من الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى الأنثروبولوجيا الثقافية١
قلما تجتمع في شخصٍ واحد عدة صفاتٍ متجانسة تصُب كلها في تأسيس الأنثروبولوجيا الاجتماعية كما اجتمعَت في المحتفَى به؛ إذ يجمع اثنتَي عشرة خصلة تجعله يجمع بين صفات الحواريين الاثنَي عشر حول السيد المسيح في رؤيةٍ أنثروبولوجية وتصوُّرٍ شعبي للمركز والمحيط، الحاوي والنظَّارة، الساحر والمشاهدون، قائد الأوركسترا والعازفون؛ فهو بارز بين بارزين، وعالم بين علماء، ولكن مع الصدارة والريادة.
-
(١)
هو الأستاذ الجامعي، مؤسس الأنثروبولوجيا المعاصرة في مصر والعالم العربي، ورئيس أول قسم للأنثروبولوجيا فيها عام ١٩٧٤م، ورائد الجيل الحالي من الأنثروبولوجيين المعاصرين. وما أصعب مهمةَ الرواد! يضعون الأسس، ويُخطِّطون للمستقبل، ويعطون القدوة. لا يكاد أحد يذكر هذا الفرع من العلوم الاجتماعية في مصر وخارجها إلا ويذكر اسم الرائد الأول وجامعة الإسكندرية التي تفرَّدَت بهذا الفرع في قسمٍ مستقل. فتح نافذة لمصر على العالم كما فعل الحكماء الأوائل، وأصبح جسرًا بين ثقافتَين، العلم الوافد والمادة الموروثة، المنهج من الآخر والموضوع من الأنا.
ولمَّا كانت الجامعة من الأستاذ أو الطالب والمكتبة فقد كان رائدًا عامًّا لطلاب المدينة الجامعية بجامعة الإسكندرية عدة سنوات في السبعينيات التي بدأت باعتصام ميدان التحرير قبل أكتوبر ١٩٧٣م، وهي فترة المظاهرات الطلابية منذ ١٩٧١م سنة الحسم، ثم أثناء انقلاب الثورة المصرية على نفسها ومن داخلها حتى نهاية الجمهورية الثانية باغتيال رئيسها؛ فالأستاذ مثل كبار الأساتذة حياتهم طلابهم مثل ماركوز ورسل في حوار الأجيال. العلم ضد الاتجاه الواحد من الأستاذ إلى الطالب وليس العلم ذا الاتجاهَين، من الأستاذ إلى الطالب ومن الطالب إلى الأستاذ. في تجربةٍ مشتركة للعلم والوطن في لحظةٍ زمنية من تاريخ العصر الحاضر.
استطاع الأستاذ الانتقال من الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى الأنثروبولوجيا الثقافية وأنثروبولوجيا القيم، فدرس اتجاهات المصريين نحو العمل اليدوي وتحليل المخزون الثقافي الذي وراء الإقلال من شأنه لصالح العمل العقلي؛ فالقيم النظرية في تراثنا الفلسفي القديم أعلى من القيم العملية، ومن يعمل بعقله أفضل ممن يعمل بيدَيه. كذلك كان الحكماء أفضل البشر والعمال والفلاحون والصيادون أدناهم.٥ وأشرف على بحث إعادة بناء الإنسان المصري، الأبعاد الاجتماعية، كيفية التنشئة الاجتماعية، ومقومات الشخصية المصرية، مع دراسةٍ خاصة للصبر كقيمةٍ اجتماعية وثقافية.٦ وأشرف على بحث رؤى المصريين للعالم الذي بدأ عام ١٩٨٧م، كجزء من بحث السياسة الثقافية في مصر، كجزء من مشروعٍ أعم عن تقييم السياسات الاجتماعية في مصر، اعتمادًا على البحوث الميدانية على المجتمعات الحضرية والحضرية الريفية ومجتمعات الصعيد، والمجتمع الصحراوي.٧ وقام بعدة دراساتٍ نظرية وميدانية مثل الثأر.٨ ومن البحوث الميدانية تبرز أهمية تنمية الصحراء؛ حلًّا للمشكلة السكانية في مصر، وضرورة إخراج المصريين من الوادي الضيق القديم الذي لا تزيد مساحته عن ٦٪ من مساحة مصر. ويكتب قصة الصحراء كدراما إنسانية في كيفية تعامُل الإنسان مع الطبيعة وليس فقط تعامُل الطبيعة، مع نفسها.