إعلام عنيف: الجزء الثاني
تعرضتُ، مثل كثير من الأطفال، في أثناء نشأتي في سبعينيات القرن الماضي إلى مشاهدة الكثير من برامج التليفزيون، وكما اتضح لي، كان معظمها عنيفًا. كنت أشاهد بطلًا خارقًا تلو الآخر يقاتل صغار المجرمين ويحارب الأشرار الخارقين. وشاهدتُ وتدًا تلو الآخر يُغرس في قلوب مصاصي الدماء، ورصاصات فضية يفوق عددها قدرتي على التذكر تُطلق على أجسام المستذئبين. كذلك تضمنت الجرعة الثابتة من استخدامي للعنف الإعلامي ساعات من مشاهدة مصارعة المحترفين، بلُغتها الزاخرة بالألفاظ، وشخصياتها المفعمة بالحياة، ومشاحناتها العنيفة التي لا تتوقف. فسواء كانت المادة المعروضة كوميدية أو درامية، كرتونية أو غير كرتونية رعبًا أو خيالًا علميًّا، مدبلجة أو مترجمة، ما دام ثمة عنف يُعرض على الشاشة فقد شاهدته. ومع تقدمي في العمر، استطعتُ مشاهدة الأفلام دون والديَّ، ومن ثم ارتفع عدد الجثث وأصبح الدم يتدفق بحرية أكبر. يا لها من أوقات جيدة، أيام لا تعوض بلا شك! إلا أن حماسي الشبابي للعنف التليفزيوني والسينمائي لم يكن يلقى تأييدًا من الجميع في سبعينيات القرن العشرين. على سبيل المثال، حذر كبير الأطباء في الولايات المتحدة من أن التعرض للعنف التليفزيوني قد يؤدي إلى عدوانية لدى النشء (اللجنة الاستشارية العلمية لكبير أطباء الولايات المتحدة، ١٩٧٢). لكن إلى أي مدًى يؤثر العنف في الإعلام المرئي (مثل البرامج التليفزيونية غير الكرتونية وأفلام الكرتون والأفلام السينمائية) على النشء في عصرنا الحالي؟ إن هدف هذا الفصل هو الإجابة عن هذا السؤال تحديدًا.
(١) العنف في وسائل الإعلام المرئية التقليدية
يكثر وجود المحتوى العنيف في كلٍّ من الكرتون والبرامج التليفزيونية غير الكرتونية. وفي الواقع، تقول التقديرات إن النشء سيتعرضون لمشاهدة أكثر من ٨ آلاف جريمة قتل و١٠٠ ألف عمل كامل من العنف التليفزيوني عند اتمامهم مرحلة الدراسة الابتدائية (هستون وآخرون، ١٩٩٢). وفي العقد الماضي، زاد العنف التليفزيوني بدرجة كبيرة في أثناء وقت ذروة المشاهدة، مع زيادة تصوير العنف بنحو ٤٥٪ خلال الساعة الثامنة مساءً، وبنحو ٩٢٪ في الساعة التاسعة مساءً، وبنحو ١٦٧٪ في الساعة العاشرة مساءً. وفي أي ليلة، يتضاعف كم أفعال العنف المشاهَدة مع كل ساعة إضافة من مشاهدة التليفزيون (٢٫٣٤ فعل عنيف بين الساعة الثامنة والتاسعة مساءً، و٤٫٦٣ أفعال عنيفة بين الساعة التاسعة والعاشرة مساءً، و٩٫٤٣ أفعال عنيفة بين الساعة العاشرة والحادية عشرة مساءً؛ مجلس الآباء لمراقبة التليفزيون، ٢٠٠٧).
بالإضافة إلى ساعة المساء، يتفاوت كم العنف المعروض على شاشة التليفزيون على أساس نوع البرنامج، مثل البرامج الدرامية، وبرامج المصارعة، والبرامج الكوميدية، والواقعية. فمن حيث كم العنف وشدته، إلى حد بعيد، توجه مصارعة المحترفين «ضربة قاصمة» للمنافسة؛ إذ اكتشفت دراسة حديثة أن جميع برامج المصارعة التليفزيونية بها محتوًى عنيف، بمتوسط ١٤ مشهدًا عنيفًا تقريبًا في الساعة. ومن هذه المشاهد العنيفة كان ٢٣٪ ذات طبيعة مفرطة (تُعرف باحتوائها على ٢١ عملًا عنيفًا متعاقبًا أو أكثر)، بمتوسط ٤٦ عملًا عنيفًا منفصلًا في كل منها. وعند مقارنة مصارعة المحترفين ببرنامج تليفزيوني عادي يُعرض في فترة الذروة، نجد أنها تقدم ضعف عدد أعمال العنف في الساعة، وثلاثة أضعاف أعمال العنف المتطرفة. كانت برامج الأطفال ثاني أكثر الأنواع عنفًا على شاشة التليفزيون؛ إذ يحتوي ٨٠٪ من البرامج على العنف بمتوسط ١٢ مشهدًا في الساعة. ومع ذلك، لم يُعتبر إلا ٣٪ فقط منها أعمال عنف متطرفة (تامبوريني وآخرون، ٢٠٠٥).
يتعرض الأطفال والمراهقون أيضًا للعنف في الإعلانات التجارية في الأخبار. على سبيل المثال، وجد لارسون (٢٠٠٣) أن أكثر من ثلث الإعلانات التجارية التي تستهدف النشء تحتوي على عناصر عدوانية. وبالمثل أقر بحث تامبورو وزملاؤه (تامبورو وجوردون ودابوليتو وهاورد، ٢٠٠٤) أن ٥٠٪ من الإعلانات التجارية التي تُذاع في أثناء الأحداث الرياضية الكبرى التي يشاهدها النشء (مثل المباراة النهائية في دوري كرة القدم الأمريكية «سوبر بول»، ونهائيات كأس العالم)، تحتوي على سلوكيات عدوانية و/أو غير آمنة. وفي الأخبار من المعتاد وجود تقارير عن حالات وفاة ودمار واعتداءات جنسية. كذلك وجدت إحدى الدراسات أن أكثر من ٥٠٪ من القصص الإخبارية التي تُعرض على التليفزيون تحتوي على عنف وصراع ومعاناة (جونسون، ١٩٩٦). وفي السنوات الأخيرة، تكرر ظهور الحروب والإبادة الجماعية وأعمال الإرهاب في محطات البث مصحوبة بمشاهد تصويرية للعنف وتبعاته. ومن المثير للاهتمام أن البرامج التليفزيونية لا تخضع للتقييم في الولايات المتحدة، مما يجعل من المستحيل على الوالدين معرفة مقدمًا إذا ما كان يجب عليهم تغيير المحطة إلى شيء أقل عنفًا وإزعاجًا.
اتضح أيضًا أن العنف يمثل عنصرًا أساسيًّا في كل من أفلام الكرتون والرسوم المتحركة؛ فقد وجدت إحدى الدراسات أن الأطفال والمراهقين يكونون أكثر عرضة لرؤية أعمال عنف في برامج الكرتون التي تُعرض في صباح أيام السبت أكثر مما يشاهدونه في ساعات الذروة التليفزيونية (جربنر وجروس ومورجان وسينوريلي، ١٩٩٤). وبالمثل اتضح أن برامج الكرتون تعرض أعمال عنف أكثر من الدراما غير الكرتونية أو البرامج الكوميدية (بوتر ووارن، ١٩٩٨). حتى في الأفلام ذات التقييم المناسب للأطفال، التي يُفترض بها «ألا تحتوي على شيء مسيء»، يُلاحظ وجود عنف بصفة دورية. على سبيل المثال، أظهر تقييم لأربع وسبعين فيلمًا تحمل تقييم مناسب لعموم الجمهور، صدرت على مدار ٦٢ سنة، أن ١٠٠٪ من الأفلام احتوت على عمل واحد على الأقل من أعمال العنف. وفي المتوسط يحتوي كل فيلم على ٩ دقائق ونصف من العنف (يوكوتا وطومسون، ٢٠٠٠). هذا وقد أظهر بحث إضافي أن أفلام الرسوم المتحركة ذات التقييم المناسب للأطفال تعرض عنفًا مرئيًّا أكثر من الأفلام غير الكرتونية ذات التقييم نفسه (طومسون ويوكوتا، ٢٠٠٤).
(٢) العوامل المؤثرة في إدراك العنف
مثلما يختلف مفهوم الجمال من شخص لآخر، يبدو أن هذا ينطبق على العنف أيضًا، إذ قد تؤثر طريقة عرض العنف على الشاشة والمحتوى الذي يُعرض فيه على إدراك المشاهدين النشء لأعمال العنف هذه. يضم هذا عوامل مثل الإبراء والتبعات، والكوميديا، والتسويغ والإجازة، والواقع المدرك، والتصويرية، والإبهار، وسنتحدث عن كل منها على حِدة.
