إعلام عنيف: الجزء الأول
طوال عقود ثار الجدل حول تأثير المحتوى الإعلامي العنيف على النشء. فزعم البعض أن العنف في الإعلام يؤذي الأطفال والمراهقين، وهو خطر صحي حقيقي يعادل خطر التدخين على النشء (أندرسون وبوشمان، ٢٠٠١). بل إنه في وقت مبكر يصل إلى أربعينيات القرن العشرين، حذرت مقالات في مجلات من أن كتب الرسوم الهزلية وبرامج التليفزيون العنيفة، بما فيها من تصوير للاغتصاب والقتل والاعتداء، مثلت أساسًا لتدريب المجرمين، مما يضع النشء على الطريق نحو الجنوح (كيرش، ٢٠٠٦). وقال آخرون إن مثل هذه الادعاءات مبالغة وإن الإعلام العنيف قد يكون في الحقيقة مفيدًا للنشء. فمثلًا رأى جونز (٢٠٠٢) أن ألعاب الفيديو العنيفة تساعد الأطفال والمراهقين على أن يشعروا بالقوة والسيطرة على حياتهم. وأشار آخرون مثل بيتلهايم (١٩٦٧) إلى أن التعرض للصور العنيفة، كتلك الواردة في «حكايات الإخوة جريم الخيالية»، لها أثر علاجي على الطفل، مما ينتج عنه تنقية من الدوافع العدوانية. وبقدر ما تلفت الادعاءات الأخيرة الانتباه إلا أنه ما من بيانات تدعمها (كيرش، ٢٠٠٦). في المقابل توجد أدلة كثيرة تشير إلى أن الإعلام العنيف يؤثر في العدوانية عند الأطفال بشكل مباشر وغير مباشر. وعلى الرغم من أن مئات الدراسات قد تناولت آثار المحتوى الإعلامي التليفزيوني العنيف على الأطفال والمراهقين (بيك وكومستوك، ١٩٩٤)، فإن تأثير العنف في وسائل الإعلام الأخرى يلقى اهتمامًا تجريبيًّا أقل بكثير. ويتناول هذا الفصل ثلاثة من المجالات التي لم تخضع لدراسة كافية وهي: كتب الرسوم الهزلية والموسيقى — بعكس المتوقع — وألعاب الفيديو. جدير بالذكر أن تأثير أفلام الكارتون وبرامج الحركة العنيفة سيتناولها الفصل التالي. إلا أنه وقبل استعراض الأدبيات، علينا أن نُحصِّل بعض الخلفية المعرفية عن العدوانية.
(١) تمهيد مختصر عن العدوانية
يشير العدوان البشري إلى أي فعل يُقصد به التسبب في الأذى العاطفي أو البدني أو النفسي أو الاجتماعي لشخص آخر. وعندما يُرتكب أي من الأفعال التالية عن قصد تُعتبر عدوانًا: الضرب وتوجيه الإهانات والصراخ ونشر الشائعات والإغاظة والطعن وإطلاق النار. فكما تبين هذه الأمثلة قد تتفاوت الأفعال العدوانية في حدتها وقسوتها معًا. وعليه فإن مصطلح العنف مخصص للأعمال العدوانية التي تؤدي إلى الأذى البدني و/أو النفسي الشديد. وعند دراسة الإعلام العنيف يكمن الشيطان في التفاصيل، فكما تختلف حدة الأفعال العدوانية من موقف لآخر، تختلف النتائج المرتبطة بالتعرض للعنف في الإعلام. وعلى وجه الخصوص، يمكن للإعلام العنيف أن يؤثر في كل من السلوك العدواني والبنى المرتبطة بالعدوانية.
توجد ثلاثة أنواع من السلوك العدواني: البدني والمرتبط بالعلاقات واللفظي. العدوان البدني يدمر الجسد، أما عدوان العلاقات فيؤذي العلاقات الاجتماعية و/أو مستوى الانتماء للمجموعة، والعدوان اللفظي، من خلال إطلاق الشتائم والإغاظة، يسبب الأذى النفسي (كريك وجروتبيتر وبيجبي، ٢٠٠٢). وتتضمن كل من الأشكال اللفظية والبدنية من السلوك العدواني صدامات تحدث بصورة مباشرة، ومن ثَم يكون تأثيرها مباشرًا. في المقابل فإن السلوك العدواني المرتبط بالعلاقات قد يكون إما مباشرًا أو غير مباشر. وفي هذا الشكل الأخير من أشكال السلوك العدواني لا تحدث مواجهات مباشرة، بل يقع الظلم بشكل ملتوٍ، عن طريق شخص آخر أو بمساعدة وسائل الإعلام (مثل نشر الإشاعات على الإنترنت).
وتشير البِنى المرتبطة بالعدوانية إلى العوامل الشخصية التي تزيد أو تقلل من احتمالية أن يتصرف فرد ما تصرفًا عدوانيًّا. قد ركزت الأبحاث بوجه خاص على أربع بِنى مرتبطة بالعدوانية: العواطف العدوانية والسمات العدوانية والعوامل الفسيولوجية المرتبطة بالعدوانية والأفكار العدوانية. تشكل المشاعر المرتبطة ببداية الأفعال العدوانية (كالغضب) وكالمشاعر التالية للسلوك العدواني (كالخزي والذنب) العواطف العدوانية. وتشير السمات العدوانية إلى خصائص الشخصية — كمستوى التحكم في النزعات والبحث عن الإثارة — التي تزيد من احتمالية تصرف الفرد بصورة عدوانية. أما التغيرات الفسيولوجية المرتبطة بالعدوانية كزيادة ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم وإفراز الهرمونات فتمثل العوامل الفسيولوجية المرتبطة بالعدوانية. وأخيرًا تمثل الأفكار العدوانية العمليات الإدراكية المصاحبة للأحداث المحيطة بالأفعال العدوانية كالمعتقدات الخاصة بصحة استخدام العدوان في حل المشكلات والردود المحتملة على اعتداء بلا سبب.
إن كلًّا من السلوك العدواني والبِنى المرتبطة بالعدوانية نتائج مهمة يجب وضعها في الاعتبار عند دراسة تأثير العنف في الإعلام على الأطفال والمراهقين. والسبب في دراسة السلوك العدواني واضح: أن العدوان قد يؤذي الآخرين. لكن البنى المتعلقة بالعدوانية لا يمكن أن تسبب الأذى لشخص آخر مباشرة، فلم يدرسها الباحثون؟ إن الأعمال العدوانية والعنيفة هي النتيجة النهائية لعملية داخلية، عملية تتفاعل فيها الأفكار والعواطف والسمات والفسيولوجيا العدوانية بالتبادل للتأثير في القرار بالتصرف بعدوانية من عدمه (أندرسون وبوشمان، ٢٠٠١)؛ لذا فإن القدر الذي يغير به الإعلام العنيف البِنى المرتبطة بالعدوانية (كزيادة الأفكار والمشاعر العدوانية والهرمونات المصاحبة) يصير عنصرًا مهمًّا في العملية الداخلية التي تؤدي إلى تفعيل السلوك العدواني.
(٢) كتب الرسوم الهزلية العنيفة
من خلال الرسوم الفنية وفقاعات الحديث، تقدم كتب الرسوم الهزلية قصة سردية. ويوجد أكثر من ١٥ نوعًا مختلفًا من كتب الرسوم الهزلية تشمل الجريمة والرعب والفكاهة والخيال العلمي والإباحية. وبحسب النوع والجمهور المستهدف من كتاب الرسوم الهزلية، قد يجد القارئ أعمالًا عدوانية مرتبطة بالعلاقات و/أو لفظية و/أو بدنية وكذلك مشاهد عنف. فكتب الرسوم الهزلية التي تستهدف الأطفال تحت سن ١٠ سنوات — مثل «راجراتس» و«أرتشي» — قد تصور أعمالًا عدوانية خفيفة تتضمن قدرًا صغيرًا من العنف أو لا تتضمن عنفًا على الإطلاق. في المقابل تحتوي الكتب التي تستهدف جمهورًا أكبر سنًّا بصفة متكررة على أعمال عنف شديدة (مثل «سبون» و«إيفل إيرني») وفي هذا النوع الأخير (الذي سيحصل على تقييم محظور إن كان فيلمًا) ترد مشاهد تحتوي على كميات غزيرة من الدم بما في ذلك التشوهات وقطع الرقاب ونزع الأحشاء والفراغات الدامية لما كان مكانه اللحم والعظم. من الناحية التاريخية كان النموذج الأولي لقارئ الرسوم الهزلية هو الطفل فيما بين العاشرة والرابعة عشرة. إلا أنه بداية من تسعينيات القرن العشرين استحوذ البالغون على ٢٥٪ من مبيعات كتب الرسوم الهزلية (أنطونوتشي، ١٩٩٨).
