في قلب الشرق بين حضارتَين١
ماسنيون (١٨٨٣–١٩٦٢م)
يحمل ماسنيون بين طياته اثنَي عشر حواريةً تجعله جسرًا بين الشرق والغرب؛ فهو الأستاذ،
واللغوي، والأديب الفنان، والصوفي، والطبيب، وعالم الاجتماع، والمؤرخ، والمُنقِّب عن
الآثار، والجغرافي، والسياسي، وأحد مؤسسي الحوار الديني، والإنسان.
(١) الأستاذ
هو أولًا أستاذ الجامعة الذي تحتفل به جامعة القاهرة في عيدها الماسي. ارتبط
بها أستاذًا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة في ١٩١٢-١٩١٣م. ونشر المعهد العلمي للآثار
الشرقية محاضراته «تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية» عام ١٩٨٣م. وهو عضو بمجمع
اللغة العربية وظل مراسلًا له حتى وفاته، وفي الوقت نفسه كان عضوًا في عديد من
الأكاديميات خارج فرنسا.
وقبل أن يكون أستاذًا كان طالبًا في جامعة الأزهر دارسًا للفلسفة عام ١٩٠٩م. ترجم
له مصطفى عبد الرازق عام ١٩٣١م، مجموعة نصوصٍ غير منشورة خاصة بتاريخ التصوُّف في بلاد
الإسلام، ونشر في القاهرة «أمثال بغدادية» للطالقاني عام ١٩١٣م. وبالإضافة إلى
أستاذيته في مصر عُيِّن أستاذًا في الكوليج دي فرانس بعد عودته من الشرق في كرسي
علم الاجتماع الإسلامي في ١٩١٩–١٩٢٤م، ثم عُيِّن من جديد فيه في ١٩٢٦–١٩٥٤م. أسَّس معهد
الدراسات الإسلامية عام ١٩٢٧م. وأصبح مدير الدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات
العليا. وكان أستاذًا في معهد الدراسات السياسية، وفي مدرسة فرنسا فيما وراء
البحار، ورئيسًا للجنة امتحان مسابقة اللغة العربية في ١٩٤٦–١٩٥٤م، ورئيسًا لمعهد
الدراسات الإيرانية.
ارتبط اسمه بالجامعات العربية والفرنسية وبمعاهدها ومراكز أبحاثها. وكان طلابه
منتشرين في كل مكان في الشرق والغرب يواصلون رسالته حتى الآن، جسرًا بين الشرق
والغرب، وحوارًا بين حضارتَين.
٢ كذلك كتب «زيارة من الخارج»؛ فالداخل والخارج وجهان لحقيقةٍ واحدة.
٣
(٢) اللغوي
كان الاستشراق عادةً يبدأ باللغات الشرقية العربية والفارسية والتركية أو بالتاريخ
والآثار والجغرافيا في الغالب، وقليلًا ما كان يبدأ المستشرق بالفلسفة مباشرة دون
المرور أولًا باللغة أو التاريخ. بدأ ماسنيون باللغة وحصل على دبلوم اللغة العربية
الفصحى والعامية من مدرسة اللغات الشرقية عام ١٩٠٦م، وقارَنَ بين اللغة العربية وباقي
اللغات الشرقية، وكانت اللغة العربية لديه ليست غايةً في ذاتها بل وسيلة الدراسة
الثقافة والتصوُّف والأدب متجاوزًا اهتمام النحويَّين (بلاشير، بللا).
٤
كانت مؤلَّفاته الأُولى في لغة جاوة وآدابها «مقدمة للرسائل الجاوية» وفي اللغة
الهندوسية وآدابها مثل «غواية أسبارا رامبا» للزاهد أشوكا، وفي اللغات والثقافات
المقارنة مثل «كيف يمكن إرجاع الدراسة النصية للحضارتَين العربية واليونانية
اللاتينية إلى أساسٍ مشترك؟» عام ١٩٤٣م، وأيضًا في اللغات السامية المقارنة «حروف
العلة السامية والدلالة الموسيقية» عام ١٩٥٨م. وقبل البنيويين المعاصرين كتب أيضًا
«تأمُّلات في البنية البدائية للتحليل النحوي للغة العربية» عام ١٩٥٤م. ثم انتقل من
اللغة إلى التصوف؛ فاللغة تعبير عن الوجدان، وأداة سحر الصوفي مثل «تسامي الموضوع
في الإيمان الشعبي» عام ١٩٥٩م، اللغة حياة والتصوف إحياء.