(٢-١) الإبراء والتبعات
يحدث الإبراء عندما لا يتعرض ضحايا العنف، على عكس الواقع، للوفاة أو يعانون من ألم حقيقي؛ بمعنى أن تكون عواقب العنف محمودة. وكمثال على هذا، في برنامج الكرتون مفرط العنف «باتمان: سلسلة الرسوم المتحركة» يَحدُث كثير من المعارك دون إلحاق أي أذًى واضح بالشخصيات الأساسية. فرغم أن الرصاص يرتد في كل مكان والقنابل تنفجر في جميع الأنحاء؛ فالأشرار يظلون على قيد الحياة دومًا من أجل بث الرعب في يوم آخر، ويظل باتمان موجودًا على قيد الحياة من أجل التصدي لهم. هذا ويُعتبر عمل العنف تافهًا أو خطيرًا على أساس تبعاته على ضحيته ومرتكبه. فعندما لا تظهر الضحايا ألمًا واقعيًّا كبيرًا، أو عندما يفشل مرتكبو هذه الأعمال في إظهار الندم والحزن على أفعالهم، يؤدي هذا إلى اعتبار أعمال العنف تافهة (جونتر، ١٩٨٥). ورغم أن برامج الكرتون التليفزيونية عادةً ما تبرئ عواقب العنف، فإن هذا الإبراء يكون أقل شيوعًا في أفلام الرسوم المتحركة والبرامج التليفزيونية في وقت الذروة. على سبيل المثال، اكتشف يوكوتا وطومسون (٢٠٠٠) أن في الأفلام المناسبة لمشاهدة الأطفال تكون حالات الوفاة (أو الوفاة المزعومة) والإصابات والألم شائعة بدرجة كبيرة (٤٧٪ و٦٢٪ و٢٤٪ على التوالي). وبالمثل، تركز الأعمال الدرامية في وقت الذروة عادةً على ألم ومعاناة المتضررين من العنف؛ فقد وجدت إحدى الدراسات أن ٦٤٪ من أعمال العنف يتسبب في أضرار و٥٦٪ منها يصور الألم (تامبوريني وآخرون، ٢٠٠٥).
(٢-٢) الكوميديا
تميل العناصر الكوميدية، وخاصة الكوميديا التهريجية، إلى تمويه صور العنف والتقليل من أهميتها. والكوميديا التهريجية هي أحد أنواع الكوميديا التي تنبع فيها الفكاهة من الأفعال البدنية. وتشتمل أفعال الكوميديا التهريجية المتعلقة بالعنف على وكز العين بالأصبع، أو ضرب الرأس بمطرقة، أو السحق باستخدام سنديان. ثمة اعتقاد بأن الكوميديا تقلل من فداحة العنف لعدة أسباب: (أ) تشير العناصر الكوميدية للمشاهِد إلى أن جدية الأحداث التي يشاهدها يجب الاستهانة بها، مما ينشأ عنه تحول إدراكي يجعل أعمال العنف الجادة تافهة. (ب) إن مخططات الأعمال الكوميدية (التي تحتوي على توقعات وقواعد تتعلق بنوع الدعابات وسرعتها، والشخصيات المتنوعة المشاركة، والنهايات النمطية)، تستثني العنف، وعليه يصبح العنف في الأعمال الكوميدية مموهًا. (ﺟ) عند اجتماع عناصر العنف والكوميديا معًا تنشِّط (أو تعِد) بنى (مثل أفكار ومشاعر ونصوص) تتعلق بكل من الفكاهة والعدوانية. ونتيجة لهذا الإعداد المزدوج يقل مستوى العنف المدرَك، مقارنةً بما يحدث عند تنشيط بِنى مرتبطة بالعدوانية وحدها.
(٢-٣) التسويغ والإجازة
يعتبر العنف مسوغًا عند عرضه على أنه مكون ضروري لحل الصراع. ومتى تُكافأ أعمال العنف أو تمر دون عقاب، فإنها تعتبر مشروعة؛ بمعنى أنها سليمة أخلاقيًّا. وفي التليفزيون لا يتعرض ٧٠٪ من «الأبطال» للعقاب عند استخدامهم العنف، ويُكافئون في ٣٢٪ من الحالات على أعمالهم العنيفة، وحتى أعمال العنف التي يرتكبها الأشرار تمر دون عقاب في ٨٠٪ من الحالات. وبالمثل، تكون عواقب الأعمال العدوانية التي تحدث في البرامج الموجهة للأطفال إيجابية؛ فعلى سبيل المثال في كارتون «فتيات القوة» (باوربف جيرلز)، يمجد أهالي مدينة تاونسفيل فتيات القوة على الدوام من أجل ضربهن لسلسلة الأشرار الذين يروعون المدينة يوميًّا. وأظهرت إحدى الدراسات أن ٢٧٪ من برامج الأطفال تبرر أعمال العنف، مع وجود أعلى درجة من الشرعنة في برامج الكرتون (ويلسون وآخرون، ٢٠٠٢). في حين أظهرت أبحاث أخرى أن العنف المبرر أو المشرعن يؤدي في النهاية إلى النظر إليه باستخفاف (بوتر ووارن، ١٩٩٨).
(٢-٤) الواقع المدرَك
يتكون الواقع المدرك من عاملين مرتبطين: الحقيقة المدرَكة والتشابه المدرَك. تشير الحقيقة المدركة إلى درجة تصوير وسائل الإعلام الأحداث والأوضاع والشخصيات تصويرًا واقعيًّا، مع زيادة الواقعية تزيد الحقيقة المدركة. على سبيل المثال، برامج الأطفال التي تحتوي قدرًا قليلًا من الحقيقة المدركة، مثل برامج «مورفن العظيم: حراس القوة» (ذا مايتي مورفن باور رانجيرز) و«بن ١٠»، تصور شخصيات لا توجد في الواقع (مثل الأبطال الخارقين، والمخلوقات المتحولة) تشارك في أنشطة لا وجود لها في العالم الواقعي (مثل محاربة شخصيات فضائية ضخمة، وتحويل جسم الإنسان إلى مخلوق آخر). وفي المقابل، يشير التشابه المدرك إلى مستوى التشابه الذي يحدث بين المشاهِد والأحداث والشخصيات التي تُعرض على الشاشة. على سبيل المثال، يجب أن يجد الطفل في الخامسة عشرة من عمره تشابهًا مدرَكًا أكبر مع المراهقين الخارقين في فيلم «مدرسة سكاي هاي» (سكاي هاي)، مقارنة بشخصية إنديانا جونز الدرامية، عالم الآثار الذي يستخدم السوط ويفوق عمره الستين عامًا. ومقارنة بالصور العنيفة ذات النسبة المرتفعة من الواقع المدرك، يحتوي العنف في وسائل الإعلام الذي يتضمن نسبة منخفضة من الواقع المدرك، على مستويات منخفضة من كل من الحقيقة المدركة والتشابه المدرك. بالإضافة إلى هذا، فإن تصوير العنف الذي تنخفض به نسبة الواقع المدرك يأتي تقييمه أقل عنفًا من تصوير العنف الذي يُعتبر أكثر واقعية (أتكين وبلوك، ١٩٨٣).
(٢-٥) التصويرية
يأتي عادةً التفاوت في التصنيف الممنوح من برنامج تليفزيوني (أو فيلم) لآخر من مستوى العنف الذي يُصور فيه. على سبيل المثال، بينما تحتوي البرامج المصنفة +١٤ (المناسبة لمشاهدة النشء في سن ١٤ سنة وأكبر) على «عنف شديد»، فإن البرامج المصنفة على أنها مناسبة لجميع الأعمار تحتوي على «عنف قليل أو منعدم». وتتمثل أحد العوامل الأساسية في تحديد ما يمكن اعتباره «عنفًا شديدًا»، في التصويرية. فكلما زادت واقعية تصوير الدم وإراقة الدماء، زاد مستوى العنف المنسوب لهذا المشهد. بالإضافة إلى هذا، تُعتبر أعمال العنف التي تجعل المشاهدين يشعرون بعدم الراحة أو تقلل من استمتاعهم أكثر عنفًا من المَشاهد التي لا تتوافر فيها هذه الخصائص. ووفقًا لما جاء في الأبحاث، يسهل التقليل من شأن العنف الذي يحتوي على قليل من الدماء أو الجروح أو غيرها من المواد المسيئة. ولا عجب إذن أن العنف الموجود في برامج الكرتون وأفلام الرسوم المتحركة، الذي يحتوي على دماء وجروح محدودة، عادةً ما يتغاضى عنه المشاهدون (بوتر ووارن، ١٩٩٨).