على خلاف وسائل الإعلام الأخرى، تقدم كتب الرسوم الهزلية قصصها في لقطات متتابعة بشكل جزئي فقط. فمثلًا في إحدى رسومات أحد الكتب يظهر سلاح ناري وقد خرجت منه طلقة ملتهبة على بعد بوصة من فوهته. وفي الرسمة التالية تظهر فتحة فارغة دامية في رأس ضحية خائرة. ورغم أن اصطدام الطلقة لم يُصوَّر، فإن القارئ يمكنه بسهولة أن يتصور الطلقة وهي تخترق اللحم؛ لذا فإن الأطفال والمراهقين مطالبون باستخدام خيالهم وتصور عناصر الحكاية غير المرسومة (ماكلاود، ١٩٩٣). فضلًا عن أن النشء عند قراءة الرسوم الهزلية يمكنهم أن ينظموا ما يحصلون عليه من المعلومات. وبهذا يمكن للأطفال والمراهقين أن يقضوا ما شاءوا من الوقت في قراءة الحوار ومشاهدة الصور المرسومة، ما يتيح للنشء التفسير المفصل للمادة العنيفة.
قبل عقود، اعتقد سياسيون قلقون أن الطبيعة الاستحواذية لكتب الرسوم الهزلية والصور العنيفة الواردة فيها مثلت خطرًا محدقًا بالأطفال. ومثال على ذلك، في أربعينيات القرن العشرين، حاول ما يقرب من ٥٠ مدينة منع بيع كتب الرسوم الهزلية جملة واحدة. وبعد حوالي ١٠ سنوات، أُجري أول بحث «علمي» عن هذا الموضوع. وتوصل فريدريك فيرتام (١٩٥٤)، الذي نشر نتائج بحثه في كتاب بعنوان «اغتصاب البراءة»، إلى أن قراءة كتب الرسوم الهزلية أدت إلى النتائج السلبية التالية: الأمية والتحيز العنصري والمعتقدات الجنسية المنحرفة، والرغبة في اتباع أسلوب حياة منحرف وتطبيقه (كالانخراط في سلوكيات إجرامية وأعمال عنف). إلا أن المناهج التي استخدمها فيرتام لجمع البيانات كانت معيبة جدًّا (أدلة قولية مثلًا)، ومن ثَم فقدت مصداقيتها (كيرش، ٢٠٠٦).
وفيما عدا فيرتام، توصلت الدراسات التجريبية القليلة التي تناولت تأثير كتب الرسوم الهزلية العنيفة على النشء إلى نتائج متضاربة؛ إذ لم يتوصل تان وسكراجز (١٩٨٠) مثلًا في عينة من النشء في المرحلة الإعدادية إلى أي علاقة ملموسة بين قراءة كتب الرسوم الهزلية العنيفة وأعراض العدوانية البدنية واللفظية. كذلك وجد بليكي (١٩٥٨) أن التعرض للعنف في كتب الرسوم الهزلية غير مرتبط بالمشكلات السلوكية في أوائل المراهقة. وفي تقييمه للبنى المرتبطة بالعدوانية، لم تكن قراءة كتب الرسوم الهزلية مرتبطة بالمشاعر العدوانية في سن الثانية عشرة (براند، ١٩٦٩). في المقابل، وجد بيلسون (١٩٧٨) أنه في مرحلة المراهقة، ينخرط الفتيان الذين يقرءون كتب الرسوم الهزلية بصورة متكررة في أعمال عدوانية وعنف أكثر من غيرهم. واتفاقًا مع هذه النتائج، وجد هولت (١٩٤٩) أنه بالمقارنة بالمراهقين الذي لم يتعرضوا للقبض عليهم، فإن الأحداث الجانحين يقرءون قدرًا أكبر من كتب الرسوم الهزلية ذات الموضوعات الإجرامية. وجدير بالذكر أنه ما من دراسات أُجريت على النشء في مرحلة الطفولة المتوسطة أو أصغر. باختصار لا تتوافر أدلة كافية تدعم الرأي القائل بأن قراءة كتب الرسوم الهزلية العنيفة يؤثر في السلوك العنيف أو البِنى المتعلقة بالسلوك العدواني. إلا أنه مع قلة الأبحاث في هذا المجال، وانعدامها من منظور مراحل النمو فإننا بحاجة إلى مزيد من الأدلة قبل الخروج باستنتاجات قوية وسريعة.
(٣) عنف الموسيقى
(٣-١) كلمات عنيفة للأغاني
نستطيع أن نعثر على محتوًى غنائي عنيف في مجموعة متنوعة من الأنواع الموسيقية، من بينها موسيقى الراب والهفي ميتال والكانتري. في بعض الأحيان، تصف كلمات تلك الأغاني أو تشيد بالعنف الموجه نحو الذات مثل الانتحار. وفي أحيان أخرى، يركز المحتوى الغنائي العنيف على إيذاء شخص آخر، على سبيل المثال، في أغنية الكانتري ذات النجاح الساحق «وداعًا إيرل» (جودباي إيرل)، تغني فرقة ديكسي تشيكس عن تسميم زوج مؤذٍ وقتله والتخلص منه. أما أغنية الديث ميتال «انزف من أجلي» (بليد فور مي) لفرقة ديسميمبر، فتقدم صورة مجسدة أكثر لجريمة القتل، إذ تصف عملية تقطيع جسد الضحية بينما تتسرب منها الحياة مع نزيف الدماء. رغم ذلك، بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، كانت كلمات أغاني الراب، لا سيما راب العصابات (جانجستا راب)، المتسمة بالعنف ومعاداة المرأة والمجتمع والخوف من المثليين هي النوع الذي لاقى نقدًا عامًّا كبيرًا، وسلبيًّا في معظمه (كوربين، ٢٠٠٥).
ظهر راب العصابات أولًا في شوارع جنوب وسط لوس أنجلوس وغيرها من المناطق الحضرية بولاية كاليفورنيا، وقد تفرع في ثمانينيات القرن العشرين من الأنواع الأقدم من الراب التي تميزت بوعي اجتماعي وبمحتوًى سياسي. سرعان ما حقق مغنون مثل إن دبليو أيه ودكتور دري، وسنوب دوج، وتوباك شاكور نجاحًا بتقديم أغاني راب تصور الجوانب العنيفة من حياة العصابات وحياة المدينة من منظور المجرم. وكما هو متوقع، كان وقع هذه الأغاني العنيفة على النشء مسببًا لقلق عظيم على مدار عقدين من الزمان. أحد نماذج هذا القلق هي اعتقاد ما يقارب ٥٠٪ من أمهات الأطفال في سن المدارس أن موسيقى الراب العنيفة هي مساهم خطير في ظاهرة العنف بالمدارس (كانداكاي وبرايس وتيلجوان وويلسون، ١٩٩٩). يؤكد معارضو راب العصابات، والأغاني العنيفة في المجمل، أن العنف في هذه الأنواع من الموسيقى يعلي من شأن المعتدِي ويقر الاستخدام المفرط للقوة، وهو انتقاد يبدو دقيقًا. على سبيل المثال وجد تحليل حديث لكلمات أغاني الراب أن الأفعال العنيفة والعدوانية كثيرًا ما تُستخدم كرد على سلوكيات الاستخفاف أو الإساءة. وعلاوة على ذلك، تزعم أغاني الراب أنه من المقبول قتل امرأة غير مطيعة أو خائنة لحبيبها، أو ترفض محاولات التقرب الجنسي (آدامز وفولر، ٢٠٠٦). لتوضيح تلك النقطة، نلقي نظرة على أغنية «ستان» لمغني الراب إمينيم، حيث نجد امرأة (تُوصف بأنها مقيدة) يُسمع صراخها من صندوق السيارة الخلفي؛ لذا من الواضح أن تلك الأغاني تشيد بالفعل باستخدام العنف وتمجد المُعتدِي. لكن هل تؤثر على السلوك العدواني (الموجه للذات أو للآخرين) وعلى البِنى المرتبطة بالعدوانية عبر النشأة؟ فلنحاول الإجابة على هذا السؤال.
