الفوائد الطبية والاجتماعية لاستخدام وسائل الإعلام
«صُفعتُ!» بينما أخذ الألم في وجهي يخبو، وبعد أن حاربتُ الرغبة في إصدار قرار بالحرمان من اللعب حتى نهاية العام، سألتُ بهدوء ابني الذي كان وقتها في السنة الأولى لماذا صفَعني لتوِّه. فرد: «أبي، هذا ما يفعلونه في التليفزيون ليَمنعوا شخصًا من الهلع.» على ما يبدو وعلى عكس ما أتوقَّع فإن تعبيرات وجهي الهزلية التي نظرتُ بها إليه لم تكن مسلية له كما ظننت. بل إن ابني رآها سببًا يَدعو للقلق وتصرَّف على هذا الأساس. بعد هذا الموقف، أُذيع إعلان لسيارة ليكزس آر إكس ٣٣٠ إصدار ٢٠٠٤، وبينما كنت جالسًا أشاهد التليفزيون بدأ الألم في وجهي يَختفي. من هذه الطرفة يُمكننا الخروج باستنتاجين؛ الأول: أن التليفزيون قد علَّم ابني أنه من المُهم أن يتصرَّف تصرُّفًا اجتماعيًّا إيجابيًّا عندما يكون الآخرون في حاجة نفسية، والفضل يرجع لبرنامج «الثلاثي المرح» (ثري ستوتج). أما الثاني: فهو أن استخدام وسائل الإعلام يمكن أن يؤثر في الإحساس بالألم. إن الحكايات الطريفة غاية في الظرف، لكنها ليست بديلًا للأبحاث. بهذا القول هيا بنا نرى ماذا تقول الأبحاث الحقيقية عن الفوائد الطبية والاجتماعية لاستخدام وسائل الإعلام:
(١) تخفيف الألم من خلال الإلهاء القائم على وسائل الإعلام
يُعد التعامل مع الألم عنصرًا مهمًّا في أي علاج طبي يتعلَّق بالنشء. فالألم، وما يتبعه من توقُّع للألم خلال العمليات يُمكن أن يؤدي للقلق والخوف عند الأطفال والمُراهِقين. فمثلًا، بعد تطعيم الرضَّع تبيَّن أنهم يربطون بين الممرضات والألم؛ ومن ثَم يبكون عندما يرون مُمرِّضة في زيها. فمن إدخال إبر الحقن إلى أعمال الأسنان، يُمكن للألم الناتج عن الإجراءات الطبية أن يدفع النشء إلى تجنُّب العلاج أو المعاناة خلال الإجراءات الطبية، ومن ثَم يُخاطرون بصحَّتهم في الحاضر أو المستقبل. فضلًا عن أن الإجراءات الطبية المسببة للألم تُثير الخوف والقلق وفي بعض الأوقات تسبب صدمة نفسية؛ لذا فإن تقليل الألم المحسوس خلال الإجراءات الطبية صار جزءًا أساسيًّا من الرعاية الطبية. علاوة على ذلك، ونتيجة لأن العقارات المخدِّرة لها آثار جانبية غير مرغوبة، فقد وُضعت الأساليب غير الدوائية التي تؤثر في الإحساس بالألم تحت الدراسة لعقود.
إن الإحساس بالألم عملية ذاتية يتحكَّم فيها حجم الانتباه الموجه لمدخلات الحواس المؤلمة في مستوى الألم المحسوس (جولد وكيم وكانط وجوزيف وريزو، ٢٠٠٦). وعليه ففي أثناء الإجراءات الطبية المُؤلمة، فإن الأنشطة التي تجذب انتباه النشء، ومن ثَم تُلهيهم عن التركيز على الألم، لها القدرة على تقليل سوء التجربة؛ فالتنفُّس العميق ونفخ الهواء والمحادَثات مع الأشخاص المفضَّلين كلها أساليب للتشتيت استُخدمت بنجاح لتقليل الألم عند الأطفال والمُراهقين (نوجوتشي، ٢٠٠٦). واتجه الباحثون مؤخرًا إلى ألعاب الفيديو والتليفزيون والموسيقى لإلهاء النشء في أثناء الإجراءات الطبية المؤلمة.
(١-١) الأبحاث على الرضع
على عكس الأطفال والمُراهِقين، ليس في وسع الرضَّع الكلام أو التقييم أو التعبير عن مقدار الألم الذي يَشعُرون به؛ لذا فإن المؤشرات النفسية والسلوكية للضغط العصبي كارتفاع معدل نبضات القلب وانخفاض مستوى التشبُّع بالأكسجين وتعبيرات الوجه تُستخدم لمعرفة وجود الألم (بو وكالاهان، ٢٠٠٠). وحتى الآن أُجريَت تجارب قليلة على عينات من الرضَّع، وتضمن كل منها ملهيات موسيقية. وتراوح نوع الموسيقى المشغَّلة خلال هذه التجارب من دراسة لأخرى؛ فقد تعرض الرضع إلى الموسيقى الكلاسيكية والغناء الصوتي دون الآلات والموسيقى المحتوية على أصوات من الرحم (مثل نبض القلب الإيقاعي من خلال حبل سري). وبصرف النظر عن نوع الموسيقى المستخدمة فإن النتائج كانت ثابتة بصورة عجيبة؛ فالاستماع للموسيقى خلال الإجراءات الطبية المؤلمة يقلل من استجابات الرضع المتعلِّقة بالألم. كما أن فاعلية الموسيقي في تخفيف الألم زادت عندما استُخدمت مع أساليب أخرى للعلاج غير الدوائي؛ مثل المص لغير التغذية (أي استخدام مصاصة؛ سينياكو وآخرون، ٢٠٠٧). وفي ضوء هذه النتائج، ينبغي للأبحاث المستقبلية أن تتناول ما إذا كانت وسائل الإعلام الإلكترونية الأخرى المصمَّمة لجذب انتباه الأطفال، من خلال الأصوات والصور، لها فاعلية أكبر في تقليل الألم من الموسيقى وحدها.
(١-٢) الأبحاث على الأطفال في مرحلتَي تعلم المشي وما قبل المدرسة
إلى الآن لم تتناول أي دراسة الآثار المسكِّنة لوسائل الإعلام خلال سنوات تعلم المشي. هذا إضافة إلى أن الأبحاث المُجراة على الأطفال فيما قبل المدرسة عجزت عن دعم الاعتقاد بأن المُلهيات من وسائل الإعلام وحدها يمكن أن تُقلِّل الإحساس بالألم خلال علاج الأسنان أو تلقي التطعيمات (أتكين وسميث وروبرتو وفيدوك وواجنر، ٢٠٠٢؛ نوجوتشي، ٢٠٠٦). لسوء الحظ فإن الدراسات التي بيَّنَت وجود أثر مسكِّن لوسائل الإعلام على النشء في أوائل الطفولة تضمَّنت عيِّنات من نطاقات عمرية واسعة (١–٧ سنوات مثلًا؛ ماكلارين وكوهين، ٢٠٠٥). كذلك في كلٍّ من هذه الدراسات زاد عدد الأطفال الأكبر سنًّا عمن هم أصغر سنًّا. ونتيجةً لأن الأبحاث السابقة قد بيَّنت أن الأطفال الأصغر سنًّا يَشعُرون بعُسر أكبر في أثناء الإجراءات الطبية المؤلمة من الأطفال الأكبر سنًّا (ماكلارين وكوهين) فإن الاحتمال القائم هو أن التأثير الملاحَظ سببه الأطفال الأكبر سنًّا. بل يبدو أن الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يزداد ضيقهم عند الشعور بالألم لدرجة أنهم لا يملكون الوسائل المناسبة لتحويل انتباههم — بأنفسهم — إلى مصدر إلهاء إعلامي. ومما يدعم هذا الرأي أن كوهين وزملاءه (كوهين وبلونت وبونوبولوس، ١٩٩٧) توصَّلوا إلى أن مشاهدة أفلام الكارتون في أثناء الإجراءات الطبية قلَّل بالفعل من إحساس الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة بالألم إذا صاحبها تذكير مستمر من شخص بالغ بالتركيز على المحتوى التليفزيوني أمامهم (كوهين وآخرون، ١٩٩٧). وتُشير هذه النتائج معًا إلى أنه في أثناء الطفولة المبكِّرة، فإن الجمع بين مصادر الإلهاء الإعلامي والتوجيه قد يؤدِّي إلى تقليل الإحساس بالألم.
