(١) علم القراءة
ازدهَرَت المشاريع العربية المعاصرة في مصر والشام والمغرب، ويحاول الخليج الآن
اللحاق. كانت مصر والشام منبع النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع، وازدهر
المفكرون والكتاب والأدباء والمصلحون الشوام في مصر. وعاش رُوَّاد النهضة العربية
بتياراتها الثلاثة في مصر، الأفغاني رائد الإصلاح الديني، والطهطاوي رائد الفكر
الليبرالي، وشبلي شمیل رائد الفكر العلمي العلماني، فكان من الطبيعي أن تتولَّد بعض
المشاريع العربية المعاصرة في مصر بعد العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن
العشرين، وبعد الفترة القومية في النصف الثاني منه، وتتبلور بعد هزيمة يونيو-حزيران ١٩٦٧م.
كان نصارى الشام على دراية بالتيارات والمذاهب الفكرية والعلمية
والسياسية في الغرب كما كان القدماء على علم بثقافة اليونان. وكانت مصر أيضًا بفضل
عصر الترجمة الثاني في عصر محمد علي نموذجًا لبناء الدولة الحديثة.
وازدهَرَت المشاريع العربية المعاصرة في المغرب لتأثرهم بالمشرق وبمشاريعهم
الفكرية؛ فقد كانت مصر مصدرًا للثقافة العربية المعاصرة. وكان كُتابها ورُوادها يشعُّون
خارج مصر، ومجلاتها الثقافية منتشرة خارج الحدود. وكان المغرب ينهل من الثقافة
الغربية خاصة الفرنسية. يعرف مثقَّفوه اللغة الفرنسية، وعلى دراية بثقافة الحي
اللاتيني وتياراته ومصطلحاته وأساليبه. وكان هناك هامش من الحرية الفكرية للنخبة
طالما أنها لا تتحدث إلى الناس مباشرة ولا تتعامل مع ثقافتهم الوطنية لتثويرها
وإدخالها عاملًا في حركات التغيُّر الاجتماعي وفي مسار التاريخ. لم يشأ المغاربة أن
يفوتهم قطار المشارقة في مصر والشام لتجديد الفكر العربي. وتوالت الأجيال متلاحقة
ومتسارعة، كل جيلٍ لاحق يريد أن يُزحزِح الجيل السابق كي يبقى في الميدان وحده، مع أن
ليل السماء البهيم يتحمَّل أكثر من نجمٍ ساطع؛
٢ فالعلاقة بين الأجيال في المغرب على التبادُل وليست على التكامُل.
وطالما تساءل الناس: لماذا بقيت المشاريع العربية المعاصرة التي كانت ردَّ فعلٍ طبیعيٍّ
على المستوى الفكري على هزيمة يونيو-حزيران ١٩٦٧م، كلٌّ منها بمفرده كالنجوم الزاهرة،
يسطع كلٌّ منها وحده، دون أن تتلاقى أنوارها حتى يقوى بعضها بالبعض الآخر، تتجاور
فيما بينها من أجل أن تتكامل، أو تتقاطع في تعدُّدية خلَّاقة؟
بل إن العادة قد جرت من البعض الذين يودُّون اللحاق بهذه المشاريع ويتعلَّقون
عليها بحثًا عن شهرة أو مزايدة في علم أو زحزحة لموقع أن يُقصوا كل غصنٍ أينع بدعوى
قِصَره، ويقطعوا كل شجرة نبتَت بدعوى مَیْلها، وينزعوا كل زهرة تفتَّحَت بدعوى احتمال
الذبول. يبدو أننا في فكرنا الحديث لم نعرف كيف نتكامل بل تتقاطع. وإذا مالت شجرة
عند أحدنا فلا يقطعها آخر بل يقيمها، وإذا نقصَت ساقٌ منضَّدة عند واحد فليُكملها آخر
حتى لا تقع؛ فالعمل الجماعي، عمل الفريق، أولى من البطولات الفردية بين الخصوم، كل
خصم يريد تسجيل هدف في مرمى الآخر.
٣ وهناك فرق بين الحوار والهدم، بين التساؤل والتقويض، بين إكمال الناقص
والقضاء عليه، بين التقدُّم خطوة والرجوع إلى الوراء خطوتَين، بين التسامُح والعدوان،
بين المحبة والعقاب، بين المسيحي واليهودي.
وربما يتساءل البعض الآخر: لماذا لا يذكُر أصحاب المشاريع العربية المعاصرة بعضهم
بعضًا، ولا يُحيل بعضهم إلى بعض حتى ينشأ حوار، ويعرف الناس أوجه الاتفاق والاختلاف
بينهم؟ بل ولماذا لا يُخاصِم بعضهم بعضًا ويتناطحون فيما بينهم كما تفعل إحدى القنوات
الفضائية الذائعة الصيت التي تصدُر في قُطرٍ صغير الحجم، وكأن الفكر لا يكون إلا إقصاءً
متبادلًا كما يفعل الحكام حفاظًا على كرسي الحكم؟
وقد يلاحظ البعض إخفاء بعض المصادر المعاصرة في «نقد العقل العربي» وليس فقط عدم
الإحالة إلى الأقران؛ فالتفرقة بين الإنشاء والخبر معروفة منذ أوائل السبعينيات.
٤ قد يذكُر «نقد العقل العربي» ما لا يأخذ منه. وقد يصمُت عما يأخذ عنه، بل
إن بعض التعبيرات نالت من الشهرة بحيث أصبحت لاصقة بصاحبها مثل «المعقول
واللامعقول». حتى ولو بصياغاتٍ أخرى مثل «المعقول الديني واللامعقول العقلي».
٥
وقد تكون الإجابة أن العادة لم تَجرِ على دراسة الأقران وهم ما زالوا في قمة العطاء
وهو تقليدٌ جامعي أصيل؛ فالمفكر ما زال يدرس ويعطي. وربما اختزن شيئًا لم يصدر بعدُ.
كما أن الاحترام الواجب للمفكرين يُلزم عمليًّا بهذا الموقف، ليس تجاهلًا ولا
تناسيًا بل تقديرًا واحترامًا يصل إلى حد الإجلال في بيئةٍ ثقافية خلطَت بين النقد
والتشهير، والحوار والإقصاء، والتكامُل والأحادية. ومع ذلك لكل قاعدةٍ استثناء. وما
فائدة الحوار بين الأقران إذا كان حوارًا لم يعُد أحد الطرفين فيه حاضرًا إلا من
خلال أعماله؟ الحوار بين الأحياء وحضور الطرفَين ربما يكون أنفع للاثنَين وللناس من
الحوار بين حاضر وغائب قد يشوبه ظلمٌ غير مقصود على الغائب؛
٦ فالتحية للأقران في الدنيا والإجلال لهم أفضل من نعيهم في الدنيا،
تخليدًا لذكراهم في الآخرة.
ليس الهدف من تحية الإكبار والإجلال للعقد السابع هو التقريظ والمدح والتفخيم
والتعظيم الذي يشوبه التقليد في أحسن الأحوال والنفاق في أسوء الأحوال
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، بل المقصود هو إعادة بناء الموضوع
في إطار الذات من منظورٍ آخر، ومن موقعٍ مخالف، وربما في زمنٍ آخر. والمتن والشرح
واجهتان لعملةٍ واحدة، والمقروء والقراءة فعلان متكاملان؛ فلولا نقد أرسطو لأفلاطون
ما كان أرسطو ولا أفلاطون. ولولا نقد الكانطيين لكانط لمات كانط ولما ظهر
الكانطيون. ولولا نقد اليسار الهيجلي لهيجل لما كان الهيجليون الشبان ولمات هيجل.
ولولا تطبيق فلاسفة الوجود المنهج الظاهرياتي لهوسرل ورفع القوسَين وإصدار الأحكام
على الوجود لمات هوسرل ولما ازدهر فلاسفة الوجود.
٧ وهذا هو منهج القراءة الذي استعمله ألتوسير في «قراءة رأس المال»،
قراءة على قراءة ماركس للاقتصاد التقليدي عند ريكاردو وآدم سميث من أجل اكتشاف بنية
حاول النصان الأول والثاني العثور عليها.
«القراءة» هي رؤية مشروع في مرآة مشروعٍ آخر. لا خطأ فيها ولا صواب بل انعكاس
صورتَين في مرآةٍ مزدوجة، مرة يقوم مشروع «التراث والتجديد» فيها بدور المرآة ومشروع
«نقد العقل العربي» بدور الموضوع الذي يعكس صورته في المرآة، ومرةً أخرى يقوم
مشروع «نقد العقل العربي» بدور المرأة، ومشروع «التراث والتجديد» بدور الموضوع
الذي ينعكس فيها. والصورة تعكس الموضوع طبقًا لطبيعة المرآة في كلتا الحالتَين؛
وبالتالي يصعب معرفة مدى مطابقة الصورة للموضوع. الغرض من الصورة ليس معرفة الحقيقة
الخارجية، الموضوع نفسه، بل مجرد تعدُّد الصور بتعدُّد المرايا من أجل إثارة الذهن
والحث على التأمُّل والتفكير.
لا يُوجد في القراءة خطأ وصواب، بل تتعدد الرؤى والمواقف التي من خلالها تتم
القراءة. ولا تُوجد قراءةٌ واحدة مطلقة تجُبُّ غيرها من القراءات، بل هناك عدة قراءاتٍ
متساوية فيما بينها بتعدُّد المرايا والزوايا. ولا يُوجد فهمٌ مطلق لنصَ ولا شرحٌ واحد
لمتن حتى عند صاحب النص أو المتن، عند المقروء أو القارئ، بل تتعدد قراءات النص عند
صاحب النص لنصه، وعند صاحب الشرح لشرحه. القراءة إكمالٌ مشترك وعملٌ جماعي للطرفَين
المتحاورين أو أكثر حتى تتعدد الصور في عدة مرايا متعددة الأشكال للتساؤل والمراجعة
الجماعية، والعودة إلى البداية، المشاريع العربية المعاصرة باعتبارها مقاصدَ حضارية.
