في هذا الوقت الذي يسأل فيه الناس أين الولاء للوطن في الداخل، وأين دور مصر في
الخارج، وأين الدولة التاريخية، دولة رمسيس وصلاح الدين ومحمد علي وعبد الناصر، وأين
تحقيق المنافع العمومية في الزراعة والصناعة والتجارة والإمارة، في الوقت الذي تريد
فيه بعض القوى المحلية وإسرائيل والولايات المتحدة تهميش دور مصر وتحجيمه لإعادة ترتيب
الأوراق في المنطقة بتصفية المقاومة الفلسطينية وتقسيم العراق والسودان وإنهاء المقاومة
في جنوب لبنان، وكسر شوكة سوريا وإيران، يبرُز «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب
العصرية» لرفاعة رافع الطهطاوي ١٨٠١–١٨٧٣م؛ ليجيب على هذه الأسئلة التي تدور في ذهن
الناس؛ فالتآمر على مصر ليس جديدًا كلما قامت مصر بدورها في محيطها من أجل انكماشها؛
فالقلب لا يضخ إلا في الأطراف؛ لذلك ضُرب محمد علي وعبد الناصر حتى تربَّت عقدة الخوف
في
النخبة الحاكمة، أن الهزيمة مع أعداء مصر هي القاعدة، وأن النصر هو الاستثناء.
(١) المقدمة: الموضوع والبنية والمصادر
هو آخر ما كتب الطهطاوي بعد رحلة طويلة في التأليف دامت أكثر من أربعين عامًا،
بداية ﺑ «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» ونهاية ﺑ «مناهج الألباب المصرية في مباهج
الآداب العصرية». والعنوان يتسم ببعض الجماليات بالإضافة إلى المنحى الفكري؛ فعلى
عادة الطهطاوي تتسم عناوينه بالسجع المعروف عند القدماء، حتى يصبح العنوان وكأنه بيت
شعر، بإيقاعه ووزنه وقافيته.
٢
ويدل العنوان على الجمع بين القديم والجديد. والجديد «مباهج الآداب العصرية» أوضح
من القديم «مناهج الألباب المصرية». القديم أقرب إلى الواقع المعاش، مصر الوطن.
ومصر كالشخص، له لب وفؤاد، حياة وشعور، وهذا اللب منهاج حياة وأسلوب عيش، وطريقة
بلغة الصوفية. يعني الطهطاوي بهذا العنوان تحديث مصر، وكيف تصحو بفؤادها لتدرك
أحوال العصر. وهي وظيفة الاجتهاد وكمصدرٍ رابع للتشريع، تحديث الشريعة، طبقًا لظروف العصر.
٣ يجمع بين التاريخَين الهجري والميلادي وإن غلب الهجري عليه في داخل
الكتاب، كما يغلب الميلادي علينا الآن؛ فالوعي التاريخي العربي ما زال متأرجحًا بين
الموروث القديم والوافد الجديد.
وللطهطاوي ألقابه، صورته عند نفسه وأقرانه، «أوحد زمانه، ونادرة عصره وأوانه،
المُجِد في نفع وطنه بنشر المنافع المرحوم الأمير العظيم رفاعة بك رافع، ناظر قلم
ترجمة وأعضاء مجلس القومسيون»؛ فهو المنفرد في الزمان، النادرة في العصر والأوان
الذي أراد المجد لوطنه بنشر المنافع والعلوم. هذا هو الطهطاوي الخالد، الباقي
الأثر، المُحرِّك للتاريخ، صاحب الرسالة، وحامل الأمانة.
٤
وبنية الكتاب محكمة، ستة أبواب (والسادس بعنوان خاتمة)، ينقسم كلٌّ منها إلى أربعة
فصول. الباب الأول «في بيان المنافع العمومية من حيث هي وفي موادها ومتفرعاتها وما
يتعلق بها». وينقسم بدوره إلى أربعة فصول؛ الأول «فيما تُطلق عليه المنافع وبيان
موادها الأصلية وأنها دالة على التمدُّن والعمران». والثاني «في العمل الذي هو
القوة الأولية في إبراز المنافع الأهلية وفي تطبيقه على الأرض الزراعية». والثالث
«في تقسيم الأعمال إلى منتجة للأموال وغير منتجة لها؛ أي استقلالية أو غير
استقلالية». والرابع «في مدح السعي والعمل وذم البطالة والكسل»؛ فالباب الأول
موضوعه المنافع العمومية وتقسيم العمل.
والباب الثاني «في تقسيم المنافع العمومية إلى ثلاثِ مراتبَ أصلية وهي حركات
الزراعة والتجارة أو الصناعة». وينقسم أيضًا إلى أربعة فصول؛ الأول «في تعريف
المنافع العمومية بالمعنى العُرفي الصناعي، ومنه يُفهم الانقسام إلى ما ذكر»؛ أي إن
القسمة نتاجٌ طبيعي للتعريف. والثاني «في حالة المنافع العمومية في الأزمان القديمة»
وأنها كانت بسيطةً سهلة لا تحتاج إلى كبير شيءٍ تأصيلًا للحاضر في الماضي. والثالث
«في أن في الأسفار والسياحات ما يعين على تقدم المنافع العمومية». وهي المعرفة
التجريبية المباشرة التي تقوم على الملاحظة. وهي أفضل من الروايات التي قد تصيب
وتخطئ، تصح وتضعُف كما لاحظ ابن خلدون من قبلُ. والرابع «في أن الصوريين وهم سواحل
الشام قدَّموا في سالف الأزمان التجارة والعلوم البحرية على وجهٍ نافع»، إلحاقًا
للتاريخ بالجغرافيا.
والباب الثالث «في تطبيق أقسام المنافع العمومية في الأزمان الأولية على مصر
المحمية وأنها كانت من التمدن والتقدُّم بمكانةٍ علية»، تطبيقًا على مصر. وينقسم أيضًا
إلى أربعة فصول؛ الأول «في تقدُّم مصر وغناها في عدة أزمان سابقة وأدوارٍ متناسقة
وحيازتها للمنافع العمومية بوجهٍ إجمالي»؛ فتمدُّن مصر له جذوره في التاريخ. والثاني
«في تأييد تقدُّم مصر وامتیازها بالمعارف في الزمن القديم» أخذًا من قصة القائل
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ. والثالث «في أن أعظم وسائل تقدُّم الوطن في المنافع العمومية
رخصة المعاملة مع أهالي الممالك الأجنبية واعتبارهم في الوطن كالأهلية»؛ أي اعتبار
الأجنبي كالوطني. والرابع «ما ترتَّب على فتوح الإسكندر الرومي للديار المصرية من
اتساع دائرة المعارف العمومية الناتجة عن مقدِّمات الحزم والكياسة وشرطيات أشكال
العدل في التدبير والسياسة»، وهي الآثار الإيجابية للحكم الأجنبي، كما يُقال عن دور
إنجلترا في الهند، ودور فرنسا في المغرب العربي ولبنان.
والباب الرابع «في التشبُّث بعَود المنافع العمومية إلى مصر حسب الإمكان في عهد محيي
مصر جنتمكان»؛ فمحمد علي وريث الإسكندر الأكبر في إعادة بناء مصر. ويشمل أيضًا على
أربعة فصول؛ الأول «في مناقب جنتمكان محمد الاسم علي الشأن، وأنه نادرة عصره ومحيي
مآثر مصر، والمقابلة بينه وبين عدة من مشاهير ملوك الأعصر القريبة». والثاني «في أن
منافع مصر العمومية قد تمكَّنَت كل التمكُّن من الذات المحمدية العلية، وتسلَّطَت على
قلبه
وأخذت بمجامع لُبه» مثل نابليون. والثالث «فيما دبَّره المرحوم محمد علي من أصول
المنافع العمومية الجسيمة والوصول بها إلى الحصول على التقدُّمات العميمة في زمنٍ يسير
مما لو أنجزه من الملوك جمٌّ غفير لعُد من العمل الكثير وحسن التدبير». والرابع «في
سفر جنتمكان محمد علي الجليل الشأن إلى جبال فازغلوا ببلاد السودان لاستكشاف
المعادن بها والكشف عنها بحضوره وأعمال الطرق التجريبية»، انتقالًا من الماضي إلى
الحاضر، ومن التاريخ إلى العصر، ومن الإسكندر الأكبر ونابليون إلى محمد علي.
والخامس «في الأعمال الحسنة والأعمال المستحسنة من الإصلاحات المصرية بمقتضى
إصلاحات الحال العصرية». ويتضمن أيضًا أربعة فصول؛ الأول «في ذكر تقدُّم مصر في هذا
الوقت الحالي». والثاني «في ذكر ملحوظاتٍ عمومية تتعلق بالديار المصرية أبداها بعضُ
من أرَّخ مصر من أرباب السياحة وحرَّض فيها على ما يلزم من تقديم التمدُّن بتحسين أحوال
المنافع العمومية تجارة كانت أو زراعة أو خلافه وهذا باعتبار ما كان كما لا يخفى
على ذوي العرفان». والثالث «في بيان بلوغ المنافع العمومية بالديار المصرية درجة
النقاء جلية في عهد الحكومة الحالية مع بعض ملحوظاتٍ بهية». والرابع «في إسعاد
الحاكم للبلاد والعباد»؛ فهو باب تطبیقي على مصر وليس على حاكم مصر كالباب
السابق.
والخاتمة هي بمثابة الباب السادس «فيما يجب للوطن الشريف على أبنائه من الأمور
المستحسنة»، وموضوعها الوطن مثل المقدمة. وتضم أيضًا أربعة فصول؛ الأول «في ولاة
الأمور». والثاني «في طبقة العلماء والقضاة وأمناء الدين». والثالث «في طبقة الغُزاة
المجاهدين». والرابع «في طبقة أهل الزراعة والتجارة والحرف والصنائع». وهي أقرب إلى
النظرية السياسية في الدولة وطبقاتها الأربع، الحكام والعلماء والجيش
والعمال.
وعلى هذا النحو تمتد المنافع العمومية النظرية والعملية، العامة والخاصة على
بابَين، ثم تطبيقها على مصر تاريخيًّا وفي عصر محمد علي وفي مصر الحديثة في ثلاث
أبواب. ثم تنظير الدولة بطبقاتها الأربع في الخاتمة. وأطول الأبواب الأول ثم
الخاتمة ثم الرابع ثم الخامس ثم الثاني ثم الثالث.
٥
وفي آخر كل فصل سابق من الفصول الأربعة والعشرين هناك ربطٌ مع الفصل القادم عن طريق
الإعلان عن موضوعه.
٦ وأحيانًا تكون الإحالات في مقدمة الفصل اللاحق إلى الفصل السابق.
٧ وهذا يدُل على تواصُل الموضوع، وربط البنية، تذكير بها، والكشف عن المسار
من البداية إلى النهاية.
ويعتمد الطهطاوي في مصادره على التراث العربي الإسلامي القديم وعلى التراث الغربي
الجديد، خاصة التراث الفرنسي، بالإضافة إلى ما سنح بالبال وأقبل على الخاطر. وهي
المصادر الثلاثة في الفكر العربي الحديث، الموروث القديم، والوافد الغربي، والتنظير
المباشر للواقع. ثم يأتي تدعيم ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الحكم
والأمثال؛ فالشواهد النقلية تأتي لتدعيم الحُجج العقلية والملاحظات والمشاهدات
الاجتماعية؛ فالنص تابع للعقل والواقع ومجرد شاهدٍ عليه.
٨
المهم هو كيف تتداخل هذه المصادر الثلاثة في العمل الفكري؛ فالملاحظات أولًا؛ أي
التنظير المباشر للواقع، ثم القراءات الغربية ثانيًا، بعد أن أصبحَت جزءًا من التكوين
الفلسفي اللاشعوري، ثم الموروث القديم ثالثًا الذي يعطي الشرعية، وكأن العمل
الفكري نابع من الداخل وليس وافدًا من الخارج.
وأحيانًا يبدو التأليف مُوجَّهًا أولًا من الموروث القديم مثل «إن عمل ابن آدم ينقطع
بعد الموت إلا من ثلاثة؛ صدقة جارية، وعمل نافع، وذرية صالحة.» هذه القسمة الثلاثية
هي التي على أساسها تم تقسيم المنافع العمومية ومظاهر الرقي والتمدُّن؛ فالموروث
القديم في اللاشعور المجمعي هو الذي يعطي الحدس. والثقافة الغربية هي التي تعطي
المادة المعروضة. والتنظير المباشر للواقع هو الذي يعطي البرهان. الروح من
القديم، والبدن من الجديد، والتفاعل بينهما من الحاضر.