٩ ويكون ذلك بداية لتطوير الواحات، حلقة الوصل بين الوادي والصحراء، لإنشاء خريطةٍ عمرانية جديدة لمصر، أفقية وليست رأسية، عرضية وليست طولية، كما عبَّرت عن ذلك ورقة أكتوبر ١٩٧٤م، وقد أثَّرتْ على تنمية الساحل الشمالي الغربي الذي أصبح الآن الامتداد الطبيعي لمصر من ناحية الغرب بقُراه السياحية ومدنه الجديدة حتى السلوم، وارتباطًا بالتجمعات السكانية عَبْر الساحل الشمالي حتى المغرب العربي.١٠ ويشرف حاليًّا على مشروع بحث المجتمعات الصحراوية في مصر بداية بشمال سيناء التي كانت دائمًا المدخل الشرقي لمصر كما نبَّه علماء الجغرافيا السياسية. وتستمر الدراسة على جنوب سيناء ثم البحر الأحمر والصحراء الشرقية ثم الصحراء الغربية والواحات.١١ -
(٢)
وهو الأستاذ العميد لآداب الإسكندرية في السبعينيات،١٤ وفي أخطر مرحلة في تاريخ مصر عندما بدأَت الثورة المصرية في ١٩٥٢م تنقلب على نفسها ومن داخلها وانعكاس ذلك على الجامعة في منتصف السبعينيات؛ فقد كانت جامعة الإسكندرية أول من أيد الثورة في يوليو ١٩٥٢م، وأول من اعترض على انقلابها على نفسها بعد الانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧م، وزيارة القدس في نوفمبر من نفس العام، ومعاهدة كامب ديفيد في ١٩٧٨م، حتى اتفاقيات السلام في ١٩٧٩م، وحتى اغتال رئيس الجمهورية الثانية ١٩٨١م. وكانت الضغوط هائلة على الجامعة لتصفية نوادي الفكر الناصري، وتخليص اتحاد الطلاب من الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب واستبعاد الأساتذة التقدميين الاشتراكيين من النشاط العلمي والثقافي داخل الجامعة. ويرفض العميد كل الضغوط من الحزب الحاكم وأجهزة الأمن من أجل استبعاد بعض الأساتذة المنتدبين من القاهرة للتدريس بآداب الإسكندرية؛ فالجامعات لها استقلالها العلمي. ولا يجوز للدولة أو أجهزة الأمن التدخل في شئونها الأكاديمية، بل ويرُدُّ عليها بأنه أدرى بمصلحة الطلاب والجامعة.
ومن ثَمَّ تعود ذكرى طه حسين وأحمد لطفي السيد من جديد؛ فالعميد أستاذٌ جامعي حر يدافع عن استقلال الجامعة وحريتها الفكرية. أعطى العمادة أكثر مما أخذ منها، كان يشغل المنصب ليس فقط بقامته الفارهة بل يملؤه باستقلال العمادة واعتبار العميد ممثلًا للكلية طلابًا وأساتذة عند الجامعة وليس ممثلًا للجامعة عند الكلية طلابًا وأساتذة.
-
(٣)
وهو المخطط لمراكز الأبحاث كوحدات مستقلة داخل الجامعة، مثل محاولات تأسيس مركز الدراسات الأمريكية في السبعينيات في جامعة الإسكندرية، بعد أن ظهرت أمريكا وكأنها الممسك بمفاتيح الحرب والسلام في المنطقة العربية. وتأسَّسَت المكتبة؛ فالعلم أولًا مصادره وتراكمه التاريخي في وعي الباحثين. وما زال الأمر متعثرًا حتى الآن؛ فكل مركز بحث هو جزء من المؤسسات العلمية المصرية، ولا شأن له بالبلدان موضوع الدراسة أمريكا أو فرنسا أو إنجلترا أو روسيا. وكل دولة توَدُّ أن يكون لها يدٌ في تيسير شئون المركز الجديد علنًا أم سرًّا، مباشرةً أو بطريقٍ غير مباشر. والاستقلال العلمي للجامعات يحرص على أن تخضع مراكز الأبحاث فيها إلى الإشراف الكلي لها؛ فهي مراكز لخدمة الوطن وليست مراكز دعاية لثقافات الدول الأجنبية وسياساتها.