وهذا ما يُقِره «نقد العقل العربي» في إحدى أجزائه؛ إذ يصرح بأنه لا يُوجد خطأٌ كبير
أو
صغير، كبير في العقل السياسي العربي، وصغير عند من يُراجعه ويقرؤه ويُصحِّحه، بل هناك
مقارباتٌ متعددة وقراءاتٌ مختلفة.
٨
القراءة نوع من نقل الموضوع إلى الذات؛ فالموضوع لا يتحدث عن نفسه إلا من خلال
الذات. وكل ذات إنما تُحوِّل العالم إلى صورة فيها؛ فكل شعور هو شعور بشيء؛ لذلك يصعب
في علم القراءة الحديثُ عن الموضوع دون تحليل الذات، أو الحديثُ عن الذات دون تحليل
الموضوع.
وما يهم في القراءة هو البنية والقصد. البنية لمعرفة البناء والقصد لمعرفة
الغاية منه. أما التفاصيل فهي مواد البناء. وهي أقل أهميةً من الرسم الهندسي ومن
القصد في الاستخدام.
ليست القراءة عرضًا «موضوعيًّا» للرباعية؛ فكل عرض تشويه عن قصد أو عن غير قصد.
والأفضل قراءة الأصل دون التلخيص. والعرض لا يفيد. يُميت النص ويموت العرض بعد حين.
لا غاية منه ولا هدف إلا مجرد استعراض قدرات العارض على الفهم والتعبير.
ليست القراءة نقدًا؛ أي بيان المثالب والعيوب وأوجه النقص. النقد بهذا المعنی
استبعادٌ للنص، وكتابة نصٍّ بديل. في هذا النوع من النقد يضع الناقد نفسه بديلًا عن
المؤلف، ويكتب النص بدلًا عنه. يزيح المؤلف ونصَّه ويكتب هو نصًّا جديدًا. والنص
الأول ما هو إلا مناسبة لإظهار النص الجديد. تنقلب الوسيلة غاية والغاية
وسيلة.
ليست القراءة مقارنة على التجاور بين مشروعَين فكريَّين، أحدهما بجوار الآخر وكأنهما
كرتان متلاصقتان. مقارنة خارجية دون أن تدخل في بنية كل مشروع وتكوينه، وأهدافه
ومقاصده، وأسلوبه ومصطلحاته، كبضاعتَين في سوق المنافسة لاجتذاب أكبر عددٍ ممكن من
الشارين.
القراءة هي رؤية كل مشروع من منظور المشروع الآخر على التوالي، المرآة المزدوجة
التي تكشف صورة كل مشروع في ذهن المشروع الآخر، مجرد جدلٍ للصور وتعدُّد للمرايا من
أجل الإثراء المتبادل. تكشف أبعاد الموضوع، وتعدُّد الرؤى. هي رسم صورة للأخ في صدر
أخيه؛ فنحن نعيش في عالم من الصور الذهنية وليس الوقائع المرئية.
وكل قراءة تأويل؛ أي وضع للموضوع في رؤية للذات؛ من أجل اكتشاف أبعادٍ جديدة من خلال
الحوار بين الذوات وتطوير المشروعَين معًا، المقروء والقارئ، دون إصدار حكمٍ إيجابي
أو سلبي، للاتفاق أو للاختلاف، للتصويب أو للتخطئة، للاستحسان أو للاستهجان.
وتتجاوز القراءة المماحكات اللفظية والمعلومات التاريخية وتفاصيل النصوص والتعالُم
المزدوج إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة والمواقف الفكرية. هي قراءة الأستاذ
وليس تصحيح التلميذ، قراءة المفكر المسئول وليست قراءة المراهق المبتدئ.
(٢) المرآة المزدوجة
ولن يتم الحديث عن مشروع «التراث والتجديد» حديثًا مباشرًا، بل يظل كمرآة تعكس
مشروع «نقد العقل العربي». البنية الثنائية في مشروع «التراث والتجديد» تكشف البنية
الثلاثية في مشروع «نقد العقل العربي». والبنية الثابتة الوصفية في مشروع «نقد
العقل العربي» سواء في التكوين، أو في البنية، البيان والعرفان والبرهان، إنما
تنعكس في المسار التاريخي المتحرك في مشروع «التراث والتجديد»، «من العقيدة إلى
الثورة»، «من النقل إلى الإبداع»، «من النص إلى الواقع»، «من الفَناء إلى البقاء»،
«من النقل إلى العقل»، اللفظ الأول يُشير إلى القدماء واللحظة التاريخية الماضية،
واللفظ الثاني يُشير إلى المحدَثين، واللحظة التاريخية الثانية.
ويبدأ مشروع «نقد العقل العربي» من العقل، في حين يبدأ مشروع «التراث والتجديد»
من التراث الذي عرضَه صاحب مشروع «نقد العقل العربي» من قبلُ في «نحن والتراث» وفي
نفس الفترة تقريبًا التي ظهر فيها «التراث والتجديد» عام ١٩٨٠م. التراث هو مجموعة
العلوم النقلية العقلية الأربعة، والعلوم النقلية، والعلوم العقلية الخالصة.
والتجديد هو إعادة بناء هذه العلوم طبقًا لتحديات العصر الحاضر.
وإذا كان مشروع «نقد العقل العربي» يبدأ بالنقد؛ أي بيان المعوقات، فإن مشروع
«التراث والتجديد» يهدفُ إلى إعادة بناء العلوم القديمة بعد أن تحوَّلَت إلى مخزونٍ نفسي
ثابت بناءً على توهُّم أن الحضارة الإسلامية هي لحظةٌ واحدة في تاريخها هي اللحظة
اليونانية الرومانية، والفارسية والهندية القديمة وليست لحظاتٍ متجددة في كل مرحلة
تُجاوِر فيه الحضارة الإسلامية حضاراتٍ أخرى مثل الحضارة الغربية الآن منذ أكثر من
مائتَي عام.
وإذا وُصِف مشروع «نقد العقل العربي» العقل بأنه عربي، فإن مشروع «التراث والتجديد»
لا يصف هوية، بل يستعمل ضمير المتكلم الجمع «تراثنا القديم» في «الموقف من التراث
القديم» كعنوانٍ فرعي. ويترك لكل باحث تحديد مضمون هذه الهوية الجمعية؛ فالباحث منا
يُولد في مصر من الأمصار، لغته العربية أو غير العربية، وثقافته إسلامية، من المحيط
إلى الخليج إلى الصين. بل إن اللفظ الأثير في «التراث والتجديد» هو الموروث
وأحيانًا الموروث القديم في مقابل الوافد وأحيانًا الوافد الجديد.
الصفة الغالبة في «نقد العقل العربي» هي العربي أو الجمع بين الصفتَين العربية
والإسلامية؛ ففي خاتمة «تكوين العقل العربي» يُستعمل لفظ «عربي» في «العقل العربي»،
«الزمن الثقافي العربي»، «الفكر العربي»، «الثقافة العربية»، «العالم العربي».
٩ والثقافة العربية تظهر في العنوان الفرعي في «العقل الأخلاقي العربي»
وهو «دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية». ويُعقد لها قسمٌ خاص
بعنوان «نظم القيم في الثقافة العربية». وأحيانًا يظهر «الموروث العربي». وأحيانًا
يظهر لفظ «الموروث الإسلامي» دون العربي.
١٠ ويظهر مرةً واحدة تعبير «الموروث القديم».
١١ وأحيانًا تضم صفة «إسلامي» مثل الثقافة العربية الإسلامية.
١٢ والموضوع ما زال موضع شد وجذبٍ بين الباحثين بناءً على انتماءاتهم
الأيديولوجية وولاءاتهم الوطنية وممارساتهم العملية.
قام «التراث والتجديد» على قسمة التراث إلى مجموعات من العلوم طبقًا للقسمة
الثلاثية التقليدية؛ العلوم العقلية النقلية الأربعة؛ علم أصول الدين، علم أصول
الفقه، علوم الحكمة، علوم النصف. والعلوم النقلية الخالصة الخمسة؛ القرآن، الحديث،
التفسير، السيرة، الفقه. والعلوم العقلية الخالصة؛ الرياضية كالحساب والهندسة
والفلك والموسيقى، والطبيعية كالطبيعة والكيمياء والطب والصيدلة، والنبات والحيوان
والمعادن. وقد دخلَت الجغرافيا والتاريخ ضمن علوم الحكمة وربما أيضًا اللغة
والأدب.
في حين قام «نقد العقل العربي» على قسمة العقول إلى سياسي وأخلاقي، وهما أفضل في
الفلسفة العملية مع تغيير الترتيب، الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل؛ أي الاقتصاد.
وتكون الفلسفة النظرية، المنطق والطبيعيات والإلهيات، قد حضَرتْ في «تكوين العقل
العربي»، و«بنية العقل العربي» ولو جزئيًّا. وتكون قسمة العلوم الثلاثية إلى عقلية
نقلية ونقلية خالصة وعقلية خالصة قد تشعَّبَت في الرباعية النقدية، تنتقل من علم إلى
آخر؛ فالمهم ليس العلم بل العقل اختراقًا للعلوم عرضيًّا وليس إعادة بنائها
طوليًّا، ومزجها في مادةٍ واحدة دون التمييز بينها في عدة مقاصد؛ فقد قام كل علم
لتحقيق مقصدٍ خاص ووظيفةٍ معينة، علم أصول الدين التنظير العقيدة، وعلم أصول الفقه
لتقعيد الشريعة بداية بالمصلحة، وعلوم الحكمة لحوار الحضارات والتعبير عن ثقافة
الأنا بلغة الآخر، وعلوم التصوُّف لتحويل الثقافة إلى تجاربَ حية ومناهجَ شعورية ذوقية
وجدانية.
