نظريات التأثير الإعلامي
(١) التواصل الاجتماعي والنظرية
والإجابة على السؤال الأول بسيطة؛ إذ يُمكن لأي شخص (أو شيء) أن يكون عاملًا من عوامل التواصُل الاجتماعي. فسواء أكان ذلك في المدرسة، أم في الملعب، أم في مطعم، يحتك النشء بالقواعد والتوقُّعات والقيم التي تشكل أفكارهم وسلوكهم وتوجهاتهم الذهنية. وعلى الرغم من وجود العديد من عوامل التواصُل الاجتماعي المحتملة، فإن قوى التواصُل الاجتماعي الأكثر شيوعًا عند النشء هي الآباء والأشقاء والأقران وبالطبع وسائل الإعلام. أما الإجابة على السؤال الثاني الذي يُركِّز على الآثار الاجتماعية الإيجابية لاستخدام وسائل الإعلام على سلوكيات النشء وعواطفهم وأفكارهم فسنتناولها في الفصول المقبلة. جدير بالذكر أن السؤالين الأول والثاني ذوا طبيعة تجريبية، تظهر الإجابة عليهما من خلال البيانات. أما القضية الثالثة في المقابل، وما يركز عليه هذا الفصل، فهو تفسير السبب في أن الاحتكاك بالإعلام له القدرة على التأثير في الأطفال والمُراهِقين. وتتجاوَز الإجابة على هذا السؤال البيانات الأولية إلى عالم الاعتبارات والمبادئ والحدس. ويعني هذا أن تفسير تأثير الإعلام الاجتماعي الإيجابي على النشء يتطلَّب تطبيق النظريات.
• نظرية التأثير المباشر (الحقنة تحت الجلد أو الرصاصة السحرية) | • نظرية التعلم الاجتماعي |
• نظرية انتقال الإثارة | • نظرية الإدراك الاجتماعي |
• منظور التثقيف | • نظرية النص |
• التمهيد | • النموذج الشامل لوسائل الإعلام |
(٢) نظرية التأثير المباشر (الحقنة تحت الجلد أو الرصاصة السحرية)
خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن يوجد الكثير من نظريات التأثير الإعلامي الموضوعة. بل كان يُفسَّر تأثير وسائل الإعلام على المُستهلِكين من خلال رؤية نظرية عامة شديدة البساطة هي: يُؤثِّر استخدام وسائل الإعلام في الجميع ويتأثر الجميع بوسائل الإعلام بنفس الطريقة في الغالب (سبارك، ٢٠٠١). واليوم يُشار إلى هذا التوجه عامةً إما بنظرية الرصاصة السحرية أو الحقنة تحت الجلد. وطبقًا لهذه النظرية فإن وسائل الإعلام كالحقنة تحت الجلد تضخُّ رسائلها داخل المُستهلِكين أو كالرصاصة السحرية التي تُنتج عند اصطدامها بالهدف وحدة في الفكر والفعل. ويمُثَّل لنظرية الرصاصة السحرية بفيلم الرعب «الحلقة» (ذا رينج) الذي يموت فيه كل من يشاهد شريط فيديو ملعون بعد سبعة أيام بالضبط من مشاهدته (إلا إذا نُسخ الشريط وشاهده شخص آخر بالطبع). ويُعتقَد اليوم أن نظرية الرصاصة السحرية تُبالغ بشدة في تبسيط الطريقة التي تؤثِّر بها وسائل الإعلام على الرضَّع والأطفال والمراهِقين (سباركس). كذلك أوضحت دراسات عديدة أن وسائل الإعلام لا تؤثر في الجميع بنفس الصورة (كيرش، ٢٠٠٦). وبذلك لم تعد هذه النظرية تُعتبَر نظرية صالحة حول التأثير الإعلامي.
(٣) انتقال الإثارة
تَدفع نظرية انتقال الإثارة أنه لأنَّ الاستثارة الفسيولوجية تتبدَّد ببطء نسبيًّا، فإن الاستثارة المتولِّدة عن حدث ما قد تتراكم على الاستثارة المتولِّدة من حدث لاحق (بشرط أن يكون الحدثان متقاربَين زمنيًّا). وتكون النتيجة النهائية لانتقال الإثارة هي تعظيم مستوى الإثارة الناتجة عن الحدث اللاحق (زيلمان، ١٩٨٣). وفيما يتعلق بالتجربة السلبية في أثناء مشاهدة الفيلم المذكورة، فقد أُضيفت الاستثارة الناتجة عن الاستمتاع بالفيلم الحركي للاستثارة المرتبطة بشم رائحة القدم النتنة، وأدَّت إلى تعظيم الحالة العاطفية السلبية المرتبطة بالإحساس برائحة القدَم الكريهة. ويَكمن جمال نظرية انتقال الإثارة في أنها تَنطبِق على أنواع التجارب العاطفية كلها وجميع مصادر الاستِثارة الفسيولوجية. وبصرف النظر عما إذا كانت التَّجارب العاطفية إيجابية أم سلبية، فإن انتقال الإثارة يمكن أن يتم بين النوعين. فحتى الاستثارة المرتبطة بالتمارين والإحباط والجنس وغير ذلك قابلة بنفس القدر للانتقال من حدث إلى آخر؛ لذا تُقدم نظرية انتقال الإثارة آلية بيولوجية لتفسير السبب في قُدرة استخدام وسائل الإعلام على التأثير في تجارِب النشء العاطفية وسلوكياتهم التي تظهر بُعَيد إغلاق وسائل الإعلام.