(٣-٢) أغانٍ مدمرة؟
لا يوجد حاليًّا سوى القليل من الأبحاث التي تتناول فهم كلمات الأغاني عبر النشأة. والدراسات المعدودة التي توجد بالفعل تشير إلى أن القدرة على فهم كلمات الأغاني تتحسن عمومًا مع السن. رغم ذلك، لا تصبح القدرة على فهم كلمات الأغاني التي تعرض أفكارًا مجردة أمرًا اعتياديًّا إلا مع أوائل فترة المراهقة (إذ يميل النشء الأصغر سنًّا إلى تفسير تلك الكلمات بمعناها الحرفي). على سبيل المثال، وجد جرينفيلد وزملائه (١٩٨٧) أن ٢٠٪ من طلاب الصف الرابع، و٦٠٪ من طلاب الصف الثامن، و٩٥٪ من طلاب الصف الثاني عشر كان فهمهم صحيحًا لكلمات أغنية «مولود في الولايات المتحدة» (بورن إن يو إس أيه) إذ أدركوا أنها تشير إلى شخص يعاني من مأزق. وعلاوة على ذلك، لم يدرك معظم النشء فكرة الإحباط وخيبة الأمل المجردة التي تسود الأغنية (٤٠٪ فقط من طلاب الصف الثاني عشر هم من فسروها تفسيرًا صحيحًا). أما فيما يخص الأغاني العنيفة، فعندما يقل فهم الكلمات تغدو القدرة على فهم الأفكار الكامنة عن العنف أكثر صعوبة وتقل الآثار السلبية المرتبطة بالتعرض لتلك الأغاني. مع ذلك ليست جميع الأغاني التي يستمع إليها النشء تقدم مفاهيم مجردة. فكما توضح كلمات أغنية «انزف من أجلي» (التي ناقشناها قبلًا)، محتوى الكثير من الأغاني العنيفة مباشر إلى حد بعيد، إذ يتضمن كلمات مثل: أطلق الرصاص واقتل وشوِّه. في الواقع، من السهل على معظم النشء فهم كلمات أغاني الراب والهفي ميتال بما تتضمنه من موضوعات رئيسية شائعة تدور حول العنف وتحدي السلطة. وأخيرًا، تزداد احتمالية إصغاء المراهقين إلى كلمات الأغاني التي يحبونها وفهمها (روبرتس وكريستنسون، ٢٠٠١). إذن هل يؤدي الإعجاب بأغنية ما إلى تأثير أكبر على مستوى العدوانية أثناء النشأة؟ حاليًّا لا توجد بيانات تساعدنا في الإجابة على هذا السؤال بالغ الأهمية.
(٣-٣) الموسيقى العنيفة والأفعال العدوانية
(أ) الأبحاث على مرحلتَي الطفولة المبكرة والمتوسطة
حتى اليوم، لم تُجْرَ دراسة واحدة من الدراسات عن تأثير الموسيقى العنيفة على النشء على عينة من الأطفال خلال مرحلتَي الطفولة المبكرة والمتوسطة. ونظرًا لأن النشء يبدءون في سماع الموسيقى وحدهم قبل بلوغهم مرحلة المراهقة بعدة سنوات، فمن المدهش عدم وجود أبحاث تغطي سنوات المدرسة الابتدائية. إلا أن الافتقار إلى الأبحاث التي تتناول الطفولة المبكرة ليس مدهشًا إلى هذا الحد، إذ إن فكرة استماع الأطفال في عمر أربع سنوات إلى موسيقى الهفي ميتال أو راب العصابات عمدًا وبرغبتهم تبدو مستبعدة. مع ذلك قد يتعرض حتى أصغر الأطفال إلى الموسيقى العنيفة عبر أشقائهم الأكبر أو آبائهم. على سبيل المثال، ابن اختى جيسي، الذي لم يصل بعد إلى سن الدراسة، تعرف على موسيقى الهفي ميتال (عبر أغاني مثل «سايكوسوشال» لفرقة سليبنوت) والراب (مثل أغنية «فتيات» (جيرلز) لفرقة بيستي بويز) عن طريق أخواته الأكبر سنًّا، جايكوب وجوشوا. لم يتعلم جيسي معظم كلمات أغنية إمينيم «فلنرقص بجنون» (جست لوز إت) فحسب، بل كان يقلد حركات إمينيم الإيقاعية التي يرفع فيها يديه فوق رأسه بينما يغني مع الأغنية. وعلى موقع يوتيوب، ستجد الكثير من مقاطع الفيديو التي تصور أطفالًا لم يصلوا إلى سن الدراسة بعد وهم يغنون مع أغانٍ تتناول موضوعات تخص البالغين مثل أغنية «جسدي المثير» (ماي همبس)؛ لذا نجد أن الكثير من الأطفال يتعرفون على الموسيقى العنيفة أثناء طفولتهم عن طريق أحد أعضاء أسرتهم. لكننا لا نعرف تحديدًا هل التعرض المبكر لكلمات الأغاني العنيفة يؤثر على البنى المرتبطة بالعدوانية وعلى السلوك العدواني أثناء الطفولة أو حتى على التفضيلات الموسيقية المستقبلية.
(ب) الأبحاث على المراهقين
في أثناء مرحلة المراهقة، قيمت دراسات معدودة تأثير الموسيقى العنيفة على العدوانية (ولم تقيم أي منها تأثيرها على البِنى المرتبطة بالعدوانية). توضح نتائج عدد من تلك الدراسات إلى أن تفضيل موسيقى الراب والهفي ميتال العنيفة يرتبط بالعدوانية اللفظية والمشكلات السلوكية في المدرسة وقرارات الانضمام إلى عصابات الشوارع (أتكين وسميث روبيرتو وفيدوك وواجنر، ٢٠٠٢؛ ميريندا وكلايس، ٢٠٠٤؛ توك وويس، ١٩٩٤). مع ذلك تظل احتمالية الاتجاهية ومشكلات المتغير الثالث قائمة نظرًا لأن الدراسات سابقة الذكر اشتملت على تصميمات ارتباطية. فيما يتعلق بالاتجاهية، بدلًا من تسبب الموسيقى العنيفة في السلوك المنحرف، ربما كان النشء العدواني يفضلون الاستماع إلى الموسيقى العنيفة. وتوجد بالفعل أبحاث تدعم هذا الزعم (جاردستورم، ١٩٩٩). أما المتغيرات الثلاثة، مثل السمات الشخصية، فقد تفسر أيضًا الارتباط بين الموسيقى العنيفة والسلوك العدائي. على سبيل المثال، يفضل المراهقون المتمردون الموسيقى التي تتناول أفكارًا جريئة وتعادي السلطات الراسخة، والتي غالبًا ما تتسم كلماتها بالعنف (كاربينتر وكنوبلاوخ وزيلمان، ٢٠٠٣). وحتى إذا كان تفضيل الموسيقى العنيفة هو «التأثير» الناتج عن نمط حياة عدواني لا «المسبب» لهذا النمط من الحياة، فربما تظل الموسيقى العنيفة تؤثر على النشء رغم ذلك. تقدم الظاهرة المعروفة بدوامة التدهور تفسيرًا لهذا الزعم؛ فوفقًا لنموذج دوامة التدهور، يسعى النشء العدواني إلى متابعة الإعلام العنيف، ما يؤدي بدوره إلى دعم وترسيخ سلوكه العدواني، والبِني المرتبطة بالعدوانية، والرغبة في مشاهدة المزيد من الإعلام العنيف. وفي النهاية تتطور حلقة من النتائج السلبية حيث يحفز كلٌّ من الإعلام العنيف والعدوانية أحدهما الآخر ويدعمه (سلاتر وهنري وسوايم وأندرسون، ٢٠٠٣).
(٣-٤) فديوهات الموسيقى العنيفة
كما ذكرنا سابقًا، في أغلب الأحيان يصعُب تفسير كلمات الأغاني، لا سيما إذا كانت ذات طبيعة مجردة وتتضمن معاني رمزية. ونجد نموذجًا على ذلك في أغنية «جيرمي» لفرقة بيرل جام التي تتناول فتًى يتحدث في الصف دون أن ينطق بكلمة واحدة. كيف نعرف أن كلمات ذات المظهر المسالم هي في الحقيقة عنيفة؟ الإجابة هي عبر الفيديو الخاص بالأغنية، حيث نرى فتًى مراهقًا يضع مسدسًا في فمه و«يتحدث» إلى زملائه عبر الضغط على الزناد. وكما يوضح النموذج، في وسع فيديوهات الأغاني تقديم صور مرئية قوية وواضحة لمصاحبة كلمات الأغنية التي ربما يكون من الصعب فهمها وحدها. علاوة على ذلك عندما تكون الرسالة التي تنقلها الكلمات واضحة، فإن الصور الموجودة في فيديوهات الأغاني تضيف بعدًا آخر من العنف إلى الكلمات العنيفة من الأصل، سمها جرعة مضاعفة من العنف إن أردت.