وإذا كان «التراث والتجديد» قد وضع بيانه الأول الذي يُحدِّد رؤية المشروع
وجوانبه المتعددة أشبه بالمانفستو المعروف في تاريخ الفلسفة، كما وضع الطيب تيزيني
بيانه في «من التراث إلى الثورة» فإن «نقد العقل العربي» خلا من بیانٍ تنظيري أول،
مانفستو المشروع. قد يُعتبر «نحن والتراث» هو البيان النظري وهو في الحقيقة دراساتٌ
تطبيقية عن الفارابي وابن سينا وابن رشد أكثر من بیانٍ نظري لمشروع «نقد العقل
العربي» في بنيته الرباعية، ومراحله المختلفة.
١٣
«التراث والتجديد» واضح في أهدافه ومقاصده، غير مباشر في أساليبه وآلياته. ما في
القلب على اللسان بحيطةٍ وحذر وباستعمال بعض آليات التخفي من السلطات ونظم الحكم. في
حين أن «نقد العقل العربي» قد يكشف غير ما يستر، ويعلن غير ما يبطن. يحتاج إلى
تأويل وإلى قراءة ما بين السطور. ويُشارك في ذلك أيضًا مشروع «نقد العقل الإسلامي»
لأركون. ويكشف عن ذلك بصراحة «العقل السياسي العربي» الذي يُحرِّكه الدين أو
القبيلة والعشيرة والأسرة أو الغنيمة والمال والسلطان وكان «العقل السياسي العربي»
غير قادر على الفكر السياسي المُنزَّه؛ فعند العرب تكمن الشعوبية في السياسة،
واللامعقول في بنية الثقافة والوجدان، والردة والكبوة في التاريخ.
«نقد العقل العربي» مشروعٌ معرفي خالص أو بلغة الإخوة الأثيرة في المغرب والألفاظ
المعرَّبة «أبستمولوجي». وحدة التحليل لديه هي «الأبستيمة» بلغة فوكو. وهو الطابع
العام للمفكر المغربي حتى وهو في ذروة نضاله الوطني. في حين أن «التراث والتجديد»
مشروعٌ عملي «خالص» يهدف إلى التغيير وليس إلى التنظير، وإلى الحركة وليس إلى الفهم.
هو مشروعٌ «تحريضي» في نظر «نقد العقل العربي».
ويُميز بين «المعرفي» و«الأيديولوجي» بعد أن خلط العقل العربي بينهما. المعرفي هو
النظر الخالص دون أي توجهٍ أيديولوجي وهو ما يصعب تحقيقه؛ فالمعرفة الأداة
والأيديولوجيا الغاية والهدف، بل إن التمييز بين المعرفي والأيديولوجي هو نفسه موقفٌ
أيديولوجي، يُخبِّئ المعرفي فيه «أيديولوجيا ضمنية» مثل الذي يُميِّز بين الدين
والسياسة بهدف نزع سلاح الدين كأيديولوجيا سياسيةٍ من أيدي الخصوم، ويأخذ موقفًا
أيديولوجيًّا مضادًّا باسم لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة.
١٤
ونظرًا لأهمية الموضوع فإن القسم الثاني من «تكوين العقل العربي» كله وهو الأكبر
والأضخم وُضِع تحت هذا العنوان «تكوين العقل العربي: المعرفي والأيديولوجي في الثقافة
العربية».
١٥ والتفرقة بين الأبستمولوجي والمعرفي من الأدبيات الماركسية الفرنسية.
١٦
ولا يُوجد تفضيل لأحد الموقفَين على الآخر. إنما هي اختيارات حياة وقدراتٌ ذهنية؛
فالوعي العملي ليس له قدرة على البحث النظري المجرد. والوعي النظري ربما يستنكف من
الوعي العملي المباشر. وإذا عمل الكل بالبحث النظري فمن الذي يطفئ النار والمنزل
يحترق؟ لقد خرج «التراث والتجديد» من المشرق، من أتون النار وصرخات الشوارع، في
فلسطين وكشمير، وبعد ذلك في الشيشان وأفغانستان والعراق. وخرج «نقد العقل العربي»
في ربوع المغرب الفتَّان، بجباله ووديانه وسواحله وصحرائه. وقد يحترق «التراث
والتجديد» بنار احتلال سبته ومليلية قَدْر احتراقه بفلسطين؛ فالوعي العربي ليس محددًا
بمناطق جغرافية. وإذا صحَّت مقولة «نقد العقل العربي»: «لقد تمشرق المغرب، وتمغرب
المشرق.» فقد تصح مقولة «التراث والتجديد»: «ليت المغربَ يتمشرق قَدْر تمغرُب
المشرق.»
«نقد العقل العربي» يبدأ من الماضي وتحليل الأعمال الثقافية، وَهْم الحاضر مسكون
فيه؛ ومن ثَمَّ يبدأ بإعادة ترتيب الأحداث على نحوٍ تراجُعي على ما يبدو في «الزمن
الثقافي العربي ومشكلة التقدم».
١٧ في حين أن «التراث والتجديد» يبدأ من هَمِّ الحاضر، ويجد الماضي كمخزونٍ
نفسي حالًّا فيه.
ويظهر الحاضر على استحياء في «تكوين الفكر العربي» في الخاتمة «العلم والسياسة في
الثقافة العربية» إجابة على سؤال «المعرفي والأيديولوجي في الثقافة العربية».
١٨ كما يبدو في «بنية العقل العربي» أيضًا في الخاتمة العامة «من أجل عصر
تدوین جدید».
١٩
وكذلك يظهر الحاضر على استحياء في «العقل السياسي العربي» القسم الثاني «تجليات».
العناوين معاصرة والمادة قديمة «دولة الملك السياسي» تعني الدولة الأموية الأشعرية،
و«ميثولوجيا الإمامة» تعني دولة الشيعة، و«حركة تنويرية» تشير إلى الاعتزال،
و«الأيديولوجيا السلطانية وفقه السياسة» تشير إلى التراث الفقهي السياسي من
الماوردي والفراء حتى ابن الأزرق، والخاتمة «من أجل استئناف النظر، خلاصات وآفاق»
تشير إلى المؤرخين، وأيضًا كيفية استعمال المروءة العربية كقيمةٍ أرستقراطية في
مشروع النهضة.
٢٠
ويتضح ذلك تمامًا في «العقل الأخلاقي العربي»؛ فبعد عرض أمهات المتون الأخلاقية
الوافدة من فارس أو اليونان أو الموروثة من التصوف أو الأصول أو الأخلاق العربية
قبل الإسلام يبدأ السؤال في الخاتمة خلاصات وآفاق: «لم يدفنوا بعدُ أباهم أردشير»
لطرح الماضي في الحاضر، وإجابة الماضي على سؤال الحاضر. ويظهر الحاضر صراحة في
المقدمة «الفكر الأخلاقي العربي: الوضع الراهن».
٢١
كان يمكن تثوير الماضي من أجل فك الحصار عن الحاضر، وإعادة بناء الموروث الأخلاقي
القديم حتى يصب في الوعي الأخلاقي المعاصر، خاصة وأن المقدمة في «العقل الأخلاقي
العربي» حول «الفكر الأخلاقي العربي: الوضع الراهن»، والخاتمة خلاصات وآفاق: «لم
يدفنوا بعدُ أباهم أردشير»؛ أي أخلاق الطاعة؛
٢٢ فالهم كيفية الانطلاق من أزمة الحاضر إلى حاضر المستقبل. وهو يقتضي فك
إزار الماضي وعدم الاكتفاء بتحليله.
في خاتمة «العقل الأخلاقي العربي» هناك نعي العرب لأنفسهم، لغياب نظامٍ واحد
للقيم، بعد الانقلاب من الشورى إلى الملك العضود بسبب مبدأ «طاعة السلطان من طاعة
الله» و«الدين والملك توأمان»؛ فقد حمل العرب ليس فقط وِزرَ آدم، بل وزر الفتنة وعلى
«وحدانية التسلط» وهو تعبير ابن رشد وإلى «مدينة الجبارين»، وتأتي العبارة الأخيرة
«لم ينهض العرب والمسلمون بعدُ ولا إيران ولا غيرها من بلاد الإسلام، النهضة
المطلوبة. والسبب عندي أنهم لم يدفنوا بعدُ في أنفسهم أباهم أردشير.»
٢٣
يستعمل «نقد العقل العربي» أحيانًا أسلوب المتكلم، الضمير الأول وفعل القول
«أقول» وهو أسلوبٌ شفاهي. في حين يستعمل «التراث والتجديد» الأسلوب الموضوعي تاركًا
الموضوع يكشف عن نفسه دون أن يعلن عنه المؤلف بصيغة القول. والأول أكثر موضوعية
وتنظيرًا إلا في الأسلوب الأدبي والصياغة القولية. والثاني أكثر أدبية في الصياغة
واستعمالًا للمجاز والصور الأدبية، ولكنه حريص على موضوعية الخطاب في الشخص الثالث
بداية بالأشياء ذاتها خارج نطاق القول،
٢٤ بل وأحيانًا يخاطب القارئ ويحوِّل الكاتب إلى محاضر يستمع إلى القاري.
٢٥
وإذا لاحظ البعض أن المنهج المستعمل في «التراث والتجديد» هو المنهج الظاهرياتي
«الفينومينولوجي» ومصطلحاته مثل الشعور، فقد يلاحظ البعض الآخر أن المنهج المستعمل
في «نقد العقل العربي» هو المنهج البنيوي ومصطلحاته مثل البنية أو «الأبستيمة» أو
«نظام المعرفة». وفي «العقل الأخلاقي العربي» يُصرِّح بأن المنهج المتبع هو «المعالجة
البنيوية والتحليل التاريخي والطرح الأيديولوجي».
٢٦
وتتعدَّد المناهج وتتكامل فيما بينها ولا تتضارب، يُقصي بعضها البعض. المنهج
التاريخي يستقصي وينقب ويحفِر حتى يستخرج البنية من أعماق التاريخ، والمنهج البنيوي
يسيطر على التاريخ ويتحكم في فهمه حتى لا يتحول إلى شظايا متناثرة لا رابط بينها.