(١-٣) الأبحاث على النشء في الطفولة المتوسِّطة والمراهقة
فيما يخص الطفولة والمراهَقة، بيَّنت دراسات عديدة فوائد مشاهدة التليفزيون والاستماع إلى الموسيقى وممارسة ألعاب الفيديو على الشعور بالألم الملاحَظ والمُعبر عنه كليهما. فمثلًا، فيما بين سن الثامنة إلى الثانية عشرة، قلَّ الشعور بالألم الناتج عن تركيب القُنيَّة الوريدية نتيجة ممارسة لعبة فيديو تعتمد على الواقع الافتراضي (جولد وآخرون، ٢٠٠٦). جدير بالذكر أنه بعكس ألعاب الفيديو التقليدية، فإن الواقع الافتراضي يُتيح للنشء التفاعل مع شخصيات اللعبة في بيئة غامرة ثلاثية الأبعاد على درجة عالية من التأثير البصري تتضمَّن عروضًا مجسمة؛ لذا فإن اللاعب في الواقع الافتراضي يجرب الحركة في بيئة افتراضية بدلًا من مشاهَدة شخصية حاسوبية تفعل الشيء نفسه. وبينت دراسة أخرى أنه فيما يخص النشء فيما بين سن السابعة والثانية عشرة، فإن الشعور الذاتي بالألم قل في أثناء مشاهدة أفلام الكارتون (بيلييني وآخرون، ٢٠٠٦). يبدو أن لمصادر الإلهاء المعتمدة على الإعلام فاعلية خاصة في تقليل الألم والقلق المصاحبَين للحقن الوريدي والتطعيمات. إلا أن وسائل الإعلام يبدو أنها غير فعالة في تقليل الألم في أثناء الإجراءات الطبية التي يكون فيها الألم أشد أو مستمرًّا لوقت أطول، مثل تطهير الجروح من الأنسجة الميِّتة (لاندولد ومارتي ووايدمر ومولي، ٢٠٠٢). فلكي تكون وسائل الإعلام ملهيًا فعالًا في مثل تلك الحالات، فربما يكون من الضروري أن يدخل النشء في حالة من الوعي الموازي المستخدم فيها وسائل الإعلام.
(١-٤) الإلهاء من خلال الانهماك والاستغراق
تُعرَّف حالة الوعي المُوازي بأنها أي حالة تختلف عن حالة اليقظة الطبيعية. ويُمكن إنتاج تلك الحالات من خلال التنويم المغناطيسي أو التأمل أو تناول المخدرات أو النوم. وبصفة عامة فإنه عندما يدخل الفرد في حالة من الوعي الموازي فإن المدركات الواعية كالألم يمكن تجاهلها بصورة فعالة. ويُمكن لاستخدام وسائل الإعلام وبالأخص ألعاب الفيديو أن تؤدِّي إلى نوعَين مختلفين من الوعي البديل؛ الانهماك والاستغراق. فعندما يكون الإنسان في حالة من الانهماك النفسي يتعطَّل الاندماج التقليدي بين المشاعر والإدراك والتجارب. أي إنَّ العالم الواقعي لا يخضع للمعالجة أو التفكير أو الإحساس بالصورة المعتادة؛ ومن ثَم لا يُلاحظ في الأغلب. كما أن الفرد عندما يكون منهمكًا في مهمة، يَصير في حالة تركيز حاد ويكون أقل إدراكًا لحالاته العاطفية الحالية (بما يشمل الحالات المُرتبطة بالقلق) وغير مدرك للزمن. أما الاستغراق فيشبه الانهماك من حيث إن الانتباه فيه يتركَّز على المهمة المباشرة والإحساس بالزمن مشوش (يمرُّ بلمح البصر مثلًا). لكنه بعكس الانهماك (الذي يمكن فيه للعواطف السلبية كالإحباط أن تتسرَّب إلى الوعي) فإن الأفراد في حالة الاستغراق يَشعرون بإحساس غامر بالسعادة والنجاح الغير المسبوق في أثناء أداء مهمة. وعندما يكون الإنسان في حالة الاستغراق، التي يُشار إليها دائمًا بحالة «التركيز الكامل»، تبلغ المهارات البدنية والإدراكية للفرد أقصاها وتُقابل التحديات الصعبة بسهولة نسبية (فونك وتشان وبرور وكيرتس، ٢٠٠٦). وبصورة عامة يُعتقد أن الأشيع بين الناس أن يكونوا في حالة انهماك لا استغراق؛ لذا وفي الإجراءات الطبية المؤلمة على وجه خاص فإن توفير الوقت الكافي للنشء ليَنهمِكوا في لعبة فيديو ربما يكون السبيل الأكثر فاعلية في تقليل الإحساس بالألم من خلال استخدام وسائل الإعلام.
• المتطلبات الإدراكية والحركية لممارسة اللعبة تستدعي الانتباه. |
• يُمكن ضبط مستوى صعوبة اللعبة على المستوى الشخصي لزيادة اهتمام المستخدم. |
• ألعاب الفيديو تجذب معظم الأطفال والمراهقين. |
• القدرة على إحداث حالة من الوعي الموازي. |
(١-٥) الألم وألعاب الفيديو: أهي وصفة للنجاح؟
(٢) فوائد طبية أخرى لمُمارسة ألعاب الفيديو والواقع الافتراضي
ذكر جريفيثس (٢٠٠٣) دراسات عديدة استُخدمت فيها ألعاب الفيديو لتُساعد الأطفال والمراهقين على التعامل مع ظروف طبية ونفسية متنوعة؛ إذ استُخدمت ممارسة الألعاب باعتبارها علاجًا طبيعيًّا لمساعدة مراهق في سن الثالثة عشرة على التعافي من إصابةٍ في الذراع. وبيَّنت أبحاث أخرى أن حدة الاندفاع عند أربعة مُراهِقين قد خفَّت بعد شهر من ممارسة ألعاب الفيديو. فضلًا عن أن استخدام نظام لألعاب الفيديو ممسوك باليد (مثل نينتندو دي إس) تبين أنه منع صبيًّا من نتف شفَتِه العليا بأصابعه على نحو هوسي (جريفيثس، ٢٠٠٣). واقتُرحت ممارسة ألعاب الفيديو في أثناء العلاج النفسي للمُساعَدة في بناء العلاقة بين الطفل والمعالج وإلقاء بعض الضوء على الاستراتيجيات التي يستخدمها الطفل لحل المشكلات (جاردنر، ١٩٩١). بل إن ألعاب الكمبيوتر ساعدت الأطفال فيما قبل المدرسة المصابين بالربو على تعلُّم الاستخدام السليم لمقياس التنفُّس (وهو جهاز لقياس أداء الرئتين؛ فيلزوني وآخرون، ٢٠٠٥). وفي تاريخ أقرب، أوضح بارسونز وزملاؤه (بارسونز ولينارد وميتشيل، ٢٠٠٦) فعالية الواقع الافتراضي في مساعدة مراهقَيْن اثنين في التغلب على اضطراب طيف التوحُّد.