(٢-٦) الإبهار
يصبح العنف مبهرًا متى يُقدم بأسلوب جذاب، بحيث يبدو «محل إعجاب». أتذكَّر شخصية نيو في فيلم «المصفوفة» (ذا ماتريكس)، بمعطفه الأسود الطويل الضيق، ونظارات الشمس السوداء، وتسريحة شعره الملساء، وحواره الجذاب، وحركاته القتالية السلسة التي تتحدى الجاذبية. عادةً يرتكب أعمال العنف المبهرة أفراد جذابون جسمانيًّا وساحرون وذوو شخصيات آسرة. تكون مثل هذه الشخصيات جذابة على وجه الخصوص للجمهور الشاب (ويلسون وآخرون، ٢٠٠٢). كذلك يشيع إضفاء عامل الإبهار على العنف في برامج الأطفال التليفزيونية. ويثير هذا قلقًا على وجه الخصوص بسبب زيادة احتمال تقليد الأطفال للنماذج الجذابة والتعلم منهم (كيرش، ٢٠٠٦).
(٢-٧) الأبحاث عن العوامل المؤثرة في إدراك العنف في وسائل الإعلام
لا تؤثر العوامل السابقة فحسب في إدراك الأطفال والمراهقين للعنف المعروض على الشاشة، ولكنها تؤثر أيضًا في سلوكهم العدواني. على سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أن العنف الذي يُعاقب أو يصور ألم ومعاناة الضحية يقلل من احتمال انتهاج النشء للعنف. وكمثال على هذا، فإن المراهقين الذين لديهم تاريخ في مشاهدة البرامج التليفزيونية التي تصور واقعيًّا النتائج السلبية للسلوك العنيف (مثل برنامج «رجال الشرطة» (كبس)) يقلُّ احتمال تقبُّلهم استخدام العنف المبرَّر عن النشء الآخرين (كرتشمار وفالكنبورج، ١٩٩٩). وعلى العكس من هذا، فإن مشاهدة العنف المبرَّأ والواقعي والمُستهان به، تشجع على السلوك العدواني (ويلسون وآخرون، ٢٠٠٢). هذا وقد وجدت دراسة أجراها هارتناجل وزملاؤه (١٩٧٥) أن النشء الذين يرون العنف التليفزيوني مبررًا يمارسون أعمال عنف أكثر من النشء الذين لا يوجد لديهم هذا المفهوم. وبين الأطفال والنشء في أوائل مرحلة المراهقة، يأتي أكبر تقبل للعنف المبرر من النشء الذين لديهم تاريخ في مشاهدة العنف الخيالي في التليفزيون. في أثناء هذه البرامج، يُقدم العنف في سياق «العدوانية من أجل الصالح العام»، إذا يهزم البطل بعنف وعلى نحو مبرر الأشرار. هذا وقد اكتشفت إحدى الدراسات أن ٨٧٪ من العنف المصوَّر في برامج الأطفال يحدث في سياق خيالي (ويلسون وآخرون، ٢٠٠٢).
(٣) آثار العنف المرئي على النشء
أُجريت المزيد من الأبحاث على تأثير العنف التليفزيوني والسينمائي على النشء تزيد عن الأبحاث التي أُجريت على أي نوع آخر من الوسائط الإعلامية العنيفة، بما في ذلك ألعاب الفيديو. وفيما يلي عرض لدراسات مختارة تهدف إلى توضيح أربعة آثار بارزة تنشأ من مشاهدة العنف التليفزيوني، هي: (أ) السلوك الجامح العدواني، و(ب) تغيرات في البِنى المرتبطة بالعدوانية، و(ﺟ) تقلص الاستجابة حيال العنف، و(د) الإصابة بالخوف.
(٣-١) السلوك الجامح العدواني
يحدث هذا عند إزالة التحفظات على التصرف بعدوانية. ونتيجة لهذا، يمارس النشء سلوكيات عدوانية موجودة بالفعل في مخزونهم من السلوكيات أو في السلوكيات المكتسبة حديثًا بسبب استخدامهم لوسائط إعلامية عنيفة. يظهر السلوك الجامح العدواني واضحًا أيضًا عندما يشاهد النشء نوعًا من الأفعال العدوانية الواقعية (مثل عراك بالسكاكين)، لكنهم يمارسون سلوكًا عدوانيًّا لم يشاهدوه على الشاشة (مثل توجيه الشتائم). هذا ويُعتبر إزالة التحفظ عن السلوك العدواني مفهومًا مهمًّا في الأبحاث التي تُجرى على العنف الإعلامي؛ لأن بعض الأفعال العدوانية لا تحدث في الواقع، ومن ثم، لا يمكن للأطفال والمراهقين تقليدها أو تعلمها (هابكويس، ١٩٧٩). هذا وتزخر برامج الكرتون وأفلام الرسوم المتحركة والأفلام الخيالية بأفعال مستحيلة من العنف. لكن بصرف النظر عن عدد المرات التي يحاول فيها الأطفال استخدام الجانب المظلم «للقوة» من أجل خنق شخص ما (بأسلوب دارث فيدر في أفلام «حرب النجوم»)، فإنهم لن ينجحوا أبدًا. ومع ذلك، لا يتحتم بالضرورة على الأطفال تنفيذ الأفعال العدوانية التي يشاهدونها على الشاشة كدليل على التأثر بها. يرجع هذا إلى أن مشاهدة العنف على الشاشة قد يتبعه تنفيذ أفعال عدائية مكتسبة مسبقًا، حتى مع عدم وجود تشابه بين العنف المعروض على الشاشة وسلوك الطفل العدواني. يختلف السلوك الجامح العدواني عن التقليد، لأنه عند تقليد النشء لما يرونه على الشاشة، قد لا تكون سلوكياتهم بالضرورة معتمدة على رغبة في إلحاق الأذى، التي تُعتبر شرطًا ضروريًّا للعدوان. على سبيل المثال، أثبت باندورا وزملاؤه (١٩٦١) أنه عقب مشاهدة أحد البالغين يرمي بدمية بوبو ويركلها ويصيح عليها، قلد الأطفال في سن ما قبل المدرسة هذه الأفعال في أثناء لعبهم الحر. ومع ذلك، بدلًا من التصرف بغرض إلحاق الأذى، ربما كان الأطفال يقلدون السلوكيات في سياق اللعب غير المتقيد بنظام.
(أ) أبحاث المسح والارتباط
عبر الدراسات الطولية والمستعرضة، شرع العديد من الدراسات في تقييم تأثير العنف المرئي على النشء في مراحل مختلفة من نموه. فوجدت الأبحاث التي استخدمت عينة من أطفال قبل سن المدرسة ارتباطًا إيجابيًّا بين مقدار السلوك العدواني الذي يظهر في وقت اللعب الحر (مثل الضرب والدفع وانتزاع الألعاب) ومعدل تكرار مشاهدة البرامج التليفزيونية العنيفة في وقت الذروة (سينجر وسينجر، ١٩٨١). ومؤخرًا، اكتشف أوستروف وزملاؤه (٢٠٠٦) وجود ارتباط بين الأولاد في الرابعة من عمرهم الذين يتعرضون لمستويات مرتفعة من العنف المرئي (على حد قول الوالدين) وبين كم أكبر من العنف الجسدي واللفظي وعنف العلاقات. أما بالنسبة للفتيات، فقد اقتصرت العلاقة سابقة الذكر على العنف اللفظي.
أما الأبحاث عن النشء في مرحلة الطفولة المتوسطة فقد كانت أكثر تفاوتًا بقليل، إذ تفاوت تأثير العنف المرئي حسب النوع والعمر. على سبيل المثال، اكتشفت إحدى الدراسات وجود ارتباط إيجابي بين مشاهدة العنف التليفزيوني والسلوك العدواني لدى الأطفال في العاشرة من عمرهم، لكن هذا لا ينطبق على الأطفال في الثامنة من عمرهم (فيميرو وبيانين، ١٩٩٢). في حين وجدت دراسة أخرى أنه بعد استبعاد كَمٍّ كبير من العوامل المربكة المحتملة (مثل أسلوب التربية، والحالة الاجتماعية الاقتصادية، ومعدل الذكاء، ومستويات العدوانية المبدئية)، تنبأت مشاهدة العنف التليفزيوني في سن الثامنة إلى حد بعيد بمقدار التصرفات العدائية في سن التاسعة عشرة. لكن هذه النتائج لم تتضح إلا في حالة الفتيان (إرون وهوسمان وليفكوويتز ووالدر، ١٩٧٢). وفي المقابل، اكتشف هوسمان وزملاؤه (هوسمان ولاجرشبتس وإرون، ١٩٨٤) أنه في حالة الفتيات، وليس الأولاد، في الفصلين الأول والثالث تنبأ التعرض للعنف التليفزيوني إلى حد بعيد بمستويات السلوك العدواني بعد عامين. وبعد نحو ١٥ سنة من التقييم الأصلي، جرى الاتصال بعينة هوسمان الأصلية مرةً أخرى وقيست مستويات السلوك العدواني البالغ لدى المشاركين. وأشارت النتائج إلى أنه في حالة الأولاد تنبأ استخدامهم للعنف التليفزيوني في مرحلة الطفولة بمستويات العنف الجسدي في مرحلة البلوغ. أما بالنسبة للفتيات، فقد تنبأ إلى حد بعيد استخدامهن للعنف التليفزيوني في مرحلة الطفولة بكل من أشكال العنف الجسدي وغير المباشر (هوسمان ومويز-تيتوس وبودولسكي وإرون، ٢٠٠٣).