٥
(٣) الأديب
وهو الأديب الذي انشغل بالحياة والإنسان، فجاء أدبه تعبيرًا عن الحياة،
ومهمومًا بقضايا الإنسان. والفرق بين الأدب والتصوُّف ليس بعيدًا؛ فقد عَبَّر كبار
الصوفية عن مواجيدهم الشعرية مثل ابن الفارض وابن عربي أو في تزفني بليغ مثل الحلاج
والنفري، وبالإضافة إلى تحقيق أمثال بغدادية للطالقاني الذي صدر بالقاهرة عام
١٩٣١م، له مراسلات مع كبار المفكرين والأدباء في عصره. والمراسلاتُ بين الأدباء
والمفكرين نوعٌ أدبي مثل السيرة الذاتية التي تقوم على الحوار بين اثنَين وليس بين
الكاتب ونفسه، له مراسلات مع جاك ماريتان، كلٍّ من كوكتو وكلوديل، وماكس فان برشيم.
٦ كما تدل المراسلات على القدرة على الحوار والنزعة الإنسانية والدخول في
العلاقات بين البشر، والتراسُل بين الأشخاص وتعميق التجربة الفردية من خلال التجارب
المشتركة مع الآخرين؛ فالحياة حوار، الحياة أقرب إلى الشعر والفن منها إلى الحساب
والعقل، الحياة صورةٌ فنية من صنع الخيال. هكذا كان السيد المسيح وكبار الصوفية
ومشاهير الرجال.
٧
وهو أيضًا الفنان الذي يصوغ الحياة ويُعيد إنتاجها كعملٍ فني، الأشخاص والحقائق
والموضوعات؛ فقد كان أبوه مَثَّالًا، ورث عنه النحت في الحياة ورسم الشخصية الحية؛
فالحياة صورة
Portrait، ينسجها خيال فنان. الحياة
شعر في قلب الشاعر، والكون نغم صنعته الطبيعة. أدرك إعجاز القرآن الأدبي والفني
وقدرته على تحويل الطبيعة إلى شعر، والحياة إلى صورةٍ فنية كما عَبَّر عن ذلك سيد قطب
في التصوير الفني في القرآن الكريم. كان على لسان ماسنيون وفي قلبه آية
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ وحديث «إن الله جميلٌ يُحب الجمال». وما الفن التشكيلي إلا
تجسيدٌ للفن الروحي، الفن في الطبيعة صدًى للجمال في الروح. وله دراساتٌ عن الحدائق
والموسيقى، وله أيضًا «الفن في مصر والفن في العراق» مدركًا وحدة الرؤية الفنية
العربية التي حاول الإسلام إعادةَ التعبير عنها.
٨
(٤) الصوفي
وتبلُغ الشخصية الذروة في الصوفي، وكان الأستاذ الجامعي واللغوي والأديب والفنان
ما هي إلا مقدماتٌ تؤدي إلى النتيجة الطبيعية وهو الصوفي. بدأ حياته الصوفية صديقًا
لفوكو Charles de Foucauld بعد أن أرسل المارشال
ليوتي
Lyautey
دراسة ماسنيون عن ليون الأفريقي إلى راهب الصحراء، ثم كشف وهو في القاهرة عن شخصية
الحسين بن منصور الحلاج، شهيد بغداد، واختاره موضوعًا لرسالته للدكتوراه، وأصبح
نموذجه وملهمه في الحياة. ولا يُذكر ماسنيون إلا ويذكُر الحلاج، ولا يُذكَر الحلاج إلا
ويُذكَر ماسنيون؛ فقد أصبحا قرينَين، وأنهى رسالته عام ١٩١٤م، تزوَّج ابنة عمه وأنجب
منها
ثلاثة أطفال إيف Yves وجانفييف Ganviéve، ودانيال Daniel، وما زال الأخير على قيد الحياة.