ويعتمد على عديد من الشواهد النقلية، الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية
والأشعار العربية.
٩ تأتي الأشعار أولًا، ثم الآيات القرآنية، ثم الأحاديث النبوية، مما يدل
على أن الشعر في الوجدان العربي ما زال هو الأساس الذي منه ينطلق النص الديني،
الآية أولًا، ثم الحديث ثانيًا. والطهطاوي نفسه شاعر. يذكُر شعره أولًا قبل أن يذكُر
شعر الشعراء السابقين.
١٠ ويأتي المتنبي في المقدمة. يتلوه أبو العتاهية وامرؤ القيس ثم الشريف
المرتضى وابن الرومي ثم الحمدوني، ثم آخرون مثل زهير والفرزدق وابن المعتز وأبي تمام
والشافعي وأبي نواس والبهاء زهير وابن عربي.
١١ بل يعتمد على بعض مرويات التوراة في الحث على العمل مثل «حَرِّك يدك أفتح
لك باب الرزق.»
١٢ وأن ابن آدم أحدث سفرًا في أهمية السياحة والأسفار، وفي أن مؤسس بابل
هو النمروذ المذكور في التوراة. وعند بعض المؤرخين أن مؤسسها هي الملكة سميراميس.
وتؤيد روايات التوراة أحيانًا ما جاء في القرآن مثل قصة يوسف.
والأسلوب أسلوب الشيخ في البداية بالحمدلة والبسملة والسجع والتأدُّب. ويعيب الكُتَّاب
الاستطرادات والحكايات والأمثلة والخروج عن العرض النظري والتأسيس الفكري، بطريقة
الفقهاء والخطباء والوعاظ الذي يُكثِر من ضرب الأمثال التفهيم الجمهور خاصة لو
كانت من حياة الصحابة والتابعين؛ فكل موضوع مناسبةٌ لجمع المعلومات دون تمييز بين
العلم الجديد والمعلومات القديمة؛ فقد كانت مهمة المُفكِّر في عصر النهضة استدعاء
العلم من الذاكرة الجماعية أو من الوافد الجديد قبل توظيفه.
١٣ ويُكثر الطهطاوي مثل القدماء من الدعوة إلى السلطان بعد الحمد لله، محمد
علي أولًا، وإسماعيل ثانيًا، ومحمد توفيق ثالثًا. كما يكيل المدح والثناء لأغاوات
حضرة ذات الدولة والعصمة والدة الجناب الخديوي ولي النعمة والخديوي الأكرم.
١٤
(٢) الوطن
«الوطن» مفهومٌ جديد يؤصله الطهطاوي في التراث القديم في أول «مناهج الألباب»،
كوحدةٍ سياسية جديدة، وبجوار المفاهيم الموروثة مثل الخلافة والأمة.
وللوطن حقوق وعليه واجبات؛ فهناك الحقوق الوطنية، حق التعليم وحق العمل وحق
المشاركة. وهناك الواجبات الوطنية، حق الدفاع عنه وخدمته وتمدُّنه وتعميره، وعون
الجماعة، وتحقيق المنافع العمومية للوطن، والنصح لأولي الأمر.
١٥ وقد يمدح واحد الوطن ويذمُّه آخر طبقًا لحال المواطن وتوطُّنه ومواطنته،
وسعادته أو شقائه فيه. ومع ذلك فحب الأوطان أشبه بالغريزة في الإنسان تجاه الأرض
والأهل والمولد والموطن.
وإرادة التمدُّن للوطن لا تنشأ إلا عن حبه، كما هو في الحديث: «حب الوطن من الإيمان.»
وقد أوصى عمر بن الخطاب بحب الأوطان. وعند علي بن أبي طالب سعادة المرء برزقه في
وطنه. وعند الحكماء لولا حب الأوطان لما عَمَرت البلاد. وعند الأصمعي أن من معايير
أخلاق الإنسان حبه لوطنه وحنينه إليه وشوقه له. الوطن مثل الوالدين برًّا وإحسانًا.
وهو ودودٌ لسكانه، فانض بخيراته.
لذلك جعل القرآن الإخراج عن الديار والاعتداء على الأوطان أحد أسباب الجهاد في
سبيل الله
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ. وعندما
خرج الرسول من مكة واستقبل الكعبة قال: «والله أعلم أنك أحب بلد الله إليَّ، وأنك
أحب أرض الله تعالى عز وجل، وأنك خير بقعة على وجه الأرض وأحبها إلى الله تعالى.
ولولا أن أهلك أخرجوني منك لما خرجتُ.»
١٦
ولا يتنافى حب الوطن مع الولاء للأمة الإسلامية؛ فالوطنية أساس الأممية. الدين
والوطن صنوان، وكما هو الحال في الحركة السلفية المعاصرة منذ الأفغاني حتى علال
الفاسي. وقد قال الرسول: «صاحب الدَّين محجوز عن الجنة بدَيْنه.»
١٧ ومع ذلك تُعمَّم في أبناء الوطن الواحد مكارمُ الأخلاق، دون تفرقة ولا نظر
للاختلاف في الدين.
١٨
ومقدمة الكتاب في حب الوطن، وهو مصر، ونفع الدين في المملكة، وأهمية المنافع
العمومية في التمدُّن واختلاف الأغراض فيها، واختلاف أحوالها، واختلاف أسباب المواد
وتشعُّب المكاسب وتقسيمها، والمفاضلة بين الفلاحة والملاحة على عادة القدماء في
المفاضلة بين النثر والشعر أو بين اللغة والمنطق أو بين الحساب والهندسة، وحرية الذمة.
١٩ وهناك خاتمة أيضًا «فيما يجب للوطن الشريف على أبنائه من الأمور المستحسنة».
٢٠
بل إن كثيرًا من آيات القرآن تشير إلى حب مصر وعظمتها وكرامتها ورزقها وطيب العيش
فيها مثل:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، ومصر هي الموقع
المتوسط بين المشرق والمغرب. كما وصفها القران بأنها زينة الحياة الدنيا
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ
زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا،
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا
تُبْصِرُونَ. وبها القصور والآثار والمدائن والأسوار
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا
كَانُوا يَعْرِشُونَ.
٢١
وقد رُويت كثيرٌ من الأحاديث في حب مصر مثل: «مصر خزائن الأرض، والجيزة غيضة من غياض
الجنة.» لشمسها ونسمتها وهوائها. وقد أوصى الرسول بأهل مصر خيرًا: «إنكم ستفتحون
أرضًا يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا؛ فإن لهم ذمَّةً ورحمًا، فإذا رأيتم
رجلَين يقتتلان في موضع لبنةٍ فاخرجوا منها.» فمصر ليست أرضًا لحربٍ أهلية أو الاقتتال
بين المواطنين. كما خَصَّ الرسول أقباط مصر، واستوصى بهم خيرًا: «إن الله عز وجل سيفتح
عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرًا؛ فإن لهم منكم صهرًا وذمةً.» كما دعا نوح
لولده وبارك ذريته وإقامته في أرض مصر. اختارها الحكماء مقامًا لهم. واختارها عمرو
بن العاص لنفسه. واختارها مروان بن الحكم لابنه. هي بلد العلم والحكمة من قديم
الزمان. وما زالت كعبة العلم ومقصد العلماء. سماها الله خزائن الأرض:
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ. ولو عاش إبراهيم بن مارية القبطية لرفع الرسول الجزية عن كل
قبطي حرمةً لولده: «لو عاش إبراهيم لوضعتُ الجزية عن كل قبطي ولحرمة الولد والوالد.»
وهو معنى الآية الكريمة:
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي
كَبَدٍ.
٢٢
والآثار كثيرة في حب مصر مثل: «من أعيته المكاسب فعليه بمصر، وعليه بالجانب الغربي
منها.» فمصر بلد الخير، يُهاجر الناس إليها، كما حدث في تاريخ مصر القديم والمعاصر،
حتى فجر النهضة العربية الحديثة. ولا يهاجر الناس منها كما في العقود الأخيرة. وقد
قيل أيضًا: «قُسمَت البركة عشرة أجزاء، تسعة في مصر وجزء في الأمصار.» وأهل مصر أكرم
الناس بالعرب وبالعجم؛ فمنها أتت هاجر أم إسماعيل. ومنها أتت مارية أم إبراهيم.
٢٣
وفي مقابل الوطني هناك الأجنبي. وإذا كان الوطني هو مصر فإن الأجنبي هو الغرب.
والعلاقة بينهما علاقة وئامٍ وتآلُف وليس تنافُر وتضاد. والغرب هو نموذج التحديث،
والمنافع العمومية مفهوم سائد في اصطلاح الإدارة الأوروبية.
٢٤ الأجنبي هو الوجه الآخر للوطني، الأجنبي الصديق الأليف؛ فمفهوم
الاستعمار غير وارد عند الطهطاوي. وقد قامت فرنسا باحتلال الجزائر ١٨٣٠م، سنة عودته
من فرنسا. وصداقته لثقافتها. ونموذجه فرنسا. ومن مظاهر الرقي والتمدُّن المودة مع
أهالي الممالك الأجنبية. والآن تتمتع مصر بشذا نسائم منافع الممالك الأجنبية.
٢٥ الممالك الأجنبية نموذج التحديث للدول الإسلامية من أجل إقامة علاقاتها
الدولية على القانون والمعاهدات وليس على القوة والغلبة. وهي صورة الخلافة
العثمانية في الغرب بعد فتح البلقان.
٢٦
كانت علاقة مصر بالأمم الأخرى علاقة أخذ وعطاء عَبْر التاريخ. لم ترفُض أثرًا من
غيرها إلا وقبلَتْه، ولم تترك مؤثِّرًا في غيرها إلا وقامت به.
٢٧ قد تفوق الأمم الأجنبية الممالك الإسلامية في المنافع العمومية. وقد
تفوق الممالك الإسلامية الأمم الأجنبية، مثل تفوُّق الأخلاق العربية التي كان يفعلها
الرسول مع أصحابه على التشريعات الرومانية.
وإن أعظم وسائل تقدُّم الوطن في المنافع العمومية رخصة المعاملة مع أهالي الممالك
الأجنبية واعتبارهم في الوطن كالأهلية.
٢٨ فقد ساعد الملك أبساميطيقوس ملك مصر التجارة داخليًّا وخارجيًّا. كما
فتح الملك أماسيس ثغور مصر للأجانب وأحسن مثواهم لإسعاد رعيته بالثروة والغني. ثم
يظهر الشيخ من ثنايا المؤرخ، ويتحدث عن مساعدة البخت للإنسان، ويستَشهد بما قيل في
البخت والحظ من أشعار.
٢٩ ثم يعود إلى مدح مناقب سولون الحكيم اليوناني وقوانينه.
وتُحقِّق الفرنساوية في الديار المصرية ما نادت به الشريعة من الصدقات الجارية
وتطبيقًا لحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم يُنتفع
به، أو ولدٍ صالح يدعو له.» فبعد أن لاحظ الفرنسيون كثيرًا من الكُسالى القادرين على
الأشغال والذين يُؤثِرون السؤال على الأعمال أصدروا قانونًا مكونًا من خمسة بنود؛
القبض على جميع الشحاذين وإيداعهم سجن القلعة ما لم يكونوا من أصحاب العاهات
كالعميان والعرجان والعاجزين، قيام كل ملة بنفقات هذه الحوانيت، إعاشة كل ملة
لفقرائها ومحتاجيها، أخذ تصريح بإنشاء هذه الحوانيت من شيخ البلد ممثل الحكومة المصرية.
٣٠ ولضرب المثل على قيمة الشيء طبقًا لمدى حاجته يروي الطهطاوي أنه أثناء
وقوع غزوة الفرنساوية لمصر أن أحد رؤساء العسكر دفع في كوز الماء مائة فرنك.
٣١
وبالرغم من أن فرنسا هي النموذج إلا أن إنجلترا تظهر أيضًا بين الحين والآخر؛ فهي
نموذج الدولة الصناعية التجارية التي جمعَت الثروات وأقامت نظامًا حرًّا للتصنيع
والتوزيع فأسعدَت البلاد. ومثلها إسبانيا، والبرتغال، وفرنسا، والفلمنك؛ أي هولندا.