لسوء الحظ، لم يتسبب القلق الناتج عن عنف فيديوهات الأغاني في تحفيز قدر كبير من الأبحاث على النشء؛ فلم تُنْشَر سوى دراستين عن مرحلة المراهقة ولا توجد دراسات منشورة عن الأطفال. علاوة على ذلك، ركزت الأبحاث التي أُجريت على المكون الإدراكي للبِني المرتبطة بالعدوانية فحسب، تحديدًا السلوكيات والمفاهيم العدوانية. وقد وجد جريسون وويليامز (١٩٨٦) أن طلاب الصف العاشر أصبحوا أقل رفضًا للعنف بعد مشاهدة فيديوهات أغاني راب عنيفة. رغم ذلك، لم تظهر اختلافات مماثلة لدى طلاب الصف السابع. وعلى نحو مماثل، وجد جونسون وجاكسون وجاتو (١٩٩٥) أن المراهقين الذين شاهدوا فيديوهات موسيقى راب عنيفة هم أكثر تقبلًا لاستخدام العنف لحل ما يواجههم من مشكلات مقارنة بالنشء ممن شاهدوا فيديوهات غير عنيفة. وبتجميع تلك النتائج معًا نجد أن الدراستين تقترحان أن الفيديوهات الموسيقية العنيفة تملك قابلية التأثير على المكون الإدراكي للبِنى المرتبطة بالعدوانية. وما يظل مجهولًا في الوقت الحالي هو مدى تأثير الفيديوهات الموسيقية على البِنى الأخرى المرتبطة بالعدوانية و/أو السلوك العدواني عبر النشأة.
(٣-٥) الموسيقى العنيفة والانتحار
حسب الإحصائيات الحديثة، الانتحار هو المسبب الثالث لوفاة المراهقين ممن يبلغون ١٥ عامًا أو أكبر (مركز مكافحة الأوبئة والوقاية منها، ٢٠٠٦)؛ ومِن ثَم، يصبح تحديد العوامل التي تزيد من احتمالية محاولة المراهق الانتحار أمرًا بالغ الأهمية؛ فعلى مدار عقود، كان المحتوى الكلامي للأغاني مشتبهًا به كأحد العوامل المؤثرة المحتملة (براون وهيندلي، ١٩٨٩). فالأغاني عن الانتحار توجد تقريبًا في الأنواع الموسيقية كافةً، بما فيها الراب والكانتري والأوبرا. رغم ذلك، لطالما أُشير إلى أغاني الهفي ميتال تحديدًا على أنها مسبب للانتحار أثناء فترة المراهقة. على سبيل المثال، كلمات أغنية «قذارة» (ديرت) لفرقة أليس إن تشانيز، التي تصف شخصًا يضع مسدسًا في فمه والأحداث التي تلي الضغط على الزناد، توصي باستخدام الانتحار كشكل من أشكال الانتقام.
إن أفكار الاغتراب والموت واليأس المتكررة في الكثير من أغاني الهفي ميتال تبدو أنها تعرض المراهقين لخطر الانتحار. إلا أن المراهقين الذين يفضلون موسيقى الهفي ميتال معرضون على الأرجح لخطر الانتحار نتيجة لعوامل أخرى كثيرة، مثل الاكتئاب والجنوح والخلافات الأسرية. وعند أخذ تلك العوامل بعين الاعتبار، ينكسر الرابط الظاهري بين موسيقى الهفي ميتال والانتحار؛ لذا، لا يوجد دليل مباشر يدعم الزعم بأن موسيقى الهفي ميتال، أو أي نوع آخر من الأنواع الموسيقية من هذا المنظور، يتسبب في سلوك انتحاري بين المراهقين (انظر على سبيل المثال دراسة سكيل وويستفيلد، ١٩٩٩). رغم ذلك، تزعم بعض الأدلة إلى أن الاستماع المتكرر إلى موسيقى تتضمن أفكارًا انتحارية يشير إلى وجود تصورات انتحارية لدى من يستمع. ويقصد بالتصورات الانتحارية كلًّا من الأفكار غير المحددة عن الموت والأفكار المحددة التي تشتمل على نية الموت، والتي تصاحبها خطة تنفيذية. هكذا يؤدي التركيز الشديد على كلمات الأغاني التي تتضمن الموت والانتحار إلى تصورات انتحارية. وعلى الرغم من أن تلك التصورات لا تعتبر تهديدًا بانتحار وشيك، فإن الأكاديمية الأمريكية للطب النفسي للأطفال والمراهقين أشارت إلى أن النشء المشغولين بأفكار الانتحار والموت التي ترد في كلمات الأغاني ينبغي ترشيحهم للخضوع لتقييم للصحة النفسية (أليسي وهوانج وجيمس وينج وتشوهان، ١٩٩٢).
(٤) ألعاب الفيديو العنيفة
في عام ١٩٦٢، أُطلقت أول لعبة فيديو عنيفة. كانت اللعبة، التي تدعى سباس وور، مخصصة لأجهزة الكمبيوتر المركزية وتتضمن سفينتين فضائيتين يتقاتلان حتى الموت في منافسة مباشرة. وعلى الرغم من أن تقنيات الجرافيك المستخدمة في اللعبة كانت بدائية بمقاييس اليوم (إذ بدت السفن الفضائية أشبه بأبرة صغيرة ووتد مثلث)، فإن سباس وور سرعان ما حققت نجاحًا على شبكة الإنترنت. لكن لم تبدأ ألعاب الفيديو العنيفة تثير قلقًا عامًّا إلا في عام ١٩٧٦ مع الإصدار التجاري للعبة ديث ريس، التي كانت تدور حول دهس أشكال سوداء وبيضاء صغيرة تُدعي «جريملينز»، والتي عند دهسها كانت تصرخ وتتحول إلى علامات إكس. لقد أثارت هذه اللعبة جدلًا كبيرًا لدرجة أنها سرعان ما سُحبت من رفوف المتاجر. ومنذ أواخر السبعينيات لم تخمد الاحتجاجات المثارة حول عنف ألعاب الفيديو.
انتشر الجدل حول تأثير ألعاب الفيديو العنيفة في جميع أنحاء العالم مستمدًّا زخمه من حوادث إطلاق النار العشوائية في المدارس، التي عُرف عن كثير من المعتدين فيها الولوع بألعاب الفيديو العنيفة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، عقدت لجان فرعية في مجلس الشيوخ جلسات استماع تتناول التأثيرات المحتملة لألعاب الفيديو العنيفة على الأطفال والمراهقين. وفي ألمانيا، نظرًا لعدم قانونية قتل حياة بشرية في العالم الافتراضي، فإن شخصيات ألعاب الفيديو تُصوَّر في شكل روبوتات شبيهة بالبشر تنبثق منها شظايا معدنية عند جرحها أو قتلها. أما أستراليا فقد منعت بيع ألعاب الفيديو العنيفة مثل مان هانت وجراند ثيفت أوتو ٣ للجمهور. مع ذلك حظيت ألعاب الفيديو العنيفة بشعبية لا تُصدق على مدار عقدين من الزمان واليوم تُصنف باستمرار بين أعلى الألعاب مبيعًا. على سبيل المثال، حققت لعبة الفيديو العنيفة هالو ٣ مبيعات تقدر ﺑ ١٧٠ مليون دولار في اليوم الأول من إصدارها. ومما يثير الذهول بالدرجة نفسها أن مليون شخص لعبوا اللعبة على شبكة الإنترنت في اليوم نفسه (ماكدوجال، ٢٠٠٧).
(٤-١) ألعاب الفيديو العنيفة وزيادة مستوى الواقعية
على مدار الثلاثين عامًا الأخيرة، تحسنت تكنولوجيا ألعاب الفيديو تحسنًا مبهرًا. وبعيدًا عن التمثيلات المجردة والشبيهة بالعصى للهيئة البشرية التي ميزت الحقب السابقة، تجسد تقنيات الجرافيك الحديثة أجسادًا تبدو حقيقية وعندما تخترقها طلقات الرصاص أو الأسهم أو الخناجر يبدو هذ الحدث في غاية الواقعية. في الحقيقة الكثير من ألعاب الفيديو العنيفة في سبعينيات القرن العشرين، مثل ميسيل كوماند وأستيرويدز، تُعتبر اليوم تحتوي الحد الأدنى من العنف أو قد تُعتبر غير عنيفة من الأساس. عندما نقارن ألعاب الفيديو العنيفة وغير العنيفة، سنجد أن الاختلافات النسبية بين الاثنين فيما يتعلق بنسبة العنف الملحوظة قد تعاظمت مع مرور الوقت (جينتايل وأندرسون، ٢٠٠٣)؛ لذا عندما نحقق في تأثير ألعاب الفيديو العنيفة على الأطفال والمراهقين، تصبح التكنولوجيا التي تلعب دورًا أثناء ممارسة اللعبة عاملًا مهمًّا.
