الصادرة عن المخ تنوعًا يتعذَّر معه التنبؤ بصددها؛ لأنها ترتبط
بذكريات الفرد وأفكاره، إلا أننا لو أسقطنا جدلًا هذا الاختلاف بين
هذين النوعين من الحركات، لتبيَّنا أن الآلية فيهما واحدة، فهما بمثابة
استجابة لإثارة تقع على الحواس من موضوع في العالم الخارجي».
٥٩
فضلًا عن أن جيمس يطرح دراسة علمية مستفيضة عن الانتباه Attention كما لو كان محتمًا تمامًا
بالظروف العصيبة على أساس أن النظام العام للأشياء التي ننتبه إليها
محدَّد بهذه الشروط أو الظروف، فليس ثمة أي موضوع يمكن أن يستأثر
بانتباهنا إلا بواسطة الجهاز العصبي.
وحتى الآن نجد أنفسنا بإزاء حتمية علمية تبدو وكأنها سوف تنفي حرية
الإنسان، وكأن جيمس وقع في براثن الفرض المنهجي، لكنه يعود في النهاية،
ليوضح أن كم الانتباه الذي يستأثر به الموضوع بعد أن يجذب انتباهنا عن
طريق منافذ الجهاز العصبي … هذا الكم مبحث آخر، فقد يبذل العقل مجهودًا
أكبر أو أقل حسبما يختار، وإذا لم يكن هذا الشعور خدَّاعًا، وكان جهدنا
قوة روحية لامحتمة فإنه يشارك الظروف الدماغية في الوصول إلى النتيجة،
والحق أن هذا الجهد الإرادي يمكن أن يكون قوة أصلية، وليس مجرد معلول،
يمكن أن يكون لامحتمًا في مقداره.
وعلى الرغم من أن هذا الجهد الإرادي لن يقدم أو لا يمثل فكرة جديدة،
فإنه قد يعمق أو يطيل من أمد الوعي بموضوع الانتباه؛ على هذا قد يقتصر
دورُه على إضافة ثانية قد تكون حاسمة وعليها يتوقَّف الفارق بين عقلية
أو بين شخصية وشخصية، وكانت دراسة جيمس العلمية لسيكولوجية الإرادة،
توضح أن مجمل دراما الحياة الإرادية يتوقف على كم الانتباه الأقل
قليلًا أو الأكثر قليلًا الذي قد تتلقاه الأفكار الدافعة المتنافسة.
٦٠ وهكذا نعى الإرادة الحرة بغير أن يصارعها أو يصرعها الفرض
الحتمي المنهجي.
وأول نقطةٍ يجب أن نفهمَها في سيكولوجية الإرادة هو أن الحركات
الإرادية وظائف ثانوية لا أولية للأعضاء، أما الحركات الانعكاسية
والغريزية والعاطفية، فكلُّها مهام أولية، وأول المتطلبات القبلية
للحياة الإرادية إنما هو مدى الأفكار عن الحركات المختلفة التي هي
ممكنة، تخلفها في الذاكرة خبرات عن أداءاتها الإرادية، وهذه الأفكار
على نوعين فقط، إما مقيمة في موضوعها وإما بعيدة عنه،
٦١ ولا تحتاج الأفعال الإرادية لأي شيء آخر سوى هذا
المدد.
وإذا حللنا الميكانيزم العصبي للفعل الإرادي فسنجد بفضل مبدأ
الاقتصاد في الوعي، أن الشحنة الدافعة له يجب أن تكون خلوًا من
الإحساس؛ لأنها تؤدي الحركة بدقة تامة، فيكفيها أن تطبع فورًا رمزها
clue العقلي الخاص بها، وأن يكون
هذا الرمز غير قادر على إثارة أية حركة أخرى،
٦٢ وهنا نلاحظ التطابق بين القرار الحر والفعل الحر.
يرى جيمس أن الإنسان يتخذ قرارًا حرًّا في أعقاب فعل من أفعال التعمد
الإرادي، ويحدد خمسة أنماط أساسية للقرار:
أولًا: النمط العقلي، حين تكون حجج في صالح أو ضد فعل متاح، قد
استقرَّت في العقل بطريقة تدريجية وغير محسوسة تقريبًا، لتنتهي بأن
تخلف وراءها توازنًا واضحًا في صالح أحد البدائل، وهو بديل سوف يُتخذ
بغير جهد أو قسر، وقد يبدو أن القرار هنا نابع من طبائع الأشياء، ولا
يدين بشيء إلى إرادتنا، بيد أننا نملك على أية حال، إحساسًا تامًّا
بأننا أحرار، من حيث إننا نخلو من أي إحساس بالقهر.
في النمطين التاليين، لا يبدو سبب يحدِّد أيًّا من الفعلين، كل منهما
يبدو جيدًا، فيضنينا إحساس بالتردد وعدم الحسم حتى نشعرَ بأن القرار
السيئ أفضل من عدم اتخاذ أي قرار، وتحت هذه الشروط قد تنشأ ظروف عارضة
تقلب هذا التوازن في اتجاه أحد البديلين، وفي النمط الثاني يكون القرار
نابعًا من هذه الظروف العارضة، أما في النمط الثالث، فإن تحديد القرار
أيضًا أمر عارض، بيد أنه يأتي من الداخل لا من الخارج، من الجهاز
العصبي نفسه، الذي يندفع إلى أحد البديلين.
في النمط الرابع أيضًا ينهي
العقل فعل التعمد فجأة، كما حدث في النمط السابق، وهو يأتي حين ينتقل
من أحد البديلين إلى الآخر، على إثر تجربة خارجية أو تغير داخلي لا
يمكن تفسيره، وفي النمط الخامس، نشعر بأن الدليل غائب تمامًا أو حاضر
تمامًا، وفي أي اختيار نشعر بالحُرية الكاملة،
٦٣ هذه الحالة تناظر ما أسماه الفلاسفة بحرية استواء
الطرفين.
نخلص مع جيمس إلى أن الإرادة علاقة بين العقل وأفكاره، وأن الجهد
الإرادي جهد للانتباه، ويبدو دور الإرادة الحرة فيه أساسيًّا بتحديد كم
الانتباه، وأكد جيمس أن «كم الانتباه هو الظاهرة الأساسية للإرادة».
٦٤
ولكن جيمس كان يدرك جيدًا أن مشكلة الحُرية أوسعُ كثيرًا من أن يحيط
بها علم النفس،
٦٥ وأعمق كثيرًا من مجرد كم الانتباه، وإلا كان جيمس لم يزد
شيئًا على القديس توما الإكويني الذي انتهى إلى القول بأن: «حريتنا
تنحصر في سيطرتنا على أحكامنا، وسيطرتنا على أحكامنا تنحصر في سيطرتنا
على انتباهنا.»
٦٦ والحق أن هذه المعالجة السيكولوجية، لم تكن إلا ركنًا في
رحاب نظرية الحُرية الفلسفية التي تخلَّقت واكتملت في ذهن جيمس قبل
شروعه في هذه الدراسة السيكولوجية.
•••
(٣٥) على هذا لا بد أن يأتينا من جيمس الفيلسوف فيه ليكمل جهد
العالم، فتكتمل معالجة الحُرية في العالم اللاحتمي، وكان طريق جيمس
لإنجاز هذا، يتلخص في مناهضة الواحدية باعتبارها صورة الحتمية النافية
للحرية والجِدة، والانتصار للتعددية باعتبارها صورة اللاحتمية المثبتة
للحرية والجِدة.
إذا كانت الظاهرة الأساسية للإرادة من الناحية السيكولوجية هي
كم الانتباه Amount of Attention،
فإن الظاهرة الأساسية لها من الناحية الفلسفية هي الجِدة والإبداع
والفعل المبتكر (فقرة ١٢)، وجيمس هنا يذكرنا بصديقه هنري بيرجسون الذي
عُني كثيرًا بارتباط الحُرية بفكرة الخلق والإبداع، ولكن لأن بيرجسون
وقع في براثن الحتمية وأصيب بالانفصام، فإنه قد جعل الحُرية برفقة
الجِدة والإبداع كائنة في الديمومة، كمتميزة عن العلم الحتمي العلمي
القائم في الزمان، أما جيمس فلأنه لاحتمي والحُرية معه ليست منفية،
فإنه مثلما أقام الحُرية في هذا العالم فقد أقام فيه أيضًا الجِدة
والإبداع.
يقول جيمس إن إحساسنا بالحُرية يفترض أن بعض الأشياء على الأقل
تتقرَّر هنا والآن، وأن اللحظة الجارية قد تنطوي على بعض تحديد وقد
تكون نقطة بدء طريفة للأحداث وليس مجرد ناقلة بالدفعة من مصدر ما، نحن
نتخيل في بعض الظروف أن المستقبل قد يكون منطويًا في الماضي ولكنه قد
يكون في الواقع منضافًا إليه على هذا النحو أو ذاك، والواحدية تُخرج من
نطاقها كل هذا التصور للإمكانيات، وتُضطر إلى القول بأن المستقبل
والماضي مرتبطان فلا يمكن أن يكون ثمة ابتكار حقيقي في أي مكان،
٦٧ إن الابتكار لا ينفصل عن الحُرية التي تستلزم عالمًا
لاحتميًّا.
الحتمية = الواحدية = استحالة الجِدة والابتكار = نفي
الحُرية.