٣٢ وقد تُعارِض أمةٌ أمةً أخرى، مثل معارضة إنجلترا تقدُّم فرنسا، كما لاحظ
نابليون الأول، تمنعها أسباب العمران.
٣٣
وتحت تأثير الانبهار بالغرب يستعمل الطهطاوي بعض الألفاظ المصرية دون نقلها مثل
«إندوستريا» وتعني الصناعة، ولكن الطهطاوي يترجمها بعبارةٍ شارحة وليس بلفظ،
«المنافع العمومية».
٣٤ كما ينقل لفظ «بوليتيقية» وتعني سياسية، و«الشرطة» وتعني ميثاق،
والبوسطة وتعني البريد، وقمبانية وتعني الشركة، والوابور وهو القطار، والخرونولوجيا
وهو الترتيب الزماني، وجرنال وهي الجريدة، ولوقندة وهو الفندق، وكتبخانة وهي دار
الكتب، ومارستان وهي المستشفى.
٣٥
(٣) التمدن
و«الوطن» ليس جوهرا ثابتًا بل هو الرقي والتمدُّن والعمران. ولفظ «العمران» من
ابن خلدون؛ فقد أعاد العمران الجديد إلى مصر عزها القديم، عمران محمد علي وإسماعيل.
والعمران في مصر له شروطه الجغرافية.
٣٦
كذلك يستعمل مفهومَي «الرقي والتمدن». كلها مفاهيم متداخلة مع المنافع العمومية
والعمران والوطن. وهي معاني المصطلحات فرنسية تحوَّلَت في اللاوعي الفكري إلى مفاهيم
عربية، منشؤها
Civilization, Progres.
٣٧
والإنسان مدني بالطبع كما قال الفارابي من قبلُ؛ أي محتاج إلى مدينة حتى تكتمل له
السعادة الإنسانية، ثم تأخذ الأصالة الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛
فالمؤمنون إخوة و«مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى.» و«المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيقته، ويحوطه من
ورائه.» و«إن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذًى فليُمِطه عنه.» و«لا يؤمن أحدكم حتى
يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» و«ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا.» فللناس
منازلهم. وأسوأ شيء بخس الناس أشياءهم؛ «بحسب امرئٍ من الشر أن يَحقِر أخاه المسلم.»
و«كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه.»
٣٨
ويعطي الطهطاوي بعض الحُجج النقلية على التمدُّن، وأن الإنسان مدني بالطبع، مثل:
تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. والمجتمع المدني بمصطلح
العصر قائم بذاته. له مقوماته الداخلية مثل الصدقة الجارية والعلم النافع والذرية
الصالحة عن طريق التربية؛ «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقةٍ جارية، أو
علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له.» وهي مؤسسات المجتمع المدني، الوقف، ودور العلم،
وتربية المواطنين. والترابط الاجتماعي أساس المجتمع المدني؛
رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ
وَرِضْوَانًا. و«الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.»
فالترابُط الاجتماعي بين الناس أساسه الاتصال بالله؛ فالبعد الأفقي تعبير عن البعد
الرأسي. والبعد الرأسي يتجلى في البعد الأفقي. وبتعبير الفقهاء، العبادات أساس
المعاملات والاتصال بالله يمنع عن الانكباب المستمر على البيع والتجارة؛
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ.
٣٩
والمجتمع المدني ليس جوهرًا ثابتًا بل هو ظاهرةٌ حية تقوم وتنهار. وينهار المجتمع
المدني بأربع رذائل؛ جحود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا؛ أي
الجهل، والتعصُّب، والشراهة، والتكالب على المال؛ «أربعة من الشقاوة؛ جحود العين،
وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا.»
٤٠ ويدعم ذلك كثيرٌ من أقوال الشعراء خاصة أبا العتاهية. كما أيَّده الأدباء
بحديثهم عن نوادر البخلاء.
وقد حذَّر القرآن من ذلك؛
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. كما نقد البخل والبخلاء؛
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ. وقد نقده أيضًا الشعراء مثل الشيخ شمس الدين المزين
والحمدوني وابن بسام.
٤١
ويَستَشهد الطهطاوي بالآيات القرآنية لإثبات الجانبَين المعنوي والمادي في التمدن
والرقي والمنافع العمومية؛ إذ تشير الآيات إلى الجانب المادي مثل:
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا
كَانُوا خَالِدِينَ. ثم ركَّز أكثر على الجانب المعنوي مثل هداية الله؛
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى، وباطن الحياة دون ظاهرها؛
يَعْلَمُونَ
ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وهو الذي يُقدِّر الأقوات
والأرزاق؛
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ. والحق مستقل عن أهواء البشر. وهو
أساس میزان السماوات والأرض؛
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ
أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
والله هو الذي يُغني ويُقني؛
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى
وَأَقْنَى إشارة إلى الزراعة والصناعة والتجارة والإمارة.
٤٢ كما يَستَشهد بالآيات القرآنية في إثبات الجانبَين الأخلاقي والاقتصادي
للتمدن مثل:
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ
وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا.
وهو منهج اقتصادي في الإنفاق بين التبذير والتقطير.
٤٣ لذلك ينقد القرآن الحب الشديد للمال؛
وَإِنَّهُ
لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. ويشير القرآن إلى المال بالخير؛
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا،
إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ. وذم القرآن جمع المال؛
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
ويوصي القرآن بالاعتدال؛
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا.
ويستَنبط الطهطاوي مقوِّمات المجتمع ومكوِّنات التمدن من حديث «إذا مات ابن آدم
انقطع
عمله إلا من ثلاثٍ؛ صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له.»
٤٤ فالرزق يأتي من أجل الضعفاء؛ «وهل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم؟» الله
يرزق الأغنياء لرزق الضعفاء. ومن قطع رزق الضعفاء قطع الله عنه رزق الأغنياء؛ «من
تسبَّب في قطع رزق أخيه المسلم قطع الله رزقه.»
٤٥ لقد كان ذلك سُنةً لدى ملوك الإسلام حتى محمد علي؛ «ونسأل الله تعالى أن
يديم العز والنصر لمن يريد الخير العميم لمصر.» ويستحسن إعانة أهل اليسار لأولى
الأمر على فعل الخير لتكثير الأعمال الخيرية مثل بناء المستشفيات للمَرْضى والزمْنَى
والعاجزين، وملاجئ للأيتام والمشردين، ودور للمسنين والعميان والبلد والمجانين وأرباب
العاهات والقاعدين، وتأسيس محلاتٍ تجارية غير ربحية لتشغيل العاطلين، وإنشاء المدارس
والتكايا والرباطات مما لا يستطيع إنشاءه واحد والقيام به؛ فيد الله مع الجماعة.
وتُقام جمعياتٌ تعاونية خيرية تقوم على المشاركة خاصة لتوزيع المياه في السبل
والصهاريج. ويمكن توسيع أروقة الأزهر لطلاب العلم من كل المذاهب الفقهية. وكما قال
الرسول: «لا يزيد في العُمر إلا البِر، ولا يرُدُّ القدَر إلا الدعاء.» والصدقة تُعطى
للمستحقين لها، المحتاجين والفقراء والعاجزين والمتقاعدين وأهل الضرورات من أهل
الديار أو من الغرباء. وهو ما فرضه الإسلام من أوجه الصرف من بيت المال.
ويستنبط الطهطاوي نفس المدخل الاقتصادي من الحديث؛ مثل: «إن حساب أهل الدنيا هذا
المال.» ويوحي بالاعتدال؛ «إن الله يحب الرفق في الأمر كله.» والمال ليس للاكتناز بل
للصرف على الأقربين؛ «ذاك مال رابح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين.»
٤٦
وبعد الصدقة الجارية يأتي العلم. وهو العلم النافع الذي علمه الله للإنسان
والذي لم يكن يعلمه. وهي حكمة الحكماء وشعر الشعراء، علم الدنيا والآخرة؛
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. ولا يستوي الذين يعلمون
والذين لا يعلمون. وهو علمٌ قليل إذا ما قيس بالعلم الإلهي. وأفضل العلوم العلوم
الشرعية أولًا، وهي العلوم المقصودة بحديث «العلم فريضةٌ على كل مسلم ومسلمة.»
وعلماؤها خير العلماء؛ «خيار أمتي علماؤها، وخيار علماؤها فقهاؤها.» وهي العلوم
المطلوب التفقُّه فيها؛ «التفقُّه في الدين حقٌّ على كل مسلم. ألا فتعلَّموا وعلِّموا
وتفقَّهوا،
ولا تموتوا جهالًا.»
٤٧
وللعلوم الشرعية الأولوية على العلوم العقلية إلا عند بعض المتهاونين بالدين
فيجعلون الأولوية للعلوم العقلية على العلوم الشرعية. وهنا يبدو الطهطاوي أشعريًّا
قحًّا؛ فالنقل أساس العقل. وحجة العقليين استثقالُ ما جاء به الشرع. مع أن العقل قد
يختلط بالهوى، ويُؤدِّي إلى تضارُب المصالح مما يتطلَّب شريعةً تحكم بين الناس، وتُفرِّق
بين
الحلال والحرام، وتُنظِّم أمور المعاش.
والعلوم العقلية أربعة؛ علم له أصل وفرع، وعلم له أصل ولا فرع له، وعلم له فرع
ولا أصل له، وعلم لا أصل له ولا فرع. والعلم الذي له أصل وفرع هو علم الحساب
والعلوم الرياضية التي لا يختلف عليها أحدٌ من الناس. والعلم الذي له فرع ولا أصل
له الطب لأنه مبني على التجارب. والعلم الذي له أصل ولا فرع له مثل علم النجوم؛
فالنجوم حقيقة وأثَرٌ ظاهري ولكن لا ينبني عليه علمٌ أخر مثل التنجيم. والعلم الذي
لا أصل له ولا فرع هي العلوم السوفسطائية والمغالطات والجدليات، وهي علومٌ فاسدة، لا
في الدين ولا في الفلسفة.
ولا تعني العلوم الشرعية استبعاد العلوم العقلية؛ إذ ترتبط بها علوم القرآن وعلوم
الفقه وعلوم الحديث كما قرَّر الشافعي. ومن تعلَّم الحساب جزل رأيه، ومن تعلَّم العربية
رقَّ طبعه؛ فالعلوم اللغوية والعلوم الرياضية جزءٌ من العلوم الشرعية؛ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.
كما يعتمد الشرع على الرؤية؛ «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فاقدروا
له.»
وترتبط بالعلوم الشرعية علوم ثمانية أخرى علم التفسير ومعه علم القراءات
والتجويد، وعلم الحديث دراية ورواية، وعلم الفقه، وعلم أصول الدين، وعلم النحو ومعه
الصرف، وعلم المعاني والبيان ومعه البديع والعروض، وعلم التصوف دون ذكر علم أصول
الفقه ولا علوم الحكمة.
ومعها تأتي الفنون والصناعات؛ أي العلوم العملية، وعليها مدار انتظام الممالك
وأحوال المعاش. وهي من فروض الكفاية وليس فروض العين كالعلوم الشرعية. أما صناعة
الخط أو فن الكتابة فهو من العلوم الشريفة النافعة. بها يتم تقييد العلوم؛ فقد علَّم
الله بالقلم. وأوصى الرسول بالكتابة؛ «قيِّدوا العلم بالكتابة.» وقد بدأ العرب بحفظ
الشعر قبل التدوين، قبل أن يُدخِل إليها النبي إسماعيل فن الكتابة.
لذلك قد يدخل ضمن العلم النافع في روايةٍ أخرى للحديث عشرةُ علومٍ أخرى؛ مثل غرس
النخل ووراثة المصحف، والرباط في الثغر، وحفر البئر، وإجراء النهر، وبناء بيت
للغريب، وبناء مسجد لله، وتعليم القرآن. جمعَت بين العلوم الشرعية والصناعات. وهو
أيضًا ما لاحظه بعض الشعراء مثل السيوطي.
ويدخل في العلم النافع أثره وسُنَّته التي يسنُّها العلماء ولمن يأتي بعدهم؛ «من سن
سنةً
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.» والاجتهاد في تحصيل العلم ضروري،
وكما نظم الزمخشري في بعض الأبيات. وتقوم المبادئ الأولى للعلوم على فروعها. والقصد
من العلم منفعة الناس وليس التكسُّب أو التجمُّل به وكما نظم زهير شعرًا. والتواضُع من
سمات العلماء. واللفظ الجلي أفضل من اللفظ الخفي. والوضوح أفضل من الغموض.