بناءً على درجة الواقعية الرسومية، قسم جينتايل وأندرسون (٢٠٠٣) تاريخ ألعاب الفيديو إلى ثلاث حقب: أتاري (من ١٩٧٧ إلى ١٩٨٥) ونينتيندو (من ١٩٨٥ إلى ١٩٩٥) وسوني (من ١٩٩٥ إلى الآن). خلال حقبة أتاري، نادرًا ما تضمنت ألعاب الفيديو العنيفة عنفًا موجهًا لشخصيات تشبه البشر، بل اقتصرت ألعاب مثل ديفندير وسينتبيد على أشكال هندسية بسيطة و/أو رسوم تدمر أشكالًا هندسية بسيطة أخرى أو رسومًا. ومع تحسن تكنولوجيا ألعاب الفيديو، زاد عدد الألعاب التي تستخدم أشكالًا شبيهة بالبشر. في الواقع، شهدت حقبة نينتيندو بداية ظهور الكثير من سلاسل ألعاب الفيديو العنيفة المستمرة حتى اليوم مثل ستريت فايتر ومورتال كومبات. كذلك شهدت حقبة نينتيندو بداية التجسيد الواقعي لأفعال العنف، مثل اللكم وضرب الرصاص، التي نتج عنها ردود فعل واقعية مثل النزف وتَقَطُّع الأوصال. على سبيل المثال، إحدى حركات القتل الخاصة في لعبة مورتال كومبات ٢ تؤدي إلى قطع خصم اللاعب إلى نصفين من منطقة الجذع، وتناثر الدماء في الهواء بينما تظهر كلمة «هلك خصمك» على الشاشة. إن تلك الواقعية الرسومية بما اشتملت عليه من عنف وإراقة للدماء استمرت في تزايد في أثناء حقبة سوني. وعلاوة على ذلك سمحت التطورات في برامج الألعاب بإمكانية تحرك الأجساد الافتراضية عبر البيئة الافتراضية والاستجابة للعالم المادي على نحو أكثر شبهًا بالواقع. ما يعني أن في ألعاب الفيديو العنيفة تسقط الشخصية التي أُطلق الرصاص على صدرها على الأرض بطريقة تختلف عن الشخصية التي تلقت رصاصة في رأسها. ومع مرور الزمن، أدت تلك التطورات إلى التمثيلات بالغة الواقعية للأفعال العنيفة ونتائجها التي نجدها في ألعاب الفيديو الحديثة.
(٤-٢) ألعاب الفيديو العنيفة والنشء: تأثيرات الحقبة والسن وتصميم الأبحاث
كما ذكرنا آنفًا، يمكن استنباط نتائج مختلفة من الدراسات التجريبية والارتباطية، مع مراعاة ارتباط السببية بالدراسات التجريبية. علاوة على ذلك، كل نوع من أنواع التصميمات البحثية يملك نقاط قوة وضعف خاصة به. على سبيل المثال، بما أن السلوك العدواني الظاهر في المختبر (مثل إضافة صلصة حارة إلى الطعام أو بث ضجة عالية) مختلف بشدة عن معظم الأفعال العدائية في عالم الواقع (الضرب على سبيل المثال)، فإن كثيرًا من العلماء يعتقدون أن دقة هذه الأنواع من التجارب محدودة عند تطبيقها على العالم الخارجي (رتير وإيسليا، ٢٠٠٥). خلافًا لذلك، يزعم أندرسون وبوشمان (١٩٩٧) أن العدوانية الواقعية وعدوانية المختبر متمثلتان على المستوى المفاهيمي (فكلاهما يتعاملان مع العدوانية) ومن ثَم تعلو دقة كل منهما في العالم الخارجي. بعبارة أخرى، الزيادة في السلوك العدواني التي تُلاحظ في المختبر بعد ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة ينبغي أن تقع أيضًا بعد ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة في المنزل أو في مركز ألعاب الفيديو. إلا أن احتمالية ملاحظة السلوك العدواني في الحياة الواقعية أقل؛ لأن البيئة المحيطة بالأفعال العدوانية تختلف بشدة عن تلك البيئة المتحكم فيها في المختبر (المصممة كي تسمح بالسلوك العدواني) والبيئة التي يتحكم بها الآباء والمعلمون في البيت والمدرسة (المصممة كي تمنع السلوك العدواني). وعند أخذ تلك الاختلافات بعين الاعتبار، سوف نفحص الأبحاث الواردة في الأقسام التالية وفقًا لتصميم البحث، وحقبة ألعاب الفيديو، والسن.
(أ) حقبة أتاري
- الأبحاث الارتباطية: ظهر الزعم الأول بوجود ارتباط بين السلوك العدواني وألعاب الفيديو في أثناء حقبة أتاري؛ إذ وجدت الدراسات التي أجراها كل من دومنيك (١٩٨٤) وكيستينباوم ووينستاين (١٩٨٥) ارتباطات بين ممارسة ألعاب الفيديو والجنوح في أثناء مرحلة المراهقة المبكرة. لسوء الحظ لم تُقَيِّم أي من الدراسات التي أجريت في تلك الحقبة العلاقة بين ألعاب الفيديو «العنيفة» والعدوانية. عوضًا عن ذلك، ركزت الدراسات على الارتباط بين إجمالي الوقت المنقضي في ممارسة ألعاب الفيديو عمومًا والآثار العدوانية الناتجة. يوجد تفسيران محتملان لتلك البيانات؛ أولًا: قد تكون ممارسة ألعاب الفيديو تؤثر على العدوانية عبر تنشيط البنى المرتبطة بالعدوانية، بصرف النظر عن محتوى الألعاب. رغم ذلك، يمكن رفض هذا الادعاء على أساس أن معظم النظريات التي تتناول العدوانية تزعم أن السلوك العدواني ينتج عن تعرض النشء لمحتوًى «عنيف». فالزعم بأن ممارسة ألعاب الفيديو بوجه عام تؤثر على العدوانية يشبه الزعم بأن تناول الطعام يؤدي إلى الإصابة بمرض القلب. وعلى الرغم من أن زعمًا كهذا لا يخلو من الصحة إلا أنه ليس محددًا بما يكفي كي يصلح لأي استخدام عملي. ثانيًا: ربما كانت ممارسة ألعاب الفيديو عاملًا متنبئًا بالعدوانية؛ لأن النشء الذين يقضون الجزء الأكبر من وقتهم في مراكز ألعاب الفيديو تصادف كونهم أكثر عدوانية من باقي النشء. على سبيل المثال ربما يتجنب النشء الجانح التفاعل مع أفراد عائلاتهم كي «يتسكعوا» مع أصدقائهم في أماكن ترفيهية مثل مراكز ألعاب الفيديو لفترات أطول من الوقت. الجدير بالملاحظة أن القليل من الأسر كانت تمتلك أجهزة ألعاب فيديو منزلية أثناء حقبة أتاري.
- الأبحاث التجريبية: على العكس من الأبحاث الارتباطية التي أُجريت في حقبة أتاري، قَيَّمَت الدراسات التجريبية في هذه الحقبة بالفعل تأثير ألعاب الفيديو العنيفة على النشء. إلا أن نتائج تلك الأبحاث كانت أبعد ما تكون عن التأثير؛ فعلى مدار فترتي الطفولة المتوسطة والمراهقة، لم تجد دراسة واحدة أي دليل على أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة له تأثير على السلوك العدواني أو البنى المرتبطة بالعدوانية (كيرش، ٢٠٠٦). أما الدراسة الوحيدة التي وجدت تأثيرًا فقد قيمت تأثير ألعاب الفيديو العنيفة على العدوانية الموجه نحو الرفاق في أثناء أوقات اللعب الحر (أي الأوقات التي يتفاعل فيها الأطفال في بيئة غير منظمة) في مرحلة الطفولة المبكرة (سلفيرن وويليامسن، ١٩٨٧). رغم ذلك كان أحد أهم الانتقادات الموجه لهذا النوع من تقييم «اللعب الحر» هو أن الملاحظات التي سجلت العدوانية ربما لم تكن في الحقيقة سوى أمثلة على اللعب غير المنظم؛ إذ يتسم هذا النوع من اللعب بكونه غير عدواني، ويحوي أنشطة تتضمن قدرًا كبيرًا من الحركة مثل الجري والمطاردة والقفز والمصارعة. وفي أثناء هذا النوع من اللعب يبتسم الأطفال ويتعاونون ويقسمون اللعب بالدور ويتبادلون الأدوار بعضهم مع بعض. علاوة على ذلك بعد انتهاء مرحلة اللعب الخشن، يستمر الأطفال في اللعب معًا (بيلجريني، ٢٠٠٢). لسوء الحظ لم يميز سلفيرن وويليامسن (١٩٨٧) بين هذا النوع من اللعب غير المقيد بقوانين والسلوك العدواني في دراستهم. لذا، توجد احتمالية أن الأطفال تملكتهم الحماسة (أي تعرضوا لاستثارة فيسيولوجية) بينما يلعبون ألعاب الفيديو العنيفة واستمرت حماستهم بينما يلعبون على نحو غير عدواني.