وكان أول مدير لمركز الخدمة الاجتماعية وخدمة المجتمع بجامعة الإسكندرية بعد أن شارك في إنشائه. ويبدو أن الحياة في الثغر تُخرج الجامعة من نطاق البحث النظري إلى الممارسة العلمية حيث فضاء المكان أكثر رحابة واتساعًا من فضاء القاهرة؛ فارتباط جامعة الإسكندرية بالثغر أكثر من جامعة القاهرة بالعاصمة. في الثغر الحضور البارز فيه للجامعة. وفي العاصمة الحضور البارز فيها للدولة وأجهزة الأمن.
-
(٤)
وهو الباحث بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، والمشرف على أحد مشاريعه «رؤي العالم عند المصريين» التي تحدد معاييرهم في السلوك، وكذلك مشروع بحث المجتمعات الصحراوية في مصر.١٥ وبالإضافة إلى البحوث النظرية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية هناك عديد من البحوث الميدانية التي عليها يقوم التحليل النظري جمعًا بين الكم والكيف، التقرير والوصف، والتفسير والفهم، وبتعبير الظاهريات الواقع والماهية. والأنثروبولوجيا ليست فقط أنثربولوجيا اجتماعية أو ثقافية، بل هي أيضًا حضارية وتاريخية من أجل بلورة الوعي التاريخي وإحكام الرؤية الحضارية؛ فالحضارة كما هو الحال عند ابن خلدون هو التحول من البداوة. ويظهر الوعي التاريخي في السير والملاحم باعتبارها تاريخًا وثقافة. وهي أنثروبولوجيا التاريخ؛ أي فهم تاريخ الإنسان ليس كما يدرسه علماء الآثار، تاريخًا ميتًا، بل التاريخ الحي. الماضي وأصوات الماضي ما زال صداها في وجدان المعاصرين.١٦والأنثروبولوجيا أولًا وقبل كل شيء هي دراسة الإنسان طبقًا للمعنى الاشتقاقي للفظ، أعماره، وعلاقته بالكون والآلة والجريمة والحقوق والبيئة، بل دراسة الشخصية، والمرأة، الإنسان الفرد والإنسان الجماعة مثل السكان والإنسان، الحضارة أو التاريخ في الثقافة.١٧
-
(٥)
وهو رئيس لجنة الفلسفة والاجتماع بالمجلس الأعلى للثقافة؛ فهو فيلسوف الأنثروبولوجيين، وأنثروبولوجي الفلاسفة، كما كان اجتماعي الأنثروبولوجيين، وأنثروبولجي الاجتماعيين؛ فالعلم واحد، منهجًا وموضوعًا؛ فقد تخرج من قسم الفلسفة والاجتماع عندما كان قسمًا واحدًا. وما زال يحمل وحدة العلمَين بعيدًا عن تجرید الفلاسفة، ووضعية الاجتماعيين. وقبل انفصال الفلسفة والاجتماع في لجنتَين مستقلتَين كان قد عزم الأمر على عقد ندوة عن مدرسة فرانكفورت التي يتجلَّى فيها اللقاء بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
كان قادرًا بعقله الموضوعي، وهدوئه وتواضعه، واتزان رؤيته على ضبط انفعالات المفكرين وأهواء الفلاسفة، وما أكثرها! لذلك كتب معظمهم مقالاتٍ في الانفعالات. العقل أمره سهل، أما الانفعال فهو العقبة أمام العقل. يعمل الاجتماعيون في فريقٍ أسهل مما يعمل الفلاسفة. بالرغم من المجتمع الذي يوُحِّد الاجتماعيين، والحكمة التي تُوحِّد الفلاسفة طبيعة البحوث الاجتماعية العمل الجماعي في حين أن الفلسفة بحثٌ فردي؛ لذلك قلَّت الذات عند الاجتماعيين، وتضخَّمتْ عند الفلاسفة. أشرف بالتعاون مع مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية على عقد مؤتمر الحالة الراهنة للعلوم الاجتماعية في الشرق الأوسط. وشارك فيه قسم الأنثروبولوجيا بجامعة الإسكندرية ومركز البحوث الأمريكية بالجامعة الأمريكية عام ١٩٧٤م، وبالاشتراك مع ممثلين من الأقطار العربية وتركيا وإيران. وكانت أبحاثه الجماعية نموذجًا لبحث الفريق الذي يضم عدة أجيال.