والولد الصالح لتعمير الدنيا عن طريق تكثير النوع وزيادة العمل وتربية النشء على
صحوة الضمير؛ فإن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، ودواؤها قراءة القرآن؛ ففي القرآن
أخبار السابقين، ونبوءات القادمين، والحكم بين الناس. ولا فرق بين الذكر والأنثى في
ضرورة التربية.
والذرية عضُد وعون وكما لاحظ الفرزدق. وفي الحديث «الولد ريحانة من الجنة.» لذلك
ينتمي الولد إلى أبيه. وملعون من لا ينتمي إليه؛ «ملعونٌ ملعون من انتمى إلى غير
أبيه أو ادعى غير مواليه.» والإنسان وماله للأب؛ «أنت ومالك لأبيك.» والأخ الأكبر
كالوالد؛ «حقُّ كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده.» وببر الوالد والدَيه. وقد
أفاض الشعراءُ في ذلك.
ولا يجوز تعليم الصبيان والمجانين في المساجد، كما تنص على ذلك كتب الحسبة لحرمة
المسجد؛ «جنبوا مساجدنا صبيانكم ومجانينكم وشركاءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم
وإقامة حدودكم وسل سيوفكم.» وتعليم الأولاد الصلاة من الصغر؛ «مروا أولادكم بالصلاة
لسبع واضربوهم عليها لعشر.» مع أن الضرب ليس من أساليب التربية الحديثة.
٤٨
ويستطرد الطهطاوي في بيان أطوار نمو الطفل؛ فأول قوة تظهر فيه الغذاء ثم التحرُّك،
ثم التخيُّل، ثم التمييز بين الأفعال وطلب الكمال فيصبح عاقلًا. وهي مادةٌ مستقاة من
كتب القدماء الصحيحة والمنتحلة في تربية الأحداث والصبيان. ثم تظهر الانفعالات
كالخوف والحياء. والنفس مستعدة للتأديب والكرامة والمدح للأفعال الفاضلة مثل إيثار
الغير على النفس. وترجع أهمية آداب المطاعم إلى أن عادات الطعام والشراب هي سبب
الصحة والمرض؛ فالمعدة بیت الداء. ويتعلم الصبي الآداب الاجتماعية مثل قلة الكلام
والقدرة على السماع من العلماء والشيوخ. وأحوجُ الصبيان إلى التأديب أولاد الأغنياء
والطبقات الراقية. ومن عناصر التربية اللعب الجميل ورعاية صحة البدن. والفقراء أسهل
في التربية والتعلُّم من الأغنياء. وكان الطهطاوي قد أنشد منظومة في تربية الأطفال في
كتابه «تقريب الأمثال في تأديب الأطفال». ولدى كل إنسانٍ استعدادٌ الفضيلةٍ ما.
٤٩
(٤) المنافع العمومية
و«المنافع العمومية» مفهوم رئيسي في «مناهج الألباب». وهو ما يُعادل المصالح
العامة بلغة العصر أو المصالح المرسلة في الفقه المالكي. ويُسمِّيها الطهطاوي أحيانًا
«المنفعة الشرعية» مثل القرض والعارية والهبة والصدقة والوقف. وقد تختلف المنفعة
الشرعية عن المنفعة السياسية الخالصة؛ ومن ثَمَّ تحتاج الشريعة إلى تأويل حتى تتفق مع
المنفعة السياسية وحتى تصبح منفعةً سياسية شرعية؛ أي اكتساب المال من غير مهانة.
تحقيق المنافع العمومية هو شرط الرقي والتمدُّن والعمران.
٥٠ وهي التي تُحقِّق للوطن التمدُّن.
ويُخصِّص الطهطاوي للمنافع العمومية من حيث هي مواد، الباب الأول كله، وهو أطول الأبواب.
٥١ ويُبيِّن في الفصل الأول وهو أطول الفصول ما تُطلق عليه المنافع العمومية
من حيث هي مواد، وأنها دالة على التمدُّن والعمران.
٥٢ وقد قام الفصل كله على محاولةٍ لتنظير حديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله
إلا من ثلاث؛ صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له.» أي الاقتصاد،
والعلم، والتربية.
٥٣ كما يُخصِّص الباب الثاني كله أيضًا لتقسيم المنافع العمومية إلى الزراعة
والصناعة والتجارة.
٥٤ والمصطلح ربما منقول من اللغة الفرنسية نقلًا حرًّا، لفظًا بعبارة وهو
لفظ «إندوستريا» الذي يعني الصناعة. وعند الطهطاوي يعني التقدُّم في البراعة
والمهارة، والقدرة على تحويل المواد الأولية إلى موادَّ مُصنَّعة يُنتفع بها؛ فأول تعريف
للمنافع العمومية هو المعنى العُرفي الصناعي.
٥٥
والمنافع العمومية بهذا المعنى العرفي الصناعي، الإندوستريا، فضيلةٌ قبل أن تكون
صناعة. تتطلب الشجاعة وقوة الجسم والعقل لحفظ الإنسان وتحسين حاله. والفضيلة إما
شخصية أو منزلية أو أهلية. وكلها ترجع إلى العدل العمومي والإنصاف المشترك؛
فالاقتصاد فضيلة. وقد اتفقت الأخلاق والعوائد والشرائع على مكارم الأخلاق؛ مثل حديث
«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» وبالصناعة والإنتاج تنشأ الحاجة إلى
التجارة الخارجية، كما هو الحال في الدول الأوروبية خاصة إنجلترا. وتتطلب الصناعة
المواد الأولية كالقطن والصوف والحديد ثم الآلات والأدوات التي يُحتاج إليها في
التصنيع ثم أجرة الأعمال ومكافأة العمال. تقوم الصناعة على محاسباتٍ دقيقة بحسب نظم
الحكومات ورصد الميزانيات.
وتنقسم المنافع العمومية إلى زراعة وصناعة وتجارة وثروةٍ حيوانية.
٥٦ ويمكن إدخال تنمية الحيوانات مع الزراعة. والإمارة هي القوة المدبرة
لهذه المنافع. وأفضلها الزراعة لأنها أقرب إلى التوكل على الله. ويتعدى نفعها إلى
الطيور والبهائم. وفي الحديث «لا يغرس مسلم غرسًا ولا يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان
أو دابة أو طير إلا كانت له صدقة يوم القيامة.»
وقد وصف القرآن الزراعة عندما وصف نزول الماء إلى الأرض فتهتز وتُنبِت من كل زوجٍ
بهيج، وينبُت في الأرض زرعٌ مختلف ألوانه وجنات وبساتين من أعناب وزرع ونخيلٍ صنوان
وغير صنوان. وأنشأ الله في الأرض جناتٍ غير معروشات على ساق، وأنبت الزيتون والحَبَّ
والفاكهة. كما ضرب المثل بالزراعة للإنجيل وخصوبة القلب؛ فالله هو الذي يُحيي
الأرض بعد موتها بعد نزول الماء عليها. الله هو الزارع والحارث والمُوقد للنار وهو
الذي فرش الأرض ومهَّدها، وخلق فيها من كلٍّ زوجَين اثنَين. الزراعة عمل في الأرض، ولكن
بفعل الله طبقًا لنظرية الكسب الأشعرية؛ فالشغل هو الأساس، والأرض هي الموقع الأول
للشغل. وهي نظرية الفيزيوقراطيين الشهيرة قبل مرحلة التصنيع.
٥٧
والعمل هو القوة الأولية في إبراز المنافع الأصلية في الزراعة أو الصناعة أو التجارة؛
٥٨ لذلك كثرت الأحاديث عن العمل ضد البطالة، وعن الكسب ضد الكسل مثل حديث
«اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن
والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.» وفي روايةٍ أخرى «من الفقر والعَيْلة»؛
فالعمل مصدر الرزق؛ «كسب اليد أمان من الفقر.» والله يحب العبد المحترف؛ «إن الله
يحب العبد المحترف، ويكره الصحيح الفارغ.»
والعمل هو أساس قوة الملة ونفع الأوطان وعمار البلدان.
٥٩ وهو مصدر الغني والأموال. وهو نوعان منتجٌ وغير منتج؛ أي مستقلة أو غير مستقلة.
٦٠ صحيح أن الأفعال كلها لله وكسبًا للعباد طبقًا للموروث الأشعري؛ فالله
هو الذي شق الأرض، وأنبت فيها الحَبَّ والعنب والقصب والزيتون والنخل والحدائق
والبساتين والفاكهة. ومع ذلك فالأعمال قسمان: منتج وغير منتج. الأول تزيد قيمة
مورده بالربح، والثاني عكسه. كذلك العمال صنفان: مُكتَسِبة ومُرتَزِقة. والعمل المنتج
قد
يكون زراعيًّا أم صناعيًّا في حين أن العمل غير المنتج هو الخدمة. وهو الفرق بين
عمل العامل وشغل الخادم. وهي نفس تفرقة ابن خلدون بين الزراعة والصناعة من جانب
والتجارة من جانب آخر. الأولى إنتاج، والثانية خدمات. والوظائف الحكومية بما في ذلك
وظيفة الإمارة غير منتجة، وأعمال الأدباء والشعراء والفنانين والمغنين والمنشدين
والمصارعين بهذا المعنى غير منتجة. يأخذ العامل المنتج أجره من الربح. أما العامل
غير المنتج فيأخذ أجره من أصل رأس المال. وتُقدَّر العوائد على قَدْر الميسرة؛ ففي
الحديث «ما عظُمت نعمة الله على عبد إلا عظُمت مؤنة الناس عليه.» فمن لم يتحمل تلك
المؤنة فقد عرَّض تلك النعمة للزوال. وأيضًا «إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع
العباد يُقرُّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحوَّلها إلى غيرهم.»
والعمل هو مصدر الكسب. ومع ذلك تظل الملكية للمنافع العمومية عامةً طبقًا لحديث
«الناس شركاء في ثلاثة؛ الماء والكلأ والنار.» فلا يجوز لأحد تحجرها ولا الإمام
إقطاعها. والمملكة المتسعة الأراضي القابلة للزراعة اتساعًا يزيد عن حاجتها ليس
فيها حق الملكية. لا تجوز الملكية في الأراضي الشاسعة، وهو تكليف الأفراد بما لا
يطيقون. ولا الأراضي الضيقة تخفيفًا للمنافع العمومية، ومنعًا للتناحر والتشاجر
والتنابُذ. ويجوز ملكية الأرض ممن أحيا مواتها؛ فالعمل مصدر الكسب ومصدر الملكية.
وكلما ازداد العمل ازداد الكسب. أما طائفة المُلَّاك فهم دون أهل الحرفة الزراعية.
يقتنون الأرض ولا يعملون فيها. يحتكرون الأعمال الزراعية التي تستدعيها الفلاحة
كالحدادة والنجارة أو بلغة العصر الصناعات التحويلية. ولا يعطي مالك الأرض للفلاح
إلا النزر اليسير من نتاج عمله حتى يظل فائض القيمة له، دون الإحالة إلى الاشتراكيين
أو إلى ماركس. ويُدافع الطهطاوي عن عدة مبادئَ اشتراكية؛ مثل: «من يزرع يحصد». وهو
مطابق لحديث الرسول «الزرع للزارع.» ويمكن الاستعانة في كل صنعة بصالحي أهلها طبقًا
لحديث «استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها.»
٦١
فالملكية أصل البلاء ومصدر التنازع والخلاف. وقد أوصى الرسول: «لا تحاسدوا، ولا
تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله
إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقده.» والتقوى في
القلب؛ «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه
وماله وعرضه.» وفي رواية أخرى «ولا يَسِم على سَوْمه، ولا يخطب على خطبته.» وهي أيضًا
تجربة الشعراء. وقد ذكَّر الله المؤمنين بنعمته، تألُّف القلوب بعد العداوة؛
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا،
وأيضًا
لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ،
وأيضًا
هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.
٦٢
والإنسان بالفطرة كاره للعمل والتكليف، ومطبوع على السرعة والكسل. كما أن
الأغنياء يحبون التمتُّع بالثروة دون الكد والسعي. ويُخصِّص الطهطاوي فصلًا بأكمله «في
مدح السعي والعمل وذم البطالة والكسل».