وأثناء عودته من بغداد، وبعد بعثة الحفريات ١٩٠٧-١٩٠٨م، قبضَت عليه الشرطة التركية،
وكاد أن يُحكم عليه بالإعدام بتهمة التجسُّس لولا تدخُّل أصدقائه العرب خاصةً عائلة
الألوسي؛ الأمر الذي حوَّلَه من الشك إلى الإيمان، فحاول اللحاق بفوكو في
تامنراست
Tamanrasset. وكتب تخليدًا له لحياةٍ
كاملة «مع أخٍ غادر إلى الصحراء فوكو» عام ١٩٥٩م.
٩ ثم توالت أعماله عن الحلاج، فحقَّق كتاب «الطواسين»، وعلَّق عليه ١٩١٣م.
ونشر ديوانه «ديوان الحلاج» ١٩٣١م، ١٩٥٥م، ١٩٨١م، «أربعة نصوص غير منشورة خاصة بحياة
الحلاج» ١٩١٤م، «مجموعة نصوص غير منشورة خاصة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام» ترجمة
مصطفى عبد الرازق ١٩٣١م، وله ترجمةٌ أخرى ألمانية «عذاب الحلاج». وهو نص من النصوص
الأربعة المنشورة من قبلُ ١٩٣٦م، ١٩٥٧م، ١٩٧٥م، «محاولة في مصادر مصطلحات التصوف
الإسلامي» ١٩٢٢م، ١٩٥٤م، ١٩٦٨م، «وجهات نظر ما وراء التاريخ في حياة الحلاج». وأشفع
هذه الدراسة بدراسةٍ أخرى عن «سلمان والمسلمات الروحية في الإسلام الإيراني». ولمَّا
كان الوقت من أهم موضوعات التصوُّف، وكان التصوُّف الفلسفي آخر مرحلةٍ من مراحله كتب
ماسنيون «الزمان في الفكر الإسلامي» عام ١٩٦٢م؛ ليُبيِّن أن الزمان ليس فقط عدد الحركة
كما قرره أرسطو والفلاسفة، بل هو زمنٌ نفسي كما قرر برجسون المعاصر لماسنيون، وكما
قرر الصوفية؛ فالصوفي ابن وقته.
(٥) الطبيب
وهو الطبيب بمعنى الحكيم عند القدماء الذي يجمع بين الحكمة والطب وإلا كان
مُتطببًا؛ أي مجرد ممارسٍ للطب معالج بالأدوية. وهو جانبٌ غير معروف عنه في حياته
العامة، هو مثل الرازي الذي كان يجمع بين الطب الروحاني والطب الجسدي، ومثل ابن
سينا وابن رشد ومعظم الحكماء. الحكمة علاج النفوس، والطب علاج الأبدان.
١٠ وكان يجمع بين الطب والصيدلة مثل صديقه قنواني، لا فرق بين الطبيعة
الحية والطبيعة المادية؛ فالمعادن حياة، والكيمياء طبيعة، والطبيعة تجلٍّ من تجليات
الروح في تفاعُل بين الإنسان والطبيعة، بين العالم الأصغر والعالم الأكبر. وقد جمع
الصوفية بين علوم الطبيعة وعلوم الروح. وتجمع بينهما الرياضيات منذ فيثاغورس؛
فالأعداد نغم الروح والطبيعة، والتآلُف قانون الكل، ويمكن التعبير عن الحقائق بعدة
لغات، لغة الأعداد، ولغة الذرات، ولغة المقولات والمعاني، لا فرق بين الحساب
والطبيعة والحكمة. عرف ذلك جابر بن حيان وعمر الخيام وليوناردو دافنشي؛ لذلك كتب
ماسنيون «الحساب في الفكر الإسلامي البدائي».
١١ وتاريخ الرياضيات وتاريخ العلوم عند العرب جزءٌ من تاريخ الحضارة
الإسلامية داخل علوم الحكمة.