يُشير اضطراب طيف التوحد إلى عدد من الاضطرابات النفسية، كالتوحد ومتلازمة ريت ومتلازمة أسبرجر، التي تتميَّز بالنقص الكبير في مستوى التفاعل والتواصل الاجتماعي، وغالبًا ما يُصاحبها سلوكيات تكرارية (كقلب اليد ودورانها). وفيما يخص المواقف الاجتماعية، يواجه النشء المصابون باضطراب طيف التوحد صعوبةً في بدء التعاملات مع الآخرين واستمرارها. كما أن النشء المصاب باضطراب طيف التوحُّد يعجزون بصفة متكرِّرة عن فهم التعبيرات العاطفية والتلميحات والقواعد الاجتماعية الضرورية للنجاح في المواقف الاجتماعية. وقد يؤدِّي هذا العجز إلى العزلة الاجتماعية والقلق. ويعتقد بعض الباحثين في مجال اضطراب طيف التوحد أنه يمكن من خلال التعليم التكراري تقليل القصور في المهارات الاجتماعية المصاحب للاضطراب، وهنا يأتي دور الواقع الافتراضي؛ إذ يُتيح الواقع الافتراضي للنشء المصاب باضطراب طيف التوحُّد التفاعل مع أشخاص افتراضيين في بيئة ثلاثية الأبعاد تُحاكي المواقف الاجتماعية في الحياة الواقعية. فمثلًا يُمكن للنشء أن يُحاولوا الانضمام إلى محادثة في أثناء الغداء أو في أثناء انتظار الحافلة. تتيح هذه المواقف الافتراضية للنشء المصاب باضطراب طيف التوحد الممارسة المتكررة للمهارات الاجتماعية في المواقف التي بطبيعتها تسبب لهم الارتياع ومن دون المخاطرة بالرفض في الواقع. كذلك يمكن للمعالجين الميسرين أن يجلسوا بجانب النشء المصاب في أثناء غَزوهم لعالم افتراضي من أجل مناقشة الخيارات السلوكية المحتمَلة والنتائج المصاحبة لها (بارسونز وآخرون، ٢٠٠٦).
من الواضح أن ممارسة ألعاب الفيديو والواقع الافتراضي تُوفر فرصًا فريدة للعلاج الطبي والنفسي تتجاوَز تلك المتاحة في عالم الواقع. ومع تقدم التكنولوجيا فإن تطبيق ألعاب الفيديو والواقع الافتراضي على الحالات الطبية والنفسية سيزداد. إلا أنه وفي الوقت الحالي فإن الأبحاث التي تدعم هذه التدخلات المبنية على استخدام ألعاب الفيديو محدودة. وعلى الرغم من النتائج المثيرة المذكورة، فإن البيانات كانت مستمدة من دراسات حالة باستثناء بحث مقياس التنفس. وعلى الرغم من أن دراسات الحالة تُوفِّر قدرًا كبيرًا من المعلومات عن المشاركين الخاضعين للدراسة، فإن النتائج تفتقر للدرجة الكافية من التعميم التي تضمَن التطبيق الواسع لتلك النتائج على الفئة الكلية. فمثلًا، يمكن للواقع الافتراضي أن يساعد عددًا محدودًا فقط من النشء في الطيف التوحُّدي، مثل أولئك الذين يتمتعون بمعدل أداء عالٍ؛ ومن ثَم يمتلكون بالفعل بعض المهارات الاجتماعية الأساسية. فضلًا عن أن الأبحاث المطروحة لم ينظر أي منها لمرحلة النمو في تقييماتها. فربما تختلف فعالية الأساليب المختلفة المرتبطة بألعاب الفيديو والواقع الافتراضي باختلاف السن.
(٣) الفوائد السلوكية لوسائل الإعلام المشجعة على السلوك الاجتماعي الإيجابي
بعد إطلاق النار على ١٢ طالبًا وقتلهم في مدرسة كولومبين الثانوية عام ١٩٩٩، تناولت الصحف عبر البلاد الأسباب المحتملة وراء هذه الحادثة المؤسفة. ولمدة ما اعتُبرت ألعاب الفيديو العنيفة سببًا رئيسيًّا. لكن عندما أوقف طالبان في المرحلة الثانوية حافلتهم بعد أن أُصيب السائق بأزمة قلبية (وأُصيب ببعض الإصابات الطفيفة في أثناء ذلك)، وعندما فعل تلميذ بالمرحلة الابتدائية الشيء نفسه بعد أن فقد سائق الحافلة وعيه، لم يتناول خبر واحد الإسهام الإيجابي لوسائل الإعلام في هذه الأعمال البطولية. فهل يُمكن أن تكون ألعاب الفيديو التي تحاكي القيادة مثل لعبة «جراند توريزمو ٤» قد ساعدت هذا النشء على تعلم التعامل مع مواقف القيادة المتوتِّرة؟ فنشر الأخبار عن تأثير وسائل الإعلام على السلوكيات الاجتماعية الإيجابية شيء، وبيان هذا التأثير من خلال الأبحاث شيء آخر.
وكما تتذكر أيها القارئ من الفصل السابق، فإن النشء يرون السلوك الاجتماعي الإيجابي على التليفزيون من خلال البرامج التعليمية المعلوماتية، وتتشكل في أثناء ذلك سلوكيات كالمشاركة واحترام الذات ومساعدة الغير. فمثلًا في قناة أفلام الكارتون التي تعرض مسلسل «كريبتو الكلب الخارق» (كريبتو ذا سوبر دوج) يجري بيان أهمية التعاون ومساعدة الأصدقاء من خلال مِحَن يخوضها كلب يتمتع بقدرات خارقة. أما البرامج الأخرى مثل «توتنشتاين» و«فيل من المستقبل» (فيل أوف ذا فيوتشر) فتُصوِّر المصاعب والأزمات اليومية التي يمرُّ بها الأطفال والمُراهِقون (والمومياوات أيضًا في حالة توتنشتاين). وفي نفس الوقت فإن هذه البرامج تعرض كذلك سلوكيات التعاون وحل المُشكلات ذات الصلة. لكن قبل أن نَتناول تأثير الإعلام المشجع على السلوك الاجتماعي الإيجابي عبر النمو من المُهم أن نفهم المتطلِّبات الإدراكية اللازمة لتعلم السلوكيات الاجتماعية الإيجابية من نماذج التليفزيون (و/أو غيره من وسائل الإعلام).