وهي نفس الوظيفة التي يقوم بها «القانون التاريخي» أو «روح التاريخ».
ويُستعمل مفهوم «اللاشعور السياسي» و«اللاشعور الجمعي» من الأدبيات الغربية من
دوبري
Dubray.
٢٧ كما تُستعمل مفاهيمُ أخرى مثل «المخيال الاجتماعي»؛ فالغرب هو الذي
يعطي المناهج والأدوات والمفاهيم اعتزازًا بدوره المنهجي. والسؤال هو: ألا يمكن
دراسة التراث القديم بمناهج ومفاهيمَ أكثر ملاءمة مستمدةٍ منه حتى يتطابق المنهج مع
الموضوع؟ وهو سؤالٌ ما زالت الإجابة عنه بعيدة المنال تتراءى في الأفق
البعيد.
وإذا كان «التراث والتجديد» قد ميَّز تمامًا بين الجبهة الأولى «موقفنا من التراث
القديم» والجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي»، فإن «نقد العقل العربي» قد جمع
بين الميدانَين. درس «العقل العربي» ربما بآليات ومصطلحات ومناهج الثقافة الغربية من
أجل التحديث، فتكثر أسماء المؤلفين الغربيين منذ القسم الأول في «تكوين العقل
العربي» بعنوان «العقل العربي… بأي معنًی؟» أسماء فوكو وباشلار ولالاند وبياجيه
وكوندرسية، مع تعبيرات مثل «نظام معرفي». وتتضح في فهرس الأعلام كثرة الأسماء
الغربية مستشرقين وفلاسفةً محدَثين في «العقل الأخلاقي العربي»، بصرف النظر عن الوافد
اليوناني الفارسي القديم.
٢٨ وبالرغم من أن «العقل الأخلاقي العربي» أراد التخلُّص من هاجس الرد على
الغربيين، وهاجس اكتشاف قيم عصرنا في إسلامنا إلا أن عدم التمايُز بين الجبهتَين جعل
الإحالة إلى كليهما بغير ذي دلالة.
٢٩ ويتعدى استعمال الثقافة الغربية من الأصول الأولى إلى الدراسات
الثانوية في الاستشراق أو تُستعمل ألفاظه مثل «المحمدية» إشارة إلى الإسلام أسوة
بالمسيحية المشتقة من اسم المسيح. والإسلام ليس مشتقًّا من اسم محمد.
٣٠
كان يمكن استغلال الهامش لوضع المقارنات مع التراث الغربي مثل معاني لفظ Valeur
واشتقاقه ومصطلح «سُلَّم القيم» والاستشهاد بنصٍّ من بورديو.
٣١ ومع ذلك تُستعمل المصطلحات الغربية بمعانٍ مستقلة عن استعمالها في الغرب،
بل بمعانٍ متسعة دون تشويهٍ لها حتى تسمح بإدخال معانٍ جديدة من ثقافاتٍ أخرى.
٣٢ ومن ذلك مفهوم «اللاشعور الجمعي» و«الشعور السياسي» المستعار من
دوبري
Dubray أي المخزون النفسي من الموروث
السياسي القديم.
٣٣ وكذلك استعارة مفهوم المخيال الاجتماعي من علم الاجتماع المعاصر.
٣٤ وأهميته في الدراسات الاجتماعية والأدبية والسيميائية لوصف الإمامة عند الشيعة.
٣٥ وتُستعمل بعض الألفاظ المعربة مثل «ميثولوجيا» و«الإنتلجنسيا»
و«الأيديولوجيا». كما يعتمد على كتاب برتراند بادي أحد أساتذة علم الاجتماع
الفرنسيين المعاصرين وهو «الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام».
٣٦
وتُوضع الحضارة الإسلامية في طورها الأول في حقبة العصور الوسطى الغربية، مع أن لكل
حضارة تحقيبها الخاص نظرًا لتعدُّد مسارات التاريخ؛ فالوسيط في الغرب هو العصر الذهبي
عندنا. والحديث في الغرب هو الوسيط عندنا، وما بعد الحداثة في الغرب هو الحداثة عندنا.
٣٧
ويبدو الغرب إطارًا مرجعيًّا لدراسة بلاد الإسلام مثل تلازُم الحداثة له للنظام
الرأسمالي في الغرب، وهي مماثلةٌ مستحيلة، لتفاوُت المرحلتَين التاريخيتَين.
٣٨
والمنهج العلمي هو المنهج السائد في الغرب في الطبيعة (نيوتن لابلاس)، وفي
الفيلولوجيا (فقه اللغة)، وفي الإثنولوجيا (مورغان وأصل العائلة)، وفي علم
المستحاثات (كوفييه)، وفي البيولوجيا (داروين ونظرية التطور)، وفي فلسفة التاريخ
(هيجل …)، والتحليل المادي (ماركس) ولوكاتش والماركسية الجديدة وموريس غودلييه. كما
يشير إلى بعض الدراسات الاستشراقية على الشرق القديم مثل دراسات أيون باتو. والمنهج
العلمي موجود في كل حضارة، في الصين والهند وفارس، وحضارات ما بين النهرين ومصر
القديمة والحضارة الإسلامية دون تمیز آخرها على أوائلها، وإيثار الثمار على الجذور
والجذوع، والفروع والأوراق.
وكلا المشروعَين يساهمان في حركة التقدم العربي، وصاحباهما ينتسبان إلى الحركة
التقدمية العربية والنضال الحزبي التقدمي في كلٍّ من مصر والمغرب. تولَّی الحزب
الذي ينتمي إليه صاحب «نقد العقل العربي» مرة الحكم. ولم يتولَّ أي حزب أو تنظيم
ينتمي إليه صاحب «التراث والتجديد» الحكم ولا مرة باستثناء إيران، وظل في المعارضة
وربما سيظل إلى أن يفارق. يحظى «نقد العقل العربي» بحظوةٍ فائقة عند القوميين لأنه
يستعمل «العربي» وليس الإسلامي، ويتحدث عن الثقافة العربية. والحزب الذي يناضل
فيه صاحب المشروع ذو توجُّهٍ قومي عربي؛ لذلك تقبله النظم التقدُّمية العربية خاصة
القومية منها بصدرٍ رحب وعن طيب خاطر.
٣٩ ومع ذلك تقبله النظم الإسلامية المحافظة مثل السعودية ونظم الخليج؛
لأنه معرفيٌّ خالص لا يمثل خطورة على النظام، ولا يؤثِّر في الجماهير العريضة، وإن
تحادَث المثقَّفون فيما بينهم حوله سواء من النخبة الحاكمة أو من النخب المعارضة. في
حين يلقي «التراث والتجديد» عند المحافظين والتقدُّميين معًا معارضة شديدة تصل إلى حد
الرقابة والمنع؛ فهو تقدُّمي ماركسي عند المحافظين (السعودية) وأصوليٌّ سلفي عند
التقدميين (سوريا).
والمشروعان يتكاملان ولا يتضادان، يتفاعلان ولا يتجاوران، يتداخلان ولا يتوازيان،
يتماهيان ولا يتطابقان.
وإذا كان «التراث والتجديد» قد تأثَّر بأساتذةٍ سابقين خاصة بعثمان أمين الذي كان
يجمع في «الجوانية» التي أصبحَت الشعور بین الحركة الإصلاحية والمثالية
الترنسندنتالية، لا فرق بين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال من ناحية، ودیكارت
وكانط وفشته من ناحية أخرى، فإن «نقد العقل العربي» ربما ليس له أساتذة داخل المغرب
أو خارجه بالرغم من تتلمذه على يد علي سامي النشار الأشعري القح والذي لا يكاد
يُشار إليه.
٤٠
و«نقد العقل العربي» أكثر الموضوعات ازدهارًا في مصر. أثَّر في عديدٍ من الشبان
والأجيال الجديدة.
٤١ وصاحب المشروع نجم من نجوم الفكر في مصر يُدعى إلى الندوات، ويحاضر في
مراكز الأبحاث والدراسات العربية. يلتف حوله الجميع، اليمين واليسار، منظمات حقوق
الإنسان والمرأة والأقليات. يكتب عنه الدارسون لبيان أهميته وكثرة الإشادة به.
٤٢ ولا يكاد يصبح الشاب الجديد مفكرًا إلا بعد أن يقرأ «نقد العقل العربي»
ويُحاوره. و«التراث والتجديد» أكثر المشروعات انتشارًا في المغرب، وأشد أثرًا على
أجيالٍ جديدة. كثرة من اليسار وقلة من الإسلاميين الذين يعتبرونه «ماركسية
مقنَّعة». ولا يعادله في شهرته سوی مشروعٍ مشابه في الدراسات الصهيونية.
٤٣
هذه بعض تساؤلات الناس عن «نقد العقل العربي» أهم مشروع في الفكر العربي المعاصر
وأكثر المشاريع العربية المعاصرة شهرة وحضورًا وجدلًا. وربما لا تُوجد إجابات عليها؛
فالسؤال له جواب. أما التساؤل فيبقي حيًّا بلا جواب، دافعًا على التأمل والنظر،
والعودة إلى هذه التساؤلات وإعادة طرحها، وبيان إلى أي حدٍّ كان المشروعان إجاباتٍ
عنها.
وهذا البحث «نقد العقل العربي» قراءة في مرآة «التراث والتجديد» استئناف لعملٍ
مشترك قديم «حوار المشرق والمغرب» من خمسة عشر عامًا الذي حاز إعجاب المفكرين
والقُراء العرب، وتُرجم إلى عدة لغاتٍ أجنبية، وأُقيمت حوله عديدٌ من الرسائل الجامعية،
وكان نموذجًا للحوار بين المفكرين العرب تحقيقًا لوحدة الوطن العربي، ولم يُستأنف
حتى الآن بين المشارقة والمغاربة إلا في صورٍ جديدة فكرية، في كما هو الحال في سلسلة
الحواريات التي تقوم بها دار فكر في دمشق بين المُفكِّرين في الوطن العربي داخل القطر
الواحد، أو بين الأقطار العربية سواء في المشرق أو في المغرب.