(٦) عالم الاجتماع
وهو باحث في البشر وفي حياة الناس وفي طبيعة التجمُّعات البشرية، نشأتها وتطوُّرها.
يصف الحياة اليومية للحرفيين ولسائر الطبقات الاجتماعية في الأسواق الشرقية. وهي
الأسواق التي منها تخرج العلوم والصناعات، الفنون والثورات، المجادلات والمخاصمات،
روح البازار. وقد كان الحرفيون هم رؤساء الفرق الكلامية، النجَّار والعلَّاف والغزَّال.
كتب ماسنيون «فحص في الاتحادات الإسلامية ونقابات الحرفيين والتجار في المغرب»
محاولًا الربط بين الاستشراق اللغوي التاريخي التقليدي والعلوم الاجتماعية، كما هو
الحال في الاستشراق الاجتماعي الحديث المرتبط بالعلوم السياسية؛
١٢ فالإسلام ليس مجرد عقيدة وشريعة، بل هو حياة المسلمين الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية. ليس الإسلام في النصوص الأولى فحسبُ، بل هو ما يتحقق في
المجتمع والتاريخ. والأمر كذلك في كل دين؛ فالمسيحية هي تاريخ المسيحية، واليهودية
تاريخ اليهودية، وماهية كل دين لا تتحقق إلا في التاريخ. وميثاق الشرف بين العمال
كلمة حقيقة أقوى من القوانين واللوائح التي يمكن مخالفتها والتلاعُب بها؛ لذلك كتب
«شرف زملاء العمل وكلمة الحق» عام ١٩٦١م.
(٧) المؤرخ
وهو أيضًا المؤرخ؛ فقد كان التاريخ ولا يزال ميدان الاستشراق التاريخي وأثيره
الأول. قدَّم منذ الصبا دراسة عن ليون الأفريقي الجغرافي العربي الغرناطي كدبلوم
للدراسات العليا. ونُشر في الجزائر عام ١٩٠٦م. وأفريقيا هي محط انتباهٍ فرنسي. وكلاهما
شاطئان لبحرٍ واحد، البحر الأبيض المتوسط. وهو مؤرخ للحضارة الإسلامية في إطار
مقارن، كما كتب في «الدراسة المقارنة للحضارات» عام ١٩٤٦م، لليونسكو مع صديقه جاك
ماريتان. كما أصدر الكتاب السنوي للعالم الإسلامي في ١٩٢٩م، ثم في ١٩٥٥م، كما أصدر
دراسة عن «مدينة الأموات بالقاهرة» عام ١٩٥٨م، جامعًا بين الاجتماع والتاريخ قبل
الدراسات الاجتماعية الحديثة، لا فرق بين الأموات والأحياء؛ فالموتى أحياء في
الشرق، وربما الأحياء موتى في الغرب. كما درس الفتوة أو حلف الشرف المهني بين
العمال المسلمين في العصر الوسيط عام ١٩٥٢م؛ جمعًا بين الأخلاق والاجتماع؛ فلم يكن
لليونان قَسَم أبقراط وحدهم بل كان للحرفيين المسلمين مواثيقُ شرف المهنة.
١٣
(٨) المنقب عن الآثار
وهو المشتغل بالحفريات بحثًا في الماضي عن الحاضر وعن الأحياء بين الأموات، وعن
الحاضرين من بين الراحلين. قام برحلةٍ أولى إلى المغرب عام ١٩٠٤م، لهذا الغرض. وكان
عضوًا بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية وحالًّا فيه كلما حضر إلى القاهرة. وقام برحلةٍ
ثانية إلى بغداد، عامَي ١٩٠٧م، ١٩٠٨م؛ للتنقيب عن الآثار والبحث عن بقايا قلعة الأخيضر.