في مرحلة المراهقة لطالما ارتبطت المستويات مرتفعة من استخدام العنف التليفزيوني بقدر متزايد من السلوك العدواني. فوجدت دراسة أُجريت على الطلاب في الصف السابع والعاشر علاقات تبادلية إيجابية واضحة بين مشاهدة العنف التليفزيوني والأفعال التي تُظهر سلوكيات عدوانية والتي يُبَلِّغ عنها الأفراد أنفسهم (مكليود وأتكين وتشيفي، ١٩٧٢). في حين أثبتت دراسة أخرى أُجريت على الطلاب في الصفين السادس والسابع أن استخدام الوسائل الإعلامية العنيفة يتنبأ بمستويات السلوك العدواني الحالي، بالإضافة إلى كم السلوك العدواني المتوقع ممارسته بعد عامين (سلاتر وآخرون، ٢٠٠٣). وبالمثل، وجد تقييم حديث لمراهقين في أواخر مرحلة المراهقة أن المراهقين الذين يشاهدون المصارعة ست مرات أسبوعيًّا كانوا أكثر عرضة للدخول في عراك، مقارنة بالذين لا يشاهدوها، بنحو ١٤٤٪، واحتمال تهديدهم لشخص ما بسلاح أكثر بنحو ١١٩٪، واحتمال استخدامهم لسلاح في محاولة لإيذاء شخص ما أكثر بنحو ١٨٤٪ (ديورانت ونيبيرج وتشامبيون ورودس وولفسون، ٢٠٠٨).
- الفرضية العكسية: بالإضافة إلى تأثير الإعلام على السلوك العدواني في مرحلتَي الطفولة والمراهقة، قد يبحث النشء العدواني انتقائيًّا عن وسائل الإعلام العدوانية من أجل استخدامها. ولأن السلوك العدواني يتنبأ باستخدام الإعلام العنيف، بدلًا من العكس، يُشار إلى هذه الظاهرة باسم الفرضية العكسية (هوسمان وآخرون، ١٩٨٤)؛ ومِن ثَم، لا يكون النشء مجرد مستقبلين سلبيين للإعلام العنيف، إذ يُعرضون أنفسهم انتقائيًّا له. وبالإضافة إلى هذا، قدم التفاعل المتبادل بين استخدام وسائل الإعلام العنيفة والسلوك العدواني دليلًا داعمًا لنموذج دوامة التدهور. على سبيل المثال، في تقييم لأكثر من ١٨٠٠ طفل في الصفين السادس والسابع، اكتشف سلاتر وزملاؤه (٢٠٠٣) أن (أ) المستويات الحالية من السلوك العدواني قد تنبأت باستخدام الوسائط الإعلامية العنيفة على مدار عامين، و(ب) أن استخدام الوسائط الإعلامية العنيفة تنبأ بالمستويات الحالية والمستقبلية من العنف. تتفق هذه الاكتشافات مع اكتشافات فيدال وزملائه (٢٠٠٣)، الذين وجدوا أنه كلما زادت مشاهدة النشء للعنف، زاد ميلهم إلى الاستمتاع به. ومع ذلك، أظهرت أبحاث إضافية أن مستويات العدوانية في مرحلة الطفولة لا تتنبأ إلى حد بعيد بمستويات استخدام العنف التليفزيوني لدى البالغين (هوسمان وآخرون، ٢٠٠٣). هذا وتشير هذه الاكتشافات إلى أن نموذج دوامة التدهور لا ينطبق إلا في مرحلة الطفولة والمراهقة. ومع ذلك، لا نعرف الكثير عن مرحلة (مراحل) النمو التي يكون فيها هذا النموذج في أوج شدته.
(ب) الأبحاث التجريبية
طوال فترتي الطفولة المبكرة والمتوسطة، أظهرت كل من التجارب المخبرية والميدانية على الدوام الآثار السلبية لاستخدام العنف التليفزيوني على السلوك العدواني. على سبيل المثال، بعد مشاهدة ٢٠ دقيقة من كرتون «باتمان» و«سوبرمان»، ثلاث مرات أسبوعيًّا لمدة شهر في سياق ما قبل المدرسة، يصبح الأطفال الصغار طائشين بعدوانية، ويتصرفون بعصيان أكثر ويصبحون أقل صبرًا على الفاصل بين البرامج. بالإضافة إلى هذا، مارس الأطفال، الذين كانوا يتسمون بالعدوانية في بداية التجربة، المزيد من الأفعال العدوانية، بعد مشاهدة برامج الكرتون العنيفة (فريدريش وشتاين، ١٩٧٣). وبالمثل، في دراسة معملية وجد بيجوركفيست (١٩٨٥) أن الأطفال في سن المدرسة الأكبر سنًّا الذين يتعرضون إلى أفلام عنيفة، يمارسون مستويات أعلى من العدوانية واللعب العدواني من النشء الذين يشاهدون أفلامًا غير عنيفة.
في دراسة عن العدوان غير المباشر لدى الأطفال في مرحلة الدراسة الابتدائية، زاد التعرض لمقاطع تليفزيونية عنيفة احتمالية ضغط النشء على زر يمنع طفلًا آخر من الفوز في لعبة تنافسية (ليبرت وبارون، ١٩٧١). وباستخدام عينة أكبر سنًّا من الأولاد في السابعة إلى التاسعة من عمرهم، أثبتت جوزيفسون (١٩٨٧) أن النشء الذين يتعرضون لأفلام عنيفة يزيد احتمال ممارستهم لأفعال طائشة عدوانية في أثناء لعبة هوكي أرضي تُمارس في المدرسة، مقارنةً بنشء يشاهد أفلامًا غير عنيفة. اشتملت الأفعال العدوانية التي ذُكرت في هذه الدراسة على: الضرب والدفع والعرقلة والركل بالركبة وشد الشعر وتوجيه الشتائم من وقت لآخر. أثبت بوياتزيس وزملاؤه (١٩٩٥) مؤخرًا أن النشء الذين يتعرضون لمسلسل «مورفن العظيم: حراس القوة» في أثناء ساعات المدرسة أظهروا سبعة أضعاف الأفعال العدوانية في وقت الراحة، مقارنةً بالنشء الذين لم يشاهدوا هذا البرنامج. ومع ذلك، لأن بوياتزيس وزملاءه فشلوا في التمييز بين السلوك العدواني واللعب العدواني (اللعب غير المنظم)، يستحيل الجزم بأن النشء كانوا يتصرفون فعليًّا بأسلوب عدواني.
على الأقل تشير معطيات بوياتزيس إلى أنه بعد سنوات ما قبل المدرسة يستمر الأطفال في تقليد الأفعال العدوانية التي شاهدوها في التليفزيون، وهو اكتشاف ثبتت صحته في أثناء فترة المراهقة. وكمثال على هذا، أظهرت الأبحاث أن المشاهدين المراهقين لبرامج مصارعة المحترفين يقلدون عبارات المصارعين (مثل «سمعوني تشجيعكم») وحركاتهم، مثل رفع جسم المنافس لأعلى وطرحه أرضًا، وخنق المنافس من الخلف، والاندفاع نحوه وخنقه من الأمام بالساعد، في المدرسة (بيرنثال، ٢٠٠٣). في أثناء مرحلة الطفولة المبكرة والمتوسطة، عندما تحدث سلوكيات التقليد في سياق اللعب غير المنظم، لا ينشأ عادةً إلا عدد قليل من المشكلات، باستثناء الضربات والكدمات العرضية. إلا أنه مع دخول الأطفال مرحلة المراهقة، يزيد احتمال استخدام اللعب غير المنظم في تكوين تسلسلات سيادية أو الحفاظ عليها بدلًا من تكوين علاقات إيجابية مع الأقران (بيلجريني، ٢٠٠٢)؛ ومِن ثَم، فإن المتلقين المراهقين لحركات الخنق من الخلف ورفع الجسم لأعلى وطرحه أرضًا وما شابه، قد لا ينظرون بالضرورة إلى سلوكيات التقليد هذه التي تُمارس عليهم بنظرة إيجابية. ففي مثل هذه السياقات تكون سلوكيات التقليد أعمالًا عدوانية واضحة، وليس أنشطة لعب حميدة.