٦٣ وقد مدح القرآن عمل داود وصنعته؛
وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ. والعمل قوة، وزيادة العمل زيادة في القوة؛
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً. وأفضل الأعمال أدومها طبقًا
لحديث «أفضل العمل أدومه وإن قل.» والعمل مصدر الرزق؛ «جُعل رزقي تحت ظل رمحي.» كما
أن الله يحب العبد المحترف «إن الله يحب العبد المحترف ويرفض الصحيح الفارغ.» ومَن
عمل ليكسب قوت يومه بالحلال أصبح مغفورًا له؛ «من بات كالًّا في طلب الحلال أصبح
مغفورًا له.» وقد مدح الصحابة العمل وذموا الكسل. وكان الصوفية والمتكلمون
والفلاسفة والفقهاء يعيشون من كدِّهم وعَرقِهم مثل إبراهيم بن أدهم، الذي بالرغم من
زهده كان يسعى ويرعى ويكري ويحفظ البساتين والمزارع ويحصُد بالنهار. وهو ما أكده
الشعراء أيضًا.
وقد نشأ لعب النرد من الفراغ. وأول من وضع النرد هو أردشير بن بابك أول ملوك
الفرس، ناسبًا الفعل كله للقضاء والقدَر. وناقضه الحكيم صصة بوضع لعبة الشطرنج لنفي
القدَر وإثبات أن الإنسان قادر بسعيه واجتهاده على بلوغ الكمال. وهو نفس الدافع لوضع
الطب لإثبات أن الإنسان قادر على السيطرة على المرض بالوقاية والعلاج، دون الاكتفاء
بالطب الإلهي أو بالطب النبوي. كما وضع سيبويه قواعد علم النحو والخليل بن أحمد
قواعد علم العروض. وفي الطبقات الاجتماعية تأتي طبقة العاطلين في أدنى السلَّم
الاجتماعي. وهم الذين يعيشون عالةً على غيرهم.
وتاريخ مصر يدُل على الإقدام على الأعمال الجليلة؛ مثل بناء الأهرامات والمسلات
والمعابد والتماثيل، نفورًا من الكسل والفتور، وتصوير الكسول مع الكلاب، حزينًا
مكتئبًا مطأطئًا الرأس معقود اليدَين وبجانبه هدم وكسر لبيان أنه لا يقوم بدوره في
تعمير العالم، أو على شكل امرأةٍ شعثاءَ غبراء وسط الرمال، أو تعيش في نسيج العنكبوت
الواهي. وذكر لافونتين من ضمن حكاياته حكاية عن الصرار والنمة كصور للكسل والجهد.
ويشهد التاريخ المصري والتاريخ الإسلامي بجد المصريين واجتهاد المسلمين في العلوم
والمعارف قبل المدنية الغربية الحديثة. واستأنف الغربيون هذا النشاط في الكشوف
الجغرافية كما فعل سير صامويل بيكر في اكتشافاته في أفريقيا، وأدرك أهمية قناة
السويس للربط بين أوروبا وأفريقيا وآسيا، وقناة هندوراس وهي قناة بنما بين
الأمريكتَين الشمالية والجنوبية، وأهمية السكة الحديد لأمريكا الشمالية الشاسعة؛
لذلك سُمِّي العصر كله عصر المدنية.
وتختلف المنافع العمومية باختلاف أحوال الناس وتغير العادات وظروف كل عصر؛ فلمصر
منافعها العمومية في الوقت الحالي وإن اتفقَت المقاصد عبر الأزمان والعصور.
٦٤
وتتوقف المنافع العمومية في نهاية الأمر على الإمارة أكثر مما تتوقف على الزراعة
والصناعة والتجارة. وتتلخص الإمارة في «إسعاد الحاكم للبلاد والعباد».
٦٥ ويكون ذلك عن طريق تأسيس شورى مجلس النواب؛ أي الحكم الديمقراطي. ثم
سرعان ما يترك الطهطاوي هذا المستوى السياسي ويعود إلى المستوى المادي للثروة
الحيوانية وتبصير أهل مصر بنفق المواشي بالوباء والتندُّر في ذلك في التعزية بثورٍ
أبيض. ثم يترك الثروة الحيوانية إلى الصناعة ليُبيِّن أن صرف الهمة إلى الصنائع في أي
بلدٍ يقطع عرق الفتنة والشرور فيها. ثم يبين أن الاختراعات الجديدة كان لها نظائر في
الأزمان القديمة تقوم مقامها من بعض الوجوه. ومن مستلزمات الحكم وجود البريد منذ
عهد الأكاسرة والقياصرة حتى ملوك الإسلام. واستمر في العصر الحديث حتى عصر محمد علي
الذي كان يُرسل البريد من القلعة إلى جميع ولاياتها. وقد قام الحمام الزاجل بحمل
الرسائل. واستعمله نور الدين بالموصل. وكان لها مراكز بالديار المصرية. وقد أنشد
الشعراء فيه الكثير من باب تأدية الأمانات إلى أهلها. ثم يصف مراكز «هجن الثلج»
نقلًا من الشام إلى مصر. وكان بمصر مناورُ لمعرفة الأخبار كرفع النار في الليل
والدخان في النهار للتنبيه على غارات العدو. وتُحرق المراعي والمُخصبات التي يأتي من
جهتها العدو منعًا لإغارته على الديار المصرية. ثم ينتقل إلى مدح الغنى اعتمادًا
على القرآن والحديث مثل:
وَوَجَدَكَ عَائِلًا
فَأَغْنَى؛ لذلك تنتج الحكومة المصرية ثرواتٍ لإسعاف الأهالي في الأحوال
الضرورية. مصر في النهاية هي كوكب المشرق كما وصفها حافظ إبراهيم فيما بعدُ. ويعود
الطهطاوي إلى عنوان الفصل ويقسم السياسة خمسة أقسام؛ السياسة النبوية وهي من اختصاص
الله، والسياسة الملوكية وهي حفظ الشريعة وإحياء السنة والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والسياسة العامة وهي الرياسة مثل رياسة الأمراء وقواد الجيش، والسياسة
المنزلية، سياسة الرجل داخل بيته، والسياسة الذاتية، سياسة المرء لنفسه. ويمدح حب
المعالي وعدم الاقتناع بالدون. ويظل الطهطاوي ينتقل من موضوع إلى موضوع حتى
النهاية. فيُؤَوِّل الأسماء الخمسة المعروفة في اللغة ويختار «ذو مال» باعتبار أهمية
المال بعد التأكيد على أهمية التراحُم والترابُط الاجتماعي في «أبوك، أخوك، حموك»،
وعلى الفصاحة والبيان في «فوك». ثم يبين أن مطمح نظر مصر التمدُّن بالأعمال الرابحة.
وعندما يشعر بأشعريته يُصرِّح بأن تعاطى الأسباب لا يُنافي التوكُّل ولا ينافي القضاء
والقدَر معتمدًا على حديث «تداوَوا؛ فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وما من داءٍ
إلا له دواء.» و«الدواء من القدَر.» وينتهي الطهطاوي نهايةً أسطورية وهو أنه كان عند
الإسكندر صورةٌ مثمَّنة الشكل مكتوبٌ على أضلاعها المسائل السياسية الحكمية وهي الحكمة
المنسوبة إلى أرسطو أو إلى كسرى أنوشروان؛ «هذا العالم سياج بستانه الدولة، والدولة
سلطان يحفظها السنة، والسنة شريعة يحوطها الملك، والملك راعٍ يُعضِّده الجند، والجند
أعوان يكفلهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية خدَّام يتعبَّدهم العدل، والعدل
مألوف وبه صلاح العالم.» ثم يعود الطهطاوي في النهاية إلى رأس الموضوع «إسعاد
الحاكم للبلاد والعباد». ويُصرِّح بأن السعي في أداء الحقوق الوطنية منحةٌ إلهية يمنحها
الله سبحانه. وقد كان السلف الصالح يدعون لصلاح ولي الأمر لأن في صلاحه صلاحَ
المسلمين.
والإمارة تقتضي العدل والصدق والوفاء بالوعد ومجاراة النفس على أفضل أحوالها؛ «من
عامل الناس فلم يظلمهم، وصدقهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كمُلَت مروءته،
وظهرت عدالته، ووجبَت إخوته، وحرُمَت غيبته.» كما تقتضي التوجُّه إلى أعالي الأمور وليس
إلى سفاسفها؛ «إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها».
٦٦ وقد قال أنوشروان شيئًا مشابهًا وسمَّاه المروءة.
(٥) الدولة التاريخية
لیست مصر فقط هي الوطن أو المنافع العمومية، بل هي أيضًا الموقع التاريخي
وامتدادها واستمراريتها في الزمان؛ فنشأَت شخصية مصر وعوائد المصريين من تراكُم
التجارب والخبرات. نشأ فيها التمدُّن والعمران. وفيها نشأَت الأديان وعقيدة التوحيد
وتهذيب الأخلاق، وفجر الضمير؛ نظرًا لما يقوم به الدين من رقابة على النفوس وصلاح
الدنيا واستقامتها، وإقامة العدل والإحسان وعمارة البلاد وسلطان الأرض. وفيها تحقَّقَت
المنافع العمومية التي تعود بالثروة والغنى وتحسُّن الحال. ونشأ العمران ابتداء من
الفلاحة. ثم توسعت دائرة العمران بالأسفار والسياحة فنشأت التجارة؛ فالتمدُّن قسمان؛
معنوي من الدين والآداب والأخلاق، ومادي من المنافع العمومية والرقي والتمدُّن
والعمران من زراعة وتجارة وصناعة، على الرغم من اختلاف أغراض كلٍّ منها، حتى لقد ظن
الحكماء أن هذه الصنائع مضادة للأخلاق والآداب، كما هو معروف من نقد ابن خلدون
للتجارة وأخلاق التجار.
٦٧
ومصر هي أيضًا الجغرافيا، الموقع المتوسط بين الشرق والغرب، وبين آسيا وأفريقيا،
وبين الشمال والجنوب، منفتحة على سواحل الشام وعلى أحراش السودان. وهي فتوحات محمد
علي الحديثة توسيعًا لرقعة مصر وأمنها القومي.
٦٨
ويُفصِّل الطهطاوي المنافع العمومية في الأزمان القديمة، وأنها كانت بسيطة سهلة لا
تحتاج إلى كبير شيء؛
٦٩ فالأرض الخصبة كانت رأس مال المزارع. وإذا كانت لمالك الأرض فإنه
يستعبد المزارعين لفلاحتها؛ فهم جزء من ملكية الأرض مع الحيوانات والآلات. وإن كان
حرًّا فله أجر عمله، ويظل يعيش في إقطاع السيد. وكانت الصناعات مقصورة على
الضروريات، ويقوم بها الأرقَّاء أيضًا، فكانوا يصنعون ما تدعو إليه الحاجة. وكان يتم
استيرادها أحيانًا من الممالك الأجنبية إن كانت أفضل تصنيعًا. وكانت النظم
الاقتصادية لا تحتاج إلى كثير من المصارف خاصة في أوقات السلم. وفي أوقات الحرب،
مثل الحرب بين روما وقرطاجنة، بدأ تنظيم العطايا للجنود من إعانات الأهالي بما في
ذلك بعض المصنوعات.
وتتقدَّم المنافع العمومية بما يُسمِّيه الطهطاوي الأسفار والسياحات؛ أي انتشار الأمم
خارج أوطانها، وتوسيع رقعتها لزيادة مواردها، وفتح أسواقها دون أن يكون لديه مفهوم
الاستعمار. ويُروِّج لتبريراته في القرن التاسع عشر. وهذا هو السبب في فتحِ دولةِ
الإنجليز بلادَ الهند كي تتسع تجارتها. وهو ما فعلَتْه أيضًا بعض الدول الأوروبية. وهي
الدول التي تميل إلى الجد والكد والكدح في تحصيل المعالي والأموال والترقي وكسب
المجد. ويتم لها كذلك بالسياحة والإقدام على ركوب الأخطار لنيل الأماني وبلوغ الأوطار.
٧٠
وهو ما فعلَه العرب أيضًا لفضلهم على غيرهم بالتواتُر في أغلب الخصال الحميدة؛
فالعرب أكثر الأمم شجاعة ومروءة وشهامة. ولسانهم أتم الألسنة تمييزًا بين المعاني.