(٣-١) المتطلبات الإدراكية للتعلم الاجتماعي الإيجابي
من منظور النمو، يبدو التعلم من وسائل الإعلام المشجعة على السلوك الاجتماعي الإيجابي مختلفًا عن التعلم من وسائل الإعلام التعليمية؛ فالبرامج التعليمية مثل «عالم سمسم» و«بيل ناي رجل العلوم» تقدم المواد الدراسية في صورة مجلة تتضمَّن حلقات تعليمية منفصلة. وتُقدم المواد الدراسية بأسلوب مباشر: علِّم وتعلَّم، إن جاز التعبير. في المقابل تُقدِّم معظم وسائل الإعلام المشجعة على السلوك الاجتماعي الإيجابي رسالتها عن الخير في صيغة سردية، تُنقل فيها الرسائل الاجتماعية الإيجابية عبر الزمن مع وجود «رسالة نهائية» مدمجة تظهر في نهاية الحلقة؛ لذا ومن أجل تفسير هذه الرسائل وفهمها، يجب على الأطفال أن يتمكنوا من الآتي: (أ) التعرف على المعلومات الأساسية المتعلقة بالفكرة الجوهرية للقصة (مثلًا: من الخطأ الإضرار بسمعة صديقك من أجل تولي رئاسة الفصل)، مع تجاهل تفاصيل البرنامج التصادفية والجانبية في الوقت ذاته (مثلًا: منبر حملة انتخابات الفصل). (ب) ترتيب المعلومات ذات الصلة بالفكرة الجوهرية في صورة نص (مثلًا: تفصيل تتابع الأحداث). (ﺟ) التعرف على مشاعر الشخصية ودوافعها وهو ما يمكن استنتاج بعضٍ منه من خلال الأحداث (مثلًا: تنكيس الرأس علامة على الخزي)، دمج عناصر القصة المترابطة لكن المنفصلة في تتابعات سببية (مثلًا: ترقية بطل الرواية الشريرة لنفسه دون تورُّع يُبعده عن أعز أصدقائه).
أما فيما يتعلق بالبرامج المخصَّصة لسن معينة، يستطيع النشء أن يتعرفوا بنجاح وبصورة مباشرة على المحتوى الجوهري المعروض عند بلوغ الخامسة أو السادسة من العمر. فمثلًا وجد روزنكوتر (١٩٩٩) أن معظم الطلاب في السنتين الدراسيتَين الأولى والثالثة استوعبوا مجموعة من الأفكار الأخلاقية في حلقة من مسلسل «عائلة كوزبي» (ذا كوزبي شو) تتضمَّن شجارًا وسرقةً وتسامُحًا ومشاركة. إلا أن طلاب السنة الأولى حققوا قدرًا أقلَّ بكثير من النجاح مقارنةً بنُظَرائهم في السنة الثالثة في فهم الفكرة الأخلاقية الوحيدة في حلقة من مسلسل «بيت مُمتلئ» (فول هاوس). ربما لا يزال على النشء المقبلين على مرحلة الطفولة المتوسِّطة أن يكتسبوا مهارات تفسير الإعلام بدرجة تعقيد كافية ليفهموا كل الحبكات بصفة مُستمرة، حتى وإن لم يكن يوجد سوى حبكة واحدة أساسية في القصة. وقد بين المزيد من الأبحاث أن القدرة على الملاحظة الصحيحة للمحتوى الرئيسي تتحسَّن بدرجة كبيرة من السنة الدراسية الثانية إلى الخامسة (كولنز، وويلمان، وكينستون وويتسبي، ١٩٧٨). بناءً على هذه النتيجة فإن عدم الاتساق الملحوظ في الدراسة السابقة ليس غريبًا تمامًا. وتحدث تطورات مماثلة في القدرة على الترتيب السليم لأفكار القصة الرئيسية بين السنتين الأولى والثالثة (وهي التي تظلُّ مستقرة خلال باقي مرحلة الطفولة المتوسطة). إلا أن القدرة على التعرف على المحتوى الضمني (أي المحتوى المفهوم المرافق للقصة الرئيسية الذي لا يُعرض بطريقة مباشرة)؛ كحالة العواطف والدوافع، فلا تظهر إلا عند سن العاشرة؛ لذا ومع النمو فإن القدرة على استنتاج العواطف والدوافع من المحتوى الضمني والمباشر تتحسَّن، وكذلك القدرة على فهم الحبكات الأكثر تعقيدًا (كالفرت وكوتلر، ٢٠٠٣).
إذا كان سلوك الأطفال والمراهقين يتأثَّر ببرامج التليفزيون المشجعة على السلوك الاجتماعي الإيجابي فإن على النشء — كما بينَّا سابقًا — أن يفهموا ويتذكروا المحتوى التليفزيوني الاجتماعي الإيجابي. إلا أن هذه القدرات على الرغم من أنها ضرورية للتأثير في السلوك فإنها ليست كافية للتأثير في تفضيلات السلوك أو تسبب تغيرًا في السلوك؛ إذ إنه عندما تسنح الفرصة للتصرف يحتاج النشء لوجود الدافع للتصرف تصرفًا اجتماعيًّا إيجابيًّا (باندورا، ١٩٨٦). بصيغة أخرى، فإن معرفة كيفية الانخراط في تصرفات اجتماعية إيجابية لا يجعل النشء بالضرورة يتصرفون بطريقة اجتماعية إيجابية. فضلًا عن أن تَكلِفة المساعدة والمشاركة وغير ذلك يجب أن توضع في الاعتبار عند اتخاذ القرار بشأن الانخراط في السلوكيات الاجتماعية الإيجابية من عدمه. فتكلفة مشاركة البسكويت مثلًا مع الأطفال الآخرين هي أنه بعد الانتهاء من الفعل الاجتماعي الإيجابي، سيكون لدى الطفل كمية أقل من الطعام ليأكله بعدها. جدير بالذكر أن المنافع والمضار المصاحبة للسلوكيات المكتسَبة يُعتقد أنها تؤثر مباشرةً في دوافع الطفل للانخراط في الأفعال الاجتماعية الإيجابية (سميث وآخرون، ٢٠٠٦). إذن فالأطفال عندما يستخدمون وسائل الإعلام لا تقتصر ملاحظتهم على السلوكيات الاجتماعية الإيجابية المُقلَّدة، بل تمتد إلى النتائج المترتبة عليها (الجيدة والسيئة على حد سواء).
(٣-٢) الأبحاث على الرضع والأطفال في مرحلة تعلم المشي
لا يظهر السلوك الاجتماعي الإيجابي قبل بلوغ السنة الثانية من العمر؛ فالأطفال في مرحلة تعلُّم المشي مثلًا يتفاعلون مع شعور زملائهم في اللعب بالضيق من خلال القلق، والأفعال الاجتماعية الإيجابية كالاحتضان أو الاستعانة بمدرس للمساعدة في تهدئة الطفل. إلا أن آيزنبرج وزملاءه (آيزنبرج وفابس وسبينارد، ٢٠٠٦) أشاروا إلى القلة النسبية للأبحاث المجراة على السلوك الاجتماعي خلال مرحلتَي الرضاعة وتعلم المشي. وعليه فليس من الغريب عدم وجود أبحاث عن آثار التليفزيون أو غيره من وسائل الإعلام على الأفعال الاجتماعية في هاتَيْن المرحلتَيْن أيضًا. وبالنظر إلى مقدار المحتوى الإعلامي المشجِّع على السلوك الاجتماعي المتاح للأطفال في مرحلتَي الرضاعة وتعلم المشي فإن انعدام الأبحاث في هذا الموضوع غريب جدًّا.