اللاحتمية = التعددية = إمكانية الجِدة والابتكار = إثبات
الحُرية.
وكما أوضحت تحليلاتنا السابقة،
فإن هذا حكم موضوعي عام، يصدق من أية نظرة فلسفية معقولة سواء أكانت
جيمسية أم لا جيمسية، غير أن جيمس على رأس من أدركوا هذا بوضوح ناصع،
وأدرك أن «النزاع بين التعددية والواحدية أعنف مآزق الفلسفة كلها
بالرغم من أنه لم يتضح بتميز إلا في أيامنا هذه»
٦٨ والمقصود طبعًا أيامه تلك حيث بدأ النزاع بين الحتمية
واللاحتمية، ولما كان جيمس رافضًا للحتمية مثبتًا لللاحتمية، كان
رافضًا للواحدية مثبتًا للتعددية، وأصل كل هذا إثبات الحُرية عن طريق
إثبات لاحتمية أنطولوجية.
لم يخصَّ جيمس قضية بجام غضبه،
مثلما فعل بالواحدية، من حيث كونها فلسفة حتمية تزعم أن العالم محكم
التماسك «يجب أن يكون وحدة متينة، يحدِّد الكل كل عضو فيه على ما هو
عليه، وأقل بادرة من بوادر الاستقلال تقضي عليه فورًا».
٦٩ لقد أحس جيمس أن الواحدة «تسعى إلى نظرة محيطة بجميع
الأشياء وإلى نظام مغلق على الأجناس، يتحكَّم سلفًا في فكرة إمكان
ابتكار جوهري».
٧٠ ويستأثر جيمس الحتمية العلمية بالذات، التي هي عليَّة،
بجريرة نفي الجدة والإبداع، بقوله: «إن كل لحظة من لحظات العالم يجب أن
تحتوي على جميع علل المعلولات، التي تشملها اللحظة التالية ولكن إذا
كانت القاعدة تؤيد أن كل ما في المعلول يجب أن يكون أولًا على نحو ما
في العلة.» يترتب على ذلك أن اللحظةَ التالية لا يمكن أن تحوي شيئًا
طريفًا على الحقيقة وأن الابتكار الذي يبدو منبثًّا في حياتنا انبثاثًا
لا ينقطع، لا بد وأن يكون وهمًا معزوًّا لضحولة وجهة النظر،
٧١ فيوضح تهافت الحتمية العلمية بقوله: «على ذلك فالمرحلة
الأخيرة للمنهج العلمي هي في قاع المبدأ الإسكولاستيكي: «العلة تساوي
المعلول» وقد وضع في بؤرة أدق، وصور تصويرًا محسوسًا، هذا المبدأ واحدي
تمامًا في أهدافه وإذا استخدم تفصيلًا فإنه سيحول العالم الواقعي إلى
عملية من الهوية الأبدية، ندرك مظاهرها إدراكًا حسيًّا، تحدث كنوع من
الإنتاج بالتبع، لا تعلق عليه أهمية ما، وفي أية حال ليس ثمة نمو واقعي
ولا ابتكار حقيقي يدخل في الحياة.»
٧٢
وبعد هذا الهجوم الساحق الماحق، يأتي جيمس بهدوء أكثر، ليأخذ المآخذ
التالية على الواحدية:
- (أ)
لا تفسر وعينا المتناهي، فهي ترى أن الذهن يعرف كل شيء
بفعل واحد من أفعال المعرفة بجانب معرفته لكل شيء آخر، وفي
حين أن الأذهان متناهية تعرف أشياء دون الأخرى.
- (ب)
تخلق مشكلة الشر، فالشر في نظر التعددية يمثل فقط مشكلة
عملية يمكن التخلص منها، أما مع الواحدية فقد دخل في ذات
الهوية مع الكون.
- (جـ)
تناقض طابع الحقيقة الواقعية، كما تُدرَك في التجربة،
فالتغيير والابتكار في عالمنا وفي التاريخ عنصران
جوهريان.
- (د)
إنها قدرية، فالإمكانية المتميزة عن الضرورة من جهة وعن
الاستحالة من جهة أخرى تبدو معها مجرد وهم.
٧٣
ويمكن ملاحظة أن المأخذ الاول إبستمولوجي، والثاني أخلاقي برجماتي،
والثالث أنطولوجي أما الرابع فيضم الوجوه الثلاثة معًا، وهذه الوجوه
بدورها تضم وجوه الحتمية النافية للحرية.
وعلى أساس نفي الواحدية، يأخذ
جيمس بتعددية مفضية إلى لاحتمية حقيقية: لا حتمية أنطولوجية فأخرج
كتابه «عالم متكثر
Pluralistic world»
حيث نجد العالم كله يتألف من عدد لا حصر له من الموجودات الفردية وكل
من هذه الموجودات له وجوده الواقعي المستقل، ولكن كلًّا منها أيضًا له
صلاته بغيره، ومن هنا تستقيم شبكة من الأفراد، ثناياها العلاقات
والارتباطات؛ على هذا، فوحدة العالم ليست أمرًا مكتملًا منذ البداية
وإنما هي عملية متصلة تنحو نحو التوحيد، وتنمو شيئًا فشيئًا،
٧٤ إن العالم التعددي عالم مرن لدن لأنه لاحتمي، عالم بأبواب
ونوافذ مفتوحة، وبإمكانية لا تقبل الضبط من قبل، بل يأتي بابتكار جديد،
بفعل حر، والإرادة الحرة لا تعني إلا الابتكار الحقيقي، على ذلك
فالتعددية تتقبَّل فكرة الإرادة الحرة»،
٧٥ وكما يقول جيمس: «كوننا أنفسنا قد تكون أصحاب ابتكار عبقري
جديد ومبتكر، فهذه هي قضية مذهب حرية الإرادة».
٧٦
ليست التعددية إلا تمثيلًا عينيًّا للعالم اللاحتمي، وكلتاهما —
التعددية واللاحتمية — أسس أنطولوجية
لا تعني على المستوى الإنساني إلا الحُرية، إمكانية الاختيار بين
بدائل؛ لذلك ستضع الحُرية مع اللاحتمية مع التعددية في بوتقة واحدة،
لنجدها عند جيمس ترتكز على أساسين:
- أولًا: التجريبية الراديكالية، وانعدام تعاطفه مع
المثالية.
- ثانيًا: مذهبه البرجماتي.
فالتجريبية الراديكالية: ترى
أن الحقيقة لا يمكن أن تكون محددة على ذلك الوضع الحتمي في سياج تصوري،
وهي تنبذ ادعاء نظرة شاملة،
٧٧ إنها تنتقل من الأجزاء على أنها أساسية في نظام الوجود وفي
نظام المعرفة (أي أنطولوجيًّا وإبستمولوجيًّا بمصطلحاتنا)، والأجزاء في
التجربة الإنسانية هي المدركات الحسية، تتحوَّل إلى كليات بإضافاتنا
التصورية، والمدركات الفردية تتغير دون انقطاع، ولا تعود أبدًا إلى ما
كانت عليه تمامًا، وهذا يحمل إلى تجربتنا عنصرًا من الابتكار الملموس،
والطبيعة كلها معطاة في تيار الإدراك الحسي، بيد أن هذا التيار وإن كان
مستمرًّا من تالٍ إلى تالٍ فإن أجزاءه غير المتجاورة تفصلها أجزاء
تتداخل بينها، ومثل هذا الانفصال يبدو في حالات متنوعة عاملًا على
التفرقة الإيجابية،
٧٨ هذا الاستقلال النسبي للأحداث لا تتيحه إلا اللاحتمية فقط
أما الحتمية الواحدية فلا تجيز — كما يؤكد جيمس — أن يكون هناك
موجوداتٌ فردية منعزلة ما دام وجود كل موجود مرهونًا بما بينه وبين
الموجودات الأخرى من علاقات، وبدون ذلك لا يستقيم له كيان.
وهنا نتبيَّن هول الفارق بين التصورين: في عالم الواحدية يسبق الكل
الأجزاء ويتسلط عليها ويتحكم فيها؛ ليحفظ لها جميعًا نظامًا مكتملًا
محددًا منضبطًا، فهنا عالم ترتبط أجزاؤه ارتباطًا وثيقًا، ولكل جزءٍ
عمله المحدد، ومهمته المرسومة، فلا مجال إذن للحرية أو الاختيار بين
بدائل، أما في عالم التعدد، فعلى العكس من هذا الأجزاء تسبق الكل،
والكل في نمو متصل واكتمال مطرد ولم يتم بعد، نموه مرهون بانضياف أجزاء إليه،
٧٩ وفي هذا الانضياف تتجلى الحُرية الإنسانية.