(٤) منظور التثقيف
من دون نظرة النحات تظل كتلة الطين على حالها: كتلة من الطين. لكن من خلال الحركات الدقيقة للأصابع والتخلُّص من الطين الزائد يُمكن أن يُصنع شكل جديد معقَّد. وكما هو الحال مع النحات الذي يُشكِّل الطين، كذلك يُمكن لوسائل الإعلام أن تُغيِّر واقع مُستهلكيها. على الأقل هذا ما يَطرحه منظور التثقيف (جيربنر وجروس ومورجان وسينيورييلي، ١٩٩٤). فطبقًا لهذه النظرة، يُعد التليفزيون قوة كلية الوجود تُثقف كل مشاهديها وتُكسبهم مُعتقَدات وسلوكيات تتماشى مع ما يُعرض في التليفزيون، على نحو لا يختلف عن الرصاصة السحرية. إلا أنه بعكس الآثار المباشرة والقوية التي تفترضها نظرية الرصاصة السحرية، فإن منظور التثقيف يطرح كون توليد وجهات النظر يَستغرِق بعض الوقت؛ حيث يكون تأثير التليفزيون في أقوى صوره عند من يُشاهدونه بالقدر الأكبر؛ لذا فبالمقارنة بالمشاهدين الأقل استخدامًا للتليفزيون، يُعتقد أن المشاهدِين الأعلى استخدامًا له يَعتنقون معتقدات ومواقف تتماشى بصفة أكبر مع عالم التليفزيون. بل إن العديد من الدراسات قدَّم أدلة تدعم هذا الاعتقاد؛ فعلى سبيل المثال، يُعد المراهِقون الذين يُشاهدون القدر الأكبر من المحتوى الجنسي على التليفزيون أكثر عرضة ﻟ (أ) تقبُّل ممارسة الجنس العارض (برايانت وروكويل، ١٩٩٤). و(ب) اعتبار السلوك الجنسي غير الاعتيادي طبيعيًّا (كحفلات الجنس الفموي؛ جرينبيرج وسميث، ٢٠٠٢). و(ﺟ) الشعور بعدم الرضا عن كونهم أبكارًا (جورترايت وباران، ١٩٨٠).
منذ أول طرح لمنظور التثقيف، أُضيف إليه مفاهيم الصدى والتطبيع. ويَعكس كلا هذَين المفهومين التفاعُل بين التليفزيون ومواقف الحياة الواقعية عند التأثير في المعتقَدات والسلوكيات. يُشير التطبيع إلى مَوقِف يُكوِّن فيه مُشاهدو التليفزيون بكثافة رؤية متقاربة تتأثَّر بدرجة أقل بمعظم مواقف الحياة الواقعية. فمثلًا بصرف النظر عن مستوى الدخل، فإن مشاهدي التليفزيون الأكثر كثافة يعتنقون نفس المُعتقدات فيما يخص معدلات الجريمة في أحيائهم (جيربنر وآخرون، ١٩٩٤). في المقابل يُعتقد أن تجارب الحياة الواقعية لها التأثير الأكبر على المعتقدات الشخصية ومواقف المشاهِدين الأقل كثافة للتليفزيون.
يوجد استثناء للتطبيع؛ حيث يُمكن لتجارب الحياة اليومية أن تُعظِّم من الآثار التثقيفية، وهي ظاهرة تُعرف بالصدى. إلا أنه لكَي يَحدث الصدى يجب أن تتحقَّق درجة من التشابُه بين تجارب الفرد الواقعية وتلك المعروضة على التليفزيون. انظر مثلًا لآثار مُشاهَدة برامج تليفزيونية ذات محتوى جنسي صريح على مواقف المُراهِقين من الجنس. يتنبأ مفهوم الصدى بأن الآثار التثقيفية (أي الاتفاق بين المعتقَدات المعروضة على التليفزيون والمعتقدات الشخصية) يكون في أشد حالته عند الأفراد الذين: (أ) هم أكثر نشاطًا جنسيًّا. و(ب) يشاهدون محتوًى تليفزيونيًّا أكثر إثارة جنسيًّا.
في الفقرات السابقة تناولنا منظور التثقيف لجيربنر من ناحية مُشاهدة التليفزيون بدلًا من ناحية الاستخدام العام لوسائل الإعلام. لم؟ لأن منظور التثقيف يتطلب وجود عدد كبير من الناس يُشاهِدُون نفس المحتوى، وهو ما يُوفِّرُه التليفزيون أكثر من أي وسيلة إعلام أخرى. تَذكَّر أن جيربنر وضع نظريته في سبعينيات القرن العشرين عندما كانت معظم المنازل من دون تليفزيون أرضي مدفوع أو فضائي. ففي هذه المرحلة من التاريخ لم يكن يوجد أي منفذ عام على الإنترنت، ولم توجد صناعة ألعاب الفيديو التي درَّت أرباحًا بمليارات الدولارات. ولأنه أصبح من الممكن الآن الوصول إلى جمهور كبير من خلال وسائل إعلام غير التليفزيون، فقد عُمِّم منظور التثقيف على مجموعة متنوعة من وسائل الإعلام كألعاب الفيديو والموسيقى والإنترنت. فمثلًا، وجد فان مييرلو وفان دين بلوك (٢٠٠٤) أدلة على الآثار التثقيفية المرتبطة بممارسة ألعاب الفيديو العنيفة بين أطفال المرحلة الإعدادية. وعلى وجه التحديد، اكتُشف تلازم إيجابي بين ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة وإدراك انتشار جرائم العنف. ومن اللافت، في نفس هذه الدراسة، أن الآثار التثقيفية الأقوى كانت لمشاهدة المحتوى التليفزيوني العنيف؛ لذا ربما كان جيربنر محقًّا؛ قد يكون التليفزيون هو المصدر الرئيسي للآثار التثقيفية على النشء. لكن من الضروري إجراء مزيد من الأبحاث لقياس حجم الآثار التثقيفية باعتبارها نتيجةً لنوع الإعلام المُستهلَك.