لم تكتشف جميع الدراسات أن مشاهدة التليفزيون ينتج عنها سلوك جامح عدواني؛ فعلى سبيل المثال، فشل العديد من الدراسات التي تُعرِّض الأطفال في مرحلتَي الطفولة المبكرة والمتوسطة لبرامج كرتون عنيفة في إثبات وجود زيادات في العنف الجسدي واللفظي تجاه الأقران (كيرش، ٢٠٠٦). إلا أن هذه الدراسات «الفاشلة» قيمت العنف المباشر بوجه عام في المختبر. ونظرًا لأن العدوان الشخصي بين النشء يستنكره المجتمع، وتُقابَل أفعال العنف الجسدي دومًا بالعقاب، قد يؤدي وجود النشء في مختبر الأبحاث، حيث تُسلط الأضواء عليهم، إلى زيادة وعيهم بسلوكياتهم، مما يؤدي إلى كبح جماح السلوك العدواني، بدلًا من ممارسة سلوك جامح. وفي المقابل، عند مشاركة النشء في تجربة ميدانية، يزيد احتمال تصرفهم على النحو المعتاد، إذ يقل إدراكهم، أو حتى لا يعلمون تمامًا، أنهم يخضعون للملاحظة.
ثمة أبحاث تجريبية قليلة على السلوك العدواني الجامح في مرحلة المراهقة. ومع ذلك، جاءت نتائج الأبحاث التي أُجريت متسقة مع النتائج التي ظهرت مع مشاركين أصغر سنًّا. وكمثال على هذا، وجدت دراسة حديثة أن مشاهدة أفعال تليفزيونية تتسم بعدوانية مباشرة أو غير مباشرة، زاد من استخدام الأطفال من سن الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة للعنف غير المباشر (كوين وآخرون، ٢٠٠٤). وبالمثل، تشير الدراسات المأخوذة من كلا جانبي المحيط الأطلنطي أن النشء الجانح تزيد احتمالية تصرفهم بعدوانية تجاه أقرانهم عقب مشاهدة الأفلام العنيفة، مقارنةً بما يحدث عندما يشاهدون أفلامًا غير عنيفة (لاينز وآخرون، ١٩٧٥؛ بارك وآخرون، ١٩٧٧). وثمة حاجة إلى إجراء أبحاث عن المراهقين العاديين من أجل معرفة إلى أي مدًى تنطبق هذه الآثار عامة على المراهقين غير الجانحين.
(ﺟ) تقديم التليفزيون إلى أحد المجتمعات
أصبح من الصعب حاليًّا تخيل مدينة في أمريكا الشمالية تخلو من جهاز تليفزيون. ومع ذلك، كان هذا هو الحال في الواقع في المناطق المنعزلة من كندا في أوائل سبعينيات القرن العشرين. بالطبع، سرعان ما وصل التليفزيون إليهم، وبمجرد وصوله خضع تأثير إدخاله على السلوك العدواني للنشء للتقييم. وكجزء من هذه التجربة الطبيعية، قارن وليامز (١٩٨٦) مقدار العنف الجسدي واللفظي للنشء من ثلاث مدن (ذُكرت بأسماء مستعارة): «نوتيل»: مدينة لم يدخلها التليفزيون؛ و«أونيتل»: لم تدخلها إلا قناة تليفزيونية واحدة؛ و«مالتيتيل»: وهي مدينة استقبلت بث أربع قنوات تليفزيونية. بعدما وصل التليفزيون إلى مدينة «نوتيل» اكتشف ويليامز أن مقدار العنف الجسدي واللفظي الذي مارسه النشء في المدينة فاق مستويات العنف التي ظهرت في مدينتي «أونيتل» و«مالتيتيل». ورغم أن البعض فسروا هذه الاكتشافات على أنها دليل سببي على أن العنف التليفزيوني يزيد السلوك العدواني، ثمة مشكلات خطيرة في هذه الدراسة تدحض هذه الاستنتاجات. كانت أكثر الأمور ضررًا بالدراسة حقيقة أن ويليامز قيَّم مشاهدة التليفزيون بوجه عام وليس استخدام العنف التليفزيوني؛ لذا من المعقول للغاية أنه على العكس من الصور العنيفة المعروضة على الشاشة، تفسر عوامل مرتبطة بأنماط عامة لمشاهدة التليفزيون (مثل قلة رقابة الوالدين) والتغيرات الاجتماعية غير الموثقة (مثل معدلات البطالة والطلاق) الزيادات الملاحظة في السلوك العدواني.
(٣-٢) تغيرات في البِنى المرتبطة بالعدوانية
كما تَذْكر من الفصل السابق، تُعتبر البِنى المرتبطة بالعدوانية عوامل تزيد من احتمال تصرف النشء بعدوانية. ومن البِنى المرتبطة بالعدوانية المعروف تأثيرها في النشء عبر النشأة: العدائية، والمواقف تجاه استخدام العدوانية، والتخيلات العدوانية، والتوحُّد مع المعتدِي.
(أ) العدائية
تشير العدائية إلى وجود معتقدات ومواقف سلبية تجاه الآخرين، بالإضافة إلى ما يقابلها من مشاعر سلبية (مثل الغضب، والحنق). هذا ويميل النشء المتسمون بالعدائية إلى ممارسة أفعال عنف أكثر من غيرهم من النشء (مولر، ٢٠٠١). وقد اتضح أن العنف التليفزيوني يتحكم في مستويات العدائية لدى المشاهدين صغار السن. على سبيل المثال، اكتشف جرانا وزملاؤه (٢٠٠٤) أن مشاهدة مصارعة الثيران المعروضة في التليفزيون تؤدي إلى زيادة العدائية لدى الفتية والفتيات من سن ٨ سنوات إلى ١٢ سنة. وبالمثل، أظهرت الأبحاث أن مشاهدة مقاطع الهوكي العنيفة تزيد من مستويات العدائية لدى طلاب السنة النهائية في المدارس الثانوية. إلا أن هذه الآثار الملاحظة اقتصرت على المراهقين المتسمين بالعدائية في الأساس (تشيلوتسي وآخرون، ١٩٨١). وفي المقابل، لم تتأثر مستويات العدائية، لدى المراهقين اللطفاء، بالصور العنيفة المعروضة على الشاشة. تشير هذه الاكتشافات إلى أن تأثير العنف التليفزيوني قد يتفاوت نتيجة لمستوى العدائية الذي يميز شخصية الفرد (أي السمة الشخصية).
(ب) المواقف تجاه استخدام العدوانية
لا يستمتع النشء العدواني بالتصرف بأسلوب عدائي فحسب، بل يشيدون أيضًا بأصدقائهم ممن ينجحون في استخدام العدوانية في مواقف اجتماعية (كيرش، ٢٠٠٦). فهل يسبب استخدام العنف التليفزيوني مواقف تشبه مواقف التنمر؟ يبدو هذا ممكنًا، إذ أشار العديد من الدراسات إلى وجود علاقة بين استخدام العنف التليفزيوني ووجود مواقف إيجابية أكثر تجاه استخدام العدوانية. وكمثال على هذا، اكتشفت دراسة أُجريت على الفتيان والفتيات في الصفوف من الرابع إلى السادس ارتباط استخدام العنف التليفزيوني بمستويات عالية وبوجود استعداد أكبر للتصرف بعدوانية في مواقف لا تتطلب قوة. بالإضافة إلى هذا، يدرك النشء الذين يستهلكون كميات كبيرة من العنف التليفزيوني أن العنف حل أكثر فاعلية للمشكلات الاجتماعية في الحياة (دومينيك وجرينبيرج، ١٩٧٢). هذا وقد ثبتت نتائج مشابهة باستخدام مشاركين أكبر سنًّا قليلًا، تتراوح أعمارهم بين ٩ و١٢ و١٥ سنة (جرينبيرج، ١٩٧٤). كذلك عندما طُلب من نشء تتراوح أعمارهم بين ٤ سنوات و١٦ سنة، تقديم حلٍّ لسيناريوهات افتراضية تشتمل على عوامل استفزاز عدوانية (مثل التعرض للضرب في ساحة اللعب)، جاءت استجابتهم أكثر عدوانية بعد مشاهدة برنامج تليفزيوني عنيف، مقارنة باستجابتهم عندما سبق هذا مشاهدتهم لبرنامج غير عنيف (ليفر وروبرتس، ١٩٧١). وعلى مدار مرحلتَي الطفولة المتوسطة والمراهقة، نتج عن التعرض أيضًا لبرامج كرتون عنيفة ومقاطع عنيفة من أفلام مواقف إيجابية أيضًا تجاه اللجوء إلى العدوانية (ناثانسون وكانتور، ٢٠٠٠؛ واترينج وجرينبيرج، ١٩٧٣). وفي بعض الأحيان، كانت الفروق السِّنية واضحة أيضًا، فتزيد المواقف الإيجابية تجاه استخدام العنف مع التقدم في السن. ومع ذلك، لم تثبت صحة هذا الاكتشاف في جميع الدراسات. لقد ركزت مجموعة الأبحاث الموجودة على مواقف الأطفال تجاه العنف الجسدي؛ لذا لا توجد معلومات كثيرة عن تأثير العنف التليفزيوني على المواقف تجاه استخدام العنف اللفظي وعنف العلاقات أثناء النشأة.