(٣-٣) الأبحاث على الأطفال فيما قبل المدرسة
على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، قَيَّمَت ٢٠ دراسة تقريبًا تأثير برامج التليفزيون الاجتماعية الإيجابية على السلوك الاجتماعي للأطفال فيما بين ٣ و٥ سنوات. في أغلب الحال تبنَّت هذه الدراسات تصميمًا تجريبيًّا يشاهد فيها الأطفال برنامجًا تليفزيونيًّا يشجع على السلوك الاجتماعي الإيجابي متبوعًا بفترة غير مخططة من «اللعب الحر» يَجري فيها متابعة سلوك الأطفال. وفي بعض الأحيان تجري مقارنة تقابلية لآثار الإعلام الاجتماعي الإيجابي مع آثار المُحتوى المحايد أو غياب المحتوى (أي عند المجموعة القياسية). وفي أحيان أخرى استُخدم الإعلام ذو المحتوى العنيف لأغراض تقابُلية. وبصرف النظر عن المقارنة فإن نتائج هذه الدراسات كانت شديدةَ التشابه؛ أدى المحتوى الإعلامي الاجتماعي إلى زيادة التفاعلات الإيجابية والمشاركة والإيثار مقارنةً بالنشء الذين يتابعون محتوًى آخر (ميرس وودارد، ٢٠٠٧)؛ إذ توصلت زيلنسكا وتشيمبرز (١٩٩٥) إلى أنه بعد مُشاهدة الأطفال فيما قبل المدرسة مقاطع فيديو اجتماعية إيجابية من «عالم سمسم» صاروا أميل إلى مشاركة زملائهم في اللعب وتبادل الأدوار معهم ومساعدتهم والتخفيف عنهم وإبداء التعاون تجاههم مقارنة بالأطفال الذين يُشاهدون مُقتطَفات محايدة من نفس البرنامج.
يُمكن لوسائل الإعلام كما هو واضح أن تؤثر على سلوك الأطفال فيما قبل المدرسة بعد المشاهَدة مباشرة. لكن ذلك لا يعني أن آثار الإعلام الاجتماعي الإيجابي في الطفولة المبكِّرة غير محدودة. فمثلًا رغم أن الأطفال الصغار يمكنهم محاكاة أنواع السلوكيات الاجتماعية الإيجابية نفسها التي يشاهدونها على التليفزيون (كمساعدة صديق)، إلا أن هذا الأثر الإعلامي لا يبدو أنه يتخطَّى هذا السلوك إلى الأنواع الأخرى (غير المُشاهَدة) من السلوكيات الاجتماعية الإيجابية (كالتبرُّع للأعمال الخيرية؛ فريدريك وستاين، ١٩٧٣). إلا أن تأثير الإعلام الاجتماعي الإيجابي على سلوك الأطفال خضع للتقييم بصفة أساسية في زمن فاصل أقل مِن يوم بين مشاهدة وسائل الإعلام وتقييم النتائج (ميرس وودارد، ٢٠٠٧)؛ لذا ولأنَّ تأثير التعرُّض قصير الأمد لهذا النوع من الإعلام عند الأطفال الصغار يميل إلى التبدُّد بمرور الوقت فإن المدة التي تستغرقها الآثار المذكورة غير معروفة. كما أن التأثير طويل الأمد لمُشاهدة المحتوى الإعلامي الاجتماعي على الأطفال لم يخضع للدراسة.
جدير بالذكر أن رسائل الإعلام الاجتماعية الإيجابية ليست كلها مفيدة للأطفال الصغار. بل إن مظاهر التعاون والصراع في نفس الحلقة والأفعال الاجتماعية الإيجابية العدوانية يُنتج كلٌّ منهما عكس النتيجة المرغوبة. يشير العدوان الاجتماعي الإيجابي إلى أفعال المساعَدة والمشاركة التي تتمُّ من خلال استخدام السلوك العدواني. ودائمًا ما يستخدم الأبطال الخارقون هذا السلوك. فمثلًا يستمر باتمان في إنقاذ سكان مدينة جوثام من المجرمين الذين يَهربون حتمًا من مصحة أركام؛ فقد بينت الأبحاث أن رؤية مشاهد العدوان الإيجابي خلال الطفولة المبكرة قد أدت إلى زيادة في السلوك العدواني و/أو تراجع الأفعال الاجتماعية الإيجابية. فرؤية مشاهد الصراع والحسم في «عالم سمسم» مثلًا قد أدَّت إلى تراجُع في السلوك التعاوني في أثناء لعب البِلي بعد المشاهدة (سلفرمان وسبرافكين، ١٩٨٠). وكذلك بعد مشاهدة الأطفال الصغار لأبطال الكارتون الخارقين وهم يُنقذون العالم عبر العدوان الإيجابي فقد تصرفوا بعدوانية أكبر واجتماعية أقل من الأطفال الذين شاهدوا برامج عرَضت سلوكيات اجتماعية إيجابية دون أن يصاحبها أي عدوان (ليس وراينهارت وفريدركسن، ١٩٨٣).
(٣-٤) الأبحاث على الطفولة المتوسطة والمراهقة
مع تقدم الأطفال في العمر، يقلُّ اعتماد الباحثين على جلسات اللعب الحر ويزيد اعتمادهم على مواقف تجريبية محكومة لتقييم السلوك الاجتماعي الإيجابي. فعند استخدام نموذج «للعب الحر» يكون الباحث متأثِّرًا بطبيعة اللعب، سواء كانت تعاونية أو تنافسية أو غير ذلك. ونتيجة لذلك فإن فرص اتباع السلوك الاجتماعي الإيجابي تختلف من جلسة لعب لأخرى؛ فبعض الأطفال المسجل أنهم لا يتصرَّفون بصورة اجتماعية إيجابية ربما يتبعون هذا النوع من السلوك إن سنَحت لهم الفرصة، لكن لعبهم لم يُتِحها لهم. فعند جعل كل الأطفال يتصرَّفون (أو لا يتصرَّفون) بشكل معين يفرض قضية السلوك الاجتماعي الإيجابي على الطفل. وهذا النوع من التجارب يَضمن أن السلوك الاجتماعي الإيجابي لن يحدث إلا إن رأى الطفل أنه من الملائم التصرُّف بهذا الشكل. وعادة ما يتطلب هذا النوع من التجارب أن يشجع النشء أو يثبط سلوك فرد آخر. وتستخدم هذه التقييمات أجهزة مثل آلة «المساعدة-الإضرار» التي تتيح للنشء أن يزيدوا أو يقللوا من صعوبة مهمة يؤديها طفل آخر من خلال الضغط على زر (كولنز وجيتز، ١٩٧٦).
في مرحلتَي الطفولة المتوسِّطة والمراهَقة، بينت الدراسات التي تستخدم اللعب الحر والدراسات التي تستخدم آليات يضعها المختبِر أن الاحتكاك بالإعلام الذي يعرض السلوك الاجتماعي الإيجابي يؤدي إلى تعظيم هذا السلوك مقارنةً باحتكاك النشء بالمحتوى الإعلامي المحايد أو العُدواني أو عدم الاحتكاك بالإعلام؛ إذ توصل كولنز وجيتز (١٩٧٦) مثلًا إلى أنه بالمقارنة بالنشء الذين يُشاهدون وثائقيًّا عن الحياة البرية فإن الأطفال في السنة الدراسية الرابعة والسابعة والعاشرة الذين يشاهدون برنامجًا للبالغين معدَّلًا ليركز على المحتوى الاجتماعي الإيجابي قد ضغطوا على زر «المساعدة» بمعدل أكبر عندما يشاهدون طفلًا يحاول إتمام مهمة. إلا أن نتائج التجارب في مراحل النمو المتأخِّرة تلك ليست بنفس ثبات نظيرتها في سنوات ما قبل المدرسة؛ حيث إنَّ نسبة أكبر من الدراسات لم تظهر أن وسائل الإعلام لها تأثير إيجابي على السلوك الاجتماعي الإيجابي لدى النشء. ومثلما أن نتائج هذه التجارب مُختلطة، لم تظهر دراسات الربط التي أُجريَت على هذه الفئات العمرية سوى ارتباط ضعيف بين معايير السلوك الاجتماعي الإيجابي (كترشيحات المعلِّمين والأقران) واستخدام برامج التليفزيون الاجتماعية الإيجابية (ميرس وودارد، ٢٠٠٧). والواضح أنه مع قلة الدراسات التي أُجريت في رحلة الطفولة المتوسطة، وتلك الأقل التي تتضمن مراهقين، ثمة حاجة لمزيد من الأبحاث قبل أن يمكن وضع تقييم حقيقي من منظور النمو.