وهو في نفس الوقت عضو بالمجمع العلمي المصري بعد انتخابه منذ ١٩٨٨م، وعضو بمجلس العلوم الاجتماعية بأكاديمية البحث العلمي، وعضو بمجلس إدارة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية منذ ١٩٨٧م، وعضو في المجلس القومي للخدمات والتنمية والمجالس القومية المتخصصة. وعمل اللجان والإشراف على الأبحاث الجماعية موهبة لا يقدر عليها إلا العلماء المتواضعون. وفي كلتا الحالتَين، الاجتماع والفلسفة، الهدف واحد وهو العلم، وتأسيس المجتمع العلمي. الفلسفة للذهن، والاجتماع للمؤسسات العلمية هو تطبيقاته في التقنية. ولا فرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، ولا فرق بين لغة العلم ولغة الحياة. والعلم ليس ظاهرةً غربية يحتكرها الغرب. هو ظاهرة في كل الحضارات، الصينية والهندية والبابلية ومصر القديمة. وقد ساهم العرب في تطوُّر العلوم وكما يبدو في معاهد تاريخ العلم العربي أو تاريخ العلم بوجهٍ عام.١٨ -
(٦)
وهو المترجم الرصين عرفت مصر بفضله «الغصن الذهبي» لفريزر، الكتاب العمدة في الأنثروبولوجيا الثقافية عام ١٩٧١م، و«الأنثروبولوجيا الاجتماعية» لإيفانز برتشارد عام ١٩٥٨م، «وما وراء التاريخ» لوليامز هاولز.١٩
وواضح من الاختيار الرغبة في التحول من الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى الأنثربولوجيا الثقافية مع رصيد من التاريخ وتحليل الوعي كما هو الحال عند دلتاي، وكلها نصوصٌ تكوينية تأسيسية للعلوم الاجتماعية، تُغرز في النفس وتتفرع منها النصوص الشارحة ثم النصوص الإبداعية الخالصة.
ولم يتم الاكتفاء بالترجمة بل بالعرض والتأليف في أهم النظريات الاجتماعية وعلماء الاجتماع مثل تايلور، وعديد من المقالات للتعريف بأعلام المجتمع والأنثروبولوجيا وذلك في مجلَّتَي «عالم الفكر» بالكويت، ومجلة «الهلال» بالقاهرة؛ فالعرض خطوةٌ تالية على الترجمة وسابقة على التأليف الإبداعي.٢٠ -
(٧)
وهو المثقف المفكر صاحب المواقف والشهادات على أحوال الوطن في رئاسته تحرير عالم الفكر بالكويت ١٩٧٠–١٩٨٦م، وربما كان أطول رئيس تحرير لمجلة عرفه العالم العربي. يجمع بين العلم والثقافة وتراث الإنسانية في مصر ١٩٧٠–١٩٧٧م، حتى إغلاق جميع مجلات وزارة الثقافة بعد اتفاقية يناير ١٩٧٧م، مثل «الفكر المعاصر»، و«الكاتب»، و«المجلة» والتي كانت منارات الستينيات بالإضافة إلى «الطليعة» بعدُ؛ فالفكر ليس فقط عمل الباحثين والنخب الثقافية والعلمية ولكنه أيضًا رسالة وقضية وبلورة لوعي الجمهور العريض. وفي نفس الوقت هو فكرٌ بعيد عن الأقوال الخطابية والجدلية. يقوم على البرهان حتى يتأسس الوعي الثقافي العام على أسسٍ علمية، ويُمحى الفرق بين العلماء والخطباء، بين المفكرين والوعاظ؛ لذلك كان المقال هو الشكل الغالب على أعماله؛ فالمقالات مدافعُ سريعة الطلقات من أجل التغيير الاجتماعي في حين أن الأعمال التكوينية الكبرى بولدوزرات تجرف ما أمامها من مخلفات، وتهدم ما يصادفها من عقبات.