برعوا في العلوم الرياضية. وفي الحديث «إذا زلَّت العرب زلَّ الإسلام.» وفتحوا البلاد
ونشروا الإسلام وأقاموا المدنية وأسَّسوا النظم. والشواهد على ذلك كثيرة في مأرب
وحضارة سبأ التي أشار إليها القرآن؛ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي
مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. ثم
انهارت الحضارة بعد ذلك؛ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ، فقصص القرآن يُثبِت قيام الحضارات وسقوطها، قيامها في
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً، وسقوطها في وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ. ولقد تاجر الرسول لخديجة وعظم
ربحها. وهذه هي الحكمة في رعي الأنبياء الغنم تعویدًا له على السياحة وإدارة شئون
الأمم. وقد سافر موسى إلى مدين وعاون النساء وتزوَّج إحداهن بعد خطبتها من شعيب في
مقابل استئجاره ثمانِ سنين. ويُفصِّل الطهطاوي ذلك إسلاميًّا عن طريق الآيات القرآنية،
والتي تتحدث عن رحلتَي الشتاء والصيف والتعوُّد عليهما، وطبقًا لدعوة إبراهيم؛ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ.
ويُفصِّل الطهطاوي هذه السياحة والأسفار عند الصوريين وسكان سواحل بَرِّ الشام وبراعتهم
في التجارة والعلوم البحرية.
٧١ فالضرورة هي الأصل. ألجأتهم إلى ركوب البحار والتجارة بالأخشاب. وهم
الفينيقيون (الفنيكيون)؛ فالحركة بركة، وكما أنشد الشافعي:
٧٢ وقد سبقوا الغرب الحديث في اكتشاف «عشم الخير»؛ أي رأس الرجاء الصالح.
وهم أول من اكتشف الصباغة باللون الأحمر الأرجواني. وهم أول من اخترعوا حروف الهجاء
المستخرجة منها الحروف الإفرنجية خاصة اليونانية بإلهامٍ رباني؛ فالكتابة من ضمن
الفضائل الأوَّلية. وقد كتب ابن الرومي رسالةً في تقديم القلم على السيف.
٧٣
وقد سبق العرب الإفرنج في وضع أُسس علم الفلك للمساعدة في السير ليلًا، وكما وصف
القرآن؛ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. كما سخَّر الله
الأرض والبحر للسياحة؛ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ. واخترع العرب البوصلة (الإبرة) ضمن المنافع العمومية قبل
الأمم الأخرى في تجارتهم مع الهند. وفي عصر الخلافة عقَدوا معاهداتٍ مع الدول
الأوروبية لتنظيم الملاحة في البحار. كما سبق العرب غيرهم في صناعة الساعات لحساب
الوقت وتقدير عدد السنين. وقد اشتملَت كتب الفقه القديمة بعض المنافع العمومية في
المعاملات الشرعية مثل الأحكام التجارية كالشركة والمضاربة والقرض والمخابرة
والعارية والصلح. وقد استفادت منها المعاملات الأوروبية عَبْر مخالطات تُجار الغرب مع
أهل الشرق مما استدعى إقامة المحاكم المختلطة.
ثم يُطبِّق الطهطاوي أقسام المنافع العمومية في الأزمان الأوَّلية على مصر المحمية،
وأنها كانت من التمدُّن والتقدُّم بمكانةٍ علية؛
٧٤ فقد تقدَّمَت مصر واغتنت في عدة أزمانٍ سابقة وأدوارٍ متناسقة، وحازت على
المنافع العمومية بوجهٍ إجمالي.
٧٥ وقد تقدَّمَت مصر في المنافع العمومية أكثر مما تقدَّمَت البلاد الأخرى
المطلة على سواحل البحار. وجَريان النيل من جنوبها إلى شمالها من أقوى الأسباب في
هذا التقدُّم، وكما تدل على ذلك آثار مدينة طيبة (طيوه)، بل لقد امتدَّت آثار مصر إلى
سواحل أوروبا. ويدُل على ذلك اكتشاف أعمدةٍ مصرية بمعبدٍ قديم في نابولي. وكانت بابل
تُنافِس مصر؛ فمصر والعراق أكبر دولتَين تاريخيتَين في العصر القديم. وتأسَّسَت في العراق
مدينتا بابل ونينوى. ويستطرد الطهطاوي في تاريخ العراق كمناسبة لجمع المعلومات
التاريخية، مثل تسلُّط الملك ننياس وأخذه زمام المملكة من أمه، وتسلُّط سردينال على
العراق وإحراق نفسه ونسائه، ثم دخول أذربيجان والعراق تحت مملكة الفرس، ثم تولية
كيروش ملك العجم مملكة العراق. ثم يصف الطهطاوي ما كانت عليه مدينة منف في الزمن
القديم. ودخلها المأمون وأنشد في حُسنها أبياتًا.
٧٦
ومن علامات التمدن ودلائل العظمة ثلاثة أشياء؛ حسن الإدارة الملكية، والسياسة
العسكرية، ومعرفة الألوهية. وقد تملَّكَت مصر هذه العوامل الثلاثة فنهضَت وتقدَّمَت منذ
قديم الزمان؛ فقد حسُنَت الإدارة في مصر القديمة مما استوجب طاعة الرعية للملوك. وتم
توزيع أراضي مصر على طوائفَ ثلاث: الملك، والكهنة، والجند. وفي السياسة العسكرية
كانت مصر كثيرة الجند. يُكافأ الشجعان منهم. واخترعَت مصر آلة الحراثة، ورَّتَبت مجالس
القضاء. وتم توقيع العقاب على المذنبين والفحص عن أوجه التعيُّش مثل قانون «من أين لك
هذا؟» في هذا العصر. وكان جهاز الدولة في غاية التهذيب واستقامة الأخلاق.
٧٧
يُؤصِّل الطهطاوي تاريخ مصر اعتمادًا على الآيات القرآنية كمصدر للأخبار التاريخية،
مثل الاستشهاد على تقدُّم مصر وامتیازها في المعارف في الزمن القديم بآية
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ من قصة يوسف وفرعون.
٧٨ ويبدأ بحسد إخوة يوسف لأخيهم حتى تدبير يوسف لغلال مصر وحفظ الحب في
سُنبله. ويدخل في تفاصيل القصة وليس فقط البداية والنهاية، تَعرُّف يوسف على إخوته،
وذهاب البشير بقميص يوسف إلى أبيه، والدرس المستفاد منها ليس فقط أسباب نزولها، وهو
إخبار اليهود بآل يعقوب وسبب انتقالهم من الشام إلى مصر، بل عُلو درجة مصر، وعدل
أحكامها، وترتيب قوانينها.
٧٩
ويُشيد الطهطاوي بفتوحات الإسكندر الرومي للديار المصرية، وما نتج عنها من اتساع
دائرة المنافع العمومية، الناتجة عن مُقدِّمات الحزم والكياسة وشَرطياتِ أشكال العدل
في
التدبير والسياسة.
٨٠ وسلوكُ الإسكندر في البلاد المفتوحة يُباين سلوك باقي الفاتحين؛ لذلك فطن
القدماء وجعلوه ذا القرنَين المذكور في القرآن. وجعلوا رسالته نشر التوحيد وإعلاء
كلمة الله، كما تبدو في مراسلاته المنتحلة مع أستاذه أرسطو ومع أمه!
٨١ وقد تحقَّق للإسكندر تمثُّل المال والعقل والسعد. ويذكُر الطهطاوي تفاصيلَ
عدة عن الإسكندر، تتويجه ملكًا للأمم، وتأليف مَن تحت حكمه من الملل، ونسبه وولاية
أبيه، ورتبته العسكرية، والقصد من حرب العجم، وتجميع اليونان للمساعدة، ثم قتل أبي
الإسكندر في عرس ابنته، وتربية أرسطو للإسكندر، وفائدة التاريخ للملوك. ثم توجه
الإسكندر لحرب بلاد آسيا بجيشٍ يسير، وفتوحه لبلاد العجم ثم فتحه لمصر. ثم توفي
الإسكندر وهو في ريعان الشباب دون أن يعهد إلى أحد بالسلطة. وتَرتَّب على فتوحات
الإسكندر مزايا جسيمة للتمدُّن والمنافع العمومية. وحكم مصر البطالمة. وظهرت مآثر حكم
الإسكندر في عهدهم، ومنها منارة الإسكندرية التي كانت من عجائب الدنيا، ومكتبة
الإسكندرية، وتقدُّم الملاحة والأسفار البحرية في عهد بطليموس الأول. وامتلَأَت خزائن
مصر بالذخائر. وقد جلب بطليموس الأول اليهود إلى الإسكندرية، وشيد لهم حارةً خاصة،
حارة اليهود. ثم ضاقت دائرة المنافع العمومية في الأدوار الأخيرة حتى استيلاء
السلطان سليم على مصر، دون ذِكْر حُكم العرب لمصر وحُكم الفاطميين والإخشيديين
والطولونيين والأيوبيين والمماليك. ثم تغلَّبَت الفرنساوية على مصر وانتزعَتْها من
الخلافة قبل أن تعود إليها. ثم خلَّص محمد علي مصر من سيطرة المماليك فحصلَت المنافع
العمومية بالقوة الوطنية والنخوة الأهلية، وظهرت شعائر الإسلام، وابتهج الناس بدين
خير الأنام، فعلاقة أرسطو بالإسكندر مثل علاقة الطهطاوي بمحمد علي، وهيجل بفردريك
الثاني، المفكر والأمير، الفيلسوف والملك.
ويصُب التاريخ الماضي في التاريخ الحاضر. وتعود المنافع العمومية إلى مصر حسب
الإمكان في عهد مُحْيِي مصر «جنتمكان».
٨٢ ويصعب التمييز بين التاريخ المعاصر لمصر وبين مدح محمد علي باني مصر
الحديثة؛ إذ يتحدث الطهطاوي عن «مناقب جنتمكان محمد الاسم عليِّ الشأن، وأنه نادرة
عصره ومحيي مآثر مصر، والمقابلة بينه وبين عدة من مشاهير ملوك الأعصُر القريبة.»
٨٣ إذ تعلَّم القراءة والكتابة في سن الخامسة والأربعين. كان متدينًا على حد
الاعتدال يُؤثِر الفعل على القول. ويتعلَّم بالتجربة. يقصد التغلُّب بطريقة العبد وليس
عن
طريق كسب الأجر. وكان من مآثره تخليص الحرمَين الشريفَين والأقطار الحجازية من عبد
الله بن سعود شيخ الوهابية؛ فقد أتعب الحُجَّاج بقطع الطرقات. انتصر عليه محمد علي
وأسره وأرسله إلى الآستانة لضرب عنقه. وقاد إبراهيم حملة المورة ولكنها استقلَّت. ولم
تعُد الحملة بأي نفع على مصر إلا هجرة بعض الألبان إلى مصر واندماجهم مع أبناء
الوطن، وتمرين العسكرية المصرية على الحرب والجهاد إلى يوم الدين. ومقدونيا مسقط
رأس أميرَيْن عظيمَيْن هما الإسكندر ومحمد علي. ثم يقارن الطهطاوي العظماء بعضهم ببعض،
السلطان سليمان القانوني والإمبراطور شارلمان (شرلكان) ملك إسبانيا والنمسا. وقد
بعث السلطان سليمان «عمارة» بحرية؛ أي أسطولًا؛ لنجدة ملك فرنسا. وسافر إلى أوروبا
بجيشه وعاد منصورًا. كما حافظ على ولاية تونس. ثم يقارن الطهطاوي بين سلاطين آل
عثمان وسلاطين أوروبا؛ فقد بلغ عصر لويس الرابع عشر في أوروبا درجة الكمال. كما جدَّد
كولبرت المنافع العمومية، وجلب محاسن المنافع العمومية من الخارج إلى وطنه. وقد رثا
فولتير لويز الرابع عشر. ويرصد الطهطاوي سلاطين آل عثمان المعاصرين للويز الرابع
عشر. ثم ينتهي إلى ملاحظةٍ نظرية عن مساعدة كبار الوزراء أرباب الفراغ لملوكهم على
التمدُّن مثل إبراهيم وإسماعيل.
بل يُؤيِّد الطهطاوي قصد محمد علي لنهضة مصر بالآيات مثل: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وبالأحاديث مثل: «إنما الأعمال بالنيات.» و«من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل.» فالمهم القصد والنية،
والمضمون لا الشكل؛ «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم.» وأحاديث أخرى تُؤكِّد على دور النية وأهمية العمل.