إن التجريبية الراديكالية مثلما أقامت التعددية، تقيم أيضًا بقية
قرائنها من لاحتمية وحرية بما تتضمنه من مسئولية وجدة وابتكار، فيؤكد
جيمس أن التجربة تظهر لنا أن الدور المنوط بالإنسان في الحياة لا يمكن
أن يكون دور مشاهد سلبي لا يملك أن يفعل شيئًا، وإنما دوره الأول أن
يثبت وجوده ويعزِّز كيانه في عالم معقد متشابك تصطرع فيه قوى متعددة
متباينة، وعلى الإنسان أن يجاهد ليفرض مثله العليا على هذا العالم، وفي
وسعه أن يختار فيؤثر الخير وينبذ الشر،
٨٠ والتجريبية الراديكالية تشهد أيضًا بأن الحقيقة لا وجود
لها في العقل، وإنما هي قائمة في التجربة الحية، وفي الحاضر الماثل،
وفي ذلك الميدان الذي أمارس فيه نشاطي، فأقبل وأرفض وأعارض وأوافق،
وأتردد وأقرر وأغامر وأضيف جهودي إلى تاريخ العالم، وفي كل لحظة يتقرر
واحد من الإمكانيات العديدة التي تعرض لي ويتم لي تحقيقه، فيتحقق شيء
جديد في العالم، وهذه هي النقطة التي ينحني عندها خط الأحداث
المستقبلة، ويتجه اتجاهًا معينًا دون آخر، هذه اللحظات التي يتبدى فيها
الاختيار واضحًا ليست حالات استثنائية ولا نادرة تطرأ على مجرى الأشياء
بل هي في صميمها تطبيق لقاعدة عامة، هي قاعدة العالم وقاعدة الحياة،
ففي كل زمان ومكان ثمة اختيار،
٨١ وبهذا لا تجعل التجريبية الراديكالية الحُرية مرهونة بلحظة
شاذة غريبة، أو عالم مفارق، بل تجعلها في صميم بنية العالم من حيث هو
لاحتمي، فتمهد للقضاء المبرم على الشيزوفرينيا، والذي وطد له جيمس
بمعالجته لسيكولوجيا الإنسان/إنسان يملك إرادة تحدِّد كم الانتباه،
الحُرية ليست كائنة، أو بالأحرى منفية إلى نومينا أو روح مطلق أو أنا
متعالٍ، بل هي كائنة في نفس هذا العالم الذي نحيا فيه، ويمر بخبرتنا
تعدديًّا لاحتميًّا، أي غير مصبوب في قالب نهائي بل يحمل مستقبله أكثر
من إمكانية، وفي تعيين وتحقيق إحداها فعل حر، ذو جِدة وموضع
للمساءلة.
أما من الناحية البرجماتية، فثمة ارتباط بين ميتافيزيقا تعددية لهذا
الكون، وبين البرجماتية التي سبقتها إلى ذهن جيمس، حتى يمكن أن يكونا
وجهين لعملة واحدة، فالبرجماتية تطبيق للتعددية، ويمكن أن يكون العكس
أيضًا صحيحًا، فالمنهج البرجماتي والمعيار البرجماتي للحقيقة يطبقان
مرارًا وتكرارًا في البرهنة على التعددية وعلى رفض الواحدية، والتعددية
أيضًا تطبيق للبرجماتية، بمعنى أن التفسير البرجماتي للمعرفة يُهيئ
حالة خاصة للميتافيزيقا التعددية.
٨٢
ثم إن التعددية ترتبط ارتباطًا متينًا بالأشياء كما هي في تنوعها
واختلافها، وتلتحم بالصراع المحتوم في ميدان الحياة، كل فرد منا في هذا
الخضم البرجماتي ينبغي أن يواجه العالم ويتصدى للحياة، فيؤدي دوره
ويختار مصيره.
٨٣ وإذا تساءلنا لماذا؟ أو بتعبير برجماتي أدق: ما فائدة
التعدد واللاحتمية وحرية الإرادة الإنسانية؟ لكانت إجابة جيمس: لكي
نقهر الشر. نزعة جيمس العملية والعلمية التجريبية والواقعية الجديدة،
تفرض عليه الاعتراف بحقيقية الشر وواقعيته وبجدوى الجهود الإنسانية
المبذولة لقهره أو تقليصه إلى أضيق نطاق ممكن، من أجل حياة أسعد، عارض
جيمس بشدة الطلاق الأفلاطوني للخير من حيز الوجود، وأصرَّ على أن المثل
الأعلى والواقع مطردان مستمران باتصال ديناميكي، إلا أن جيمس لم يكن
أقل معارضة من جورج سانتيانا لأي اختزال للمثالي إلى الواقعي، المثل
الأعلى شكل مفضل للحياة شيء يتحول إلى واقع عن طريق طاقة الإرادة.
٨٤
وها هنا نتبين جدوى الحُرية، وأفضلية عالمها اللاحتمي التعددي، إنه
سيظل دائمًا في دور التشكيل والتقويم بينما عالم الواحدية ثابت لا
يتغير، يعتقد جيمس أن هذا العالم إذا خلا من الشرور واستجاب لجميع
مطالبنا، لما كان لنا (أو بالأصح لما كان ثمة فائدة برجماتية) من أن
نعترض على أن يكون موضوع ضرورة — مطلقة — غاية الإطلاق، ولما كان لنا
الحق في الحُرية، فغاية ما نصبو إليه في عالم اجتمعت له كمالات إلهية
هو أن نتأمل وحدته في سموها ونعمل على صونها، كما يفعل الحتميون، ولكن
الأمر يختلف في هذا العالم الذي نمارس فيه فعلًا تجربة الحياة ويحاول
العقل فهمه، من الأكيد أنه في حاجة إلى الإصلاح والتعديل، وهذه حاجة
تنفيها الحتمية، أما جيمس فيعلن بلا حتميته أن العالم يمكن أن يكون
أفضل، وهذا الإمكان ليس تصوريًّا فحسب، بل هو واقعي وعملي، ويتضمن
واقعتين؛ أولًا: نحن متأهبون، بما اجتمع لنا من مُثل عليا وما تحمله
الحُرية من مسئولية بإزائها، للنضال من أجل تحقيقها، ويقتضي منا هذا أن
نتدخَّل تدخلًا فعالًا في مصير العالم، وثانيًا: هذا العالم ليس كتلة
صارمة وإنما هو جماع من عناصر مستقلة، بحيث يمنعنا من أن نعزل جانبًا
ما يتراءى لنا شرًّا.
٨٥ وكان هذا الدافع البرجماتي وراء قول جيمس إن اللاحتمية
بتعدديتها هي الوسيلة الوحيدة لتحطيم هذا الكون إلى أجزاء خيرة وأجزاء
شريرة، تمهيدًا لمناصرة الأولى ضد الثانية.
وأخيرًا بَقِيَتْ ملاحظة أن جيمس أحاط تمامًا بهذا التبرير البرجماتي
لقضية قهر الشر؛ فلم يفُته وجهها المقابل للحتمية الفيزيقية أي الوجه
الثيولوجي، من المعروف أن الشر والإله ذا القدرة الشاملة ينجم عنهما
معضل: فلو كان هناك مثل هذا الإله الشامل القدرة للزم أن يكون مسئولًا
عن كل ما يقع، والشر بعض ما يقع، فإما أن نقول إن الرب عندئذٍ مسئول عن
الشر أو إنه عاجز عن درئه، وجيمس يفضل البديل الثاني والعجز هنا معناه
أن الرب لا يحيط بكل شيء في الوجود، بل هناك إلى جانبه سائر العقول
والإرادات، وهي أدنى منه وأصغر غير أنها موجودة ومسئولة عما تصنع،
٨٦ وبهذا لا يجعل جيمس من وجود الرب دحضًا للحرية، ولا دحضًا
لجدوى الكفاح من أجل قهر الشر.
على هذا النحو تتوطد الحُرية الأنطولوجية تمامًا، خصوصًا من حيث هي
وسيلة لتحسين العالم
Meliorism؛
٨٧ لذلك قلنا في البداية، إن الحُرية مع جيمس مكملة لهذا
العالم.
وقد نرفض التبرير البرجماتي، بل والمنهج البرجماتي بأسره؛ لأنه لا
يعنى بأبسط مهام منهج التفكير، أي إقناع العقل ليتصرف على أساس هذا
الاقتناع، وليس العكس كما تدعي البرجماتية بدائرية غريبة،
٨٨ ومع هذا لا نستطيع إلا التسليم بأن المنهج البرجماتي بمذهب
التحسين، يبلور الحجة الأخلاقية للحرية، أي جدوى الثواب والعقاب، والذي
يقينا من مصير حيوانات السيرك الذي نئول إليه إذا ما سرنا مع سكينر
وأقرانه من علماء النفس الحتميين، وهذا ما عبَّر عنه جيمس بقوله: «إن
المسألة الوحيدة في العواقب المترتبة على قضية حرية الإرادة، إنما هي
مذهب التحسين، والذي تجعله اللاحتمية ممكنًا».
على أية حال، عرف جيمس كيف تؤتَى الحُرية في العالم اللاحتمي، وإذا
حذفنا كل العناصر البرجماتية بمعنى النفعية، فلن يتأثر تناوله السليم
للمشكلة، وقد راعينا أن نفعل هذا، فأتى العنصر البرجماتي في نهاية
الحديث، حتى لو حُذف لما تأثرت المعالجة كثيرًا، ولظلت الحُرية محصلة
منطقية لعالم لاحتمي أنطولوجيًّا، وواقعة مجدية فعالة في عين هذا
الوجود، لا تتناقض بأية حال من الأحوال — بل تتسق تمامًا — مع محاولة
العقل العلمي لفهم هذا الكون واستكناه طبيعته بما فيه ومن فيه.