ويستعمل الأنثروبولوجيا لتوضيح الأخطاء الشائعة في المفاهيم السائدة، مثل أن الصهيونية حركة إحيائية أو إصلاحية، أُسوة بحركات الإصلاح الحديثة. ويبيِّن أنها حركةٌ عنصرية توسعية، تستعمل الدين أداة للسيطرة. ويبحث مثل طه حسين عن مستقبل الثقافة في مصر،٢١ ويُحلِّل أسطورة الغزو الثقافي لمزيدٍ من التفاعل بين الثقافات؛ فالثقافة بطبيعتها حركةٌ تنويرية في المجتمع ضد الأخطاء الشائعة والأحكام المسبقة التي تمنع من الرؤية الصائبة والسلوك السليم.وإذا كان جيلنا في النصف الثاني من القرن العشرين هو جيل الثورة، ومنذ كانت أهم ثورةٍ حديثة في الغرب هي الثورة الفرنسية التي أثارت خيال الفلاسفة والشعراء والأدباء والفنانين، فقد كتب المثقف الوطني أيضًا ثورة الثورة الفرنسية ونقد أعداء الثورة الفرنسية من المحافظين البريطانيين؛٢٢ فغاية الثقافة في النهاية تنوير المجتمع وتغيير نظم الحكم، بحيث تكون مواكبة لتطور المجتمع وحاجاته المتجددة. -
(٨)
وهو المثقف الوطني التقدمي الملتزم، صاحب المواقف الوطنية التي تتجاوز الأيديولوجيات السياسية والفرق الحزبية. وُلِد بعد ثورة ١٩١٩م بعامَين.٢٣ وتخرج عام ١٩٤٤م، والحرب العالمية الثانية تُوشك على الانتهاء. وحصل على الماجستير عام ١٩٥٣م بعد ثورة يوليو بعام من أكسفورد، وعلى الدكتوراه منها أيضًا عام التأميم ١٩٥٦م؛ فحياته مرتبطة بتاريخ الحركة الوطنية في مصر؛ لذلك كانت الأنثروبولوجيا لديه من العلوم الاجتماعية الوطنية.وهو المثقف العربي الذي امتدت أعماله واتسع نشاطه إلى أرجاء الوطن العربي منذ تأسيس مجلة «عالم الفكر» بالكويت، ورئاسة تحريرها منذ وفاة عبد الناصر في ١٩٧٠م، وأثناء تحول مصر من القومية إلى القطرية بعد حرب ١٩٧٣م، حتى نهاية الجمهورية الثانية باغتيال رئيسها، وأول خمس سنوات من الجمهورية الثالثة. ونشر عدة بحوث له في المجلات العربية مثل مجلة معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، وبغداد، مجلة المأثورات الشعبية، الدوحة، قطر. وكان مدرسًا لعلم الاجتماع بالجامعة الليبية بنغازي منذ ١٩٥٨م، وأستاذًا للأنثروبولوجيا بجامعة الكويت ١٩٦٦–١٩٧٠م. ونشر دراسات عن المجتمع الليبي.٢٤ وله عديد من المقالات حول أفريقيا.٢٥ وكما هو الحال في الدوائر الثلاث لتحرك مصر منذ فلسفة الثورة؛ الدائرة العربية والدائرة الأفريقية والدائرة الإسلامية، فقد تم التحول من الدائرة العربية إلى الدائرة الأفريقية، بتمثيل جامعة الإسكندرية في مجلس اتحاد الجامعات الأفريقية بعضًا من الوقت. كما انتقل من المستوى القطري إلى المستوى العربي ومن المستوى العربي إلى المستوى الأفريقي انتقل أيضًا إلى المستوى الدولي.وقد تم تخصيص جانب من البحوث الميدانية للوطن العربي وأفريقيا إما في بحوث مستقلة مثل الدراسة الأنثروبولوجية الاستطلاعية للعلويين في سوريا أو في مقارنة مثل المقارنة بين جماعات البدو الرحَّل وشبه الرحَّل في الصحراء الغربية بمصر والصحراء السورية. كما قام بعديد من الدراسات الميدانية في صحاري الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المغرب والجزائر وليبيا والأردن والعراق والمملكة العربية السعودية وإيران.٢٦ كما قام بالعديد من الدراسات الميدانية في عدد من قبائل شرق أفريقيا وغربها (أوغندا، تنجانيقا، كينيا، نيجيريا، سيراليون، جنوب السودان).٢٧
وله عشرات البحوث والمقالات باللغة الإنجليزية ألقاها في المؤتمرات والمجلات العلمية الدولية حول اتساق الأعمار في أفريقيا وسكان القبائل في صحراء مصر الغربية، وهجرة العمالة في الواحة الخارجة، والشرف والثأر عند بدو مصر، ودراساتٌ عديدة عن البدو والحضر؛ ومن ثَمَّ أصبح ذا ثقافةٍ موسوعية، ولوعًا بكتاب معاجم الأعلام في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع مع شرح نظرياتهم وتأثيرهم.