وقد تمكَّنَت منافع مصر العمومية كل التمكُّن من الذات المحمدية العلية، وتسلَّطَت
على
قلبه، وأخذَت بمجامع لُبه.
٨٤ ويُبرِز الطهطاوي توحد المنافع العمومية بشخص محمد علي؛ فالفلاحة منبع
الثروة في مصر كما وضح ذلك من قصة يوسف. وقد تمنَّى نابليون أن يحكم مصر حتى يُحسِّن
أراضيها، ويُكثر أهاليها. وقد خطر ببال محمد علي نفس الشيء لإحياء ما في مصر من
الموات بزيادة فروع النيل واتساعها وتنظيفها، وتوسيع الرقعة الزراعية، واستصلاح
أراضي الفيوم، وتنظيم توزيع مياه النيل، وإنشاء القناطر الخيرية. ومع ذلك فقد أولى
معظم همه لتنظيم العسكرية المصرية لما لها من منافعَ عمومية في التسليح والخدمات.
وقاس النيل بغيره من الأنهار. وشَقَّ ترعة المحمودية، ووضع خطةً لزيادة ثروة مصر؛ فأرض
مصر تُراكِم من الطمي أثناء الفيضان. وقد أدرك ثلاثة مخاطر؛ ارتفاع أرض مصر بسبب
تراكم الطمي وبالتالي صعوبة الري. والنحر النهري يسبب انخفاض التربة فيتسع مجرى
النهر، والنحر الأرضي للدلتا من ماء البحر عند المصب. وقد صاغ الدورة الزراعية
لزيادة المحاصيل. وأزال الموانع الطبيعية التي تُعطِّل مساحة الأراضي المزروعة.
وقد «دبَّر محمد علي من أصول المنافع العمومية الجسيمة، والوصول بها إلى الحصول على
التقدُّمات العميمة في زمنٍ يسير، مما لو أنجزه من الملوك جمٌّ غفير لعُد من العمل الكثير
وحسن التدبير.»
٨٥ ولا يخلو تدبير محمد علي من الحكمة الإلهية، كما قال الغزالي في «إحياء
علوم الدين»! ويُفصِّل الطهطاوي نظام الري اعتمادًا على ما قاله فرعون؛
أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ. كان هناك نظامُ ريٍّ قاصر في عهد المماليك.
ثم سخر المولى تبارك وتعالى محمد علي لإحياء عمارية مصر. وكان القدماء قد صوَّروا
الأراضي للرشید ولم يستحسن منها إلا إقليم أسيوط! فأكمل محمد علي نظام الري بإنشاء
القناطر الخيرية وشق الرياحات. وأرسل بعثة لاستكشاف أعالي النيل. وأنشأ المدارس
ومدرسة الألسن لمعرفة اللغات، والاستفادة من الكتب الأجنبية. وأنشأ بالإسكندرية
ترسانةً شبيهة بترسانة طولون. ولم يعُد يستورد السفن من الخارج. وعرَّب الجيش في مصر
السودان.
وسافر إلى جبال فازغلو ببلاد السودان لاستكشاف المعادن الذهبية وأعمال الطرق التجريبية.
٨٦ ويُبيِّن الطهطاوي أمهات المعادن المستخرجة في هذا العهد. ويعتمد على
القرآن في ضرورة استخراج الذهب دون اكتنازه؛
وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. ويقارن ذهب السودان بفضة أمريكا
(أمريكه) وجمهورية المكسيك (مكسيكا). وتحوَّلَت الزراعة التقليدية إلى تعدين. وتحوَّل
النيل من مياه للري لطرق مواصلات لاكتشاف المعادن. ويُفصِّل منجمًا منجمًا ومدى تعاوُن
الأهالي أو معارضتهم. ودخل محمد علي الخرطوم وأرسل خبراء المعادن إلى كافة أرجاء
السودان. وقام بإرشاد الأهالي إلى وسائل الزراعة الحديثة. وشيَّد بعض المباني. ثم يئس
من استخراج الذهب وعاد إلى مصر بعد قراءته تقرير رئيس خبراء التعدين بعدم فائدة
استخراج المعادن في السودان لقلة الربح وعِظَم التكاليف؛ فالسودان ليس بلدًا للمعادن،
بل للزراعة إن تم تحسينها وتجويدها. وثقافة الناس في السودان شرعية يمكن استثمارها
في حثهم على الجد والاجتهاد، والعلم والتعلُّم. ولسانهم عربيٌّ فصيح ويمكن أن تصبح أكثر
تمدنًا من أمريكا. وقد سافر الطهطاوي إلى السودان ونظَم قصيدة في أحوال البلاد
وعوائدها وهي من أطول القصائد. ولطول مدة الإقامة في السودان وتحقيق النفع للوطن
تَرجَم هناك «وقائع تلماك»، وطُبع في بيروت وهو من أنفع الكتب في الآداب. ثم تُوفي محمد
علي وكان يجعل كسب المعالي دائمًا نُصب عينَيه.
٨٧
وإذا كان الباب الثالث عن تأصيل المنافع العمومية في التاريخ، وكان الثاني عن
حاضر المنافع العمومية في عصر محمد علي، فإن الخامس في مستقبل المنافع العمومية في
مصر «في الآمال الحسنة والأعمال المستحسنة من الإصلاحات المصرية بمقتضى إصلاحات
الحال العصرية»؛
٨٨ فيذكُر أولًا تقدُّم مصر في الوقت الحالي، وتوسيع المشاريع والمسالك. ثم
يُفصِّل الطهطاوي «ملحوظات عمومية تتعلق بالديار المصرية، أبداها بعض من أرخ لمصر من
أرباب السياحة، وحرص فيها على ما يلزم من تقديم التمدُّن بتحسين أحوال المنافع
العمومية، تجارةً كانت أو زراعة أو فلاحة، وهذا باعتبار ما كان كما لا يخفى على ذوي العرفان»؛
٨٩ إذ لم يستطع حتى الآن أرباب السياحة الوقوف على حقيقة مصر. وقد رأى
الفرنسيون بعد تغلُّبهم على عُمَّار مصر أنه لو حُكمَت مصر بحكومةٍ مماثلة لحكومات أوروبا
لبلغَت شأنًا كبيرًا في الرقي والتمدُّن؛ فالمحكُّ هو النظام السياسي. ويصف حال أطيان
مديريات البحيرة روضة البحرَيْن والشرقية والجيزة والقليوبية والفيوم وبنى سويف
والمنيا وأسيوط وجرجا. ويمكن الاستثناء من العوائد المالية ترغيبًا لتكثير
المعمارية. كما يذكر كيفية تحسين الثروة الحيوانية. ثم يتناول القوى البشرية، ويبين
استعداد أبناء مصر بقرائحهم الذكية لجميع المعارف والمنافع البشرية، وإمكانية تحويل
مصر إلى حالةٍ مستحسنة كل عشرين سنةً مرة، وحِفْظ قُواهم العقلية إلى آخر أعمارهم. وما
أكثر الأشعار في ذلك!
٩٠
وقد بلغت المنافع العمومية بالديار المصرية درجةَ ارتقاءٍ جلية في عهد الحكومة
الحالية طالما أن الطهطاوي هو مفكر الدولة وحارس النظام.
٩١ ومع ذلك فلا لزوم للمروج المُدبَّرة في مصر وهو البرسيم. وأفضل منها زرع
القطن، وغرس شجر التوت، وتربية دودة القز. ويُفصِّل كيفية تسبيخ الأرض المهيَّأة لزراعة
القطن وزمن بذره، وكيفية الاعتناء بشجره ونموه. ثم يُبيِّن حُسن مياه النيل واستعمالها
في الصباغة. ثم يتحول من زراعة القطن إلى زراعة الأرز وكيفية تحسينها بالأقاليم
وكذلك قصب السكر بالمنيا. ويقارن بين الفلاحة وصناعة الصوف أيهما أقدم. ويضرب المثل
بتشريف إمبراطور الصين للزراعة بأن حرث بنفسه الأرض في يومٍ مشهود. ثم ينتقل إلى
الثروة الحيوانية، تربية المواشي والأغنام خاصة الغنم البيض وعدم ذبحها. وقد جلبها
إدوارد ملك الإنجليز إلى مملكته. كما استوردت إنجلترا غنم الهند خصيصًا لصناعة
الصوف. واشترت مملكة فرنسا الأصواف المغزولة بأثمانٍ غالية قبل اختراع دواليب الحلج
والغزل. وقد أفادت التجربة بإبقاء الصوف بلا جَز عدة سنوات. ويتحدث عن الجوخ
الفرنسي. ويعتمد في كل ذلك على حدْسٍ قرآني
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وعن
استعمال أصوافها وأوبارها وأشعارها متاعًا.
(٦) خاتمة: طبقات الوطن
وفي الخاتمة يصف الطهطاوي الوطن وطبقاته الأربع؛ ولاة الأمور، والعلماء والقضاء
وأمناء الدين، والغزاة، وأهل الزراعة والتجارة. وهي طبقاتٌ اجتماعية أكثر منها
مكوناتٍ للوطن أو بنية للدولة وسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.
٩٢ وهو ترتيبٌ هرمي يستدعي الفارابي، أعلاها الحكام ثم العلماء والقضاء
وأمناء الدين ثم الغُزاة، وأدناها أهل الزراعة والتجارة والصناعة؛ أي العمال
الحرفيون.
وظيفة ولاة الأمور من أعظم واجبات الدين؛ فالسياسة سياسةٌ شرعية. والدين يشمل
الدنيا. والسياسة الشرعية سياسةٌ مدنية. كما يحتاج الانتظام العمراني إلى قوتَين؛ قوة
حاكمة وقوة محكومة. وتشمل القوة الحاكمة السلطات الثلاث؛ التشريعية والقضائية
والتنفيذية. وفن السياسة هو الذي يعطي الأصول والأحكام التي تُدار بها المملكة.
وأحيانًا تُسمَّى فن الإدارة أو علم تدبير المملكة، وباللغة الأجنبية «بوليتيقة»، وهي
العلم بالسياسة وأحوال الناس؛ لذلك يتم تعليم القرآن في البلاد الإسلامية وتاريخ
الأديان في بلادٍ أخرى لسد هذا الفراغ في حالة غياب علم السياسة، وهو ما يحتاج إليه
الصبية لتعلُّمه منذ الصغر، بالإضافة إلى القصائد واللغة العربية والأمور السياسية
والإدارية لفهم أسرار المنافع العمومية؛ فالمصالح الشخصية لا تتم إلا من خلال
المصلحة العمومية، مصلحة الحكومة ومصلحة الوطن. وإن استخدام الإنسان في الحكومة
يستدعي سبق معرفة بأصول وظيفته، ومنها كتمان الأمور السياسية عن العموم وجعلها من
أسرار الدولة في الأزمان السابقة. وقد صدرت الأوامر الخديوية بقَيْد أبناء وجوه الناس
بوظيفة معاونين ليتمرَّنوا على الأحكام بالرغم من اختصاص الملك بمعالي الأحكام
وكلياتها وتفويضه جزئياتها لوكلائه.
٩٣
كان النظام الملك بانتخاب السواد الأعظم وإجماع الأمة. ولما تبيَّن ما في هذا الأصل من
مفاسد تحوَّل إلى نظامٍ وراثي ضمانًا لحسن انتظام الممالك. وإن على الملوك حقوقًا ولهم
واجبات؛ فهو خليفة الله في أرضه، وحسابه على ربه وليس على رعيته بالرغم من أن الشرع
قال بأن «الدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسله ولأئمة المسلمين وعامتهم.» والذمة
محكمةٌ قضائية، تثيب صاحبها، وتعاقبه على الخير والشر. والذمة في العقل والقلب وهي
فطرية في النفس؛ «جئتَ تسأل عن البر. والبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب.
والإثم ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر، فاستفتِ نفسك وإن أفتَوك الناس وأفتَوك.» «وكل
مولودٍ يولد على الفطرة.» والرأي العمومي يُحيل ولاة الأمور على العدل والإحسان. وفي
الحديث «إن الله يحب العدل.» وقد نصَّ القرآن على ذلك أيضًا إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ونفوذ
ولاة الأمور يعود على الرعية بالفوائد الجسيمة. ووظيفة المجالس المداولات
والمذاكرات. وهي أقرب إلى الشورى غير الملزمة.