لا يكتفي فقط بالطبيعة الجغرافية للمنطقة، بل أيضًا بأشكال الكتابة فيها، وبتاريخ
مساجدها؛ أي بالتاريخ الحضاري. وكتب جزأَين بعنوان «بعثة إلى ما بين النهرين»
(١٩٠٧-١٩٠٨م)؛ الجزء الأول «قصر الأخيضر»، والجزء الثاني «الطبوغرافيا التاريخية
لبغداد، أشكال الكتابة على مسجد ميرجان».
١٤
(٩) الجغرافي
وهو أيضًا الجغرافي الطبيعي والذي يجد دلالاتها في الجغرافيا البشرية؛
فالطبيعة والروح كما قال المثاليون الألمان شيءٌ واحد. تمتزج الجغرافيا بالبشر،
والغابة بالنزهة فيها، وتأمُّل المارين بها. كما كتب «تأملات عابر في غابات عیسى
المقدسة» عام ١٩٦٠م، واعتنى بالرحالة العرب في المحيط الهندي قبل ماجلان، ودور العرب
الريادي في اعتلاء البحار، واستعمال الرحالة الأوروبيين الخرائط العربية والمرشدين
العرب للذهاب إلى ما وراء البحار إلى العالم الجديد مثل كولومبس، أو إلى العالم
القديم إلى آسيا مثل ماجلان، فكتب «سحب ماجلان: ملاحظات حول استعمال المرشدين العرب
لها في المحيط الهندي اعتمادًا على علامة النيام السبعة (أهل الكهف)» عام ١٩٦١م.
وبطبيعة الحال اهتم بجغرافيا المغرب في أوائل القرن السادس عشر طبقًا لخرائط ليون
الأفريقي. وكتب مقدمة للخرائط والرسومات التي أعدَّها نجله إیف ماسنيون بعنوان
«الوادي الأعلى في سان جان الماواداسكي الأكادي».
(١٠) السياسي
وهو أيضًا السياسي صاحب الأثر السياسي، عن طريق الممارسات الفعلية والنضال السياسي
السلمي، وإن لم تكن له كتاباتٌ نظرية في السياسة. وقد دفعَتْه ظروف الحرب العالمية
الأولى إلى العمل السياسي في إطار الدولة. كما دفعَتْه بعد الحرب العالمية الثانية
على العمل السياسي خارج إطار الدولة ومع التنظيمات الشعبية. بعد اندلاع الحرب
العالمية الأولى عُيِّن في المكتب الصحفي بوزارة الخارجية، ثم أرسل بناءً على طلبه
إلى الجبهة الشرقية ١٩١٥–١٩١٧م (الدردنيل، مقدونيا، صربيا). ووصل إلى فلسطين في
١٩١٧-١٩١٨م، كمساعد لجورج بيكو المفوَّض السامي في الشرق. ودخل القدس في ١١ / ١٢ / ١٩١٧م
مع د. ﻫ. لورانس والجنرال اللنبي عن طريق بورسعيد.
١٥ وعهد إليه وزير الخارجية الفرنسي بإعداد بحث عن الوضع في سوريا. وفي
ديسمبر ١٩١٩م ساهم في تأسيس مملكة سوريا مع الملك فيصل، ولكن فشلت المحاولة بعد ستة
أشهر. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ النضال بدافع من حبه للعدالة والحرية ضد كل
صور القهر. زار معسكرات الاعتقال الفلسطينية والمغاربة في السجون.
١٦ وأعطى دروسًا مسائية للعمال المغاربة. وعمل في صف المقهورين أثناء
حركات التحرُّر الوطني ضد الاستعمار. وساهم في تحرير كثير من قادتها مثل محمد الخامس،
ونواب مدغشقر، شاقًّا طريق فوكو وغاندي، طريق المقاومة السلمية وسياسة اللاعنف
والإقناع والصوم والصلاة.