(ﺟ) التخيلات العدوانية
هل تخيلت يومًا أنك تضرب هذا المستخدم المزعج عالي الصوت للهاتف المحمول، الذي يرفض التحرك إلى موقع بعيد عن الآخرين؟ وهل باغتتك يومًا إحدى السيارات وأنت تقود وقطعت عليك الطريق، فتخيلت في ذهنك أنك تضيق الخناق على هذا السائق المعتدي حتى يرتطم بشجرة؟ إن حدث هذا بالفعل فإنك قد مارست التخيل العدواني. عبر مرحلة الطفولة المتوسطة أثبت العديد من الدراسات أن النشء العدواني يفكر في السلوك العدواني أكثر من النشء غير العدواني (هوسمان وآخرون، ١٩٨٤؛ وفيميرو وبيانين، ١٩٩٢). ومن خلال التفكير في السلوك العدواني، والانخراط في لعب تخيلي، يُقال إن النشء يمارسون سيناريوهات عدوانية (أي سيناريوهات يحيكونها في عقولهم تكون فيها بداية المشاجرات ووسطها ونهايتها مصورة بصراحة ووضوح)، مما يزيد احتمال تصرفهم بعدوانية في المستقبل (أندرسون وبوشمان، ٢٠٠١). ومع الأسف، لا توجد إلا أدلة قليلة تدعم هذا الارتباط. على سبيل المثال، فشل هوسمان وزملاؤه (١٩٨٤) في العثور على علاقة واضحة بين التعرض للعنف التليفزيوني والتخيلات العدوانية في مرحلة الطفولة المتوسطة. وفي المقابل، اكتشف فيميرو وبيانين (١٩٩٢) بالفعل أن الفتيان المعرضين لمستويات مرتفعة من العنف التليفزيوني أظهروا أكبر عدد من التخيلات العدوانية. ومع ذلك، نظرًا لأن المؤلفين لم يُقَيِّما المستويات الحالية من العنف، يظل احتمال أن تكون الفروق السلوكية السابقة هي السبب في هذه الاكتشافات، وليس استخدام العنف التليفزيوني.
(د) التوحُّد مع المعتدِي
يشير التوحد مع المعتدي إلى الموقف الذي يرغب فيه النشء (سواء كان هذا شعوريًّا أو لا شعوريًّا) في الاقتداء بالشخص العدواني. ومن المثير للاهتمام أن الشخص موضع التوحد لا يتحتم بالضرورة وجوده في الواقع. فمثلما يمكن للشباب التوحد مع إمينيم، يمكنهم التوحد أيضًا مع جيمس بوند. ولأن في وسع الأطفال والمراهقين تقليد سلوكيات الذين يعتبرونهم مثلًا أعلى، يمثل التوحد مع أفراد عدوانيين، مثل «الرجل العنكبوت» أو «زينا: الأميرة المحاربة» مصدرًا محتملًا للقلق. وفي الواقع، أظهرت الأبحاث أن النشء الذين يتوحدون مع أفراد عدوانيين يتصرفون بعدوانية أكبر عقب التعرض لوسائل الإعلام العنيفة، مقارنة بالنشء الذين لا يتوحدون مع أولئك الأفراد. بالإضافة إلى هذا، وجد هوسمان وزملاؤه (٢٠٠٣)، بعد التحكم في مقدار العنف التليفزيوني المستخدَم، أن التوحد مع الشخصيات التليفزيونية العنيفة في مرحلة الطفولة المتوسطة يتنبأ بمستويات العنف الجسدي واللفظي بعد ١٥ سنة. كذلك وجد هوسمان أنه بالنسبة للفتيان نتج عن الجمع بين ارتفاع مستويات استخدام العنف التليفزيوني، والتوحد الشديد مع الشخصيات العنيفة في مرحلة الطفولة المتوسطة، أكبر قدر من العدوانية في مرحلة المراهقة المبكرة. ومن ثم، يبدو أن التعرف للعنف التليفزيوني والتوحد مع المعتدي يؤثران في العنف كل على حدة، فيؤدي وجود واحد أو أكثر من هذه العوامل إلى مستويات متزايدة من العنف.
(٣-٣) تقلص الاستجابة حيال العنف
لعقود أُثيرت مخاوف من أن التعرض لصور عنيفة على الشاشة سينتج عنه نشء قاسي القلب ولا مبالٍ بالعنف في العالم الواقعي. ونتيجةً للعديد من البحوث، تحددت عمليتان متعلقتان بالإعلام، هما: التعود على العنف الإعلامي، وتقلص الاستجابة تجاه العنف في العالم الواقعي.
(أ) التعود على العنف الإعلامي
عندما يحدث التعود تقل استجابة المرء تجاه العنف الإعلامي مع المشاهدات المتكررة (فتصبح أقل حدَّة). على سبيل المثال، بينما قد تسبب أول معركة بسيوف الليزر يشاهدها الأطفال مشاعر إثارة واستثارة فسيولوجية، ينتج عن تكرار مشاهدة المعارك نفسها آثار فسيولوجية أقل وضوحًا (أو انعدام لتلك الآثار). على الرغم من قلة عدد الدراسات التي أُجريت على العنف، وجد كلاين وزملاؤه (١٩٧٣) بالفعل أدلة على التعود على العنف لدى الأطفال من سن السابعة وحتى الرابعة عشرة؛ فعلى وجه الخصوص، أصبح النشء الذين لديهم تاريخ في مشاهدة التليفزيون كثيرًا أقل استثارة فسيولوجية (على سبيل المثال، زادت مقاومة جلدهم أو انخفض حجم دمهم)، تجاه فيلم عنيف مقارنة بالنشء الآخرين. وجدير بالذكر أنه وُجد اختلاف بين برامج التليفزيون التي شاهدوها في المنزل والأفلام التي شاهدوها في المختبر. وعليه، يشير هذا الاكتشاف إلى أن التعود يحدث تجاه الإعلام العنيف بوجه عام، وليس تجاه مجرد مَشاهد أو برامج محددة.
(ب) تقلص الاستجابة حيال العنف
يشير تقلص الاستجابة إلى الموقف الذي يصبح فيه النشء أقل تأثرًا، وأكثر لا مبالاة وقسوة تجاه العنف الحقيقي الذي يحدث في العالم الواقعي. هذا وقد تحددت أربعة أنواع مميزة لتقلص الاستجابة بسبب وسائل الإعلام: سلوكية وإدراكية وشعورية وفسيولوجية. يشير تقلص الاستجابة السلوكية إلى تقليل السلوك الاجتماعي الإيجابي عند مشاهدة الأفعال العدوانية. وكمثال على هذا، قاس درابمان وتوماس (١٩٧٤) كم الوقت الذي يستغرقه الأطفال في الصفين الثالث والرابع حتى يتدخلوا (بمعنى العثور على أحد البالغين) في عراك بين أطفال في سن ما قبل المدرسة (اعتمدت ملاحظاته على بث فيديو «مباشر»). هذا وتشير النتائج إلى أن الأطفال الذين شاهدوا فيلمًا عنيفًا استغرقوا وقتًا أطول في إحضار مساعدة من الذي شاهدوا فيلمًا غير عنيف. ومن المثير للاهتمام أن هذه النتائج تكررت باستخدام أطفال أكبر قليلًا في السن (في الصفين الرابع والخامس؛ موليتور وهيرش، ١٩٩٤)، لكنها لم تتكرر لدى أطفال أصغر سنًّا (في الصفين الأول والثاني؛ هورتون وسانتوجروسي، ١٩٧٨؛ توماس ودرابمان، ١٩٧٥). ومن الممكن حقًّا أنه نتيجة لقلة خبرة الأطفال الأصغر سنًّا النسبية، فإنهم لم يتعرضوا بعد لقدر كافٍ من الإعلام العنيف حتى تتقلص استجابتهم السلوكية.