٤٤ الحوار هنا من خلال الأعمال وليس من خلال الأشخاص، بين المشاريع
الفكرية وليس مع أصحابها.
أرجو من الأخ الصديق الذي شاركَني نفس العمر ونفس الجيل أن يقبل هذه الدراسة
بصدرٍ رَحْب، وقَبولٍ حسن، تقديرًا له، وعرفانًا بفضله، واعترافًا بأثره على الثقافة
العربية، وبدوره في الفكر العربي المعاصر. «نقد العقل العربي»، باعتراف المنصفين هو
أهم مشروعٍ عربي معاصر.
٤٥ ولا يأتي «التراث والتجديد» إلا في الدرجة الثانية بعده وربما الثالثة
بعد «نقد العقل الإسلامي» لثالثنا محمد أركون، وربما من «التراث إلى الثورة»
لرابعنا الطيب تيزيني. وإذا أنسأ الله في العمر فمن واجبي أيضًا نحو الأقران القيام
بقراءاتٍ مماثلة لمشاريعهم في حياتهم، تحيةً لهم في العقد السابع.
ورجاء أن يبادلوني بالمثل. بداية بقراءة «التراث والتجديد» في مرآة «نقد العقل
العربي». صحيحٌ أن أجزاء «التراث والتجديد» مُسهبَة، ولم تكتمل بعدُ، ومع ذلك فما صدر
منها يكفي لتناول المشروع في بيانه النظري التأسيسي الأول «التراث والتجديد» أو
فيما صدر من الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» مثل «من العقيدة إلى الثورة»،
محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين (خمسة أجزاء)، و«من النقل إلى الإبداع»، محاولة
لإعادة بناء علوم الحكمة (تسعة أجزاء)، و«من النص إلى الواقع»، محاولة لإعادة بناء
علم أصول الفقه (جزآن).
٤٦ ومن الجبهة الثانية، موقفنا من التراث الغربي «مقدمة في علم الاستغراب».
٤٧ أما الجبهة الثالثة، موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير فما زالت في
طور الكمون وفي حالة التخمُّر.
(٣) نقد العقل العربي
«نقد العقل العربي» ظهر في أوائل الثمانينيات بداية بالبيان النظري «نحن والتراث»
الذي يعادل «التراث والتجديد» وقد ظهرا معًا في نفس العام ١٩٨٠م. ظهر بعد ما يزيد
على عقدٍ من الزمان بعد رسالة الدكتوراه «العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في
التاريخ العربي الإسلامي» عام ١٩٧٠م، والتي صدرَت عام ١٩٧١م. وتوالت الدراسات بعد ذلك
والمشروع ما زال في مراحله الجنينية الأولى في محورَين، التربية وفلسفة العلوم
التربية في «أضواء على مشكل التعليم في المغرب» في ١٩٧٣م، أثناء تولي الإشراف على
التعليم الفلسفي الثانوي في المغرب، و«من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية
والتربوية» في ١٩٧٧م. وفلسفة العلوم في «مدخل إلى فلسفة العلوم»، جزآن، الأول
الرياضيات والعقلانية المعاصرة، والثاني، المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي في
١٩٧٦م. ولم يظهر الجزء الأول من الرباعية مباشرة بل سبقه «الخطاب العربي المعاصر» في
١٩٨٢م؛ تمهيدًا للإطار الفلسفي العربي المعاصر وتجهيزًا الميدان. وهو ميدانٌ أثير في
المغرب يعمل فيه معظم المفكرين المغاربة، انطلاقًا من الحاضر قبل تأصيله في الماضي.
٤٨ ثم ظهر المانفستو «نحن والتراث» عام ١٩٨٠م، وبين الثاني «بنية العقل
العربي» ١٩٨٦م، والثالث «العقل السياسي العربي» ١٩٩٠م، ظهر «السياسات التعليمية في
المغرب العربي» ١٩٨٧م، و«إشكاليات الفكر العربي المعاصر» ١٩٨٨م، و«المغرب المعاصر،
الخصوصية والهوية الحداثة والتنمية» ١٩٨٨م. وبين الثالث «العقل السياسي العربي»
١٩٩٠م، والرابع «العقل الأخلاقي العربي» ٢٠٠١م، ظهر «حوار المشرق والمغرب» ١٩٩٠م،
«التراث والحداثة، دراسة ومناقشات» ١٩٩١م، «المسألة الثقافية» ١٩٩٤م، «المثقفون في
الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد» ١٩٩٥م، «مسألة الهوية:
العروبة والإسلام … والغرب» ١٩٩٥م، «الدين والدولة وتطبيق الشريعة» ١٩٩٦م،
«الديمقراطية وحقوق الإنسان» ١٩٩٧م، «وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي
المعاصر» ١٩٩٧م، «حفريات في الذاكرة، من بعيد» ١٩٩٧م، «الإشراف على نشر جديد لأعمال
ابن رشد الأصلية مع مداخل ومقدمات تحليلية وشروح … إلخ» ١٩٩٧-١٩٩٨م، «ابن رشد: سيرة
وفكر» ١٩٩٨م.
«نقد العقل العربي» رباعية يتم تحليلها وحدها باعتبارها أعمالًا متكاملة،
سيمفونيات أو قصائد أو ملاحم أربع بصرف النظر عن مساندتها بالأعمال الأخرى في
الثقافة العربية أو حتى بالسيرة الذاتية حتى يظل للعمل وحدته العضوية واستقلاله
الذاتي دون رده إلى غيره في تفصيلاتٍ خارجية حتى لا يتحلل العمل، أو سيرةٍ ذاتية حتى
لا يتبخر العمل في التحليل النفسي.
٤٩ وبالرغم من أن الرباعية قد اكتملَت إلا أن هاجس «العقل العلمي العربي»
ربما ما زال يتحسَّس الخروج من الشرنقة.
٥٠
وتتم الإحالة إلى الأجزاء فيما بينها. يحيل الرابع إلى الأول أي «العقل الأخلاقي
العربي» إلى «تكوين العقل العربي».
٥١
ويقوم على مفاهيمَ ثلاثية كما تبدو من الألفاظ الثلاثة التي تُكَوِّن اسم المشروع
«نقد»، «العقل»، «العربي». وقد توالت هذه البنية في أجزاء المشروع مع تكرار مصطلح
«العقل العربي» في جزأين، «تكوين العقل العربي» و«بنية العقل العربي» مع تغيير لفظ
النقد إلى «تكوين» و«بنية»؛ فالنقد يتضمن وصف «التكوين»؛ أي النشأة والتطور
والاكتمال، وتحليل «البنية» التي هي حصيلة التكوين وذروته؛ فالعقل «تكون» أولًا حتى
أصبح له «بنية» ثانيًا. ليس عقلًا ماهويًّا جوهريًّا منذ البداية كما هو الحال عند
ديكارت أو كانط أو الفارابي وابن رشد. ويختفي لفظ «نقد» في الجزأين الثالث والرابع،
«العقل السياسي العربي» و«العقل الأخلاقي العربي»، ويظل تعبير «العقل العربي»
وبينهما مرة «السياسي»، ومرة أخرى «الأخلاقي».
ونظرًا لاختفاء لفظ «النقد» من الجزأين الثالث والرابع، فربما تكون البنية في
مشروع «نقد العقل العربي» قسمَين؛ نظرية، وعملية، نظرية في الجزأَين الأوَّلَين «تكوين
العقل العربي» و«بنية العقل العربي» ثم تطبيق ذلك في ميدان السياسة في «العقل
السياسي العربي» ثم في ميدان الأخلاق «العقل الأخلاقي العربي» وربما تأتي ميادينُ
أخرى للتطبيق مثل العلم في «العقل العلمي العربي» وفي التاريخ «العقل التاريخي
العربي»… إلخ. ويأتي التطبيق في السياسة؛ أي الوعي الجماعي، قبل التطبيق في الأخلاق؛
أي الوعي الفردي، وعادةً ما يسبق الوعي الفردي الوعي الجماعي.
٥٢
ماذا يعني «نقد»؟ هل هو بيان الإمكانيات كما هو الحال عند كانط؟ ربما المقصود هو
بيان حدود العقل العربي، ومُعوِّقات انطلاقه خارج هذه الحدود، والبحث عن مقوماتٍ جديدة
للتحرُّر من العِقال كما هو الحال في المعنى الاشتقاقي لفعل «عقل». يعني «نقد» هو
إعادة وصف مكونات العقل العربي من خلال الأعمال التكوينية فيه في شتى جوانب المعرفة
الثقافية. يعني «نقد» عرضًا وتحليلًا، وكما هو واضح في العناوين الفرعية للجزء الثاني
«بنية العقل العربي» وهو «دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية»،
وفي الجزء الرابع «دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية». النقد إذن
هو التحليل النقدي التاريخي لنظم المعرفة في الثقافة العربية.
٥٣
وماذا يعني «العقل»؟ هل هو مَلَكةٌ للتفكير، قدرة في الذات العارفة، قوة من قوى
النفس كما هو الحال عند القدماء؟ هل هو نورٌ فطري وحسٌّ بدیهي كما يراه المحدَثون
ابتداءً من ديكارت في «الكوجيتو» أو «الأنا أفكر» عند كانط؟
«العقل» في مشروع «نقد العقل العربي» هو المنتَج الثقافي، ما أبدعه العقلاء،
متكلمين وحكماء وأصوليين وإشراقيين بل وفقهاء ونحاة ومفسِّرين ومحدِّثين ومؤرخين. العقل
هو إنتاجه. العقل كملكة هو المعقول كإنتاج. العقل كذات هو العمل كموضوع. العقل ليس
معطًى سابقًا على نتاج التفكير بل هو حصيلةُ هذا التفكير نفسه.