-
(٩)
وهو صاحب مدرسة البنيوية الوظيفية، يجمع بين البنية والوظيفة، بين الثبات والحركة، بين الوصف الكيفي والتحليل الكمي، بين العقل والمجتمع أسوة بمدرسة فرانكفورت. والوظيفة بديل عن الماركسية، أقرب إلى الوضعية الاجتماعية التي تحرسها البنيوية؛ ومن ثَمَّ أمكن الجمع بين ماكس فيبر وأوجست كونت. أحيانًا يتغلب الوصف الكيفي، والتحليل البنيوي. وأحيانًا يتغلب التحليل الكمي خاصة في الدراسات الميدانية حول الشعوب البدائية. وفي ذلك ألَّف كتابه العمدة «البناء الاجتماعي، مدخل لدراسة المجتمع» في جزأين، الأول عن المفهومات، والثاني عن الأنساق.٢٨ ولم تخلُ مقالاته العديدة من عرضٍ نظري لقضية المنهج في «الأنثروبولوجيا النظرية»؛ فالأنثربولوجيا نفسها منهج لدراسة المجتمع والفلكلور، بل هي شكلٌ أدبي مثل أدب الرحلات.٢٩ كما تشمل تطبيق الأنثروبولوجيا في باقي العلوم الإنسانية مثل القانون.٣٠ ومع ذلك هناك إحساس بأزمة العلوم الإنسانية ومن ضمنها الأنثروبولوجيا، أزمة المنهج، وأزمة الأيديولوجيا.٣١
-
(١٠)
وهو الإنسان الاجتماعي الصديق الوفي، طويل القامة رفيع الهامة، المشارك في المنتديات العامة في رفقة الأصدقاء، في يومٍ معلوم من الأسبوع، حلو الحديث، سريع النكتة، ولماح الرؤية.٣٢ يجعله ذلك الشاب الدائم والصبي العاقل الذي لا يترك ندوة أو مؤتمرًا إلا وظهر فيه متحدثًا أو سامعًا، معقبًا أو مناقشًا؛ فهو حاضر علميًّا وثقافيًّا، علامة من العلامات الثقافية في مصر والوطن العربي. الابتسامة لا تفارق الوجه، والتحية تُسرِع على اللسان.وهو الأديب الناقد الفنان المبدع الذي جعل الأدب جزءًا من الأنثروبولوجيا في أنثروبولوجيا النقد الأدبي الواقع والأسطورة في القصص الشعبي، الهجرة وأسطورة العودة، ما قبل المسرح والموسيقى، والإبداع الموسيقي، والهوية الثقافية، والشعر، والدراما، والثقافة، والسينما، والأدب المقارن، وأدب الرحلات، والفكاهة والضحك في النكات الشعبية.٣٣ وهو الإنسان الذي يهتم بتراثه وفكره وثقافته الموروثة، خاصة وأن شبهة الأنثروبولوجيا أنها تُحوِّل كل شيء إلى فلكلور وممارساتٍ اجتماعية، وتُضحِّي بما ينبغي أن يكون، العقيدة والشريعة لصالح ما هو كائن، السحر والخرافة والشعوذة والأولياء والقدسيين والمعجزات والإلهامات؛ إذ يمكن دراسة الفكر الإسلامي والتراث أنثروبولوجيًّا. ويمكن وصفه كتجربةٍ تاريخية، وأثره على العمران. يدافع عن التراث ضمن رؤى المستشرقين ومناهجهم كما فعل ابن خلدون والحضارة والتاريخ، بل والأصول نفسها مثل القرآن والسيرة، وتتناول الأنثروبولوجيا قضايا علم الاجتماع الديني ولاهوت التحرير، بل إنه يستعمل مصطلحات الصوفية مثل «الإشارات» في عناوین بعض مقالاته.٣٤
-
(١١)
حصل على جائزة الدولة التشجيعية للعلوم الاجتماعية، ثم على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية؛ فحامل هموم الفكر الوطني يكرمه الوطن المهموم الذي ما زال يُقدِّر العلم والعلماء وهو في غمرة الأحزان. ليس له أعداء أو خصوم، وليس له شلة يصل من خلالها. ومع ذلك أتته الجوائز طوعًا.