طالما تخلصنا من الحتمية وجدنا العلم قبل غيره يؤكد أن الإنسان حر
يمارس ألوانًا من الاختيار، وبين هذه الألوان من الاختيار — كما يؤكد
جيمس — تتضح سمات الحقيقة الواقعية، وتستبان خصائص العلم، الاختيار
يمضي من الماضي وينفذ خلال الحاضر وينطلق إلى المستقبل، وفي كل اختيار
إشارة إلى إمكانيات مستقبلية، سيتقرر مصيرها أيضًا باختيار جديد،
وكطبيعة الحُرية تلقي على كاهل الإنسان مسئولية ضخمة، فهي لا تجعله
مجرد حلقة في سلسلة قد تقرر مصيرها بفعل علل خارجة عنه وخاضعة لضرورة
مطلقة لا يد له فيها، إنما تتمثَّل المسئولية في العالم اللاحتمي، ففيه
فعالية للإنسان، وفيه مقدرة على الخلق والتجديد والإبداع.
٨٩
الإنسان حر الأفعال، يستطيع أن يقدم الجديد إلى العالم، وبهذا الجديد
يتحدَّد المستقبل، الحُرية تنقذ التاريخ من الهبوط إلى محض تكرار مستقيم،
٩٠ الإنسان حر، وتاريخه حاصل قراراته وأفعاله الحرة.
•••
(٣٦) إدنجتون، آرثر ستانلي Eddington S. A.
(١٨٨٢–١٩٤٤): أعظم عالم فلك في القرن العشرين، يقف في الصف الأول من
فيزيائيي نظرية النسبية، هو راهب من رهبان المعرفة، نذر حياته الهادئة
من أجلها، من أجل العلم والفلسفة، فكان غزير الإنتاج في كليهما، وطبعًا
في العلم أكثر وأقيم، ولكن له اهتمامات فلسفية عميقة جدًّا، ونسق يوسم
بأنه ملغز غامض يقوم على نوع من المثالية المعرفية، ويسلم بمبادئ قبلية
شبيهة بالمقولات الكانطية، بعبارة أخرى، هو فيلسوف من طراز كانط كما
يحلو له أن يصف نفسه.
يدفعنا إليه ويدفعه إلينا، إنه
آمن باللاحتمية العلمية المعاصرة وبانفراج معضل الحُرية على أساسها،
كما لم يؤمن بأية قضية فلسفية أخرى، وكان أسعد حظًّا من وليام جيمس فقد
عاش في الزمن الذي شهد اللاحتمية العلمية، بفضل يعود إلى جيله، أي جيل
إدنجتون من العلماء، فتمكن من الانتقال إلى قضية الحُرية الأنطولوجية
انتقالًا أسلس فلسفيًّا.
البعض يرى إدنجتون واقعًا في براثن المثالية المتطرفة، خصوصًا لتدخل
عناصر صوفية حدسية في فلسفية.
ولما كنا تعاقدنا في المدخل على تنزيه معالجة القضية من مثل هذه
العناصر التي تثير جلبة الرافضين، فلا بد وأن توضح بادئ ذي بدء أن
معالجة إدنجتون لقضية اللاحتمية العلمية والحُرية الإنسانية بمنأى عن
هذه العناصر، وخصوصًا معالجته لقضية اللاحتمية، إنه عالم فيزيائي أولًا
وقبل كل شيء فلا ينبغي أن نخشى كثيرًا من مثاليته الفلسفية، وإن لم
نلقَ الموضوعية مع علماء الفيزياء، فأين نجدها؟! ولكنها ليست الموضوعية
المطلقة المستحيلة التي تراءت لأوهام الحتميين، والتي انتهينا منها يوم
أن انتهينا من المطلق، بل الموضوعية المعاصرة علميًّا وفلسفيًّا والتي
قد يطلق عليها مصطلح
Inter-subjectivity البين ذاتية أو
التشارك بين الذوات، لا ينبغي أن نخشى مما يوصم به إدنجتون من ذاتية
متطرفة، وأوضح الأدلة على تبرئته من هذا إلى حد كبير، واقعة معروفة
مؤداها أن مبدأ هيزنبرج كان مطروحًا في البداية تحت اسم مبدأ اللايقين
Principle of Uncertainty بما
يحمله هذا الاسم من دلالة إبستمولوجية محضة، بل ذاتية من حيث تجعله
واقعًا تحت طائلة تفسير الحتميين الذاتي لكل لاحتمية، وكان إدنجتون هو
المسئول عن التسمية الشائعة له الآن، أي اللاتعين
Indeterminacy،
٩١ بما تحمله من دلالة موضوعية، تجعله إبستمولوجيًّا
وأنطولوجيًّا في آنٍ واحد.
وبالنظر إلى حركة العلم المعاصر إبان انقلابه على الحتميين خصوصًا في
عشرينيات القرن العشرين، يتضح أن إدنجتون على رأس من تحمسوا لكشف العلم
المعاصر عن الطبيعة اللاحتمية للكون، ورحبوا بانهيار الحتمية، لقد بدت
اللاحتمية أمامه بوضوح رؤية صاف، قل أن تمتع به علماء آخرون من جيله،
سخَّر علمه الغزير من أجل قضية اللاحتمية، وسخر اهتماماته الجادة ليوضح
أن:
«أن هذه التطورات الأخيرة حملت معها انسحاب العلم تمامًا من موقف
العداء الصريح للإرادة الحرة، حتى إن هؤلاء الذين يتمسَّكون بالنظرة
الحتمية للنشاط الذهني يجب أن يتمسَّكوا بها على أساس دراستهم للعقل
ذاته أو كنتيجة لهذا، وليس لأنهم بهذه الحتمية يجعلون العقل متوافقًا
مع معرفتنا التجريبية بقوانين الطبيعة اللاعضوية».
٩٢
على أن هذا الحتمي لا بد وأن يكون واقفًا بمعزل عن التطورات
الفيزيائية، فكما يقول إدنجتون:
«لقد انزاحت الحتمية من موقعها الفيزيائي الذي بدا لا يتقهقر، ونحن
طبعًا نتشكك كثيرًا في دعاويها لكي تضمن موقعًا في مجالات الخبرة الأخرى».
٩٣
لم تعد الفيزياء كما كانت، ملاذًا أرحب للحتميين بما تسبغه على الكون
من حتمية كاملة، لن ينفصم عنها العقل والفعل الإنساني، وهو جزء من كل،
وطبعًا، إذا كان للعقل أن يتحرر من الحتمية، فلا بد وأن يتحرر منها
العالم الفيزيقي أولًا، وكما يؤكد إدنجتون:
«الآن لم يعد ثمة عائق أمام هذا التحرير فبعد أن وقفنا على الطبيعة
اللاحتمية للكون يمكن أن نقتنع تمامًا بأن الإرادة الحرة أصيلة وحقيقية.»
٩٤
النظرة العلمية الشاملة الموحدة، المنشودة من الجميع، سواء حتميين أو
لاحتميين، جعلت الحتميين يرون أن الأفعال التي تبدو محكومة بالإرادة
الحرة هي في الحقيقة أفعال انعكاسية محكومة بالعمليات المادية في المخ،
وأن أفعال الإرادة محض ظواهر فرعية متآنية مع الظواهر الفيزيقية، لكن
أوَليس أساس هذا الافتراض أن نتائج تطبيق القوانين الفيزيائية على
الذهن حتمية تمامًا، وبعد أن انهارت حتمية القوانين الفيزيائية، تنهار
الدعوى بأن سلوك الدماغ بجملته ميكانيكي حتمي تمامًا، ويغدو لغوًا بغير
معنى القول بأن سلوك الذهن الذي هو الدماغ الواعي هو على وجه الدقة نفس
سلوك الدماغ الميكانيكي،
٩٥ وطالما أن القوانين الفيزيائية ليست علية صارمة، فقصارى ما
يمكن قوله إن سلوك الذهن أو الدماغ الواعي واحد من سلوكيات محتملة
للدماغ الميكانيكي، والواقع، أن هذا هو الأمر، وبمنتهى الدقة، والقرار
الذي نفصل به بين السلوكيات المحتملة (أي بين بدائل السلوك المطروحة)،
بحيث نسلك واحدًا منها فقط، وهو ما نسميه بالاختيار الإرادي الحر.
٩٦
يوضح إدنجتون أن الانقلاب اللاحتمي للعلم المعاصر يريحنا تمامًا من
المتاعب الآتية من الشقة القائمة بين علوم المادة الجامدة وعلوم المادة
الحية، إن لم يكن قد أزالها، على الرغم من هذا فإنه — وهو الذي يوصم
بالذاتية — يرفض بتبصر رائع محاولات المماثلة البلهاء بين قفزة
الإلكترون وحرية الإنسان الواقعة في أسر النزعة البدائية التشبيهية
بالإنسان.
يقول إدنجتون: «قد يثار التساؤل: وهل قفزة الذرة قفزة معينة من قفزات
الكوانتم المحتملة أمامها، يتم أيضًا باختيار إرادي؟» والواقع أن هذه
المماثلة بجملتها مرفوضة ولا أصل لها، كل ما في الأمر هو أنه لا يوجد
شيء في العالم الذي نعرفه بقراءة مؤشرات الأجهزة العلمية الكاشفة، يحتم
سلفًا قفزة الذرة، ولنقل جدلًا، قرارها بهذه القفزة بالذات، وهذه واقعة
في العالم الفيزيقي لها نتائجها في المستقبل ولكن ليس ارتباطات عليَّة
بالماضي.