لقد كان منظور التثقيف أحد أشهر نظريات التأثير الإعلامي في العقود الثلاثة الأخيرة (برايانت وميرون، ٢٠٠٤). لكن لم تُطرح تفسيرات للآليات الكامنة وراء هذا التأثير إلا مؤخَّرًا. لقد اعتمدت الأبحاث التي تؤيد منظور التثقيف بشدة على تقدير المشاركين لاحتمالية الأحداث، كاحتمالية الوقوع ضحية أو انتشار تعاطي المخدِّرات في منطقة ما. وبذلك فإن العوامل التي تؤثِّر في التقدير تُؤثِّر بدورها في التأثير التثقيفي. وقد أشار شروم وبيشاك (٢٠٠١) إلى أنه يوجد ثلاث وظائف استرشادية لمعالجة المعلومات يَنبني عليها منظور جيربنر التثقيفي: وظيفة التوافُر ووظيفة المحاكاة ووظيفة التمثيل.
ترى وظيفة التوافُر أن التقدير مبني على السهولة التي يُمكن بها استرجاع المعلومات من الذاكرة، حيث تُعتبَر الأحداث المتذكَّرة باعتبارها أكثر شيوعًا من الأحداث الأكثر صعوبة في التذكُّر. فمثلًا، بينت البحوث أن الناس يَميلون إلى المبالغة في تقدير حوادث القتل والسرقة، لأسباب من بينها أنهم يستطيعون دون مجهود أن يَسترجِعوا الجرائم المشهورة. وكذلك فإن الأحداث المُتكرِّر ورودُها على التليفزيون تصير بارزةً (أي مهمة) في أذهان المشاهِدين، وبذلك تزيد سهولة تذكُّرها. أما وظيفة التمثيل فتقول إن التشابه في الصفات بين حدث وبين ذكرى نموذج أولي (المثال الأفضل في شيء معين) تؤثر على التقدير. فكلما زاد التشابه بين الحدث والنموذج، زاد الاحتمال المُتصوَّر لوقوع الحدث. وأخيرًا، وفي ضوء وظيفة المحاكاة، فإن الأحداث التي يُمكن تخيُّلها بسهولة يُتصور أن احتمال وقوعها هو الأكبر (تفيرسكي وكانيمان، ٢٠٠٥). ويحدث التأثير التثقيفي لأن المحتوى الإعلامي يترك ذكريات ويُعزِّز الذكريات المغروسة، ويجعل الذكريات القائمة أكثر عرضة للاستعمال؛ ومن ثَم ومن خلال الوظائف المذكورة أعلاه فإن تقديرات وقوع الأحداث واحتمالات العالم الحقيقي تَميل للاتفاق مع الاحتمالات التي يُصوِّرها «عالم الإعلام».
(٥) التمهيد
أما فيما يتعدَّى تحفيز وظائف الاسترشاد فيمكن للإعلام أن يمهد شبكات من العواطف والأفكار والمفاهيم؛ فلتنظر للتمهيد باعتباره «عمليةَ تهيئة» تصير فيه المعلومات غير المتوفِّرة جاهزةً للاستخدام الفوري؛ لذا فعندما يُمهد لعاطفة ما أو فكرة أو مفهوم، تتعرَّض عواطف وأفكار ومفاهيم مشابهة للتحفيز. وعلاوة على ذلك يمكن لشبكة نَشِطة أن تساعد في معالجة المعلومات وتأويلها. انظر مثلًا إلى الكلمات التالية: راعي بقر، حصان، برميل، حبل. والآن اذكر الحرف الناقص في «…رج». أُراهن أن الكثيرين سيضيفون حرف السين ليُكملوا كلمة «سرج». ولم ذلك؟ لأن أفكارك مُهدت بواسطة الكلمات المتصلة بمُسابقات رعاة البقر المذكورة؛ ومن ثم تخطر كلمة «سرج» بسهولة على البال. والآن كرِّر هذا التمرين مع صديق لكن بدلًا من استخدام محفز متَّصل بمسابقات رعاة البقر، اجعل صديقك يتصور الكلمات التالية: خوخ، كمثرى، موز، شمام. وبما أن الفواكه هي مصدر التمهيد فإن صديقك على الأرجح سيُضيف حرف الميم في الفراغ ليكون كلمة «مرج».
ومثلما تمهِّد الكلمات المتعلقة بالفاكهة لكلمة «مرج» والكلمات المتعلقة بمسابقات رعاة البقر لكلمة «سرج» فكذلك تمهِّد أنواع الإعلام المختلفة — ومن ثَم تُنشِّط — شبكات مختلفة. فالإعلام الجنسي يمهِّد الأفكار والمشاعر الجنسية، والإعلام المتعلق بالمخدِّرات يمهد للأفكار والعواطف والمفاهيم المرتبطة بالمخدِّرات، والعنف الإعلامي يُحفِّز الشبكات العدوانية. إلا أن التمهيد لا يَقتصِر على شبكة واحدة؛ إذ يُمكن للمحتوى الواحد أن يُحفِّز شبكات متعدِّدة. فمثلًا يُمكن لمُشاهَدة ضباط الشرطة وهم يُطارِدون ويَطرحون أرضًا تاجر مخدِّرات عاري الصدر ذا قصة شعر عرف الديك في برنامج «رجال شرطة» (كبس) أن يمهِّد كلًّا من الشبكات المرتبطة بالمخدِّرات والشبكات العدوانية وكذلك الشبكات المخصَّصة لقصات الشعر الرديئة. إلا أن التمهيد ليس مجرَّد نتيجة لاستخدام المُحتوى الإعلامي، فوسيلة الإعلام نفسه يمكن أن يكون الممهِّد. فرؤية جهاز التليفزيون مثلًا يُمكن أن تمهد أفكارًا عن برنامجك التليفزيوني المفضَّل، وهو ما يمكن بدوره أن ينشط شبكة أوسع من الأفكار والمفاهيم (العدوانية أو الاجتماعية الإيجابية مثلًا).