ونال وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى؛ فلم تُكرِّمه فقط المؤسسات العلمية، بل أيضًا المؤسسات الرئاسية بعد أن أصبح العالم جزءًا من تاريخ الوطن. واعتراف الوطن بعلمائه وتكريمه يجعلهم راضين مستبشرين غير حانقين ولا غاضبين. لا يحتاج إلى الهجرة خارج الأوطان. والهجرة مؤقتة وليست دائمة لنبت زرع في مكانٍ آخر. وكل بلاد العرب أوطان. وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة مؤقتة قبل فتح مكة والعودة إليها.
إن أبلغ آيات التكريم هو الاعتراف بالفضل حتى ينشأ التراكُم المعرفي الضروري لتطوُّر المجتمعات ونهضة الأمم.
-
(١٢)
وإن من شيم الكبار قبول النقد والتطوير. ولما كان يهوذا من ضمن الحواريين الاثنَي عشر، فربما الإكثار من دراسة البدائيين يُقوِّي الإحساس بالتمايُز الحضاري بين الدارس والمدروس؛ فالغرب هو الدارس، والشعوب البدائية خاصة الأفريقية هي المدروس، علاقة الذات بالموضوع، الرائي بالمرئي، الأعلى بالأدنى، السيد بالعبد.٣٥ فمتى تنقلب الآية وتتحول الأنثروبولوجيا من علم دراسة الإنسان «البدائي» إلى علم دراسة الإنسان «المتحضر» الذي يدرسه البدائي لتبادُل الأدوار بين الذات والموضوع؛ فذات اليوم، الباحث الغربي، يصبح موضوع الغد، وموضوع اليوم، الإنسان البدائي يصبح ذات الغد. وهو ما يحاوله علم الاستغراب الذي يجعل الدارس مدروسًا والمدروس دارسًا.٣٦وأحيانًا يخلو العرض من الموقف مثل بحث «رؤى العالم»، تمهیدات نظرية. وهو عرض لنظريات دلتاي ورد فيلد. وقد يكون عرضة للجديد في حد ذاته إثارةً للأذهان، وهو موقفٌ غير مباشر، فلا يعني الموقف بالضرورة النقد. وكثيرٌ من المقالات تبدأ بالأدبيات الغربية عرضًا وتطويرًا. الاعتماد على النقل أكثر من الاعتماد على الإبداع، البداية بالآخر ثم تقوم الأنا بإعادة البناء.٣٧ويبدو أن الاختيار المنهجي كان هو الاختيار، عرضًا وتأليفًا وممارسة وتطبيقًا ربما لأنه أكثر تنظيرًا، وربما كردِّ فعلٍ على الدراسات الاجتماعية التي تتعاطف مع الماركسية منهجًا وموضوعًا؛ فالبنيوية عند فيبر كانت ردَّ فعل على الماركسية. وقد قام جيلٌ آخر من البنيويين يأخذون موقفًا من البنيوية نقدًا لها من الداخل أو من الخارج.٣٨ وبدلًا من أن يشق طريقًا ثالثًا بين الوظيفية والبنيوية، بين الوضعية والوصفية اقترب من البنيوية أكثر، وجاورها مع الوظيفية بدلًا من وحدةٍ عضوية بين المدرستَين. وانتهى يهوذا بفعل الزمن شانقًا نفسه، وانتصر الحواريون مبشرين برسالة المسيح عبر الزمان.
- (١)
الواحات الخارجة (مصر)، ثلاثة عشر شهرًا، ١٩٥٤-١٩٥٥م.
- (٢)
جماعات البدو الرحل في الصحراء الغربية (مصر) والصحراء السورية، صيف عام ١٩٥٩م، بتكليف من مكتب العمل الدولية بجنيف، قصة الصحراء، عالم الفكر، ج٣، ع٣.