أما في حالة الدماغ فلدينا تبصُّر بدخيلة العالم الذهني الكامن من
خلف عالم قراءة المؤشرات، ومن هذا العالم نظفر بصورةٍ جديدة عن حقيقة
القرار الذي يجب أن يؤخذ،
٩٧ والأساس المشترك هو أنه ليس ثمة شيء اسمه العلية، لا في
قفزة الذرة ولا في قرار المخ، بعبارة أخرى، إنها الطبيعة اللاحتمية
لبنية هذا الوجود بكل ما فيه ومن فيه.
هذه اللاحتمية تعني مجالًا لعدم إمكانية التنبؤ، إنه المجال القائم
في الأنساق الفيزيائية، وأيضًا في حركات الأجسام الإنسانية، ويبقى
التساؤل: هل عدم إمكانية التنبؤ في المجال الإنساني واسعة كما هي في
حالة ذرة الراديوم، أم أنها صغيرة يمكن إهمالها كما هي في حالة حركة الكوكب؟
٩٨ يترك إدنجتون جانبًا هذا التساؤل العسير، الذي لم تُجب عنه
العلوم الإنسانية بعد، ويفترض أن ثمة عاملًا لاحتميًّا واسعًا، عاملًا
فيزيقيًّا، يتحكم في سلوكنا، ربما كان مجاله خاضعًا لعوامل عقلية خالصة
بصورة تنفي الحُرية، ولكن العوامل العقلية الكائنة قبل حدوث الحدث
معطيات مشروعة للتنبؤ في العلوم الإنسانية، مثلًا جريمة القتل التي سوف
أرتكبها في الشهر القادم، قد تتحتم بصورة جزئية بالنزوع إلى القتل
الموجود الآن في عقليتي، شريطة أن يكون هذا النزوع قابلًا للتحديد
والتعريف بصورة أخرى، غير أنه من المحتمل أن أرتكب جريمة قتل وقد
يتحدَّد هذا بأعراض عقلية معينة، أعراض من قبيل تلك التي يعرضها أولئك
الذين يرتكبون فيما بعد جريمة قتل، فهل يعني هذا أن ثمة حتمية عقلية
تنفي الحُرية الإنسانية، بعد أن استرحنا من معضل الحتمية
الفيزيقية؟
يدحض إدنجتون هذا، أو على الأقل يرفضه على أساس أن ثمة تعقيدًا لا
مبرر له حين أن نصادر على الحتمية بالنسبة للعمليات العقلية،
واللاحتمية بالنسبة للعمليات الفيزيائية، وأنه من الصعب أن نتبين كيف
يمكن تطبيق حتمية عقلية مماثلة لحتمية الفيزياء الكلاسيكية، التي هي
الأصل في كل دعوى حتمية الآن؛ لأنه ليس ثمة مماثلة بين إمكانية التنبؤ
في أنساق هذه الفيزياء، والحالات والكميات العقلية بصميم طبيعتها ليست
معطيات للتنبؤ الدقيق،
٩٩ يرمي إدنجتون إلى إثبات أن الحتمية العقلية يصعب عليها أن
تأتي بأية أسانيد مستقلة، بعد أن انهارت الحتمية الفيزيقية.
إن اللاحتمية الفيزيقية قد أصبحت مسلَّمة الآن، ويرى العالم
الإنجليزي إدنجتون أن التسليم بلاحتمية تصرفاتنا الجسدية هو في حد ذاته
الخطوة الحاسمة في إطلاق حرية الذهن
Mind التي عادةً ما تختلط بالتساؤل حول حرية الإرادة،
١٠٠ فحتى المؤثرات الفيزيقية للإرادة يجب أن تضم أعدادًا واسعة
من الذرات (الخلايا)، وبالتالي علينا أن نقر بلاحتمية بدرجة أعلى من
تلك التي نقرها في أي نسق مماثل لاعضوي.
١٠١
الحتمية الفيزيقية أو الكونية كانت هي المعضل، وبانفراجه أي
باللاحتمية تنفرج كل المشاكل الأخرى، وفي نهايتها الشيزوفرينيا الآتية
من غربة الكون الفيزيقي عنا وغربتنا عنه، لكن اتضح أن نسيجه لم يعد
«يختلف عن نسيج الروح».
١٠٢ فيقول إدنجتون إنه من المتعذر علينا الآن أن نسلم بنظرية
تجعل الحياة والروح أكثر آلية من الذرة الفيزيائية نفسها.
١٠٣
•••
(٣٧) «كومتون»: من العلماء المبرزين الذين أدلوا بدلوهم في هذا
الصدد، عالم الفيزياء الأمريكي آرثر
هولي كومتون
A. H. Compton (١٨٩٢–١٩٦٢) وهو صاحب الكشف الفيزيائي
المهم الموسوم باسمه: تأثير
كومتون
Compton Effect، والذي يعد من أهم تعزيزات نظرية الكوانتم، أو
بدقة أكثر تعزيزات تطبيق آينشتين لها في دراسته للتأثير الكهروضوئي،
واكتشافه الفوتون كوحدة أولية للضوء، وجاءت نظرية كومتون كأوضح
البراهين، وكإثبات حاسم لوجود الفوتون، وأيضًا دراسة القوانين تلك
الظاهرة الجديدة بصورة غاية في الدقة وطرح تفسير لها، جاء «تأثير
كومتون» نتيجة لدراسة تلك الظاهرة الكهروضوئية، والتأثير الكهروضوئي
حينما ينتج عن أشعة إكس، ليثبت أن هذه الأشعة بدورها تتكون من وحدات
فوتونية خاضعة للكوانتم، وكان من المعروف أن الأشعة إذا اصطدمت بجسم
معدني، فإن جزءًا من هذه الطاقة يتشتَّت في كل الاتجاهات على صورة أشعة مبعثرة،
١٠٤ وقد درس كومتون أشعة إكس وأشعة إكس المبعثرة، ووضع عام
١٩٢٣ نظريته «تأثير كومتون»، ومفادها: «اختزال أو تخفيض طاقة فوتون
كنتيجة لتبادله الفعل مع إلكترون حر»، ذلك أن جزءًا من طاقة الفوتون
ينتقل إلى الإلكترون (الإلكترون المرتد أو إلكترون كومتون) وجزء يتوجه
ثانيةً بوصفه فوتون الطاقة المختزلة هو بعثرة
Scatter كومتون،
١٠٥ وكما توضح السمة الكوانتمية فإن تأثير كومتون من المعاول
التي انهالت على حتمية الفيزياء الكلاسيكية، وأحد معالم الخروج النهائي
من العالم الحتمي.
وفوق هذا، انشغل كومتون انشغالًا عميقًا بمشكلة الحُرية، وأخرج
كتابيه «حرية الإنسان» و«المعنى الإنساني للعلم»، وكان — قبل مبدأ
هيزنبرج — يُقلقه جدًّا الكابوس الحتمي، يُقلقه لأنه نظام مغلق تتفاعل
عناصره مع بعضها تبعًا لقوانين محددة لا تسمح إطلاقًا بتدخُّل عناصر
أخرى كالإرادة الحرة، ومن ثم أدرك أنه من العبث الحديث عن أية حرية مع
التسليم بالحتمية العلمية، وبالتالي بدا له أن التطورات العلمية
المعاصرة ينحل معها المأزق، ويعبر في كتابه «المعنى الإنساني للعلم» عن
الارتياح العميق تجاه هذه التطورات، فيقول: «بتفكيري الخاص في هذا
الموضوع الحيوي، فإنني في حالة عقلية أهدأ من أية حال يمكن أن أكون
فيها في أية مرحلة سابقة من مراحل العلم.» فإذا افترضنا أن عبارات
القوانين الفيزيائية صحيحة، فقد كان علينا أن نفترض — كما فعل معظم
الفلاسفة — أن الشعور بالحُرية وهم، وإذا اعتبرنا الاختيار الحر
فعالًا، فإنه لا يصح الاعتماد على قوانين الفيزياء وكان هذا المعضل
مرهقًا جدًّا، أما الآن، فلم يعد ثمة أي مبرر لاستعمال القانون
الفيزيائي كدليل ضد الحُرية الإنسانية.
١٠٦
من أجل هذا كان انتصاره لقضية اللاحتمية العلمية، بعد أن ترجمها أبلغ
وأعظم ترجمة بكشفه الفيزيائي المذكور، بل ودفعه انشغاله الفلسفي الجاد
بقضية الحُرية إلى أن يقول «اللاحتمية الفيزيائية لا تكفي، يجب أن نسلح
أنفسنا بإيمان عميق باللاحتمية.»
١٠٧ كقضية فلسفية مطلقة.
وسار كومتون في اتجاه اللاحتمية تقريرًا للحرية إلى أبعد حد، حتى بدا
وكأنه قد تطرَّف؛ فقد كان من الذين اتخذوا من نماذج الكوانتم النظرية
تصميمات تفسر — أو على الأقل توضح — إمكانية الحُرية الإنسانية،
والنموذج يستخدم لا تعيين الكوانتم، وعدم إمكانية التنبؤ بقفزة
الكوانتم، كنموذج لقرار إنساني عظيم الأهمية، إن النموذج يتكون من
تعظيم لأثر قفزة منفردة؛ بحيث إنها إما أن تسبب انفجارًا، وإما أن تحطم
الوضع الضروري لإحداث الانفجار، وبهذا تصبح قفزة الكوانتم المنفردة،
مكافئة لقرار عظيم.