يُمكن للشبكات المتصلة أن تُنشَّط من خلال عملية إدراكية داخلية (كالتفكير في شيء ما) أو يُمهَّد لها عن طريق المواقِف الخارجية بما في ذلك الاحتكاك بوسائل الإعلام. فضلًا عن أنه كلما زاد استخدام شبكة ما زاد احتمال تنشيطها في المُستقبَل. بل إن الشبكات مع الإفراط في استخدامها يمكن أن تنشط بصفة مزمنة؛ ومن ثَم توجه الأفكار والعواطف والمفاهيم لدى الفرد. فالشبكات المفعلة بصورة مُزمنة عند النشء العدواني مثلًا تغلب عليها العواطف والأفكار والمفاهيم المتعلِّقة بالعدوان. وبذلك وفي المواقف الملتبسة التي يظهر فيها الشك في نية شخص آخر فإن النشء العدواني يميل لرؤية النية العدوانية في الوقت الذي كان من المُمكِن أن يراها نية سليمة بنفس السهولة (دودج، ١٩٨٦).
(٦) التعلم الاجتماعي ونظرية الإدراك الاجتماعي
وُضعَت نظريتا التعلم الاجتماعي والإدراك الاجتماعي كلتاهما على يد ألبرت باندورا (١٩٦٥، ١٩٨٦). وكانت الأولى واحدة من أكثر نظريات التأثير الإعلامي المقتبَسة في العصر الحديث؛ حيث يستطيع توجُّهها نحو «التعلم» شرحَ تأثير الإعلام على اكتساب معظم السلوكيات (برايانت وميرون، ٢٠٠٤). بعبارة مبسطة، تقول نظرية التعلم الاجتماعي إن السلوك استجابة مُكتسَبة ناتجة عن ملاحظات للعالم. أما نظرية الإدراك الاجتماعي فتُمثِّل إضافة نظرية لعمل باندورا السابق لتعكس أن السلوك «اختيار» أكثر منه «استجابة» للبيئة، وأنه يوجد تأثيرات إدراكية وعاطفية وتحفيزية على السلوك.
(٦-١) نظرية التعلُّم الاجتماعي
إن أصابك سوء الحظ والتقيتَ بكائن من الموتى الأحياء (زومبي)، فتجنَّبِ الفرار إلى أي منزل في مزرعة؛ إذ بينما تكون في مأمن هناك لبضع ساعات، ففي اليوم التالي ستُحاط بالموتى الأحياء. وعند وجودِك بالداخل لا تقف بجانب أي نافذة مؤمنة بألواح خشبية. فكائنات الزُّومبي يُمكنها الشعور بوجودِك هناك وستُحطِّم هذا الحاجز بسرعة وتسحبك من خلاله وتَنزع أحشاءك. واحذر من أن تسمح للغرباء بدخول المنزل؛ فواحد منهم يُخفي أنه تعرَّض لعضة زُومبي، وبعد موته وبعثه الشيطاني سيُحاول أن يأكل رأسك. وأخيرًا لا تثق بأي شخص يَرتدي زيًّا عسكريًّا، فهو يواجه صعوبة في التفريق بين كائنات الزومبي والبشر، وعلى الأرجح سيُطلِق النار على رأسك. بصراحة لم أتعرض لمواجهة مع زومبي في الحياة الواقعية قط. إذن فكيف أعرف هذا القدر من المعلومات عن التعاملات بين الزومبي والبشر؟ لقد تعلَّمتُها من مشاهدة عدد لا يُحصى من أفلام الرعب، ويقع التعلم من دون التعرُّض شخصيًّا للنتيجة ضمن مجال نظرية التعلم الاجتماعي.
وتنص نظرية باندورا (١٩٧٣) للتعلم الاجتماعي على أن الأطفال والمُراهِقين يَتعلَّمون بملاحظة سلوكيات الآخرين، وهي عملية يُشار إليها باسم التعلم بالملاحظة؛ فمثلًا، أظهرت الأبحاث أنه بعد مشاهدة برنامج تليفزيوني حركي يُصور مغامرات ويعج بالفنون القتالية العنيفة (باور رينجرز مثلًا) يُقلِّد الأطفال في مرحلة المدرسة الركلات الطائرة واللكمات والصدَّات التي رأوها لتوِّهم (بوياتزيس وماتيلو ونيزبيت، ١٩٩٥). وبينما مثلت حركات الكاراتيه لبعض الأطفال سلوكيات جديدة مُكتَسَبة، تضمَّنت تلك الأنشطة للبعض الآخر استخدام حركات معروفة مسبقًا. وطبقًا لنظرية التعلم الاجتماعي، فإن التبعات التي تَلْقاها الشخصية أو النموذج تؤثِّر في تقليد السلوك الملاحظ من عدمه. فعندما يلقى النموذج دعمًا لأفعاله، فإن السلوكيات المشابهة يكون احتمال اتباعها في الواقع أكثر مما إذا تلقَّت هذه السلوكيات العقاب. جدير بالذكر أنه عندما لا توجد ردود فعل معارضة للفعل المعروض، يدرك الملاحظ أن السلوك مقبول ضمنيًّا. فمثلًا وجد باندورا (١٩٦٥) أنه بعد مُشاهدة فيلم قصير فيه ضرب وركل وصياح من الكبار لدمية بلاستيكية قابلة للنفخ، فإن الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يُقلِّدون هذه السلوكيات في حالتين: (أ) دعم النماذج في أفعالها القتالية، أو (ب) ألا يصدر ردُّ فعلٍ معارض للنماذج. أما في حالة معاقبة هذه النماذج فإن الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يقلدون السلوكيات الملاحَظة بدرجة أقل.