١٧
(١١) المحاور بين الأديان
نظرًا لأن ماسنيون كان جسرًا بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية واليهودية،
ينتمي إلى أكثر من حضارة؛ حضارة النشأة، وهو الغرب المسيحي، وحضارة المهنة وهي
الحضارة الإسلامية، بدأ الحوار بين الأديان والثقافات يحدث في شعوره أولًا كما حدث
عند البيروني ومسكويه والفارابي. وكان يروي باستمرار أن جوهر الإسلام هو الإيمان،
وجوهر المسيحية هو الإحسان، وجوهر اليهودية هو الأمل. فكتب «صلوات إبراهيم الثلاث»،
وكتب أيضًا «الإسلام شهادة المؤمن»؛ فالحوار بين الديانات التي خرجَت من إبراهيم هو
حوار بين الفصائل الثلاث. كذلك كتب «المدخل إلى التفاهم بين الديانات الثلاث». وأسَّس
دار السلام بجاردن سيتي لهذا الغرض، والذي قام من داخله الأب مبارك بنشر الأعمال
الصغيرة (ثلاثة أجزاء) لماسنيون إعلانًا عنه.
١٨ وكَتَب عن «المباهلة» في المدينة، إعلان المساواة بين الديانات الثلاثة؛
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللهِ.
١٩ وركَّز على الحوار الإسلامي المسيحي؛ فأهل الكهف من المؤمنين المسيحيين
الفارين من الاضطهاد الروماني كما كتب في قصة النيام السبعة، كما حلَّل التصوف
المسيحي كي يلتقي بالتصوف الإسلامي، فكتب عن نوتردام الساليتي، حجاب دموعها في
الكنيسة. وحاول أن يصوغ كلمات صلواتٍ مشتركة بين المسلمين والمسيحيين في صلاة للسلام
الصادق بين المسيحيين والمسلمين. ولم يكن الحوار بين الأديان مجرد إيمانياتٍ وصلوات
وأدعية، بل كان من أجل العيش المشترك في عالمٍ أفضل بفضل التسامح الديني؛ فجان دارك
الفرنسية الوطنية الثائرة ضد الاستعمار البريطاني لها دلالة بالنسبة للنضال الوطني
للمسلمين في الجزائر. كما كتب «جان دارك والجزائر والسياسة في الإسلام واليهودية
تقوم على قوة الدين»؛ فكلاهما عقيدة وشريعة؛ لذلك كتب «القوى الدينية للحياة
السياسية» في جزأَين؛ الأول عن الإسلام، والثاني عن اليهودية.
٢٠ وكل دين طريقٌ إلى الآخر، فصلب الحلاج واستشهاد الحسين طريق إلى
المسيحية، وعذابات الحلَّاج طريق إلى آلام المسيح. كذلك أصبح ماسنيون في حياته وبعد
وفاة زوجته راهبًا يحتفل بالقُداس؛ فحياة الرهبنة التي شدَّتْه في أول حياته مع فوكو
في
صحراء العرب وجدها في النهاية في مدينة النور.
(١٢) الإنسان
ويجمع هذه الجوانب كلها الإنسان؛ فالإنسان شهادة، والشخصية الإنسانية مركز
الوجود؛ لذلك كتب الشخصية الإنسانية شهادة، والعلاقات الإنسانية علاقة ضيفٍ بمضيف،
نفس تسكن إلى أخرى، إنسان يهوي بفؤاده إلى آخر؛ لذلك كتب «الآخر مضيفًا» والعالم
كله مكان للمضطهدين. وحق اللجوء مكفول للجميع فلن يضيق المكان بالبشر؛ لذلك كتب «حق
اللجوء»، بل إنه يغفر للمسيئين في حق الشعوب كما كتب «نذر وقدر ماري أنطوانيت ملكة
فرنسا».
وقد توفي ماسنيون في ٣١ / ١٠ / ١٩٦٢م، بأزمة قلبية في بداية عيد القديسين. وجُمعَت
مقالاته بعد وفاته مرتَين؛ الأولى «كلمة معطاة»، تضم واحدًا وثلاثين مقالًا
عام ١٩٦٢م. والثانية «الأعمال الصغرى»، ثلاث مجلدات عام ١٩٦٣م، وتضم مائتين وخمس مقالة.
وما زالت ذكراه في قلوب تلاميذه بالإضافة إلى آثاره المدوَّنة تفوح بدورها، جسرًا بين
حضارتَين، الغرب في قلب الشرق، والشرق في قلب الغرب.
٢١