١٠٨
اعترض الفيلسوف الكبير كارل بوبر على هذا، قائلًا إنه ليس في
الأنموذج تماثل مع أي قرار عقلاني متبصر، إنه بالأحرى نموذج لنمط صنع
القرار الذي يحدث حينما يعجز الناس عن اتخاذ القرار، فيلجئون إلى رمي
قطعة نقود، والواقع أن مجمل جهاز تعظيم قفزة الكوانتم يبدو بغير ضرورة،
فرمي قطعة النقود، واتخاذ القرار على أساس نتيجة الرمية يفعل هذا
بالمثل، وقد يقال إن بعض قراراتنا مثلها مثل رمية النقود، قرارات خاطفة
تُتخذ بغير تدبر وتعمد، طالما أننا في بعض الأحيان لا نملك الوقت
الكافيَ للتدبر والتعمد كما في حالة قيادة السيارة أو غيرها، وبالتدريب
تأتي القرارات صائبة بما يكفي، ونموذج قفزة الكوانتم نموذج لقرارات من
هذا النوع، قرارات خاطفة. ويعترف بوبر بأنه من المعقول أن شيئًا ما مثل
الأثر العظيم لقفزة الكوانتم قد يحدث بالفعل في أذهاننا، إذا كنا نتخذ
قرارًا خاطفًا، ولكن هل القرارات الخاطفة مهمة؟ أو أنها مميزة للسلوك
الإنساني العقلاني؟ يجيب بوبر بالنفي، منتهيًا إلى أننا لا يجب أن
ننساق كثيرًا مع قفزات الكوانتم؛ لأنها تجعل عالم الصدفة المحضة هو
بديل عالم الحتمية الكاملة كما قال الحتميون من مدرسة هيوم وشليك.
١٠٩
وليس الأمر حتميةً شاملة ولا هو صدفة محضة، بل هو عالم من ثوابت
يتدخَّل فيه عنصر المصادفة، ليضع أكثر من احتمال داخل نظام العالم،
فيمكن أن نختار بقرار إرادي حر أيًّا من هذه الاحتمالات، دون أن تخل
بالنظام، وما دام الأمر هكذا، فإن كومتون في واقع الأمر لم يشتطَّ
كثيرًا، وإذا كان قد صمم بالفعل أنموذج الكوانتم، فإنه لم يحبذه
كثيرًا، والتعلُّل بقفزة الإلكترون لا يخل من معالجة مشكلة الحُرية؛
لأنه لا علاقة له بالحُرية التي هي كائنة طالما أن العالم لاحتمي، إن
أنموذج قفزة الإلكترون كان لحل مشكلة أخرى، هي مشكلة العقل والمادة،
والعلاقة بينهما وبين بعض النظريات في هذا والتي يقبلها كومتون (كما
سوف نشير في الفقرة القادمة) تومئ بأن عقولنا تؤثر على أجسامنا بواسطة
قفزات الكوانتم، وكأنَّها بهذا إعادة صياغة عصرية متطورة، لحل ديكارت
لمشكلة العقل والمادة عن طريق الغدة الصنوبرية (وقد مال إدنجتون إلى
مثل هذا)، كومتون لا يرفض هذه الحلول، لكنه لا يميل إليها، إنه لا
يرفضها من أجل فرض واحد هو: توضيح أن اللاحتمية الإنسانية (الحُرية) لا
تتعارض مع فيزياء الكوانتم
١١٠ كما تعارضت من قبل مع فيزياء نيوتن مكونة ذلك المعضل
العسير.
إن انشغال كومتون العميق بمشكلة الحُرية أدى به إلى الانشغال بمشكلة
تأثير العناصر الإنسانية البحتة على العالم الفيزيائي البحت، أي تأثير
الأغراض والتعمدات والخطط والقرارات والنوايا وسائر المقولات الإنسانية
على العالم الفيزيقي الذي نحيا فيه، بعبارة أخرى، انشغل بمشكلة تأثير
المعنى على السلوك، مثلما انشغل بمشكلة العقل والمادة والعلاقة بينهما.
١١١
ورأى كومتون أن حل هاتين المشكلتين يعتمد على مصادرة الحُرية، وقال
في هذا: الحل يجب أن يفسر الحُرية ويجب أن نفسر أيضًا كيف أن الحُرية
ليست فقط الصدفة، بل هي بالأحرى التداخل ذو الدهاء بين شيء ما عشوائي
يُشبه التحكم المقيد أو الانتقائي — كهدف أو معيار — وهذا الأخير
بالقطع ليس ضربة لازب حديدية،
١١٢ هكذا كانت الحُرية عنده اختيارًا بين إمكانيات، وبين
التزامات متعارضة، إنها حرية مرتبطة بالتحكم، التحكم المرن
Plastic Control كمقابل
للتحكم الحديدي
Iron Control Cast
— الذي يأتي مع الحتمية وانتفاء إمكانيات الاختيار،
١١٣ ارتباط الحُرية بالتحكم، هو صميم مصادرة كومتون عن
الحُرية.
بهذا يوضح لنا كومتون هو الآخر كيف أن العالم المنظم أي الكوزموس
اللاحتمي الذي نحيا فيه هو موطن للأحرار المسئولين، لا معتقل
للمجبورين.
•••
(٣٨) «النظرية العامة للحرية في العالم اللاحتمي»: والواقع أن كينونة
الحُرية في العالم اللاحتمي تكاد تكون مسلَّمة فلسفية عامة، ولعله قد
اتضح الآن أنها نتيجة منطقية تكاد تلزم من محض تحليل الحدود: تحليل حد
الحُرية وحد العالم، بصرف النظر عن مشكلة العقل والمادة، ومشكلات أخرى
كثيرة، إذا نظرنا إلى الحُرية الإنسانية في حد ذاتها فهي بطبيعتها
كائنة في، وفقط في، عالم يتميز بقدر من اللاحتمية، ولكن إذا كانت
المذهبية ووضع البطاقة الاصطلاحية دأب الفلسفة بما هي فلسفة، فيمكن أن
ندرج هذه الحُرية العميقة الأصيلة الكائنة بصفة أنطولوجية أساسية في
العالم اللاحتمي تحت اسم مذهب قديم ومعروف، هو مذهب الحريين Libertarianism، ولست أقتنع إطلاقًا
بأي ارتباط لزومي بينه وبين الحُرية الأنطولوجية، ولا بينها وبين أي
مذهب أو اتجاه أو فيلسوف معين، وأيضًا لست أقتنع بأية قوة معينة في
مذهب الحريين، وعلى الرغم من هذا فإنه لا بد من تقدير بحثهم الشغوف عن
أي لاحتمية من أجل الحُرية.
مذهب الحُريين — ببساطة — مذهب أي فيلسوف رأى الإنسان مختارًا حرًّا،
بغير حاجة لخداع النفس، ولا للفرار من هذا العالم ولا لوأد العقل أو
العلم والإنصات لهواجس المشاعر وخفقات القلوب الرومانتيكية المراهقة،
وقد ظل هذا المذهب أو الاتجاه طوال تاريخه وطوال تاريخ الفلسفة من أضعف
ما يكون، حتى شاع نعته بأنه مذهب غريق، وأية محاولة لإنقاذه بدت يائسة،
وسوف نرى أنه لم يعد هكذا بفضل اللاحتمية العلمية المعاصرة.
مذهب الحريين يتَّسع لأي اتجاه يرى الحُرية الإنسانية هي المقولة
الأساسية وكل ما عداها يتكيف تبعًا لها، بدءًا من الحُرية
الميتافيزيقية حتى الحُرية السياسية، حيث نجد مذهب الحريين أشد تطرفًا
في تمسكه بالحُرية من مذهب الليبرالية
Liberalism،
١١٤ ولعله أساسًا مذهب أخلاقي، بدأ مع الأخلاقيين بحيلة ساذجة
لتفادي الأثر الأخلاقي الوبيل الناجم عن الحتمية، فقالوا إن الإنسان حر
لأنه مسئول، وهذا بالطبع وضع للعربة قبل الحصان، فالمفروض أن الإنسان
مسئول لأنه حر أو غير مسئول لأنه غير حر، وليس العكس؛ لأن الحُرية هي
الأساس الأنطولوجي والمسئولية هي النتيجة العينية البعدية المترتبة
عليها.
لقد فعلوا هذا لأنه قبل التطورات المعاصرة للفيزياء لم يكن ثمة أية
حجة قبلية للاحتمية إلا هذه الحجة الأخلاقية، «وما كان باستطاعة أحد أن
يجرؤ على اقتراح أية حجة بعدية أو برهان تجريبي على وجود أحداث خارج
الذهن البشري ليست محتمة تمامًا».
١١٥
ولكن كما يقول موريس كوهين، يجب أن تتخلى تمامًا عن الحجة البلهاء
القائلة إن الإنسان حر لأنه مسئول، أو لأنه يعاقب ويثاب، والسبب بسيط
هو أننا لا نستطيع إثبات أي شيء عن طريق حجة مؤداها أنه إن لم يوجد فلن
نجد تبريرًا لما نريد أن نبرره، إنهم يقولون ما كانت الإنسانية ستحمل
أي شخص مسئولية ما لم تعتقد في الحُرية، وعمومية هذا الاعتقاد تؤدي إلى
افتراضات قبلية في صالحه، ولكن هذه العمومية لا تصدق من الناحية
التاريخية، فمعظم الجبريين كالهندوس والجبريين الإسلاميين والكالفينيين
المسيحيين، لم يترددوا في تحميل الإنسان مسئولية أفعاله، ولم تكن
الخطيئة في الوعي البدائي دائمًا فعلًا للإرادة الحرة، بل وإن أبشع
الخطايا قد ترتكب بغير قصد، مثلًا لمس تابوت العهد القديم اعتبرته
السماء مستحقًّا للعقاب، والكاثوليك يعلمون أن الطفل غير المعمد يُحرم
من البركة.