تُقدم ألعاب الفيديو والتليفزيون والرسوم الهزلية والإنترنت وغيرها للشباب فرصًا وافرة للتعلم بالملاحظة. فبصرف النظر عن نوع وسيلة الإعلام المستخدَمة يشاهد الأطفال والمراهقون باستمرار شخصيات في الإعلام تَحظى بالتأييد أو بالعقاب أو لا تلقى أي تبعات لأفعالها؛ فعلى شاشة التليفزيون مثلًا، يمرُّ حوالي ٧٠٪ من أعمال العنف غير القانونية التي يَرتكبها «الأبطال» دون عقاب، ويلقى ٣٢٪ منها المكافأة (ويلسون وآخرون، ٢٠٠٢). وبالطبع تُؤثِّر صفات الشخصية/النموذج وخصائص السلوك المعروض أيضًا في احتمالية تقليد السلوكيات الملاحظة. فمثلًا يزيد احتمال تقليد الأطفال والمراهقين للسلوكيات الإعلامية المنمَّقة (أي التي تظهر بمظهر «الجذابة» أو الممجَّدة). كما أن التعلم بالملاحظة يتمتع بقوة خاصة عندما تصدر السلوكيات المعروضة عن أفراد يرتبط بهم النشء (كنماذج من نفس السن أو من سنٍّ أكبر قليلًا؛ باندورا، ١٩٨٦؛ هوفنر وكانتور، ١٩٩١).
وبجانب تفسير كيفية اكتساب السلوكيات، تُوضِّح نظرية التعلم الاجتماعي كيف تستمر السلوكيات المُكتسَبة عبر الوقت؛ فأولًا: تستمر السلوكيات عندما تَنجَح في إشباع احتياجاتنا الشخصية، ومن ثَمَّ تُعزِّز نفسها بنفسها. فإن كان الشعور ﺑ «التفرد» مثلًا جانبًا مهمًّا من جوانب النفس، فإن النشء قد يُمارسون سلوكيات (كالاستماع لموسيقى البانك في الثمانينيات مثلًا) تُعزِّز الإحساس بالتفرد. ثانيًا: تستمر السلوكيات عندما تحظى بالقبول الاجتماعي من قبل الأقران أو تحظى بدعمهم الظاهر. وكذلك عند استخدام المواد الإعلامية، يلاحظ النشء تداعيات التصرف بطريقة معينة، وتتغيَّر سلوكياتهم هم بناءً على ذلك. وأخيرًا يُمكن للإعلام أن يقدم تجربة مباشرة فيها التأييد والمنع معًا؛ ومن ثَم يُبقي على السلوكيات المُكتسَبة. ففي أثناء ممارسة لعبة فيديو مثلًا تُعزز «السلوكيات الحسنة» عن طريق زيادة نقاط وتُعاقب «السلوكيات السيئة» بخسارة النقاط أو المحاولات.
(٦-٢) نظرية الإدراك الاجتماعي
في العادة، تُقدم نظرية التعلم الاجتماعي بجانب نظريتي الإشراط الإجرائي والإشراط الكلاسيكي «للتعلم» السلوكي. إلا أن باندورا اعتبر نظرية التعلم الاجتماعي نظرية إدراكية أكثر منها سلوكية. وليُبيِّن باندورا هذا التوجه الإدراكي راجعَ نظريته الأولى وأعاد تسميتها نظرية الإدراك الاجتماعي (باندورا، ١٩٨٦). وفي ضوء النسخة المنقَّحة، يُفسر السلوك باستخدام مؤثِّرات رئيسية ثلاثة: العوامل السلوكية والشخصية والبيئية.
تُشير العوامل السلوكية إلى الأفعال المكتسَبة مسبقًا المتوفِّرة لدى الفرد، مثل مخزون الطفل من السلوكيات الاجتماعية الإيجابية (كالمساعدة والمشاركة). أما العوامل الشخصية فتشمل توقُّعات الفرد ومُعتقداته وأهدافه ومُدركاته الذاتية ورغباته ونواياه؛ بعبارة أخرى دوافعه الداخلية. وأما العوامل البيئية فهي مؤثِّرات غير داخلية (كالإعلام والأصدقاء وأفراد العائلة) الذين يُؤثِّرون في الفرد من خلال الاحتكاك المباشر أو التعلُّم بالملاحظة. وطبقًا لمعتقدات نظرية التعلم الإدراكي، فإن العوامل السلوكية والشخصية والبيئية تتفاعل فيما بينها لتؤثر في الأفعال والأفكار والعواطف البشرية، وهي ظاهرة يُشار إليها ﺑ «الحتمية التبادلية»؛ لذا فعلى عكس نظرية التعلم الاجتماعي التي تطرح التأثير أحادي الاتجاه (من البيئة على السلوك مثلًا) تُقدِّم نظرية التعلُّم الإدراكي علاقات ثنائية الاتجاه بين السلوك والدوافع الداخلية والبيئة.
تقول نظرية الإدراك الاجتماعي عامة: إن التكيُّف والتغيُّر البشري نتيجتان للتنظيم الذاتي والتأمُّل الذاتي الاستباقي والسلوك الضابط للذات، وليس مجرَّد رد فعل لمواقِف البيئة أو الدَّوافع الداخلية. وفي هذه النظرية المنقَّحة، تقود الفاعلية البشرية (التي تُعرَّف ببذل المجهود للتحكُّم في الأفكار والدوافع والعواطِف وتحقيق الأهداف) عملية اكتِساب السلوك وإبقائه. كما يُعتقَد أن تأثير البيئة على الفرد يَبلغ ذِروته عندما يحدث اتِّفاق بين النفس الفاعلة والرسالة الكامنة في البيئة المُحيطة؛ لذا يَزيد تأثير الإعلام على سلوك النشء عندما تَرتفِع درجة التشابُه بين الدَّوافع الداخلية للفرد ومحتوى السلوك المَعروض على الشاشة مقارنة بالتأثير عندما لا توجد هذه العوامل في البيئة المحيطة.
(٧) نظرية النص
تقوم الأفلام وبرامج التليفزيون وكتب الرسوم الهزلية وألعاب الفيديو على السيناريوهات أو النصوص أو اللَّوحات القصصية، وكلٌّ منها تَسرد قصة من البداية إلى النهاية. وفي الحياة الواقعية يستخدم الأطفال والمُراهِقُون النصوص أيضًا. لكن هنا يُمثل النص سردًا إدراكيًّا لما يَحدث عادةً في أثناء البداية والوسط والنهاية في المعامَلات الشخصية البينية (كالمُواعَدة مثلًا) وفي المناسبات (كحُضور مباراة كرة قدم) وفي المَواقِف (كطلب البيتزا). وتُقدِّم النصوص الإدراكية معلومات مفصَّلة بخصوص تتابُع الأحداث (كدفع ثمن البيتزا قبل تناولها) وملاءمة الفعل في أثناء موقف معيَّن (دفع إكرامية مثلًا اختيارية إن تأخَّر عامل التوصيل؛ هيوزمان، ١٩٨٦).