(ب) حقبة نينتيندو
كما شهدنا في حقبة أتاري، وجدت أبحاث الارتباط التي أُجريت في حقبة نينتيندو ارتباطًا كبيرًا بين ممارسة ألعاب الفيديو العامة والعدوانية. لكن مع الأسف، وكما حدث في المرحلة السابقة، تشكك البعض في هذه النتائج الجديدة أيضًا لأنها لم تُقَيِّم قدر ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة (فلينج وآخرون، ١٩٩٢؛ لين وليبير، ١٩٨٧). ومن المدهش أن هذه الحقبة لم تشهد إجراء سوى دراستين تجريبيتين، كل منهما تقيم تأثير ألعاب الفيديو العنيفة على اللعب العدواني لدى النشء في مرحلة الطفولة المتوسطة (انظر على سبيل المثال دراسة إروين وجروس، ١٩٩٥). وقد وجدت كل دراسة أن الأطفال كانوا أكثر عدوانية على المستوى الجسماني بعد ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة، مقارنة بألعاب الفيديو غير العنيفة. إلا أن الكثير من «التصرفات العدوانية» التي لُوحظت في أثناء اللعب كانت في الحقيقة نماذج على اللعب المتقلب غير المنظم. وحتى نماذج العدوانية اللفظية التي لوحظت في دراسة إروين وجروس (١٩٩٥) حدثت بينما كان الأطفال مندمجون في ألعاب تمثيلية، ومن ثَم ربما كانت جزءًا من حبكة قصة خيالية لا هجومًا شخصيًّا.
(ﺟ) حقبة سوني
- الأبحاث في أثناء فترة الطفولة المبكرة: لم تقيم أي دراسة حديثة تأثير ألعاب الفيديو العنيفة على الأطفال بين عمر ٢ و٥ سنوات. رغم أن الأطفال الصغار جدًّا في وسعهم ممارسة ألعاب الفيديو، وفي بعض الأحيان يلعبون الألعاب العنيفة. تأمل على سبيل المثال نموذج ليل بويسن، الذي يمثل ظاهرة في عالم ألعاب الفيديو ويحمل لقب أصغر لاعب ألعاب فيديو محترف في العالم بينما لم يتجاوز عمره ٨ سنوات. دخل ليل بويسن، الذي بدأ يلعب على جهاز إكس بوكس ٣٦٠ بينما كان طفلًا يحبو، أول مسابقة ألعاب فيديو وعمره ٤ سنوات كعضو من أعضاء فريق أبيه. ومع بلوغه الخامسة، صُنف كأحد أفضل ٦٤ لاعب ألعاب فيديو على مستوى العالم، وحاليًّا يمارس ألعاب الفيديو لمدة ٦ ساعات يوميًّا (Lilpoison.com، ٢٠٠٨). وعلى الرغم من أن حالة ليل بويسن فريدة من نوعها، فإن مدى ممارسة النشء في الطفولة المبكرة لألعاب الفيديو العنيفة، وتأثرهم بها نتيجة لذلك، يظل مجهولًا. بالصدفة يبدأ معظم الأطفال الصغار تجربة ألعاب الفيديو عبر الألعاب التي تحمل تصنيف للجميع (إي) (مثل لعبة سوبر ماريو) لا الألعاب التي تحمل تصنيف غير مناسب لأقل من ١٧ عامًا (M)، كما في حالة ليل بويسن.
-
الأبحاث خلال فترة الطفولة المتوسطة: قبل حقبة سوني لم تُقَيِّم الأبحاث الارتباطية العلاقات بين
ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة والسلوك العدواني أو البِنى المرتبطة
بالعدوانية. والآن توجد بضع دراسات تناولت كلًّا من المجالين. فمن
ثلاثة دراسات أُجريت على البِنى المرتبطة بالعدوانية، قدمت اثنتان
نتائج مهمة، وكلتاهما تضمن تقييمات لمفاهيم عدوانية. على سبيل
المثال، في عينة تضمنت طلاب الصفين الرابع والخامس، وجدت فنك
وزملاؤها (فنك وبيشتولدت بالداتشي وباسولد وباومجاردنير، ٢٠٠٤)
ارتباطًا إيجابيًّا بين ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة والسلوكيات
الإيجابية تجاه العنف. وعلى نحو مماثل، وجد أندرسون وزملاؤه
(أندرسون وجينتايل وبكلي، ٢٠٠٧) أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة
كان مرتبطًا بمستويات أعلى من التحيز الافتراضي العدائي في الطلاب
من الصف الثالث إلى الخامس. والتحيز الافتراضي هو الميل إلى
المبالغة في افتراض نية عدائية لدى فرد آخر خلال موقف غامض يتضمن
إيذاءً. وفيما يتعلق بالسلوك العدواني، وضح أندرسون وزملاؤه (٢٠٠٧)
الارتباطات الإيجابية بين ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة وكل من
العدوانية اللفظية والجسدية.
ركزت القليل من الدراسات التجريبية على طلاب المرحلة الابتدائية خلال حقبة سوني. في الواقع، شهدت حقبة أتاري القدر الأعظم من الأبحاث التجريبية التي أُجريت على الأطفال والمراهقين، وهي الحقبة التي شهدت ظهور أقل ألعاب الفيديو واقعية وأقلها عنفًا. رغم ذلك، تشير الأبحاث المعاصرة إلى أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة تزيد السلوك العدواني في مرحلة الطفولة المتوسطة. على سبيل المثال، وجد أندرسون وزملاؤه (٢٠٠٧) أن عقب ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة التي تحمل تصنيف مناسب للمراهقين (تي) (مثل لعبة ستريت فايتر)، اختار الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ٩ إلى ١٢ بث «دوي صاخب» أكثر حدة في آذان طفل آخر في أثناء مهمة زمنية تتضمن رد فعل تنافسيًّا. ومن الجدير بالملاحظة أن اعتقاد الأطفال أنهم بثوا دويًّا صاخبًا إلى آذان منافسيهم لم يكن حقيقيًّا. رغم ذلك تشكك رتير وإيسليا (٢٠٠٥) في الرأي القائل بأن بث دوي صاخب أثناء لعبة تنافسية هو في الحقيقة عمل عدائي. فربما كان المشاركون يمارسون سلوكًا كهذا لا بغرض إلحاق الأذى بمنافسيهم (وهو تعريف العدوانية) بل لأنهم يحاولون الفوز باللعبة ويعتقدون أن الدوي الصاخب سوف يعطل من قدرة منافسيهم على الفوز. وعلاوة على ذلك، ربما يرى الكثير من المشاركين أن الدوي الصاخب «جزء من اللعبة» (يشبه إلى حد بعيد ممارسات العرقلة في كرة القدم الأمريكية أو الكبح في الهوكي، إلى آخره) وليس عملًا عدوانيًّا.
وفيما يتعلق بالبِنى المرتبطة بالعدوانية، خاطبت عدة دراسات تأثير ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة على المفاهيم العدوانية. على سبيل المثال، وجد كل من كيرش (١٩٩٨) وأندرسون وزملاؤه (٢٠٠٧) أن الأطفال الذين يمارسون ألعاب فيديو عنيفة تزداد احتمالية إظهارهم تحيزًا افتراضيًّا عدائيًّا مقارنة بالأطفال الذي يمارسون ألعابًا غير عنيفة. وعلى الرغم من أن بعض الأبحاث لم تجد أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة تؤدي إلى مفاهيم عدوانية (فنك وبوخمان وجينكز وبيشتولدت، ٢٠٠٣)، فإن الدراسات التي تشير إلى وجود تأثير تزيد عن الدراسات التي تشير إلى انعدام التأثير.
-
الأبحاث في أثناء فترة المراهقة: في العقد السابق، أُجري
العديد من الدراسات الارتباطية التي غطت مرحلة المراهقة. رغم ذلك،
أسفرت هذه الدراسات عن نتائج أبعد ما تكون عن الاتساق. في الواقع،
يكاد عدد الدراسات التي عجزت عن إيجاد روابط ذات قيمة بين ممارسة
ألعاب الفيديو العنيفة والسلوك العدواني (فنك وآخرون، ٢٠٠٢) أن
يقارب عدد الدراسات التي وجدت روابط مهمة (انظر على سبيل المثال
دراسات أندرسون وزملائه، ٢٠٠٧؛ وجينتايل ولينش وليندر ووالش ٢٠٠٤).