لذلك يكون لفظ «الفكر» أو «الثقافة» أفضل من العقل؛ لأن العقل أداة ومنهج في حين
أن الفكر أو الثقافة نتاجٌ وأعمال. ولمَّا كان هذا النتاج في عديدٍ من العلوم لزم تصنيف
العلوم أولًا كما صنَّفَها القدماء، العلوم النقلية العقلية الأربعة؛ الكلام والحكمة
والتصوف والأصول، والعلوم النقلية الخالصة الخمسة؛ القرآن، والحديث، والتفسير،
والسيرة، والفقه، والعلوم العقلية الخالصة، الرياضية كالحساب والهندسة والفلك
والموسيقى، أو الطبيعية كالطب والكيمياء والصيدلة والنبات والحيوان والجغرافيا. وقد
فصَّل كل فيلسوفٍ بالإضافة إلى المؤرِّخين تصنيفًا خاصًّا للعلوم مثل الكندي والفارابي
وابن سينا.
٥٤ وهو نفس التساؤل في «تكوين العقل العربي» في المقاربات الأولية، عقل أم
ثقافة؟ والألفاظ كثيرة؛ التراث، الموروث، الفكر، الثقافة، الحضارة التي شارك فيها
العرب وغير العرب والتي كُتبَت بالعربية. وبغير العربية لدرجة قول البعض «حمل العرب
الإسلام وبغيرهم ينتصر بعد المنافسة بين الإسلام «العربي» والإسلام «الأفريقي»،
والإسلام «الآسيوي»، والإسلام «الأوروبي»، والإسلام «الأمريكي». كما يظهر لفظ
«الموروث الثقافي».»
٥٥
وماذا يعني «العربي»؟ هل هو وصفٌ لُغوي يُشير إلى كل الناطقين بالعربية فليست
العروبة بأبٍ أو أُم إنما العروبة هي اللسان؟ ومن هنا يكون مسكويه وسيبويه والفارابي
وابن سينا والخوارزمي وأبو علي الفارسي عربًا.
هل العرب جنسٌ أو عرقٌ مثل الفرس والصينيون والهنود والبربر والأكراد والترك؛ ومن
ثَمَّ
يخرج معظم العلماء المسلمين من دائرة العرب كجنس، ولا يبقى للعرب إلا بعض الشعراء
والعلماء؟ ويظل سؤال المثقَّف الإسلامي قائمًا: وماذا عن غير العرب جنسًا الذين
ساهموا في الحضارة الإسلامية علمًا وثقافة؟ ألا يتفق ذلك مع النظرة الشعوبية
للحضارة الإسلامية التي طالما دافع عنها بعض المستشرقين، قدماء ومحدَثين، لضرب العرب
بالفرس، والفرس بالعرب، والعرب بالترك، والترك بالعرب، والعرب بالبربر، والبربر
بالعرب، والعرب بالكرد، والكرد بالعرب … إلخ.
وهل يُوصف العقل بالجنس والعرق أم أنه مجرد ملكةٍ ذهنية، وقوة في النفس، وقدرة على
التفكير تُعبِّر عن نفسها في أعمالٍ أدبية وثقافية وعلمية بلغةٍ محددة وفي بيئةٍ معينة.
العربي وصفٌ للمنتَج الثقافي وليس للعقل البشرى. وقد روَّجَت النظريات العنصرية في الغرب
في القرن التاسع عشر لهذا المفهوم العرقي للعقل. وتحدَّثوا عن العقل العربي، والعقل
اليهودي، والعقل الغربي، والعقل الأمريكي، والعقل الياباني، والعقل الصيني. ومايز
بين هذه العقول في تراتُبيةٍ تقوم على التفضيل بين الأعلى والأدنى. وأحيانًا يكون
التمييز بين مجموعة من العقول مثل العقل السامي، ويضم العرب واليهود والأحباش وكل
الشعوب السامية، في مقابل العقل الآري الذي يضم العقول الغربية، وطبقًا للتمايُز
في تاريخ اللغات، بين مجموعة اللغات السامية ومجموعة اللغات الآرية أو الهندية
الأوروبية. وأحيانًا يتم تجاوُز ذلك إلى تعميمٍ آخر بالحديث عن الشخصيات القومية
للشعوب التي يتمتع كلٌّ منها بخصائصَ قومية تتجاوز الفروقات الفردية. ويصل التعميم إلى
أقصى مدًى بالتمييز بين الشرق والغرب، في العقل والشخصية والمزاج والثقافة
والحضارة.
ويوحي وصف «العربي» بالتغاير بين الأنا والآخر؛ فالعربي لا يصف موضوعًا مغايرًا
بأنه عربي؛ فالذات لا تجعل نفسها موضوعًا. الأنا العربي يُحلِّل ذاته ويصف مشاعره،
ويدخل في أعماق ذاكرته الجماعية. ولا يكون وصفًا لآخر متمایزٍ عنه. أما غير العربي
فهو الذي «يُشيِّئ» العربي، ويعتبره موضوعًا. يستطيع المفكر العربي أن يتحدث عن
العقل «الأوروبي» أو «الأمريكي» أو «الهندي» أو «الياباني» أو «الصيني» ولكنه لا
يستطيع الحديث عن العقل «العربي» لأن الذات لا تنقسم في نفس اللحظة إلى ذات وموضوع.
وبالاستبطان تستطيع أن تكتشف عروبتها إذا كانت عربية. ويستطيع المفكر غير العربي أن
يُشيِّئ العقل «العربي» لأنه يصف موضوعًا مغايرًا له لا يعيشه، وليس جزءًا منه. وببعض
التهكُّم يُوصف الأعرابي بأنه صانع العالم العربي؛ فرؤية العربي الثقافية هي رؤية
الأعرابي البدوي، وجمعُها الأعراب الذين يصفهم القرآن بأنهم أشد كفرًا ونفاقًا.
٥٦
ولما كان العقل هو المنتج الثقافي يبدو «نقد العقل العربي» أحيانًا، وبغير قصد من
المؤلِّف أنه تجميعٌ لعدة مؤلفات، واحدة تلو الآخر وتصنيفها في أبواب وفصول. فيبدو
التفكير غير مترابطٍ بين مجموعات من القراءات، أو «ساعات بين الكتب» بتعبير العقاد.
وبهذه الطريقة يمكن وضع كل شيء مع كل شيء، وفي كل شيء، وحول كل شيء. وتكون النتيجة
أن يأخذ بعض القُراء الانطباع بأنه يقرأ أشياءَ معروفة بالرغم من الهالة الجديدة من
التنظير حولها.
وأحيانًا يُعبِّر «نقد العقل العربي» عن أشياءَ سهلة وبسيطة وواضحة بطريقة المغاربة،
التنظير الشديد والمصطلحات المغلَقة وبأساليب «الحي اللاتيني» وآليَّاته والأمواج
الفلسفية السائدة فيه، وإن كان ذلك في مشروع «نقد العقل الإسلامي» لمحمد أركون
أظهر. وقد يجمعهم ذلك مع الشوامِّ مما يجعل المصري يتساءل عن هذه الخاصية المشتركة في
الشام والمغرب بالرغم من التباعُد في المكان.
٥٧ الموضوعات بسيطة، والمادة العلمية سهلة وميسورة ولكن الغطاء النظري
برَّاق، والأسلوب أخَّاذ، والنور ساطع بل ويبهر الأنظار. وهي قدرةٌ مغربية على التنظير،
ووضع أقل القليل في أكثر الكثير، وقليل من السكر في كثير من الماء مما يستحيل بعدها
إيجاد سكر «بلَّور» إذا ما تم تعليق قطعة من السكر في كوب الماء.
ويتم الانتقال بين الأعمال كما ينتقل المتنزِّه بين الأزهار دون حاجة إلى التعرف
على منبتها، فيخرج النص عن وظيفته في بيئته التي نشأ فيها. وتُؤَوَّل النصوص أكثر مما
تتحمل حتى تتفق مع البنية العامة. وقد لا يرى البعض الخيط الرفيع الرابط لهذه
الأعمال المعروضة، ويرى فيها محاضراتٍ في الفلسفة والكلام والتصوف والأصول تحت
عناوینَ برَّاقة.
ومن ثَمَّ تبدو الرباعية وكأنها تاريخٌ أكثر منها فلسفة، تنقل علمًا أكثر منها تطوير
علم، تُصنِّف معلومات ولا تخترقها نوعيًّا كي ينتقل الفكر من النقل إلى الإبداع. وعيب
هذا العرض المتتالي من الأعمال إعطاء البعض منها أكثر مما يستحق مثل أعمال السكاكي،
وإعطاء البعض الآخر أقل مما يستحق مثل «المستصفى» للغزالي.
لقد اتبع «التراث والتجديد» هذه الطريقة في «من النقل إلى الإبداع» لأنه دراسةٌ
نصية للكشف عن الأنواع الأدبية في علوم الحكمة وتطورها من الترجمة والتعليق إلى
الشرح والتلخيص والجوامع إلى العرض والتأليف؛ فهي دراسة في الشكل وليس في المضمون
إلا في المجلد الثالث عن «الإبداع، نشأته وأنواعه في الحكمة النظرية والحكمة العملية».
٥٨
وتُعرض النصوص الرئيسية من الأعمال في صلب التحليلات كاقتباساتٍ تدعمها، وكما يفعل
كُتاب الرسائل العلمية، دون وضع النصوص في الهوامش حتى يستقل التحليل بنفسه ولا يحتاج
إلى «عُكازٍ» خارجي يستند عليه، وإلى برهانٍ خارجي يدعمه؛ فالتحليل له برهانه في
داخله، وصدقُه في مراجعته. وعيب النصوص الانتقاء، ونزعها من سياقاتها، وتأويلها.
ويستطيع المعارض أن ينتقي نصوصًا أخرى من سياقاتٍ أخرى ويُؤَوِّلها تأویلاتٍ مغايرة.