والحاكم رحيم بالرعية. إذا كان دأب المنصب الملوكي الصفح عن الجاني أو تخفيف
العقوبة عنه. فالملوك يتصفون بالحلم. وإن صفح الملك عن الجاني يمحو العقوبة ولا
يمحو الذنب كما هو الحال في الشريعة الإسلامية، والتفرقة بين الحق المدني والواجب
الأخلاقي. ولا يكون صفح الملك في حقوق العباد. وإن عفو الملوك مطلوب لكونهم أَوْلى
بالتخلق بأخلاق الرحمن وطبقًا للحديث «الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا مَن في الأرض
يرحمكم مَن في السماء.» وهو أيضًا ما تؤكده التجربة الشعرية.
ويفعل الملك ما فيه صلاح الرعية. ويختار للولايات المهمة من أرباب المعارف
السياسية مَن فيهم الكفاءة اللازمة والمعلومات الكافية. وعلى الرعية طاعتهم؛ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ. وحقوق الرعية، وهي الحقوق المدنية حقوق أهالي المملكة بعضهم
على بعض، الحقوق الخصوصية الشخصية في مقابل الحقوق العمومية هي أقرب إلى المعاملات
الفقهية. أما حقوق الدوائر البلدية فهي فرع من المدنية؛ فالدائرة البلدية والناحية
والمشيخة تُفيد نفس المعنى. ويسبق تكوين الدوائر البلدية تكوين الحكومات والممالك؛
فالمجالس المحلية هي التي تحكم قبل المجالس النيابية. وقد سُمي رئيس الناحية شيخ
البلد أو شيخ الحارة نظرًا للاحترام الواجب للشيوخ. والبلد هي الحارة، كما أن الشام
هي دمشق، ومصر هي القاهرة. ومن خصائص شيخ الدائرة البلدية ترتيب الأشغال العمومية.
ويُرخِّص الشيخ الناحية بإجراء ما هو من خصائصه بدون استئذانِ مَن هو فوقه من الحكام
إلا
في الأمور الجسيمة، تجنبًا للبيروقراطية. وعلى شيخ البلد أن يكون لديه القدْر الكافي
من المعلومات عن الناحية.
وفي أوروبا كانت ملكية الأرض الزراعية حكرًا على الأمراء الذين يدفعون الضرائب
للحكومة في مقابل ترك أياديهم مطلقة في الأرض؛ لذلك قامت الحروب الصليبية بدعوى
استرداد القدس الشريف وغيره من أراضي المسلمين حتى قامت الثورات الحديثة دفاعًا عن
الحرية والتمدُّن. وقد نتج عن ذلك تمتُّع الأهالي بثمرات الاكتساب وتحصيل المنافع، وقوة
الحكومة، وتمكين الدولة دون توسُّط الأفراد والملتزمين. وتقوم الشريعة الإسلامية على
تسوية الجميع في العدل والإنصاف. فيتم ترتیب عُمد الدوائر والمشورات البلدية؛
فالشريعة معيار المملكة، والسياسة ميزان السلطنة، فيزنون الرعايا بأنفسهم بميزان
الشريعة.
أما وظيفة العلماء والقضاة وأمناء الدين فهم «علماء الحقيقة وعلماء الشريعة
وعلماء الحكمة والأمور النافعة التي عليها نظام الدنيا والدين».
٩٤ علماء الحقيقة هم أهل الزهد والورع، وهم الصوفية. والعلماء هم ورثة
الأنبياء وحملة الشريعة، «لولا العلماء لهلكت أمتي. اللهم احفظ العلماء واعفُ عن
الجهال وارحم الناس.» ولهم احترامهم الكامل من الدولة. وهما جماعة علم، العالم
والمعلم «العالم والمعلم شريكان في الخير.» ولهم منزلتهم العالية، «أنزلوا الناس
منازلهم.» وعلى العلماء الشرعيين الجمع بين العلوم الشرعية والمعارف البشرية
كالعلوم الحكمية العالية. وهي ليست علومًا أجنبية كما تبدو الآن. بل هي علومٌ
إسلامية نقلَها الأجانب إلى لغاتهم من اللغة العربية.
أما القضاء فهو منصب له جلاله وقدره خاصة إذا اجتمع مع نقابة الأشراف. وقد جمع
بعض أسلاف الطهطاوي بين هاتَين المكانتَين مع ذكر أسمائهم. وقد استقر الفقه على مذهب
أبي حنيفة النعمان بعد أن كان متعدد الأركان على المذاهب الأربعة لأسبابٍ سياسية
خالصة في الخلافة العثمانية. وتتطلب الأحوال والمعاملات العصرية تنقيح الأقضية
والأحكام الشرعية بما يوافق مزاج العصر بدون شذوذ، مع جواز تقليد غير المذاهب
الأربعة طبقًا للحاجة. والتشديد والتخفيف في الأحكام يتغير بتغيُّر الأزمان. ومن لم
يحمل هم المسلمين فليس منهم. وليس من الضروري أن يكون القاضي على مذهب ولي الأمر بل
أن يكون كامل العقل والدين، و«من قلَّد إنسانًا عملًا وفي رعيته من هو أولَى منه فقد
خان الله ورسوله وجماعة المسلمين.» لذلك كثُرتْ عند القدماء آداب القاضي ووصاياه وفي
مقدمتها العدل؛ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا، سواء كان القاضي المدني أو قاضي العسكر.
ويقوم ولي الأمر بالتفتيش على أحوال القضاة مثل باقي الولاة.
ويتحدث الطهطاوي عن سائر الملل والطوائف، كما فعل ابن خلدون في «المقدمة» وطبقًا
للشريعة، أن تحكم كل ملة بكتابها وكما كان الحال في دولة الخلافة؛ فرؤساء أحبار أهل
الذمة هم العبرانيون واليعاقبة. وبطريق اليعاقبة أكبر أهل ملته. يحكم بما أنزل الله
في التوراة دون أن يُنسخ في الإنجيل، وتقوم شريعته على المسامحة والاحتمال والصبر
على الأذى. وهو مثل بابا روما ومساوٍ له. يصالح بين المتخاصمين. أحدثوا الرهبانية
للتخفيف من هموم الدنيا والتعفف عن الشهوات. ورئيس اليهود على قلتهم هو الحافظ لهم،
يُطبِّق شريعة موسى المتواترة. ويذكُر الطهطاوي آراء المذاهب الأربعة في الموضوع. ويجوز
مخالطة أهل الكتاب ومعاملتهم ومعاشرتهم دون الموالاة في الدين. وتحل الكتابية
للمسلم وولاية العقد له من وليها. وبين المسلمين وأهل الكتاب عهودُ أمان. وإن محض
التعصب في الدين والإكراه عليه لا يُنتِج إلا النفاق، وإن الممدوح إنما هو التعصُّب
لإعلاء كلمة الله.
٩٥
ووظيفة الغزاة والمجاهدين هم الجند الذين يدافعون عن الثغور ويذُبُّون عن البيضة
ويحمون البلاد من غزو الأعداء.
٩٦ وأهل الجهاد هم الأقرب إلى الأنبياء؛ «أقرب الناس درجة من درجة النبوة
أهل الجهاد وأهل العلم. أما أهل العلم فقالوا ما قال الأنبياء. وأما أهل الجهاد
فجاهدوا على ما جاءت به الأنبياء.» والجهاد ليس لمغنمٍ أو شهرة أو منصب أو جاهٍ بل
دفاعٌ عن الحق والعدل؛ «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.» ولا
تكونُ المحاربة إلا للمشركين والملحدين والمرتدين والبغاة وقُطَّاع الطرق والقاتلين للاقتصاص.
٩٧
ومن شهامة الملك تولِّي الحرب بنفسه لإخافة العدو ورَدْعه، بعد مشورة العلماء أولي
التجارب. وأهم صفة في المحارب الشجاعة؛
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ
مَرْصُوصٌ. ولهم الشهادة والحياة الأبدية؛
وَلَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. وفي الحديث «الجنة تحت ظلال السيوف.»
ولا تمنع الشجاعة من خداع العدو، فالحرب خدعة. الشجاعة حَميَّةٌ في الصدر للإقدام؛ «إن
الله يحب الشجاعة ولو في قتل حية.» وطالما مدحَها الشعراء والحكماء. وهي فضيلة القوة
الغضبية عند أفلاطون. وقد كان الرسول أشجعَ الناس قلبًا. ويقول لأصحابه والسيوف على
أعناقهم «لا تُراعوا، لا تُراعوا.» وكان الصحابة في الشجاعة مثله. ويمدحهم الرسول
بقوله: «إنكم لتكثُرون عند الفزع، وتقلُّون عند الطمع.» والأفضل الجمع بين الشجاعة
والرأي؛ لذلك أكثر الشعراء في مدح السيف باعتباره آلة الحرب القديمة،
٩٨وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ.
ويذكُر الطهطاوي بعض وصايا الملوك والأفراد لقُوَّاد الجيش كنماذجَ من آداب الحرب، سواء
من القدماء أو من المحدَثين، مع نصوص من «وقائع تلماك» التي ترجمَها من الفرنسية،
فأمراء الجيوش هم نُوَّاب ولي الأمر في الجهاد وفي عقد العقود والوفاء بالعهود طبقًا
للشريعة؛
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ. أما الذين
ينقضون العهود والمواثيق فلهم المحاربة؛
وَإِمَّا تَخَافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. وقد سار
الخلفاء والصحابة والتابعون على هذا النهج. وهو تمدُّنٌ حقیقي مُكتسَب من أنوار النبوة.
ومنها الشفقة والرحمة بعد القتال في حق الأَسْرى.
أما طبقة أهل الزراعة والتجارة والحرف والصنائع فهم أهل المنافع العمومية،
٩٩ وعليهم تُجرى الصدقات الجارية، وتُشيَّد لهم العمائر الخيرية، مثل المدارس
والتكايا والمستشفيات.
١٠٠ ومنها أيضًا تكوين شركاتٍ فرعية (مساهمة) لفعل الخير للناس، وتأسيس
الدوائر البلدية لراحة الرعية المصرية. ولتحقيق المنافع العمومية، التي تَعْني في
الخاتمة الخدمات العامة التي تُقدِّمها الدولة، يُعاد تقسيم مصرَ من جديد بدلًا من
التقسيمات القديمة؛ أي المديريات والمحافظات. وليس كل مُبتدَعٍ مذموم. والمبتدَع النافع
يقع موقع الاستحسان؛ لذلك كانت العلوم الحديثة المتجددة هي الحكمة العملية بمصطلح
القدماء، هي العلوم والفنون الصناعية؛ ومن ثَمَّ فإن «التشبُّث بالعلوم الشرعية والأدبية،
ومعرفة اللغات الأجنبية، والوقوف على معارف كل مملكة ومدينة، مما يُكسِب الديار المصرية
المنافع الضرورية ومحاسن الزينة؛ فهذا طرازٌ جديد في التعليم والتعلُّم، وبحثٌ مفيد يضُم
حديث المعارف الحالية إلى القديم فهو من بدائع التنظيم. وإذا أخذ حقَّه من حُسن
التدبير والاقتصاد فيه استحَق مرتبة التعظيم.»
١٠١
ويختم الطهطاوي مناهجه بأنشودةٍ للجديد لتجاوز القديم، وللخلف للاجتهاد على السلف.
«ولا ينبغي لأبناء هذا الزمان أن يعتقدوا أن زمن الخلَف قد تجرَّد عن فضائل السلف، وألا
ينصلح الزمان إذ صار عُرضةً للتلَف؛ فهذا من قبيل البُهتان؛ فالفساد لاعتقاد ذلك
لإفساد الزمان.» كما قال الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو في الزمان بغيرِ عيبٍ
ولو نطَق الزمان بنا هجانا
فالحضارات متتالية، وتتراكَم العلوم والصناعات؛ «فمُخترعات هذه الأعصر المتلقَّاة
عند
الرعايا والملوك بالقبول كلها من أشرف ثمرات العقول يرثُها على التعاقُب الآخر عن
الأول، ويُبرِزها في قالبٍ أكمل من السابق وأفضل؛ فهي نفعٌ صِرْف لرفاهية العباد وعمارة
البلاد.»
والدولة العثمانية والدولة المصرية، الدولة العلية، ومصر المحمية، هي أَوْلى
الممالك الإسلامية بهذه النهضة الحديثة. ولهما كتَب «مناهج الألباب المصرية في مباهج
الآداب العصرية».