أما تقلص الاستجابة الإدراكية فيشير إلى الحالة التي يفكر فيها النشء في العنف في العالم الواقعي بأسلوب أكثر إيجابية (على سبيل المثال، تأييد المواقف المناصرة للعنف). وبالمقارنة، يشير تقلص الاستجابة الشعورية إلى انخفاض استجابة الأطفال الشعورية حيال أفعال العنف في الحياة الواقعية؛ فقد بحثت، مؤخرًا، فنك وزملاؤها (٢٠٠٤) العلاقة بين استخدام العنف في التليفزيون والأفلام على كل من تقلص الاستجابة الإدراكية والشعورية. وأشارت النتائج إلى أن الأطفال في الصفين الرابع والخامس الذي لديهم تاريخ في التعرض للأفلام العنيفة أظهروا مواقف مؤيدة للعنف أكثر من النشء الآخرين. ومع ذلك، لم يرتبط استخدام الأطفال للعنف التليفزيوني بهذا النوع من تقلص الاستجابة الإدراكية. بالإضافة إلى هذا، وجدت فنك وزملاؤها أن تقلص الاستجابة الشعورية لم يتأثر بعادات مشاهدة الأطفال للأفلام والبرامج التليفزيونية العنيفة. هذا ولم تُجْرَ دراسات أخرى من أجل توضيح هذه النتائج المختلطة. أما تقلص الاستجابة الفسيولوجية فيظهر من خلال تقليل استجابة الفرد البيولوجية للعنف في الحياة الواقعية؛ فقد اكتشفت توماس وزملاؤها (١٩٧٧)، في إحدى الدراسات القليلة التي أُجريت، أن الأطفال كانوا أقل استثارة فسيولوجية (مثل، رد فعل الجلد) عند رؤية جدل تمثيلي بين أطفال في سن ما قبل المدرسة بعد مشاهدة مقاطع أفلام عنيفة، من حالهم بعد مشاهدة مقاطع غير عنيفة.
(ﺟ) التعود في مقابل تقلص الاستجابة
رغم وجود تشابه بين التعود وتقلص الاستجابة؛ فالاختلاف بينهما يُعتبر غاية في الأهمية. ففي حين يشير التعود إلى احتمال أن يصبح النشء عرضة للتأثيرات السلبية للإعلام العنيف، تشير تقلص الاستجابة ضمنيًّا إلى حدوث تأثير سلبي بالفعل. بالإضافة إلى هذا، مع تعود النشء على الإعلام العنيف، ربما يبحثون، مثلما يسعى مدمن المخدرات إلى زيادة جرعته، عن صور متزايدة من العنف من أجل الشعور بالمستوى نفسه من الاستثارة التي صَحِبت تعرضهم الأولي لها. وفي المقابل، يزيد هذا المستوى المضاعف من التعرض للعنف الإعلامي من خطر التعرض لتقلص الاستجابة والسلوك العدواني فيما بعد.
(٣-٤) الإصابة بالخوف
لا شك في أن الصور العنيفة التي تُعْرَض في الأخبار التليفزيونية يمكنها زرع الخوف في كل من الأطفال والمراهقين. على سبيل المثال، أثبتت بوجين وزملاؤها (٢٠٠٧) أن دراية الأطفال من سن الثامنة وحتى الثانية عشرة بالتقارير الإخبارية عن حادث اغتيال وقع مؤخرًا في هولندا، ارتبطت بمستويات مرتفعة من الخوف والقلق. هذا وقد وجدت دراسة أخرى أن ٥٠٪ تقريبًا من الأطفال ذكروا شعورهم بالخوف من شيء رأوه في الأخبار (سميث وويلسون، ٢٠٠٢). فكلما زادت مشاهدة الأطفال للأخبار التليفزيونية، زادت شدة ما يعانوه من خوف (ويلسون وآخرون، ٢٠٠٥). ثبُت التأثير المخيف أيضًا للأخبار التليفزيونية للبرامج القائمة على نص مكتوب؛ فقد اتضح أن مسلسلات مثل «الرجل الأخضر الخارق» (ذا انكريدبل هلك)، وأفلام مثل «ساحر أوز» (ذا ويزارد أوف أوز) (كانتور وسباركس، ١٩٨٤) تبعث الخوف في النشء لأيام وأسابيع وشهور لاحقة. وفي الحقيقة، يكون الخوف الذي تسببه وسائل الإعلام في مرحلة الطفولة بالغ القوة لدرجة أن آثاره تظل حتى فترة المراهقة كما أثبتت بعض الدراسات (هاريسون وكانتور، ١٩٩٩). وحتى يومنا هذا ما زلت أصاب بقليل من الخوف متى فكرتُ في القرود الزرقاء الطائرة من فيلم «ساحر أوز».
يمكن للإعلام العنيف بث الخوف عبر ثلاث آليات مميزة، هي: التجربة المباشرة، والتعلم بالمشاهدة، وانتقال المعلومات السلبية؛ أولًا: يحدث الخوف بفعل التجربة المباشرة عندما ينشط محفز مراكز الخوف في المخ. قد تكون هذه المحفزات حقيقية أو خيالية، تُذاع على شاشة التليفزيون من أميال بعيدة أو تحدث أمامك مباشرةً، أو تكون مزيجًا من الاثنين؛ ومِن ثَم، سواء رأيت أسدًا يمزق جسم غزال وأنت في رحلة سفاري أو شاهدت الحادث نفسه على قناة ديسكفري، فإن مثل هذه الصور تبعث حالة من الخوف لدى المشاهدين. وثانيًّا: يحدث الخوف بفعل التعلم بالمشاهدة عندما يصبح النشء خائفًا نتيجة رؤية ردود الفعل الشعورية للآخرين على حدث ما (مثل شهود العيان والأقارب والضحايا). وكمثال على هذا، يمكن لرؤية الأقارب المفجوعين للضحايا الذي قُتلوا في إحدى الهجمات الإرهابية أن يبعث رد فعل شعوريًّا (التقمص العاطفي) لدى النشء، ينتج عنه حالة من الخوف أو القلق. أخيرًا: يحدث انتقال المعلومات السلبية بعد سماع الآخرين يتناقلون محتوًى مخيفًا عن موقف أو حدث ما. ونتيجة لهذا التعرض يكوِّن النشء تصورًا إدراكيًّا لهذا الحدث أو الموقف، بما في ذلك عنصر الخوف. على سبيل المثال، بعد سماع قصة إخبارية عن وفاة أشخاص نتيجة تناولهم خضراوات فاسدة، قد يصبح طفل ما خائفًا عند وضع السبانخ في طبقه. وكملحوظة إضافية، يمكن لتحذير الوالدين الذي يهدف إلى منع الأطفال من فعل شيء ما (مثل التجول بعيدًا عنهم)، التسبب في مخاوف أيضًا، خاصةً عند وجود تبعات مرعبة أو مؤلمة (فالكنبورج، ٢٠٠٤). على سبيل المثال، قد يؤدي تحذير الأطفال من لمس قطة غريبة لأنها في الواقع وحش يُدعى بوتشي إلى خوف الأطفال من جميع القطط، حتى الأليف منها.
ليست كل الصور الإعلامية العنيفة متشابهة؛ فبعضها حقيقي (مثل الأخبار)، وبعضها واقعي (مثل مسلسل «سي إس آي»)، وبعضها خيالي (مثل فيلم «ستار تريك»). وعبر النشأة يبدو أن مدى واقعية الصور التي تُشاهد يؤثر على نحو مختلف على بداية الشعور بالخوف. فيميل الأطفال الأصغر سنًّا إلى الشعور بالخوف أكثر من العنف الخيالي أكثر من الأطفال الأكبر سنًّا والمراهقين. وفي المقابل، يميل النشء الأكبر سنًّا إلى الخوف من العنف الواقعي أكثر (كانتور وسباركس، ١٩٨٤). تحدث هذه الاكتشافات جزئيًّا لأن الأطفال الأكبر سنًّا يدركون الفرق بين الخيال والواقع. فالنشء بين السادسة والعاشرة من عمرهم يبدءون في إدراك أن الصور التي يرونها على الشاشة ليست حقيقية ولا يمكن أن تصبح حقيقية. ففي حالة النشء، عندما يحدث التمييز بين الواقع والخيال، يصبح العنف الخيالي أقل إخافة.
عندما يشعر الأطفال والمراهقون بالخوف من عنف حقيقي، يتعرضون للخوف من أنواع مختلفة من الصور؛ فيتأثر الأطفال الأكبر سنًّا والمراهقون بأفكار العنف المجردة (مثل الإرهاب والحرب النووية)، بينما يتأثر الأطفال الأصغر سنًّا بالصور الحسية (مثل الإصابات والتفجيرات؛ كانتور وآخرون، ١٩٩٣). يتفق هذا الاكتشاف مع زعم بياجيه أن الأطفال لا يستطيعون التفكير في مفاهيم مجردة حتى بداية العمليات الرسمية، تقريبًا في سن الحادية عشرة. بالإضافة إلى هذا، مع التقدم في العمر، يعطي التطور في التقمص العاطفي والنمو الإدراكي الأطفال والمراهقين قدرة أكبر على فهم أسباب العنف وتبعاته وتجاربه الشعورية. وعليه، بالنسبة للأطفال في مرحلة الطفولة المتوسطة وبعدها تؤدي آثار التعلم بالمشاهدة وانتقال المعلومات السلبية إلى مخاوف عامة أكثر بشأن العنف. وتكون النتيجة النهائية لهذه التطورات في النمو إدراك النشء الأكبر سنًّا: (أ) أن العنف الخيالي خطره قليل على صحتهم وسلامتهم، و(ب) أن العنف يمكن أن يحدث في أي وقت وأي مكان.