(٤) الفوائد النفسية للإنترنت
يقضي المراهقون في تصفح الإنترنت والمراسلات النصية والدردشة على الإنترنت بعضهم مع بعض وقتًا أطول من البالغين (لينهارت ومادن وهتلين، ٢٠٠٥). فهل تؤثر هذه التفاعلات (التي تخلو من أي تواصُل وجهًا لوجه) على صداقات المراهقين وسلامتهم وثقتهم بأنفسهم وتكوين هُويتهم؟ بجانب ذلك، هل تتفاوَت المنافع النفسية لاستخدام الإنترنت عبر النمو؟ فيما يلي الإجابة على هذه الأسئلة:
(٤-١) الصداقة
من أجل الصداقة أكثر من البحث عن المعلومات أو أغراض الترفيه يَستخدم المُراهِقون الإنترنت من أجل التواصُل الشخصي. فمثلًا يستخدم ما يقرب من ٧٥٪ من المراهقين الرسائل النصية عند استخدامهم الإنترنت، وتتَّجه ٨ رسائل من بين كل ١٠ رسائل نصية إلى أصدقاء المدرسة (جروس، ٢٠٠٤؛ لينهارت وآخرون، ٢٠٠٥). لكن هل يدعم هذا التواصُل الكثيف العلاقات القائمة مع الأصدقاء في الحياة الواقعية أم يُضْعِفها؟ وفقًا لفرضية تقليل الصداقة، يؤدي الإنترنت إلى تقليل التقارب المحسوس مع الأصدقاء في الحياة الواقعية. ويُعتقَد أن هذه النتيجة تحدث لأنَّ الإنترنت يُشجِّع على تكوين صداقات شكلية مع الغُرباء تأخذ من الوقت المتاح للصداقات الواقعية. في المقابل ترى فرضية تحفيز الصداقة أن استخدام الإنترنت يعزز علاقات الحياة الواقعية القائمة؛ لأنها تمنح النشء الفرصة لاتباع سلوكيات تُقوِّي الصداقة بسهولة أكبر، مثل التعبير عن المشاعر ومشاركة المعلومات الخاصة (فالكنبرج وبيتر، ٢٠٠٧أ).
فأي الفرضيتَين صحيح: تقليل الصداقة أم تحفيزها؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال جزئيًّا في العِقد الذي أُجريت فيه الأبحاث؛ إذ ذكر فالكنبرج وبيتر أن النتائج التجريبية من تسعينيات القرن العشرين (التي استخدمت عينات من البالغين) رجحت كفة فرضية التقليل. في المقابل فإن الأبحاث على كلٍّ من البالغين والمراهقين التي أُجريت منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ترجح كفة فرضية التحفيز. من اللافت أن السبب في هذا الأثر يبدو أنه توفُّر الاتصال بالإنترنت. فقبل عِقد لم يكن يتوفَّر للكثير من المراهقين الاتصال بالإنترنت في المنزل، وبهذا لم يحدث الاتصال الشبكي مع الأصدقاء الحقيقيِّين بصورة متكرِّرة. وعليه فكلما زاد الوقت الذي يقضيه المراهقون مع الأصدقاء على الإنترنت قلَّ الوقت الذي يقضونه مع الأصدقاء خارج الإنترنت. أما اليوم فقد صار الاتصال بالإنترنت مُنتشِرًا لدرجة أن معظم أصدقاء الإنترنت هم أيضًا أصدقاء خارج الإنترنت.
ذكر فالكنبرج وبيتر أن ٦١٪ من الأطفال الموشكين على دخول مرحلة المراهقة (ما بين العاشرة والحادية عشرة من العمر) و٨٨٪ من المراهقين (ما بين ١٢ و١٦ عامًا) يستخدمون الإنترنت بنية المحافظة على الصداقات القائمة خارج الإنترنت. فضلًا عن أن تبادُل الرسائل النصية على الإنترنت عند هؤلاء النشء مع أصدقاء دراستهم يؤدي إلى زيادة مشاعر التقارب تجاه هؤلاء الأصدقاء. ويبدو أن أثر المحاكاة قوي على نحو خاص عند المراهقين الذين يُعانون من القلق الاجتماعي (ومن ثَم يُعانون صعوبة كبيرة في مشاركة المعلومات الخاصة وجهًا لوجه)؛ إذ إن التلميحات الاجتماعية والعاطفية المخفَّفة على الإنترنت تُتيح للنشء الذي يعاني من القلق الاجتماعي أن يعبر عن مشاعره في بيئة يقل فيها الشعور بالتهديد. إلا أن التواصُل على الإنترنت يبدو أنه لا يساعد المراهقين الذين يصفون أنفسهم بالوحدة في تحسين صداقاتهم الموجودة والمحدودة. فعندما يشترك المراهقون الشاعرون بالوحدة في الدردشة في أغلب الأحوال فهم يتراسلون مع غرباء. ونتيجة لذلك فإن مقدار الوقت المستغرق في التواصل مع الأشخاص المعروفين يَقِل. كما أن الدردشة العامة — عند المراهقين الشاعرين وغير الشاعرين بالوحدة — لا تحسن من مستوى العلاقات القائمة. وترجع هذه النتيجة على الأرجح إلى أن معظم المحادثات في غرف الدردشة العامة تتمُّ مع الغرباء لا الأصدقاء (فالكنبرج وبيتر، ٢٠٠٧أ)؛ لذا تبدو فوائد التفاعلات على الإنترنت مقصورة على التفاعلات مع الأصدقاء.
(٤-٢) السلامة والثقة الاجتماعية بالذات
يُقال إنَّ المراهقين الراضين عن حياتهم (أي إنهم سعداء وراضون بصفة عامة عن الطريقة التي تجري بها الأمور حاليًّا) يتمتَّعون بحس عافية (دينر، ١٩٨٤). أما الثقة الاجتماعية في الذات، وهي من بين مؤثرات عديدة في العافية، فتشير إلى تقييم الفرد لذاته الاجتماعية، بما في ذلك العلاقات مع الأقران وغيرها. فالأفراد الذين يتمتعون بثقة اجتماعية عالية في النفس يَشعرون بالرضا عن علاقاتهم، أما الأفراد المُنخفضو الثقة الاجتماعية بالنفس فلا يَشعرون بالرضا. وتشير نتائج العديد من الدراسات الأخيرة إلى أنَّ تَراسل المُراهقين مع الأصدقاء له تأثير إيجابي على حسن حالهم. واللافت أن الرابط بين المراسَلة النصية وحسن الحال رابط غير مباشر. بل يبدو أن التراسل النصي يعزز أواصر الصداقة، وهو ما يُسهم بدوره في إيجاد شعور عام بحسن الحال. في المقابل فإن التراسل النصي والدردشة مع الغرباء يبدو أنها تُؤثِّر سلبًا على سلامة المراهقين (فالكنبرج وبيتر، ٢٠٠٧أ، ٢٠٠٧ب). يميل النشء الذين ينقصهم الأصدقاء — أكثر من النشء الذين لديهم عدد من الأصدقاء — إلى الحديث مع الغرباء بصورة متكرِّرة على الإنترنت. وتُقلِّل هذه التفاعلات على الإنترنت من الفرص خارج الشبكة للتفاعُل مع الأشخاص المعروفين (إما لتكوين صداقات أو تعزيزها). ومن ثَم فإن غياب الأصدقاء الحقيقيِّين يؤدِّي إلى تقليل مستويات السلامة. جدير بالذكر أنه لا توجد أي أبحاث عن تأثير التراسُل النصي والدردشة على الثقة الاجتماعية بالذات. لكن وبالنظر إلى أن المُراهِقين يُمكن أن يتلقوا ردود أفعال إيجابية وكذلك سلبية على رسائلهم فإن طبيعة رد الفعل على منشوراتهم يُمكنها أن تُعزِّز أو تضر بذاتهم الاجتماعية.