٥٩ ويتزايد هذا المنهج في الرباعية من «التكوين» حتى «العقل الأخلاقي»
الذي هو في مجموعهِ مجموعةٌ من النصوص منتقاةٌ من مجموعةٍ من الأعمال. ويتضح ذلك
بصورةٍ خاصة أيضًا في «بنية العقل العربي».
في حين يحافظ «التراث والتجديد» على الوحدة العضوية للنص الأصلي الجديد في صلب
الصفحة ولا يقطعه بتوسُّط أسماء أعلام أو أعمال أو مناطقَ جغرافية أو حوادثَ تاريخية،
وترك كل ذلك في الهوامش المسهبة أحيانًا؛ فالمطلوب هو الزهرة التي يراها الجميع
وليس الجذور المتشعِّبة في التربة، البيئة والتاريخ.
ويُبرِّر «العقل السياسي العربي» منهج استعمال النصوص ووضعها في صلب الصفحة حتى لا
يُلقَى الكلام على عواهنه دون شواهد، ولا تصدر أحكامٌ عامة دون توثيق.
٦٠ وفي نهاية القسم الأول «المحددات» في «العقل السياسي العربي» يعترف
بالانفصال وعدم الترابط بين الفقرات ويبذُل جهدًا لإيجاد الخيط بينها.
٦١
لذلك يبدو التحليل أحيانًا كأنه غاية في ذاته، غير موجَّه توجيهًا مباشرًا، خاصة
إذا
كان «ميكروسكوبي» الطابع للعثور على المتناهي في الصغر الذي قد لا يكون له وجود.
٦٢ ومن ثَمَّ تغيب الرسالة، ويهرب الهدف، ويصعُب التصويب. هو عرضٌ لتاريخ
الفلسفة من خلال تحليل النصوص والقضية غامضةٌ والمسار غير موجَّه نحو هدفٍ محدد.
ومع ذلك يكشف «نقد العقل العربي» عن عدة مميزاتٍ أهمها القدرة على التجميع
والتصنيف والتبويب للأعمال التكوينية الرئيسية، وهضم المادة العلمية وتحليلها ثم
إنارتها بالهم المعاصر. وهي مادةٌ سهلة وميسورة يعرفها أهل التخصص وأساتذة الفلسفة
في الجامعات العربية على درجاتٍ متفاوتة. وبالرغم من أهمية ذلك، فالتصنيف أحد مراحل
العلم وبدايات التأليف، وكما قام العرب بذلك في محاولات تصنيف العلوم أو «إحصاء
العلوم» كما يقول الفارابي. والقسمة أيضًا عند القدماء بدايات الحد
والتعريف.
(٤) تكوين العقل العربي
ويعني «التكوين» التشكُّل التاريخي، النشأة والتطور والاكتمال وربما الانهيار؛
فالعقل يتكون في التاريخ وليس له بنية في ذاته. البنية نفسها حصيلة التكوين وهو ما
يُسمَّى في المنطق بالمغالطة
التكوينية Genetic Fallacy الذي يفهم ماهية الشيء بوصف مراحل تكوينه. وهو الجزء
الوحيد من الرباعية الذي لا يتضمَّن عنوانًا فرعيًّا بالإضافة إلى العنوان الرئيسي
«تكوين العقل العربي».
والحقيقة أن ما تم هو «التقعيد» للعقل العربي وليس التكوين، تقعيد الشافعي لعلم
الأصول في «الرسالة»، وتقنين الخليل لعلم العروض، وتنظير سيبويه لعلم النحو، وتقعيد
الأشعري لعلم العقائد، ووضع المعتزلة الأصول الخمسة. التكوين وصف للمسار والتشكُّل.
وما تم هو إيقاف المسار ووضع بنية. التكوين هنا هو تثبيت البنية أكثر من
تكوُّنها.
ويكتشف التكوين التاريخي للعقل العربي أنماط التفكير فيه، البيان في القرنَين
الأول والثاني، والعرفان في القرنَين الثالث والرابع، والبرهان في القرنَين الخامس
والسادس. البيان هو الموروث العربي الإسلامي الخالص (اللغة والدين)، والعرفان هو
اللامعقول أو العقل المستقيل (الهرمسية)، والبرهان (الأرسطية) في مجموع العلوم العقلية.
٦٣
كان يجب أن يظهر المشروع منذ أكثر من قرن؛ فنقدُ العقل شرطٌ أَوَّلي لكل مشروعِ نهضة.
وكان السبب القراءات الاستشراقية والسلفية والقومية (القوموية) واليسارية
(اليسراوية). والمشروع يتكوَّن من جزأَين منفصلَين ولكن متكاملان، تكوين العقل العربي،
عن طريق التحليل التكويني، والثاني «بنية العقل العربي» عن طريق التحليل البنيوي.
٦٤ واستُبعدَت الثقافة الشعبية والأمثال العامة والسير والملاحم إبقاءً على
الثقافة العالمة.
٦٥ وهو مشروعٌ هادف بالرغم مما قد يبدو فيه من مدرسية وأستاذية عن طريق
تحليل الأعمال الفلسفية.
٦٦
وينقسم «تكوين العقل العربي» إلى قسمَين غير متساويَين؛ الأول، «العقل العربي بأي
معنًى؟»، والثاني، «تكوين العقل العربي، المعرفي والأيديولوجي في الثقافة العربية».
٦٧ والثاني أربعة أضعاف الأول؛ ومن ثَمَّ كان القسم الأول أشبه بالمقدمة التي
تُحدِّد العنوان خاصة «العقل العربي». وبالرغم من أن القسمَين متمایزان، الأول من ثلاثة
فصول والثاني من تسعة، إلا أن الفصول تُذكر على التوالي من الأول حتى الثاني عشر دون
أن يبدأ القسم الثاني بترقيمٍ جديد ابتداءً من الفصل الأول حتى التاسع. والفصلان
الخامس والسادس لهما عنوانٌ واحد «التشريع للمشرع». وفي كلٍّ منهما نقطةٌ واحدة، في
الخامس تقنين الرأي والتشريع للماضي. وفي السادس نقطةٌ واحدة، القياس على مثلٍ سابق.
وتأخذ رقم (٢) مما يدل على أن الفصلين فصلٌ واحد.
٦٨ والفصلان الثامن والتاسع عنوانٌ واحد «العقل المستقيل»، وفي كل منهما
نقطةٌ واحدة أيضًا. في الثامن في الموروث القديم، وفي التاسع في الثقافة العربية
الإسلامية. وتأخذ رقم (٢) أيضًا مما يدل على وحدة الفصلَين في فصلٍ واحد.
٦٩
وفي بعض العناوين إغراءٌ فكري وإثارةٌ ذهنية مثل عنوان الفصل الحادي عشر «أزمة
الأسس وتأسيس الأزمة.»
٧٠ وفي عناوينَ أخرى استدراكاتٌ تبعث التساؤل عن المستقبل مغلق أم مفتوح مثل
«بداية جديدة … ولكن».
٧١ والخاتمة «العلم والسياسة في الثقافة العربية» عَودٌ إلى المعرفي
والأيديولوجي للإجابة على سؤال القسم الثاني كله،
٧٢ فبنية الكتاب على هذا النحو تغيب عنه البنية المتسقة المتوازنة مما تم
استدراكه بعد ذلك في «بنية العقل العربي».
ويطرح منذ البداية «عقل أم ثقافة»؟ فضَّل «نقد العقل العربي» عقل. وفضَّل «التراث
والتجديد» ما يعادل الثقافة أو الفكر وهو الموروث القديم. قد يُوقع العقل في
النظريات العنصرية القديمة في القرن التاسع عشر في الغرب لدى أصحاب التمييز بين
العقلية السامية والعقلية الآرية. واستبعد لفظ فكر لأنه يدل على المضمون أكثر مما
يكشف عن البنية التي تنتج الأفكار. العقل أبستمولوجيا، والفكر أيديولوجيا، وكأنه
يمكن الفصل بين الاثنَين، بل إن هذا الموقف نفسه أيديولوجيا مستترة، والبحث عن وهم
هي المعرفة الخالصة التي لا وجود لها حتى عند أكثر الفلاسفة تجریدًا. كل فلسفة هي
بطريقةٍ ما أيديولوجيا. وهو ما يتفق مع تمييز لالاند بين العقل المكوِّن
La raison constituante والعقل المكوَّن
La raison constituée.
وهذا كله تفكير على تفكير، ومراجعاتٌ على قراءات وليس تفكيرًا مبدئيًّا يبحث عن
نقطةٍ يقينية أولى كما فعل سقراط في «اعرف نفسك بنفسك» أو ديكارت «أنا أفكر فأنا إذن
موجود» أو هوسرل في بحثه عن بداية جذرية «أنا أفكر وأنا موضوع التفكير». والعرب
واليونان وأوروبا ثلاثة أطراف في منظومةٍ واحدة، العرب واليونان قديمًا، والعرب
وأوروبا حديثًا، فهل يتكرر النموذج بالرغم من تغيُّر الظروف؟ وهو التساؤل الشائع لدى
أساتذة الفلسفة والباحثين المحدَثين.
٧٣
ويتم الانتقال بين الثقافتَين العربية والغربية بسهولة ويسر. الأُولى تقدم الموضوع،
والثانية المنهج. ويبدو العلم الفياض بالثقافتَين لدرجة الإبهار الذي قد يرى
البعض فيه بعض التعالُم والحديث عن النفس عن طريق الآخر والوصول إلى الهدف من أبعد
الطرق، فالغرب حاضر في اسبينوزا وهيجل أكثر من حضور العقل العربي، وألفاظ الغرب
وآلياته ومناهجه طاغية على موضوع الدراسة. ويكثر استعمال ألفاظ الأبستمولوجي
والأيديولوجي والإكسيولوجي، وتستمر المقارنات بين الأنا والآخر؛ فالآخر إطارٌ مرجعي
للأنا وكأن الأنا لا تستطيع أن تُعبِّر عن نفسها إلا من خلال الآخر. والملاذ للأنا هو
البداية باللغة والمعاني الاشتقاقية والقواميس والمعاجم.