(٤) نقاط مهمة من منظور النمو
يشاهد الأطفال والمراهقون عددًا لا حصر له من أعمال العنف في التليفزيون والأفلام، وفي معظم الأحيان يُعتقد أن هذه الصور العنيفة «مناسبة للفئة العمرية». تتفاوت أفعال العنف المرئي في درجة ما بها من إبهار وإبراء وتسويغ وكوميديا وتصويرية وواقعية. ومع ذلك، لم تفحص على نحو منظم إلا أبحاث قليلة نسبيًّا تأثير توليفات متعددة من هذه العوامل على الأطفال والمراهقين. وربما تؤثر توليفات معينة من هذه المتغيرات (مثل، غياب الكوميديا، والواقعية و/أو التصويرية) في العنف لدى النشء بدرجة أكبر من غيرها (مثل الإبراء والتسويغ والإبهار). كذلك، قد تؤثر توليفات مختلفة من هذه المتغيرات على النشء بأساليب مختلفة، بناءً على مرحلة النمو التي وصلوا لها.
توجد حاجة لمزيد من الأبحاث من أجل تقييم هذه المتغيرات من حيث عمر الشخصيات التي تظهر على الشاشة. فأفعال العنف التي يرتكبها شخصيات أطفال أو مراهقون قد يكون مدى تأثيرها أكبر على النشء من سلوكيات مشابهة يرتكبها بالغون. وتأكيدًا لهذا الزعم، وجدت ويلسون وزملاؤها (٢٠٠٢) زيادة احتمال تقليد الأطفال للسلوكيات العدوانية التي يفعلها أقران في نفس عمرهم أكثر من التي يرتكبها بالغون. ونظرًا لأن الشخصيات التليفزيونية المفضلة للأطفال تكون على الأرجح أقل من ١٨ سنة، يحدث التوحد مع النشء العنيف على الشاشة بسهولة أكبر من حدوثه مع شخصيات أكبر سنًّا (كيرش، ٢٠٠٦). ومقارنةً بالشخصيات البالغة، يزيد احتمال إبراء أفعال العنف التي يرتكبها النشء، ويقل احتمال تعرُّضها للعقاب، ويزيد احتمال أن تفعلها شخصيات «جيدة» وجذابة (ويلسون وآخرون، ٢٠٠٢). من الواضح أن هذه الاكتشافات تشير إلى تأثير أكبر للعنف التليفزيوني الذي ترتكبه شخصيات شابة من التي يرتكبها بالغون، ومع ذلك توجد حاجة إلى مزيد من الأبحاث من أجل إثبات صحة هذا الزعم.
عبر النشأة، أثبتت نتائج العديد من الدراسات الارتباطية وجود علاقة مستمدة من التجربة بين مشاهدة العنف المرئي والسلوك العدواني الموجه نحو الأقران و/أو الأشياء. بالإضافة إلى هذا، تشير اكتشافات العديد من الدراسات أن آثار استخدام العنف المرئي التقليدي قد تؤثر في سنوات النشء اللاحقة. إلا أن اتساق هذه الاكتشافات يتفاوت مع العمر، مع وجود أكبر اتساق في مرحلة المراهقة. مرةً أخرى تبدو مرحلة المراهقة فترة يكون فيها النشء أكثر عرضة لتأثيرات الإعلام. ومع ذلك، ثمة حاجة إلى مزيد من الأبحاث من أجل عزل الأعمار المحددة في المراهقة (مثل المبكرة أو المتوسطة أو المتأخرة)، التي تكون فيها هذه القابلية للتأثر في ذروتها.
من المثير للدهشة قلة الدراسات الارتباطية التي تبحث في تأثير العنف في البرامج التليفزيونية والأفلام غير الكرتونية على الأطفال في سن ما قبل المدرسة. بدلًا من ذلك، ركزت الغالبية العظمى من الأبحاث، التي أُجريت في سنوات ما قبل المدرسة، على الكرتون العنيف. وعليه تكون الأبحاث الإضافية ضرورية من أجل تحديد هل تأثير العنف الكرتوني وغير الكرتوني مختلف على الأطفال الصغار. بالإضافة إلى هذا، يمكن بسهولة تفسير الارتباطات الواردة في الدراسات بين العنف في الكرتون والسلوك الجامح العدواني في الطفولة المبكرة من خلال متغيرات تتعلق بمعاملة الوالدين، مثل مستويات الدفء والعدائية، وكذلك أسلوب التأديب. مع الأسف، لم تخضع هذه المتغيرات للتقييم بوجه عام في الدراسات سالفة الذكر. وفي مرحلة الطفولة المتوسطة، كانت النتائج متفاوتة؛ إذ عثرت بعض الدراسات على آثار واضحة على الفتيات لكن ليس على الفتيان، بينما وجدت دراسات أخرى عكس هذا. وربما تكون الاختلافات بين الدراسات فيما يتعلق بإدراك العنف المرئي وإبرائه وتفخيمه السبب في هذه التفاوتات، وهو أمر يستحق الدراسة. هذا وتشير نتائج الدراسات التجريبية إلى أنه طوال فترتي الطفولة المبكرة والمتوسطة، لا ينتج عن التعرض للعنف المرئي سلوكيات محاكاة قصيرة الأمد فحسب، بل سلوكيات جامحة عدوانية آنية أيضًا. ومع ذلك، لا توجد معلومات كثيرة عن الآثار قصيرة الأمد للعنف المرئي على المراهقين. كذلك لا تقدم مجموعة المؤلفات الحالية بيانات عن مدة الآثار سالفة الذكر عبر النشأة، فربما يبقى تأثير العنف المرئي لفترة أطول في أعمار معينة مقارنة بأعمار أخرى.
مقارنة بأبحاث النمو التي تناولت السلوك الجامح العدواني، بحثت دراسات أقل بكثير في تأثير العنف المرئي على البنى المرتبطة بالعدوانية. على سبيل المثال، من مرحلة الطفولة المبكرة وحتى أواخر مرحلة المراهقة لم يُجرَ إلا عدد قليل من الدراسات عن المشاعر المرتبطة بالعدوانية. ففي مرحلة الطفولة المبكرة، يوجد عدد قليل للغاية من الدراسات، إن وجدت، عن المفاهيم العدوانية. كذلك، اقتصرت الأبحاث عن تقلص الاستجابة، بالأساس، على مرحلة الطفولة المتوسطة، ولا توجد دراسات في هذا الشأن عن المراهقين. ومن المثير للاهتمام أن آثار تقلص الاستجابة ثبُتت بالأساس لدى الأطفال الأكبر سنًّا في المرحلة الابتدائية، مما يشير إلى أن النمو ربما يخفف من هذه الآثار. لكن في ظل ندرة الأبحاث، توجد حاجة إلى مزيد من الدراسات من أجل تأكيد هذه الفكرة.
أخيرًا، ثمة حاجة إلى أن تقدم الأبحاث المستقبلية توضيحًا أكبر للفرق بين تأثير العنف المشاهد في التليفزيون والعنف المشاهد في دور السينما. دعوني أشرح هذا؛ أولًا: أثبتت الأبحاث السابقة أن شاشات التليفزيون الأكبر حجمًا (٥٦ بوصة مثلا) تصدر استثارة فسيولوجية أكبر لدى البالغين مقارنة بالشاشات الأصغر حجمًا (مثل، ١٣ بوصة؛ هيو، ٢٠٠٤). ومن ثم، يوجد احتمال أن حجم الشاشة يؤثر في الاستثارة الفسيولوجية لدى النشء أيضًا. وثانيًّا: اتضح أن وجود متفرجين متفاعلين ويتحدثون بصوت مرتفع، الأمر الشائع في دور السينما أكثر منه في المنزل، يزيد من العدوانية التي تعقب المشاهدة لدى طلبة الجامعة (دوناند وآخرون، ١٩٨٤). وثالثًا: من المحتمل أن تخفي الإعلانات التليفزيونية نتائج وتبعات العنف المرتبط بالبرامج. على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن الإعلانات التجارية التي أُذيعت في أثناء برنامج تليفزيوني عنيف جعلت من الصعب على الأطفال في الصف الثالث إدراك تعرض أحد الأفعال العدوانية للعقاب (كولينز، ١٩٧٣). إجمالًا، تشير هذه النتائج إلى أن الصور والأصوات العنيفة التي تُعرض في دور السينما قد تؤثر في النشء بدرجة أكبر من استخدام محتوًى مشابه في المنزل، حتى إن كانت شاشة التليفزيون بحجم ٦٠ بوصة. ومع ذلك، أغفلت الدراسات إلى حد بعيد فحص ما إذا كان حجم الشاشة ومشاركة آخرين في المشاهدة يعمل بالفعل على التخفيف من آثار العنف الإعلامي أثناء النشأة.