يتوفَّر لدى النشء الكثير من النصوص ليَختاروا من بينها، وإن لم تكن كلها ملائمة للمَوقِف. فمثلًا تُلائم نصوص لعبة التقاط كرة البيسبول الملعب لا داخل المنزل؛ لذا فعند اختيار نصٍّ لتَمثيله يدخل الأطفال والمُراهقون في عملية من خطوتَين؛ أولا: يجب على النشء أن يُقيموا أوجُه الشبه والاختلاف بين المَوقِف الحالي ومُحتوى كل النصوص المتاحة. ثانيًا: يحتاج النشء للنظر إلى التبعات المُحتمِلة لاستخدام نصٍّ معيَّن وما إذا كان النص مُتماشيًا مع السلوك المقبول اجتماعيًّا (كالعرف الاجتماعي). وبصفة عامة يَختار معظم الأطفال والمُراهقين النصوص التي لها تَبِعات إيجابية، وكذلك التي تتماشى مع التوقُّعات الاجتماعية. إلا أن النشء يتَّخذون أيضًا قرارات خاطئة. فالأطفال والمُراهِقون يتصرَّفون بعُدوانية، ويتعاطُون المخدرات ويرتكبون الجرائم. وطبقًا لنظرية النص، فإنَّ النشء المنحرف والنشء غير المنحرف سيَختلِفان في أربعة أشياء تتعلق بالنصوص: (أ) محتوى النص. (ب) القرارات الخاصة بملاءمة النص. (ﺟ) التبعات المتوقعة للأفعال. و(د) الرغبة في اتباع الأعراف الاجتماعية (هيوزمان، ١٩٨٦).
تتطوَّر النصوص الإدراكية نتيجة التعلُّم بالملاحظة والاحتكاك المباشر؛ لذا يُمكن للإعلام أن يغير أو يصنع السيناريوهات التي يستخدمها الأطفال والمراهقون للتفاعل مع العالم. ففي فيلم «سكارفيس» مثلًا تُقدِّم الشخصية الرئيسية طوني مونتانا سيناريو للبحث عن رفيقة: «في هذا البلد عليك أن تجني المال أولًا. وعندما تحوز المال تحوز القوة. وعندما تمتلك القوة تأتيك النساء.» ربما ليسَت هذه أفضل نصيحة خاصة بالمواعَدة للجميع، لكن يبدو أنها نصيحة ناجِحة لبيل جيتس. وبمجرَّد تشكُّل النصوص واستخدامها تُصبح مقاوَمة للتغيير. أي إنه بمجرَّد أن يبدأ النشء في استخدام النصوص يَستمرُّون في استخدامها. وفوق ذلك لا تُحدِث التجارب الجديدة تغييرًا كبيرًا في محتوى النصوص الراسخة. ولا يشكل عدم مرونة النصوص مشكلة بالضرورة للنشء ذي السلوك الاجتماعي الإيجابي، لكن مقاوَمة تغيير النصوص أحد العوامل التي تدخل في انحراف النشء.
ولأن النصوص كيانات إدراكية شأنها شأن المفاهيم، فهي تتجمَّع في شبكات مترابطة. وتقوم شبكات النصوص على السلوكيات الاجتماعية التي تؤكِّد على الأفعال المتشابهة. فمثلًا يتكون سياق الفصل وسياق غرفة الطعام من نصوص مختلفة (كالنصوص المبنية على الالتزام بالقواعد في الفصل، والنصوص المبنية على الفوضى في غرفة الطعام). إلا أنه نتيجة لأن كلًّا من تلك النصوص تتضمَّن سياقًا مدرسيًّا فهما ينتميان لنفس الشبكة الإدراكية. وعليه فإن تفعيل أحدها (كالتحدث عن تجارب غرفة الطعام المؤلمة) سيُمهِّد كذلك النصوص المدرسية الأخرى (كتَجارِب الفصل المؤلمة).
وتفصل نظرية النص القرارات السلوكية التي يتَّخذها النشء وتؤكد على أهمية الأعراف الاجتماعية في اتخاذ القرارات الخاصة بالنصوص وتفعيلها. إذن فالعوامل التي تؤثر في الأعراف الاجتماعية تؤثر بصورة غير مباشرة على سلوكيات النشء. وهنا تظهر قوة وسائل الإعلام. فمع التعرُّض المتكرِّر للإعلام تتشكَّل النصوص و/أو تدوم. كما أن ترسُّخ النصوص يجعل الأطفال والمراهقين يبحثون عن بيئات متماشية مع معتقداتهم المرتبطة بالنصوص؛ لذا سوف يبحث النشء عن فرص لا لاستخدام النصوص المكتسَبة فحسب بل لإكسابها شرعية أيضًا. ويوفر الإعلام فرصًا لإكساب النصوص شرعية. فمثلًا يبحث المُراهقون النشطون جنسيًّا عن محتوًى تليفزيوني مشحون جنسيًّا، ويبحث الأطفال العدوانيون عن الإعلام الغني بالعنف (بريانت وروكويل، ١٩٩٤؛ كيرش، ٢٠٠٦). ورغم أن وسائل الإعلام التقليدية (كالتليفزيون والموسيقى والأفلام) لا تعطي فرصة لتفعيل النصوص فهذا يتم من خلال ممارسة ألعاب الفيديو والكثير من أنشطة الإنترنت.