على هذا، فلا تعارض دائمًا بين انتفاء الحُرية والمسئولية وبين
استحقاق الثواب والعقاب،
١١٦ والأدهى أن حجتهم الأساسية كانت ملقاة على قارعة الطريق،
إنها «الحس المشترك وحدسه القوي الفوري الذي يستشعره البشر جميعًا بأن
حرية الاختيار حقيقة واقعة»،
١١٧ وفي محاولة تعميقها، يربطون الحس المشترك بالتجربة
الوجودية الحية، وكانت أقوى محاولة لتأسيس مذهب الحريين على حجته
المأخوذة من الحس المشترك، هي تلك التي قام بها تشارلز كامبل، على أنه
يرى في الأخلاق المجال الأوحد للحرية، فأوضح أننا لا بد وأن نأخذ في
الاعتبار دليل الخبرة الداخلية للفاعل الأخلاقي ذاته، أي من منظور
مشاركته الفعلية في الفعل عينه، حيث يمر بخبرة حرية الاختيار وإمكانية
أن ينساق للإغراء أو يقاومه ويخضع للواجب، الفاعل يمر بخبرة القرار
والفعل الأخلاقي بوصفه نشاطًا مبدعًا، وهو على هذا حر،
١١٨ والخلاصة أن تحليلات كامبل الفينومينولوجية لظاهرة الإرادة
الحرة في الأخلاق، قد انتهت به إلى الآتي: «التفكير في فعل القرار
الأخلاقي حينما يُقبض عليه بجمع اليدين من المنظور الداخلي، يؤدي
بالفاعل إلى إدراك إمكانية ثالثة بمنأى عن الضرورة، وذلكم هو النشاط
الخلاق، حيث لا يحدد الفعلَ شيءٌ إلا فعل الفاعل له.»
١١٩ وهكذا تؤكد لنا خبرة الحس المشترك أن الإنسان حر.
ولكن هل يصلح الحس المشترك كحجة يقوم عليها مذهب فلسفي؟ إنه حتى ولو
كان هكذا كما رأى جورج مور وكامبل وسواهما، فإنه — كما أثبتنا آنفًا —
إن كان يحدس الحُرية، فإنه أيضًا يحدس الحتمية الفيزيقية فيفسح المجال
للنقيضين، مؤكدًا الوقوع في الازدواجية والشيزوفرينيا التي نهيب بحرية
المذهب أن تُبرئنا منها، وعلى أية حال، كنا قد انتهينا في (الفقرة ١٠)
من أية محاولة لإثبات الحُرية على أساس الحس المشترك.
هكذا كانت بداية مذهب الحريين ضعيفة، والمذهب ذاته أضعف، وأي تحليل
له يؤدِّي إلى نتائج ليست فقط لا يمكن الدفاع عنها، بل أيضًا متناقضة
مع ذاتها ومع مسلَّمات لا يمكن الإعراض عنها.
ومنطوق هذا المذهب يقوم على أن الإنسان يمكن أن يُثاب أو يُلام على
الفعل، فقط إذا كان يستطيع أن يختار، وبالتالي يستطيع أن يتصرف بطريقة
أخرى، وتقريبًا كل الفلاسفة أيًّا كانت مشاربهم يتفقون على أن إمكانية
التصرف بطريقة أخرى هي المقدمة الشرطية الضرورية للمسئولية الخلقية.
١٢٠
ومن هنا يقرر هذا المذهب ببساطة أن الإنسان حر؛ لأنه يستطيع أن يفعل
غير ما يفعله، بمعنى أن ثمة بديلًا آخر متاحًا له ومفتوحًا أمامه،
والفاعل قد اختار بفعل إرادي حر واحدًا من هذين البديلين (أو أكثر من
اثنين)، الخلاصة: طالما أن الإنسان مسئولٌ يثاب ويُلام، فلا بد وأنه حر
مختار بين بدائل متاحة له.
إذن قد بات واضحًا لماذا كان هذا الاتجاه ضعيفًا غريقًا، وكانت
الحُرية بأسرها هكذا، فتلك هي النتيجة المتوقعة من صراعه اليائس مع
جبروت الحتمية التي تشكل المعضل الأخلاقي (راجع فقرة ١١)، وتحكم بأن كل
حدث ضروري وسواه مستحيل فتنتفي تمامًا إمكانية البدائل تلك، وهي الشرط
الأساسي لمذهب الحريين، ولكل حرية، الحتمية العلمية تقرر ببساطة،
وبيقينها المطلق دائمًا، أن أحدًا لا يستطيع أن يفعل غير ما يفعله،
«وإذا كان كل فعل لكل فاعل يعتمد بظروفه الخاصة على شرط فيزيائي معين
قد تم تحققه، وكانت الأفعال الإنسانية ككل لا يمكن أن تتحرَّر من قانون
المعلولات الفيزيائية والعلل المحتمة تمامًا»،
١٢١ كان التناقض الإبستمولوجي، فضلًا عن التناقض المنطقي
١٢٢ قائمًا بين الحتمية العلمية وبين مذهب الحريين، وإقرارهم
بإمكانية فعل بديل غير ما فُعل.
ولما كان الحريون لا يملكون إلا اعترافًا بأن العالم الفيزيقي هو بلا
جدال الإطار الذي تحدث داخله الأفعال الإرادية،
١٢٣ كانت الحتمية العلمية تلزمهم — كما تلزم سواهم — بالاعتراف
بأن مثل ذلك البديل ليس البتة متاحًا أمام الفاعل، فيظل المذهب مجرد
أحلام طوباوية، فمن أين السبيل إلى الواقع، والواقع حتمي؟ عادةً ما
يتلمس الحريون ذريعة مؤداها أن «الحتمية الكونية نسبية، وحرية الاختيار
أيضًا نسبية»،
١٢٤ وأنا حر في الحالات العادية التي لا يوجد فيها مانع خارجي
يحول بيني وبين تحويل اختياري للبديل إلى فعل «ولست حرًّا في الحالات الأخرى»،
١٢٥ فصحيح أن الأحداث والأفعال السابقة قد تحتم فعلًا وبصورة
كاملة تلك اللاحقة، ولكن يمكن أن نجد بعض أحداث أو أفعال غير محتمة
تمامًا بسوابقها، وها هنا فقط تقع الحُرية والمسئولية،
١٢٦ ولكن أين يمكن أن نجد مثل هذه الأفعال؟ يجيب الحُريون:
إنها تقع في المستقبل، فقد ميزوا بين «يمكن» على وجه العموم وبصورة
أنطولوجية، وبين «يمكن أن يفعل» بصورة عينية على وجه الخصوص، التي تخص
الفاعل المعين في الموقف المعين، هذه تعني «يستطيع»، وتحليل يستطيع هو
بالضبط تبيان لكل عمله الذي لم يُنجز بعد،
١٢٧ أي القائم في المستقبل؛ وعلى هذا نجد أن النطاق الملائم
للفعل الحر والإرادة لا يطابق بحال أي شيء في العالم الفيزيقي، إنه فقط
يؤثر عليه.
لذلك فالعالم بخصائصه العِلية، مهما كان حتميًّا هو بالنسبة لنصير
هذا المذهب ملائم تمامًا لتأكيد أنه لا شيء في هذا العالم يحتم تمامًا
الغايات النهائية والمواضيع والمثل التي يعمد الفاعل الحر — إذا ما كان
حقيقةً حرًّا — إلى تغييرها في العالم.
١٢٨
وهذه حجة واهية، فالحتمية المهيمنة على كل ما يحدث داخل الإطار
الفيزيقي هي كلٌّ لا يعرف نسبية ولا أجزاء، وليست فقط منطبقة على ما هو
كائن، بل هي أساسًا تحتم لزوم ما سيكون عنه، أي تحتم المستقبل بصورة
كاملة كوليد شرعي للماضي؛ لذلك، فمثل هذا التذرع بالمستقبل لإجراء ذلك
التغيير الإرادي وتحقيق تلك الغايات الحرة، لا يعدو أن يكون قصورًا في
الرمال، بل في الهواء، ولكن هل يفلت حتى الهواء من بين فروج أصابع
الحتمية؟!
هكذا نتبين أن مأساة المذهب هي ذاتها مأساة أو معضل الحُرية في
العالم الحتمي، خصوصًا البُعد الأخلاقي للمعضل، وكانت مجمل مناقشات
أقطابه محاولات يائسة لمهادنة الحتمية على العموم والحتمية العلمية على
الخصوص، والتملص من بعض نيرها،
١٢٩ بعبارة أخرى سبب ضعف المذهب وعجزه عن الاعتراف القوي
الواثق بالحُرية هو في جوهره وخلاصته وعماده، أن المذهب في حاجة شرطية
لزومية إلى اللاحتمية، ولكن من أين يأتي بها؟ لا مجال لهذا التساؤل
الآن بعد أن أهدانا العلم المعاصر لاحتمية مكينة.