ومن المثير للاهتمام أن الدراسات الارتباطية التي تتضمن فتيانًا من
الصف الثامن قد توصلت باستمرار إلى روابط مهمة بين العدوانية
وممارسة ألعاب الفيديو العنيفة. ربما تلعب سرعة التأثر في مراحل
النشأة دورًا في هذه النتائج. وربما كان الفتيان في الصف الثامن
بعينهم أكثر عرضة لتأثيرات ألعاب الفيديو العنيفة أكثر من
المراهقين الأكبر سنًّا أو الأطفال الأصغر سنًّا. رغم ذلك لا نزال
في حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتأكيد هذا الزعم. وفيما يتعلق
بالبِنى المرتبطة بالعدوانية، أشارت عدة دراسات إلى وجود روابط
إيجابية بين ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة والأفكار العدوانية
(راجع على سبيل المثال دراسة كريه ومولر، ٢٠٠٤) والمشاعر العدوانية
(جينتايل وآخرون، ٢٠٠٤).
وعلى الرغم من المحدودية البالغة للأبحاث، فإن نتائج الدراسات التجريبية الحديثة التي تشتمل على مراهقين تقدم دعمًا تأسيسيًّا للادعاء القائل بأن ألعاب الفيديو العنيفة من المحتمل أن تؤثر على السلوك العدواني والبِنى المرتبطة بالعدوانية. فيما يتعلق بالبنى المرتبطة بالعدوانية، قيم أنسورث وزملاؤه (أنسورث وديفيلي ووارد، ٢٠٠٧) مستويات الغضب (أي التأثير العدواني) السابقة لممارسة ألعاب الفيديو العنيفة (لعبة كوايك ٢) والتالية لها في عينة من المراهقين بين سن ١٢ و١٨ عامًا. وظهر أن النشء المتسمين بالغضب (أي من تعلو لديهم سمة الغضب) الذين كانوا يشعرون بالغضب قبل ممارسة لعبة الفيديو (أي يعانون من نوبة غضب عارض شديدة) شعروا بانخفاض في غضبهم بعد لعب كوايك. ويقترح المؤلفون أن هذا يُعَدُّ دليلًا مباشرًا على وجود تأثير تطهُّري. إلا أن من بين ١١١ مشاركًا في الدراسة، لم يُظهر الانخفاض المشار إليه سوى ٨ من المشاركين. خلافًا لذلك، أظهر المراهقون ممن تعلو لديهم سمة الغضب وينخفض لديهم الغضب العارض قبل ممارسة اللعبة ارتفاعًا في مستويات الغضب العارض بعد ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة. وعلى العكس لم يتأثر النشء ذوو الشخصيات غير العدوانية بممارسة اللعبة، بصرف النظر عن مستوى غضبهم العارض. في الواقع لم يُظهر ٧٧ من أصل ١١١ مشاركًا أي تغير في مستويات الغضب لديهم قبل وبعد ممارسة لعبة الفيديو. وعلى الرغم من تلك النتائج المثيرة، فإنه توجد مشكلة منهجية خطيرة تخص هذه الدراسة، وهي أنها لا تقيس آثار ممارسة ألعاب الفيديو غير العنيفة؛ لذا من المستحيل معرفة ما إذا كانت هذه النتائج ترجع إلى عوامل عامة مرتبطة بممارسة ألعاب الفيديو (كالإحباط) و/أو العنف المصور في الألعاب.
في إحدى التقييمات القليلة للسلوك العدواني الناتج عن ألعاب الفيديو العنيفة، قيمت كونين وزملاؤها (كونين ونييه بيفانك وبوشمان، ٢٠٠٧) تأثير عنف ألعاب الفيديو، والاستغراق في ممارسة هذه الألعاب، والتوحُّد مع المعتدِي في العدوان المرتبط بالتنافس. ويشير التوحد مع المعتدي إلى مدى رغبة النشء في أن يصبحوا مثل الشخصيات الافتراضية التي يتحكمون بها أو اعتقادهم بوجود سمات متشابهة بين تلك الشخصيات العنيفة وذواتهم وتقديرهم لتلك السمات. في هذه الدراسة التي تناولت فتيان مراهقين من ١٢ إلى ١٧ عامًا، لعب المشاركون إما ألعاب فيديو عنيفة أو غير عنيفة وتلا ذلك مهمة زمنية تتضمن رد فعل تنافسيًّا حيث يُتاح للفائز فرصة إرسال دوي صاخب (قد يتسبب في إحداث تلف في السمع) إلى سماعات الرأس التي يرتديها الطرف الخاسر. ما لم يعرفه المشاركون هو أن اللعبة التنافسية زائفة وأنه لا يوجد في الحقيقة طرف منافس. يوجد عدة نتائج جديرة بالملاحظة في هذه الدراسة؛ أولًا: تؤدي ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة إلى إرسال دوي صاخب أعلى مقارنة بممارسة الألعاب غير العنيفة. ثانيًّا: الفتيان المراهقون ممن توحَّدوا مع الشخصيات الافتراضية العنيفة أرسلوا دويًّا صاخبًا يكاد يسبب الصمم إلى سماعات رأس خصومهم، أكثر مما فعل أقرانهم الذين لم يتوحدوا مع شخصيات ألعاب الفيديو العنيفة. وأخيرًا: زاد الانغماس في ممارسة الألعاب احتمالية توحد المراهقين مع الشخصيات الافتراضية العنيفة. عند جمع تلك النتائج، نجدها تشير إلى أن الانغماس في ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة قد يكون أكثر ضررًا على النشء مقارنة بممارسة تلك الألعاب دون انغماس، نظرًا لأن الانغماس يعزز التوحد مع المعتدِي. رغم ذلك تظل احتمالية اعتبار النشء للدوي الصاخب مجرد جزء من اللعب وليس عملًا عدائيًّا احتمالية قائمة، بما أن المهمة المتضمنة في الدراسة كانت تنافسية.
(٤-٣) ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة على شبكة الإنترنت
يلعب عشرات الملايين من الأطفال والمراهقين من جميع أنحاء العالم معًا على شبكة الإنترنت في بيئة جماعية تُعرف باسم «ألعاب تقمص الأدوار الضخمة متعددة اللاعبين على شبكة الإنترنت». تقدم الكثير من تلك المواقع بيئات غير عنيفة للأطفال، كما في موقع كلوب بينجوين. إلا أنه توجد العديد من مواقع الويب الأخرى، مثل رنسكيب وإيفيركويست إلى جانب النسخ المتاحة على الإنترنت من ألعاب كول أوف ديوتي وهالو، التي تتيح للنشء مجالًا رحبًا للانغماس في العنف الافتراضي. وكما قال ابني البالغ من العمر ١٠ أعوام وهو يحاول إقناعي بالسماح له بالاشتراك في لعبة وورلد أوف ووركرافت الجماعية على شبكة الإنترنت: «الألعاب على شبكة الإنترنت تنشر السلام حول العالم … على الرغم من كونها عنيفة.» على الرغم من شعبية تلك الألعاب، فلا توجد أبحاث عن تأثير ألعاب الفيديو العنيفة على شبكة الإنترنت على الأطفال والمراهقين. لمَ ينبغي علينا دراسة تلك الألعاب في المقام الأول؟ ألا تنطبق عليها الأبحاث التي أُجريت على ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة على أجهزة الألعاب وأجهزة الكمبيوتر المنزلية؟ الإجابة على تلك الأسئلة هي نعم ولا في الوقت نفسه؛ فعلى الرغم من أن تأثير ممارسة الألعاب العنيفة على الإنترنت يُفترض به ألا يختلف عن تأثير ممارسة النوع نفسه من الألعاب على أجهزة الألعاب الإلكترونية والكمبيوتر، فإن ألعاب تقمص الأدوار الضخمة متعددة اللاعبين على شبكة الإنترنت أضافت أبعادًا أخرى تجعلها تستحق دراسة خاصة؛ أولًا: تتيح الألعاب على الإنترنت فرصة للممارسة العنف الجماعي على نحو لا يمكن تحقيقه بسهوله عبر الألعاب العادية، فعند التواجد على شبكة الإنترنت يستطيع النشء «التقابل» في مواقع افتراضية والاشتراك في ألعاب إما تعاونية أو تنافسية. بعض الألعاب، مثل كونترسترايك، تشجع النشء على تكوين فرق والتمرن على ممارسة اللعبة، على أمل تحسين كفاءتهم في القتل الافتراضي، كأفراد وكفرق على حدٍّ سواء. وحتى الآن لم يخضع تأثير العنف التعاوني في مقابل العنف التنافسي واللعب الجماعي مقابل اللعب الفردي للدراسة في النشء. علاوة على ذلك، تتسم الألعاب الجماعية على الإنترنت بطبيعتها الاجتماعية، حيث يشارك اللاعبون في محادثات نصية في أثناء ممارسة اللعبة بل قد يتحدث بعضهم إلى بعض عبر سماعات الرأس. على العكس من ذلك، في معظم الدراسات التي تناولت العنف الإعلامي حتى الآن، يمارس النشء ألعاب الفيديو العنيفة وحدهم. وأخيرًا: في حال ممارسة ألعاب الفيديو على شبكة الإنترنت، تتيح التفاعلات الاجتماعية بين اللاعبين فرصة التعامل كمجموعة من الرفاق، بل الاشتراك في سلوكيات التنمر الإلكتروني.