(٨) النموذج العمومي لوسائل الإعلام
تعدُّ كل النظريات المذكورة باستثناء نظرية الإدراك الاجتماعي محدودة في نطاقها؛ فنظرية انتقال الإثارة تركز على العواطف المرتبطة بالاستثارة، أما نظرية التمهيد ونظرية النص ومنظور التثقيف فكلها تركز على الإدراك، وأما نظرية التعلم الاجتماعي فتناقش دور الملاحظة في اكتساب السلوكيات. ورغم أن نظرية الإدراك الاجتماعي ترى أن السلوك يتأثَّر بعوامل عدة، فهي لا تقدم تفسيرًا مفصلًا للكيفية التي تؤثر بها المُدركات والعواطف والسلوكيات والدوافع في عملية اتخاذ القرار؛ ومن ثَم السلوك. وهنا يأتي دور النموذج العمومي لوسائل الإعلام.
تتألَّف مُتغيرات المدخل من الشخص والموقف. وتتألَّف مُتغيِّرات الشخص من تلك الخصائص المرتبطة بالشخص التي تؤثِّر على استعداد الفرد للتصرف بشكل معيَّن (اجتماعيًّا إيجابيًّا مثلًا أو جنسيًّا أو عدوانيًّا). ويتضمَّن هذا المتغير العوامل البيولوجية المستقرة و/أو الموجودة مسبقًا (كالنزعات الجينية ومستويات الهرمونات) والسلوكيات والمعتقدات وخصائص الشخصية والنصوص. أما مُتغيِّرات الموقف فتعتمد على السياق؛ حيث تُشير إلى التعاملات المبنية على البيئة المحيطة وكذلك العناصر العامة ضمن تلك البيئة (درجة حرارة مرتفعة في الغرفة مثلًا). ومع تَغيُّر السياقات التي يوجد فيها الأطفال والمراهقون يظل متغيِّر الشخص ثابتًا، لكن يَتفاوت متغيِّر الموقف بتغير السياق.
وطبقًا للنموذج العمومي لوسائل الإعلام (والنموذج العام للسلوك العدواني) تتأثَّر مُتغيِّرات الشخص والمتغيِّرات الموقفية بصفة غير مباشرة بتغيُّر الحالة الداخلية الحالية للفرد وهي تتكوَّن من ثلاثة مسارات: العاطفة والإثارة والإدراك. يُفصِّل المسار العاطفي الحالات المزاجية والعواطف التي تُستحضَر نتيجة المدخلات. ويشير مسار الإثارة إلى المستويات الحالية من الاستثارة الفسيولوجية وكذلك أي إثارة منتقلة ناتجة عن المتغيِّرات الشخصية والموقفية. أما المسار الإدراكي فيَشمل التمهيد وصناعة الأفكار والنصوص والشبكات المرتبطة بالمدخلات. وعلى غرار مفهوم الحتمية المتبادَلة، ترى نظرية النموذج العمومي لوسائل الإعلام أن المسار العاطفي ومسار الإثارة والمسار الإدراكي متصلة اتصالًا بينيًّا تبادليًّا. أي إنَّ كل مسار يؤثر — ويتأثَّر — مباشرةً بالمسارات الأخرى. فمثلًا يمكن للمشاعر الجنسية أن تزيد من الأفكار الجنسية، وهو ما يرفع بدوره من مُستوى الإثارة الجنسية التي تؤثِّر هي الأخرى في المشاعر الجنسية.
بعد معالجة المعلومات عبر مسارات الحالة الداخلية، يُقيَّم الموقف الحالي. وبما أن التمهيد وتفعيل الشبكة ونقل الإثارة وما شابه قد تمُّوا بالفعل، فإن عملية التقييم قد تنحاز تبعًا لميول الحالة الداخلية. وعليه، فقد تَعكس القرارات الخاصة باختيار السلوك وما يلي ذلك من تفعيله هذا الانحياز. إلا أن قرار تفعيل سلوك ما (سواء أكان منحازًا أم لا) لا يُتخذ إلا بعد تقييم المعلومات من خلال عمليتَين للتقييم: عملية فورية وأخرى متأنية. تقيس عملية التقييم الفورية المشاعر المحسوسة ونوايا الأطراف المشتركين في الموقف الحالي وأهدافهم. كذلك فإن عملية التقييم الفورية تلقائية وغير واعية، وإن استمرَّت عملية التقييم دون تمحيص (لانعدام سبل ذلك مثلًا)، فسيليها الفعل التلقائي. لكن إن توفَّرت الوسائل الكافية لذلك و(أ) إن بدا أن القرارات المبنية على التقييم الأوَّلي لا تعطي نتائج مُرضية، أو (ب) إن كان الموقف يتضمن قرارات مهمة فستحدث عملية إعادة تقييم. وخلال إعادة التقييم التي أصبحت الآن واعية يَجري البحث عن معلومات جديدة، ويُعاد تقييم سبل التصرُّف الممكنة وتُسترجع القرارات السابقة إلى الذهن. ويُشار إلى السلوك الناتج عن إعادة التقييم بالفعل المتأني. وأخيرًا يتَّسم النموذج العمومي لوسائل الإعلام بسمات دورية تطبق دورة تغذية استرجاعية. وعلى وجه الخصوص، بعدما يقع الفعل التلقائي أو المتأني فإن التجربة الاجتماعية الراهنة تصير في الحقيقة مدخلًا في المعاملة الجارية. وبهذا تتمُّ الدائرة السلوكية؛ حيث تؤثِّر التعاملات الجارية في المتغيرات الشخصية والموقفية وتبدأ الدائرة من جديد.