بجانب دراسة تأثير التراسل النصي والدردشة على التركيبات المذكورة، فقد ركَّزت الأبحاث الأخيرة على مواقع التواصُل الاجتماعي مثل ماي سبيس وفيسبوك. فالنشء المُشاركون في هذه المواقع يَنشرون صفحات شخصية على الإنترنت ويَدعون الآخرين للتعليق على منشوراتهم. ويُمكن للصفحات الشخصية أن تتضمَّن صورًا وأوصافًا للذات (كالإعجاب وعدم الإعجاب والأشياء المفضلة)، والموسيقى ومقاطع الفيديو وروابط لأصدقاء في شبكتهم. ويُمكن للصفحات الشخصية أن تكون مفتوحة ليراها الجمهور العام أو مقصورة على شبكة من الأصدقاء. وتتراوح التعليقات المنشورة بين التهاني الإيجابية والرسائل السلبية. وتُشير الأبحاث مؤخَّرًا إلى أن معظم المراهقين (٧٨٪) يتلقون تعليقات إيجابية على صفحاتهم على مواقع التواصل. وليس غريبًا أن المراهقين عندما يتلقُّون تعليقات إيجابية على منشوراتهم فإن ذلك يعزز ثقتهم بأنفسهم وسلامتهم. في المقابل يرتبط التفاعل السلبي بانخفاض مستويات هذه المتغيرات. جدير بالذكر أن عدد الأصدقاء على الإنترنت على مواقع تواصلٍ ما لا يرتبط على ما يبدو بالثقة الاجتماعية في الذات. إذن فنوعية العلاقات (المُقاسة بأسلوب التفاعل) وليس عددها هو ما يُؤثر على ما يبدو في شعور المراهقين تجاه ذواتهم الاجتماعية (فالكنبرج وبيتر وشوتن، ٢٠٠٦).
(٤-٣) استكشاف الهوية
من بين المهام الأساسية في مرحلة المراهَقة استكشاف الهوية؛ حيث تُثير الهوية إلى مجموعة من الجوانب المحدَّدة من النفس تتفاعَل مع البيئة المحيطة (ديهارت وسروف وكوبر، ٢٠٠٤). إذن فالهوية تقدم الإجابة على سؤال «من أنا؟» حيث تعتمد الإجابة على الوضع الذي طُرح فيه السؤال. فالمُراهِقة مثلًا قد تَعتبِر نفسها مشجعة منفتحة في المدرسة وأختًا لطيفة في المنزل وموظَّفة مسئولة في العمل. وخلال المراهَقة يجري استكشاف الهوية من خلال التفاعلات مع الآخرين، وهو ما يُتيح للمراهقين أن يختبروا جوانب مختلفة من النفس في أوضاع مختلفة. ويتيح الإنترنت للنشء أن يستكشفوا الهويات بوسائل غير متاحة عمليًّا في العالم الواقعي؛ فعلى الإنترنت قد يكون النشء صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، غنيًّا أو فقيرًا، لطيفًا أو مزعجًا، متعاونًا أو أنانيًّا، ذكيًّا أو غبيًّا، وهكذا؛ بعبارة أخرى يُمكن تجربة أي هوية تقريبًا (ويمكن تجربة أكثر من هوية في نفس الوقت). كما أن المجهولية النِّسبية على شبكة الإنترنت (في غرف الدردشة العامة مثلًا) تُتيح للنشء أن يجربوا الهويات دون قلق كبير من التبعات الاجتماعية السلبية في الواقع. وتشمل منافذ عملية الاستكشاف هذه المراسلة النصية والدردشة ومواقع التواصل الاجتماعي والمدونات.
(٥) نقاط مهمة من منظور النمو
توجد أبحاث قليلة حاليًّا عن تقليل الألم من خلال الإعلام خلال سنوات تعلُّم المشي. فعندما شارك الأطفال في مرحلة تعلم المشي في الدراسات التجريبية كانوا عادةً مشمولين باعتبارهم جزءًا من دراسة غير مختصَّة بالنمو عن الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة (مثل مكلارين وكوهين، ٢٠٠٥). لكن النمو عامل مُهم في إدراك الألم والإحساس به، وعلى مدار سنوات تعلم المشي وما قبل المدرسة، يسجل حتى أصغر الأطفال سنًّا تحسنًا ملحوظًا في قدرتهم على التركيز على المستثير والانتباه إليه (ديهارت وآخرون، ٢٠٠٤). إذن فالاحتمال قائم أن عوامل الإلهاء الإعلامية قد تتمتَّع بكفاءة متزايدة عند الأطفال الأكبر سنًّا؛ حيث إنَّ الانتباه المركز والمستمر للمُلهِي الإعلامي يتحسن بمرور الوقت. ومع تقدُّم الأطفال في العمر تُرفَق الفحوص الفسيولوجية والسلوكية للألم بأدوات للتعبير الذاتي عن الإحساس بالألم. وتتمتَّع هذه الفحوصات بأهمية لأنها تقدم فكرةً عن الشعور الإدراكي شديد الذاتية بالألم. فمِن المُمكن مثلًا أن يبدو على وجه طفلين نفس تعبيرات الوجه في استجابة لحقنة لقاح (ومن ثَم يُقَيِّمهما الملاحِظ باعتبارهما يشعران بنفس المستوى من الألم) لكنهما يتحدَّثان عن مستويات مختلفة تمامًا من الألم المحسوس. كما أن الإحساس الذاتي بالألم قد يختلف مع النمو هو الآخر. إلا أن هذا التغيُّر المصاحب للنمو لا يزال بحاجة للاختبار التجريبي.
في خلال مراحل النمو يمثل أفضل المُلهيات عن الألم عند أي طفل هو ما يُحتمل أن يستولي على انتباه الطفل. فعند الرضع والأطفال الصغار، وكذلك الأطفال ذوي المهارات المنخفضة في ألعاب الفيديو قد تمثل برامج التليفزيون والموسيقى المفضلة أفضل اختيار للإلهاء. لكن ماذا إن كان مصدر الإلهاء المفضَّل لعبة فيديو عنيفة أو برنامجًا تليفزيونيًّا عنيفًا؟ أليس هذا كاستبدال شرٍّ (السلوك العنيف) بشرٍّ آخر (الألم)؟ الإجابة ببساطة هي: لا؛ إذ إن تبعات الصدمة المصاحبة للإجراءات الطبية المؤلمة عند معظم النشء يزيد احتمال تسببها في الضرر عن التعرُّض للمحتوى الإعلامي العنيف. فسواء كان المحتوى عنيفًا أم غير عنيف، ينبغي للأبحاث المستقبَلية أن تستقصي بصورة أشمل تأثير مصادر الإلهاء الإعلامية المفضلة مقابل المصادر غير المفضلة على تقليل الألم عبر مراحل النمو.