(أ) التنمر الإلكتروني
يتضمن التنمر الإلكتروني سلوكيات متكررة من الهجمات العدائية الموجهة إلى فرد آخر وقد تتضمن عدوانًا لفظيًّا (مثل الشتائم والإغاظة) و/أو خاص بالعلاقات (مثل نشر الإشاعات). حوالي ١٠٪ من المراهقين يتعرضون للتنمر الإلكتروني سنويًّا. وبالنظر إلى أن ٩٧٪ من المراهقين يستخدمون الإنترنت، فإن أعداد حالات التنمر الإلكتروني السنوية تصل إلى ملايين. من منظور النشأة، يبدو أن التنمر الإلكتروني يصل إلى ذروته في المراهقة المتوسطة، ثم يتعرض لانخفاض بسيط فيما بعد (كوالسكي ولمبير، ٢٠٠٧؛ ويليامز وجيرا، ٢٠٠٧). رغم ذلك معظم الحالات التي زُعم أنها تنمر إلكتروني كانت في الحقيقة مواجهات عابرة على الإنترنت وليست حوادث متكررة من التحرش. في الأغلب، يمحو النشء ببساطة التعليقات المزعجة و/أو يمنعون المستخدم إلكترونيًّا من إرسال المزيد من التعليقات. رغم ذلك قد تؤدي هذه المواجهات العابرة إلى آلام نفسية لدى ضحية التنمر الإلكتروني (ستوب، ٢٠٠٧). لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة على شبكة الإنترنت تزيد من حدوث التنمر الإلكتروني أم لا. لكن ربما كان تنشيط البنى المرتبطة بالعدوانية أثناء ممارسة الألعاب العنيفة على شبكة الإنترنت يؤدي إلى زيادة احتمالية ممارسة النشء للتنمر الإلكتروني أثناء اللعب أو بعده بفترة قصيرة. نحن بالتأكيد في حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتأكيد تلك المزاعم. كذلك نحتاج إلى إجراء تحليلات المحتوى على المحادثات الكتابية واللفظية المتبادلة بين اللاعبين في سياق اللعبة كي نتأكد أن حالات التنمر الإلكتروني المبلغ عنها كانت عدوانية في طبيعتها وليست مجرد جزء متوقع من اللعبة (المعادل الإلكتروني للعب غير المنظم).
(٥) نقاط مهمة من منظور النمو
مع أن الكثير من النشء يبدءون في ممارسة ألعاب الفيديو في مرحلة الطفولة المبكرة، فلم لا نجد الكثير من الدراسات التجريبية التي تركز على هذه الفئة العمرية؟ الإجابة بسيطة: يتعلق الأمر بآداب المهنة. فقبل إجراء أي بحث، يظل السؤال الأهم الذي لا بد لأي متخصص في العلوم الاجتماعية من إجابته هو: هل العمليات المتضمنة في هذه الدراسة قد تؤدي إلى أذًى نفسي أو جسدي للمشاركين. حسب دليل النشر الصادر عن جمعية علم النفس الأمريكية (الطبعة الخامسة، جمعية علم النفس الأمريكية، ٢٠٠١)، أي أذًى يتسبب فيه الباحثون للمشاركين في الدراسة من أي عمر هو أمر غير أخلاقي. وعلى الرغم من أن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة لن تتسبب على الأرجح في أذًى جسدي مباشر، فإن العنف والدماء والبشاعة المجسدة في هذه الألعاب ربما تتسبب في إحداث أذًى نفسي. ونتيجة لتلك المشكلة يعتقد الكثير أن التعرض إلى الإعلام العنيف أثناء فترة الطفولة المبكرة لا بد من تجنبه. لكن يظل إجراء الإحصائيات عن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة ثم ربط الإجابات مع الحالات المُبلَغ عنها من السلوك العدواني و/أو مؤشرات البِنى المرتبطة بالعدوانية أمرًا لا يتعارض مع أخلاقيات المهنة. رغم ذلك أخفقت الأبحاث على مدار ٣ عقود في تناول التأثير المحتمل لألعاب الفيديو العنيفة على الأطفال الأصغر سنًّا.
يتزايد تعقيد الوضع الأخلاقي عند تصميم بحث على النشء في مرحلة الطفولة المتوسطة أو الأكبر سنًّا. يعتقد باحثون مثل فنك وزملائها (٢٠٠٣) أن جعل الأطفال في مرحلة الطفولة المتوسطة يلعبون ألعابًا تحمل تصنيف غير مناسب لأقل من ١٧ عامًا كجزء من تجربة بحثية هو أمر غير أخلاقي. والقانون لا يسمح ببيع تلك الألعاب إلا للشباب البالغين من العمر ١٧ عامًا أو أكبر. فألعاب مثل هيت مان ودوم ٣ تحمل تصنيفًا يقيد بيعها للصغار؛ لأنها تحمل سمة أو أكثر من السمات التالية: موضوعات جنسية مخصصة للبالغين، عنف بالغ، و/أو لغة بذيئة. رغم ذلك أظهرت الأبحاث أن الأطفال فوق سن السابعة في وسعهم شراء ألعاب تحمل تصنيف غير مناسب لأقل من ١٧ عامًا من المتاجر دون موافقة والديهم. وعلاوة على ذلك حوالي ٨٠٪ من النشء في عمر ١٣ عمرًا ذكروا أنهم يلعبون حاليًّا ألعابًا تحمل التصنيف غير مناسب لأقل من ١٧ عامًا (والش وجينتايل وجيسك ووالش وشاسكو، ٢٠٠٣)؛ لذا ربما ينبغي على الأبحاث المستقبلية التفكير في دراسة تأثيرات ألعاب الفيديو العنيفة للغاية على الأطفال الأكبر سنًّا والمراهقين، حتى إذا كانت ألعاب الفيديو مصنفة لفئة عمرية تعلو فئة الطفل.
• كيف تؤثر ألعاب الفيديو العنيفة على أنواع مختلفة من البِنى المرتبطة بالعدوانية أثناء النشأة؟ |
• ما الدور الذي يلعبه معدل ممارسة اللعبة في التأثيرات الناتجة عن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة أثناء النشأة؟ |
• ما الآثار طويلة الأمد الناتجة عن ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة؟ هل لسن بدء ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة دور في حدوث تلك الآثار؟ |
• هل لمراحل النمو تأثير مختلف على النتائج قصيرة الأمد وطويلة الأمد لممارسة ألعاب الفيديو العنيفة؟ |
• كيف تؤثر ملاحظة العنف الموجود في ألعاب الفيديو، بصرف النظر عن المحتوى العنيف، على رد الفعل العنيف؟ |
بعض نقاد العنف في وسائل الإعلام يزعمون أنه بصرف النظر عن زيادة السلوك العدواني، تغرس ألعاب الفيديو العنيفة في عقول النشء رغبة في القتل وهي تعلمهم في الوقت نفسه كيف يحققون ذلك (جروسمان وديجايتانو، ١٩٩٩). غالبًا ما تُطرح هذه المزاعم المثيرة بعد حوادث إطلاق النار في المدارس. وعلى الرغم من تلك المخاوف، فإن عدد الأبحاث التي تتناول ألعاب الفيديو العنيفة يقل نسبيًّا خلال فترة المراهقة المبكرة والمتوسطة، وهما الفترتان العمريتان الأكثر ارتباطًا بحوادث إطلاق النار في المدارس (كيرش، ٢٠٠٣). أما فيما يتعلق بالقتل، فليس لدينا سوى القليل من البيانات التجريبية (أو الارتباطية) التي تشير إلى كون عنف وسائل الإعلام سببًا بارزًا في حوادث العنف في المدارس أو القتل.