والآن سنتناول كيفية تعامل النموذج العمومي لوسائل الإعلام مع الموقف التالي: سوزي فتاة مُتعاونة بخلاف العادة، تُشاهِد حلقة من برنامج «عالم سمسم» (سيسمي ستريت) يساعد فيها الطائر العملاق صديقه كعكي في البحث عن كعكاته المَفقودة. عندها تلاحظ سوزي — المسترخية وقتها — أن أخاها بوبي يبحث عن حذائه المفقود. طبقًا للنموذج العمومي لوسائل الإعلام فإن المتغيِّرات المدخلة عند سوزي سوف تشمل متغيِّرًا شخصيًّا يعج بالنصوص الاجتماعية الإيجابية والموقف الإيجابي من مساعدة الآخرين. ويُمثِّل البرنامج التليفزيوني متغيرًا موقفيًّا، وهو في هذه الحالة متغيِّر يؤكِّد على السلوك التعاوني. ومن شأن الاتفاق بين المتغيِّرَين الشخصي والموقفي أن يُنشط مسارات الإدراك والعاطفة والاستثارة المتعلِّقة بالأفعال الاجتماعية الإيجابية. والأغلب أن سوزي ستُساعد بوبي في بحثه عن الحذاء؛ حيث تتمخَّض عمليتا التقييم وإعادة التقييم كلتاهما عن السلوك التعاوني. وسيؤثِّر سلوك سُوزي التعاوني بدوره على مُتغيِّراتها الشخصية بتعزيز سيناريوهات تقديم المساعدة المترسِّخة لديها بالفعل.
(٩) نقاط مهمَّة من منظور النمو
لا تَقتصِر نظريات النمو في الأساس على تفسير مسار النمو، بل أسباب التغيرات في مرحلة النمو. فهل تتحقَّق في أي نظريات الإعلام التقليدية التي استعرضناها معايير نظريات النمو؟ لا! إذ يغيب عن كلٍّ من النظريات المذكورة الفرضيات التي تُناقش التأثير الإعلامي في سياق التغيُّرات الجسمانية والإدراكية والاجتماعية والعاطفية التي تحدث خلال النمو. ورغم أن النظريات المذكورة أعلاه ليست نظريات خاصة بالنمو والنشأة، فإن النتائج المتوصَّل إليها والمتعلِّقة بالنمو يُمكن دمجُها في فرضياتها من أجل وضع تنبؤات قائمة على التأثير الإعلامي على النَّشء في مختلف الأعمار.
ولنُوضِّح هذه المسألة، هيا بنا نتناول إحدى مراحل النشأة التي يكون فيها النشء أكثر قابلية للتأثُّر بالإعلام، ألا وهي أوائل المراهقة؛ فأوائل المراهقة مرحلة تغيرات واضحة؛ إذ يجب على النشء أن يتكيفوا مع التغيرات الجسمانية التي يمرُّون بها، والزيادة في المشاعر الجنسية والتحديات التعليمية والتحديات الاجتماعية العاطفية في المدرسة، والتغيرات في علاقاتهم بالآباء والأقران. وعلى الرغم من أن معظم المُراهِقِين يُحسنون التأقلم مع هذه التحديات، فإن أوائل المراهقة مرحلة تزيد فيها المشاعر السلبية والاكتئاب (ستاينبرج، ٢٠٠١). وتشير أبحاث إضافية إلى أن مستويات التعرُّض للاستثارة الفسيولوجية في أوائل المراهقة أكبر من مستوياتها عند الأطفال الأصغر أو المراهِقين الأكبر سنًّا (سبير، ٢٠٠٠). كذلك يفقد النشء في أوائل المُراهَقة نصف الوصلات العصبية القشرية الحديثة السابقة للبلوغ، وهو ما يُؤدِّي في النهاية إلى زيادة كفاءة الدماغ بعد البلوغ. لكن بهذا يكون دماغ النشء في أوائل المراهقة قد تعرَّض لتقليم محدود في الوصلات العصبية، وهو ما يُقلِّل من قدرته على اتخاذ القرارات السليمة (براونلي، ١٩٩٩). وطبقًا لأبحاث يورجلن تود (١٩٩٨) حول التصوير الدماغي فإنَّ النشء في أوائل المراهقة يَستجيبون للمواقف المحمَّلة عاطفيًّا بنشاط إدراكي أقل من الأفراد الأكبر سنًّا، وهو ما قد يؤدي إلى ردود أفعال اندفاعية تلقائية.
والآن، وبعد أن اطَّلعنا على هذه المعلومات، هيا بنا نتناول التأثير المحتمل للتعرض للإعلام على عمليات النموذج العمومي لوسائل الإعلام في أوائل المراهقة. فالاستثارة الفسيولوجية الزائدة التي يتعرَّض لها النشء في أوائل المراهقة ستتفاعل مع استثارة الحالة الداخلية التي يسببها الإعلام لتكون مستوًى متراكمًا من استثارة الحالة الداخلية أعلى منه في مراحل أخرى من النمو. وعلى الرغم من أن الإعلام يُفعِّل نصوصًا وينشط شبكات إدراكية ويمهِّد أفكارًا معينة فإن مواطن القصور الإدراكي التي يعاني منها النشء في أوائل المراهقة ستُحدُّ من تأثير المسارات الإدراكية للحالة الداخلية على عمليات النموذج العمومي لوسائل الإعلام اللاحقة. وفي المقابل ستكون المسارات العاطفية للنموذج قويةً جدًّا في السنوات الأولى للمراهَقة، وبهذا ستولد وسائل الإعلام أقوى استجابة عاطفية في مرحلة النمو هذه. ونتيجة لمَحدودية الموارد الإدراكية وارتفاع مستويات الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية، فإن احتمال إعادة التقييم يقلُّ في أوائل المراهقة عن المراحل الأخرى. وفي النهاية وبالمقارنة بمراحل النمو الأخرى ستؤدِّي هذه التغيُّرات إلى انشغال المراهقين بالفعل التلقائي أكثر من الفعل المتأني.
تذكر أن نظريات الإعلام تُتيح تفسير السلوك والتنبؤ به والسيطرة عليه. وكما يبين المثال المذكور فإن قدرة أي نظرية على تحقيق هذه الأهداف تزداد عندما توضع قضايا النمو في الاعتبار. كما أن دمج مفاهيم النمو في النظرية يُساعد علماء الاجتماع على تحديد المسارات البحثية التي لم تُستكشَف تمامًا بعد.