بالمقارنة مع الأبحاث التي أُجريت على الطفولة المبكرة، أُجري عدد أقل بكثير من الأبحاث (أقل من عشرة) على تأثير المحتوى الإعلامي الاجتماعي الإيجابي على السلوك الإيجابي عند النشء بين السادسة والسادسة عشرة من العمر، من بينها بضعة أبحاث فقط استخدمت عينات من المراهقين؛ فعلى عكس المثير التعليمي المعلوماتي المعروض على الأطفال فيما قبل الدراسة، استخدمت الأبحاث التي اعتمدت على عينات من الأطفال والمراهقين برامج تُعرَض على شبكات التليفزيون لتُوضِّح السلوك الاجتماعي الإيجابي. وتجدر الإشارة إلى أن برامج التليفزيون المستخدمة في هذه الدراسات تضمَّنت برامج كوميدية (مثل «أحب لوسي» (آي لَف لوسي) و«جزيرة جيلجان» (جيلجان أيلاند)) ودرامية (مثل «الفرقة الحديثة» (ذا مود سكواد) و«لاسي»). ولا يتَّضح ما إذا كانت العروض الكوميدية أو الدرامية للسلوك الاجتماعي الإيجابي تؤثر في النشء أم لا؛ إذ لا توجد دراسات كثيرة (تستخدم أطفالًا من سن واحدة) لعقد مقارنة فعالة. فضلًا عن أن برامج التليفزيون المخصَّصة للأطفال الصغار تستهدف على وجه التحديد الأفكار الاجتماعية الإيجابية في كل حلقة، بينما يتمثل الدافع وراء البرامج المخصَّصة للجمهور الأكبر سنًّا في التسلية؛ لذا فإن الأطفال الأصغر والأكبر ربما يتلقون «جرعات» مختلفة من السلوك الاجتماعي الإيجابي لكل حلقة. ونتيجة لذلك يصبح من الصعب المقارنة الفعالية النسبية للإعلام الاجتماعي الإيجابي عبر مراحل النمو.
ظلَّت الأبحاث عن الفوائد المحتملة للإعلام الاجتماعي الإيجابي عند النشء في ركود لعقود. بل إنه لم تُجرَ دراسات تجريبية جديدة تتضمن التليفزيون، أو حتى ألعاب الفيديو، على النشء في أي سن منذ أواخر العقد الثامن من القرن العشرين. وللصدفة، عجزت الدراسة التجريبية الوحيدة التي تضمنت لعبة فيديو تشجع على السلوك الاجتماعي الإيجابي ونماذج هذا السلوك عن اكتشاف أي أثر ملموس؛ فعلى ما يبدو أن لعبة مساعدة السنافر لا تُترجم إلى مساعدة زملاء الفصل في سَنِّ أقلامهم أو زيادة مقدار التبرعات للأعمال الخيرية (تشيمبرز وأشوني، ١٩٨٧). وبالمثل تناول القليل من الدراسات تأثير الإعلام الاجتماعي الإيجابي على النشء من منظور تناسبي (أوستروف وجينتايل وكريك، ٢٠٠٦؛ روزنكوتر، ١٩٩٩).
وكما قد تتوقَّعون، في ضوء قلة أبحاث النمو في هذا النطاق يظل العديد من الأسئلة بلا إجابة. فبالإضافة إلى الأسئلة المذكورة سابقًا، إليكم ما يلي: أولًا هل لوسيلة الإعلام علاقة بأن يكون للرسالة الاجتماعية الإيجابية تأثير؟ فعلى الرغم من أن المُحتوى التليفزيون الاجتماعي الإيجابي يمكن أن يؤثر في السلوك فإن الأبحاث السابقة لم تُبيِّن فوائد ألعاب الفيديو عند النشء. لكن ماذا عن التأثير السلوكي لألعاب الفيديو الأحدث والأكثر واقعية والواقع الافتراضي؟ هل تُترجَم زيادة الواقعية إلى زيادة في التأثير؟ ثانيًا هل تُؤثِّر الخصائص البدنية للنموذج الاجتماعي الإيجابي؟ بمعنى هل يميل النشء لمحاكاة وتعلم السلوكيات الاجتماعية الإيجابية من شخصيات في نفس العمر والعرق والنوع الاجتماعي أم من ذوي العمر والعرق والنوع الاجتماعي المُختلِف؟ إضافة إلى أننا بحاجة لأبحاث تَتناول التأثير المُتغيِّر لهذه الخصائص الإعلامية على النشء عبر مراحل النمو. وأخيرًا هل يتأثَّر الأطفال والمراهقون الذين يسلكون سلوكيات اجتماعية إيجابية باستمرار بالإعلام الاجتماعي الإيجابي بدرجة أكبر أم أقل من سواهم؟ وعلى الرغم من أن النظرية قد تُقدِّم أجوبة مُحتمَلة لكل سؤال ورد سابقًا فإن الأجوبة النظرية لا تُغني عن الأجوبة التجريبية. بالطبع يوجد الكثير من الأسئلة الأخرى التي تحتاج إلى إجابة، وستظل بلا إجابة إلى أن يبدأ الباحثون في مجال الإعلام في دراسة فوائد الإعلام الاجتماعي الإيجابي على النشء بصورة منهجية.
في سبيل استكشاف الهُوية، يقدم المراهقون أنفسهم باعتبارهم أكبر سنًّا أو أكثر خشونة أو أجمل أو باعتبارهم من الجنس الآخر أو شخصًا يعرفونه أو شخصًا خياليًّا. وبصفة عامة فإن النشء في أوائل المراهقة (٧٢٪) ينشغلون بهذا الاستكشاف للهُوية على الإنترنت بدرجة أكبر من النشء في المراهقة المتوسطة (٥٣٪) أو في أواخر المراهَقة (٢٨٪) (فالكنبرج وشوتين وبيتر، ٢٠٠٥). هذه النتيجة ليست مفاجئة بالنظر إلى أنه من وجهة نظر مراحل النمو يبدأ استكشاف الهوية في أوائل المُراهَقة. وعندما يدخل النشء مرحلة المراهقة فإن قدراتهم الإدراكية المكتشفة حديثًا تتيح لهم التأمل الذاتي والتفكير المجرَّد بصورة أسهل؛ ومن ثَم ينظرون إلى كيانهم على مستوى أعمق مما كانوا عليه في سن أصغر. وتُتيح التغيُّرات البدنية والعاطفية والاجتماعية المصاحبة لفترة المراهقة تعريف الذات بطرق لم تكن مُمكنة من قبل. إلا أنه بعد سنوات من الاستكشاف يكون النشء قد استقرَّ على مجموعة أساسية من الهويات، مما يحد من الحاجة إلى تجربة هويتهم على الإنترنت أو غيره. إلا أنه يُمكن للشيء الجيد أن يزيد عن الحد؛ إذ كلما زاد معدَّل تقديم النشء لهويات مزيفة على الإنترنت، زادت إمكانية انخفاض الثقة بالنفس والإصابة بالقلق الاجتماعي وانخفاض المهارات الاجتماعية (هارمان وهانسن وكوكران ولينزي، ٢٠٠٥). وقد أشار هارمان وزملاؤه إلى أن النشء المبالغ في التزييف بدلًا من تقبُّلهم لهويتهم الحالية أو المستقبلية ينغمسون في صورة مثالية للنفس، صورة لا يُمكنهم الوصول إليها في الواقع. ونتيجة لذلك يُصاب هذا النشء بخيبة الأمل والإحباط من حقيقتهم في عالم الواقع.