وتمامًا كما أن المذهب يتناقض منطقيًّا مع الحتمية العلمية وعالمها
الذي يلغي الحُرية، فإنه يتسق منطقيًّا مع — وفقط مع — اللاحتمية
العلمية وعالمها الذي يتسع للحرية، ليس فحسب، بل وأيضًا يلزم عنها —
فقط عنها — لزومًا منطقيًّا، فإذا تذكرنا أن فكرة البديل هي أساس مذهب
الحريين، كما هي في الواقع أساس أية حرية أنطولوجية، لوجدنا أن الطبيعة
الاحتمالية لأحداث العالم اللاحتمي، بنفيها لدرجة ١٠٠٪ عن أي حدث، تحمل
معها دائمًا وبالضرورة المنطقية احتمالًا آخر له، حتى ولو كان ٠٫٠٠٠١٪
فإنه تعني أن مقولة البديل قائمة، ولا حدث مفروض بالضرورة الكونية
المطلقة؛ فتتوافر إمكانية الاختيار أمام الفاعل، ليصبح حرًّا
مسئولًا.
على أن الخوف من المسئولية والخوف من اللاحتمية، يفصح عن وجهه الواحد
في صورة اعتراض على هذا التساوق القائم بينهما، والذي يطرح الحُرية
بثقة واتساق، يفصح عن وجهه في صورة التساؤل الآتي: اللاحتمية تحمل في
سياقها العشوائية Randomness فأيهما
أفضل، أن تجيء الأفعال الإنسانية عشوائية أم أن تأتي بوصفها ناشئة عن
شخصية الفاعل؟ وبالطبع البديل الثاني أفضل، ويجمل بنا الأخذ به، لننتهي
إلى أن الأفعال الإنسانية محدَّدة بعوامل البيئة والوراثة التي شكلت
شخصية الفاعل، أو حتى محددة فقط بخصائص شخصيته، وها نحن ذا قد وقعنا من
جديد في براثن الحتمية وبالتالي لم نفعل شيئًا، وعلينا أن نعود من حيث
بدأنا.
وليس الأمر هكذا وأبدًا لن نعود للحتمية، وكثيرون من فلاسفة الحُرية
العلميين، منذ أبيقور ولوكريتوس حتى راسل وإدنجتون، قد تفادوا هذا بحجة
مقنعة، مفادها أن الفارق فيزيقيًّا بين الأحداث العشوائية وغير
العشوائية يعود إلى غياب أو توافر عنصر معين من عناصر التحديد، بطرحه
على الأفعال الإنسانية نتوصل إلى أن الفارق بين الأفعال القصدية
والعشوائية لا يرجع بالطبع إلى أن الأولى حتمية والثانية لاحتمية، بل
يرجع إلى عنصر الإرادة الحرة في الأول وغيابه في الثاني،
١٣٠ لتأتي الأولى متعمدة أي قصدية، والثانية عفوية، وبهذا نعود
إلى ما لاحظناه في إبستمولوجية العلم اللاحتمية خصوصًا الفروع
الإنسانية من العلم، أي الإقرار بالحُرية كعنصر هذا العالم، ولا فهم
سليمًا له إذ نحن تجاهلنا هذا العنصر الأنطولوجي الجوهري الأصيل:
الحُرية الإنسانية، إذن فقد ارتدَّت سهامهم إلى صدورهم وجعلونا نأتي
بتأكيد أعمق لأنطولوجية الحُرية، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى،
يسهل تبيان تهافت هذا الاعتراض وأنه محض دوران منطقي حول الحتمية، حيث
إن العشوائية هنا تأتي بقصد إضفاء اللامعقولية على الأفعال اللاحتمية،
مثل هذا الاعتراض كثيرًا ما يثار في صورة أخرى، وذلك حين يقال إن
التصرف أو الاختيار المحدد بين الاحتمالات سوف يصبح مع اللاحتمية
لامعقولًا طالما أنه لا يوجد شيء يعين هذا الاختيار دون سواه، ولكننا
نتساءل أولًا ما الذي يمكن أن يعين الاختيار الذي هو اختيار ويجعله
معقولًا ومسئولًا، إلا الحُرية الإنسانية الواعية المعقولة والمسئولية؟
ونتساءل ثانيًا: «ما الذي يعنيه القول إن التصرف الحر أو اللاحتمي
معقول؟» إذا كان يعني «إبستمولوجيًّا» أن الحدث لا يمكن من حيث المبدأ
الاستدلال عليه استدلالًا يقينيًّا، طالما أنه لا يتبع بالضرورة مقدمات
أخرى، لكان هذا يعني أن الحتمية أو التفسير الحتمي في ذات الهوية مع المعقول،
١٣١ وهذا ما انتهينا من دحضه في المدخل، أما إذا قلبنا العملة
إلى الوجه الأنطولوجي وقلنا إن اللامعقولية هنا تعني أن الفعل لا يتبع
بالضرورة شيئًا ما آخر، فإن هذا ليس نقدًا للفعل الحر أو اللاحتمي بل
بالأحرى وصفًا له.
من غير المعقول الاستمرار في الدائرة المفرغة القائلة إن الحتمية هي
ذاتها المعقولية، وهي فقط المعقولية، وقد حطمناها بالوقوف على
اللاحتمية في العلم المعاصر.
الوضع السليم الآن، كما أثبت تطور العلم على مدار القرن العشرين، أن
اللاحتمية هي المعقولية، وتصحب معها الحُرية التي تعين اختيار سلوك
محتمل دون سواه.
هكذا يتجلى إنقاذ اللاحتمية العلمية لمذهب الحُريين:
فقد اتضح أن محاولات تفنيده عجز عن تخلص العقل من الحتمية، فيجعلها
مرادفة للمعقولية، بالتالي يتصورون أن الأفعال إما عشوائية وإما حتمية،
وبالطبع الأفضل أن تكون حتمية، وأحسب أن التحليلات السابقة والآتية
للحتمية واللاحتمية العلمية تجعلنا ندرك مدى افتقار هذا الاعتراض
الدائري للنضج العقلي، فقد أدركنا أن العالم اللاحتمي، ليس كما يتصوره
المتخلفون زمانيًّا وعقليًّا، أي ليس عالمًا من العشوائية المحضة
والفوضى، إنه عالم ذو معينات (وليس محتمات) مثل عوامل البيئة والوراثة،
والشروط الفيزيقية والاجتماعية والتاريخية للموقف، وسائر العناصر التي
تخرج عن فعل وفعالية اختيار الإنسان، هذه العوامل لا تعني إلا الحدود
التي يمارس الفاعل داخلها حريته واختياره الإرادي ليكون التعيين
النهائي للموقف، وبدون تلك الحدود لا موقف وبالتالي لا حرية، بل ولا
عالم، ومن سياق هذه العناصر التي تعين — لكن لا تحتم — تتواتر الأحداث،
وكل أحداث الكون لاحتمية، ولكن ليس معنى هذا أنها جميعًا عشوائية،
بالمعنى الذي يجعلها تنبثق فجأة كنبت شيطاني، ثمة فئة معينة من الأحداث
سوف يتحقَّق واحد منها، وليس أي حدث على وجه الإطلاق، هكذا بصورة
خزعبلية إبستمولوجيًّا وأنطولوجيًّا.
ومعنى هذا أن كل حدث يمكن أن يكون له بديل آخر — أو بدائل أخرى —
بغير أن يتهدَّم العالم وتتحطَّم سلسلة أحداثه وتقوم القيامة، أي أن
الإنسان حر، يمكنه اختيار أي من البدائل أو من الاحتمالات أو من
الإمكانيات المطروحة أمامه، على أن يتحمل في النهاية المسئولية، وإذا
أخطأ لا يلومن إلا نفسه.
وإذا عدنا إلى أخلاق التساهل التي رفعت الحتميةُ لواءها لقلنا
للحتميين إن الأمر ليس إشباع عقد نفسية وشذوذات سادية بالترفُّع عن
المخطئين والنيل من المجرمين أو صرعهم — كما قال ألبير باييه —
اللاحتميون أكثر من الحتميين — ألف مرة — إدراكًا أنه لا أحد معصوم،
وأن تكوين وخصائص شخصية القديس أو شخصية الأثيم كأية عوامل في هذا
الوجود، معينات للموقف لا تحتم أي شيء بعينه، بل تحمل أكثر من إمكانية،
وحرية الإنسان تتدخل كعامل لتحديد أية إمكانية ستحدث.
المسألة أن اللاحتمية هي الواقع وهي المثال؛ لذلك ففيها التفسير
المعقول للأمر الواقع وللمثال المنشود من أن الإنسان يتحمل ولا بد أن
يتحمَّل مسئولية ما جنت يداه وألَّا يُلقي بالملام على كيان وهمي اسمه
سلسلة العلل الفيزيائية والسيكولوجية والاجتماعية.
إنه الالتزام بالموقف الوجودي الذي تمليه اللاحتمية على الإنسان حين
تخبره أنهم خدعوه لما قالوا له إنه مجرد ترس الآلة الكونية العظمى،
ولما اتضح أن الكون ليس هكذا … ليس آلة، انتهينا إلى أن الإنسان ليس
هكذا … ليس ترسًا، بل هو فاعل حر ومبدع ومسئول.