والثقافة العربية مجموعة من العلوم مثل النحو والفقه والكلام والبلاغة والتصوف
والفلسفة دون تصنيفٍ دقيق للعلوم إلى علومٍ نقلية عقلية، وعلومٍ نقلية خالصة، وعلومٍ
عقلية خالصة؟
٧٤
ويجيب «الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم» على سؤال التجديد، ويُعبِّر عن الهم
المعاصر، ويدرأ شبهة المدرسية والتعالم. ويبدأ بمقولة فوكو النظام المعرفي ترجمة
للمصطلح اليوناني
επιδτεμή هي بنيةٌ لا شعورية. وهو ما
يُعادل «اللاشعور المعرفي» عند بياجيه. المدخل النظري كله يعتمد على الوافد والموضوع
موروث. وهذا ما يعارض محاولات التأريخ للثقافة العربية بالقرون أو الأُسرة الحاكمة
أو الدول.
٧٥
ويفرض هذا التحليل قضية التحقيب في التاريخ والوعي التاريخي للشعوب، وتعدُّد مسارات
التاريخ أو وحدته، فيكتب تاريخ الثقافة العربية في عصرها الذهبي الأول بالهجري
وفجأة يتحوَّل في آخر عصر الشروح والملخصات وانتهاءً بفجر النهضة العربية الحديثة
بالميلادي. ويدل ذلك على أن التاريخ العربي لم يُكتب بعدُ. يختلط فيه المعرفي
بالأيديولوجي، «السانكروتی بالدياكرونی». تتداخل الأزمنة في وعينا الثقافي تجعل
كتابة التاريخ العربي أمرًا صعبًا، خاصة وأن التاريخ الثقافي العربي الراهن زمنٌ
راكد. ويتداخل الزمان والمكان فيه، بين التواصُل والانقطاع، بين التفسير والتغيير.
والحل هو دراسة ما هو حيٌّ فينا؟
٧٦
ونظرًا لأن العقل هو المنتج الثقافي والعمل الفكري فقد اعتنى بظاهرة التدوين،
خاصة في مجتمعٍ أمي كان تعلُّم القراءة والكتابة فيه يهب الحرية. ويبدو ذلك في «عصر
التدوين، الإطار المرجعي للفكر العربي».
٧٧ ولا يعني التدوين مجرد الكتابة بل التأصيل الأَوَّلي مثل «الرسالة»
للشافعي التي وضع فيها علم الأصول، و«الإبانة» و«اللمع» اللذَين وضع فيهما الأشعري
علم أصول الدين ونسق العقائد فيما سُمي بعد ذلك «علم الكلام». ودوَّن الخليل بن أحمد
علم العروض، وسيبويه علم النحو، ودوَّن الكندي رسالته إلى المعتصم بالله «في الفلسفة
الأولى» … إلخ.
وقد تم التدوين بناءً على عدة معايير؛ علوم الأوائل وعلوم الأواخر، علوم
المتقدمين وعلوم المتأخرين، علوم العرب وعلوم العجم.
وتُستعمل بعض الألفاظ الحديثة في وصف التدوين مثل «العلماني» و«العلمانيين» لوصف
اتجاهات المؤرخين. وكان من وجهة نظر السلطة. يبدأ المدوِّن الخبر بلفظ «قال» إذا كان
صاحب القول من كُتاب السلطة وفقهاء السلطان، الفرقة الناجية. وبلفظ «زعم» إذا كان من
المعارضة، الفرق الهالكة. ولم تشارك الشيعة في التدوين إلا بعد تدوين أهل السنة.
ويبدو هذا التحليل خارج الموضوع. تم التطرُّق إليه من قبلُ في الدراسات العربية
المعاصرة بالرغم من أهمية بعض التحليلات الخاصة بالزمن العربي واستعادة العصر
الجاهلي وتدوينه من منظور الحقبة الإسلامية.
والخلاصة أن العقل العربي ليس مفهومًا أيديولوجيًّا، موضوعًا للمدح أو الذم بل هو
جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تتحكَّم في رؤية الإنسان العربي. والثقافة
العربية هي الإطار المرجعي له والتي تفتَّحَت على الثقافات المغايرة حولها عن طريق
الترجمة.
والأعرابي صانع العالم العربي. واللفظ «الأعرابي» يتضمن تهكمًا وسخرية من البدوي
الصحراوي المتنقل الرحَّل الأمي الذي لم يتمدَّن والذي ما زال يتصور العالم كما
عرفَه قبل الإسلام وبعده أو ما يُسمَّى بلغة العصر «العربي القبيح في لندن». وجمعه
«الأعراب لفظ قرآني» يُستعمل سلبًا
قَالَتِ الْأَعْرَابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ؛ فالأعرابي هنا منافق أو على الأقل يفصل
بين القول والعمل أو بين اللسان والقلب. العربي «حيوان فصيح»، والعربية جزء من
ماهيته؛ فالعروبة ليست بأبٍ أو أُم إنما هي اللسان. وكل من تحدَّث العربية فهو عربي؛
فاللغة هي المكون الرئيسي للفكر، كما لاحظ هردر الذي ربط بين خصائص اللغة وخصائص الأمة؛
٧٨ فاللغة التي تُحدِّد القدرة على الكلام هي نفسها التي تُحدِّد القدرة على
التفكير؛ ومن ثَمَّ فإن مأساة العرب المحدَثين، الحديث بالعامية ومحاولة التفكير
بالفصحى أو الحديث بلغةٍ أجنبية ومحاولة التفكير باللغة العربية. اللغة معجزة العرب؛
لذلك جاء القرآن معجزة بلغتهم وعلى طريقتهم. وتُحلل أعمال الخليل لإثبات هوية اللغة
العربية شفاهةً أولًا ثم كتابة. ثم صب النحاة واللغويين كلام العرب في قوالبَ منطقية
تعكس صورًا حية صوتية؛ فالأذن تستسيغ وليس العقل مما جعل بعض المستشرقين يحكم بأن
«العرب ظاهرة صوتية». وهذا ما جعل العربي يميل إلى اللغة وليس إلى الفكر، إلى
القديم وليس إلى الجديد.
٧٩
والتشريع للمشرع؛ أي سن القانون للتحكُّم في عمل العقل. العقل حاكم ومحكوم. لقد تم
تقنين الرأي فلم يعُد حرًّا. والتشريع للماضي وترك الحاضر مما جعل الحضارة الإسلامية
كلها حضارة فقه؛ فالفقه هو «أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وهو الذي يعبر عن
أصالة المسلمين.»
٨٠ ويعني أصول الفقه للتمييز بين الفقه العملي (الفقه) والفقه النظري
(أصول الفقه) حتى يترك لليونان ميزة الفكر وحرية الرأي. الفقه الافتراضي فقط هو
الذي أصبح رياضةً ذهنية وليس فقه «النوازل» بتعبير المغاربة. وكان الدافع عمليًّا
وذلك من أجل معرفة قدْر المواريث وأوقات الصلاة وأصول المعاملات. وعظمة «الرسالة»
للشافعي وضعُ قواعدِ علم الأصول التي تُعادِل قواعد المنهج عند دیكارت. ومع ذلك تصارع
تياران الفكرَ الإسلامي كله، تيار يتمسك بالأصول أي النقل وتيار آخر يتمسك بالرأي أي
العقل. وهو الصراع الشهير بين أهل الأثر وأهل الرأي، بين أهل الحجاز وأهل العراق.
وهذا ما يُسمَّى أزمة الأُسس. لقد عاصر الشافعي الخليل وسيبويه. والثلاثة وضعوا
القواعد، قواعد الفقه، وقواعد الشعر، وقواعد النحو، وهو ما يعادل أرسطو في المنطق
كما لاحظ الرازي. والسلطة هي الأصل. سلطة الشافعي النص.
٨١ ويعني به البيان، ومن هنا نشأَت مسألة علاقة اللفظ بالمعنى. وجَّه الشافعي
العقل العربي إلى ربط الجزء بالجزء، والفرع بالأصل في القياس أفقيًّا، وعموديًّا أي
رأسيًّا بربط اللفظ الواحد بأنواع من المعاني، والمعنى الواحد بأنواع من الألفاظ
كما هو الحال في علوم اللغة والكلام. والحقيقة أن الشافعي ربط الجزء بالكل ورد
الفرع إلى الأصل وليس الجزء بالجزء فهذا هو التمثيل. وليس الاتجاه أفقيًّا لأن
الأصل ليس في الماضي بل هو في الذهن، القاعدة الأصولية المستقرأة جزئيًّا أو
المنصوص عليها كليًّا. كما أن ربط اللفظ بالمعنى يدخل ضمن قواعد اللغة التي
استعارها الكلام في أشكال المجاز؛ الحقيقة والمجاز، الظاهر والمُؤَوَّل، المحكم
والمتشابه، المطلق والمقيد، المجمل والمبيَّن… إلخ. وهو منطق الاشتباه في كل لغة
بناءً على طبيعة اللغة وتفاوت الإفهام، لا رأسيًّا ولا أفقيًّا. صحيح أن الشافعي
كان هو المشرِّع الأكبر للعقل العربي. وكان العقل هو المشرِّع له. في حين أن عند أبي
حنيفة وأهل الرأي عامة كان المشرِّع هو العقل. أبو حنيفة في الشريعة كالمعتزلة في
العقيدة. وصحيح أيضًا أن الواقع الاجتماعي والسياسي دفع إلى ذلك لاتساع رقعة البلاد
المفتوحة وظهور مسائلَ جديدة تبدو لا أصول لها، بالإضافة إلى الصراعات السياسية بين
السلطة ومعارضيها، كلٌّ يريد التشريع لصالحه. وشرَّع ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة»
نفس الشيء عندما جعل الإمامة الكبرى سابقةً يجب اتخاذها كنص. وعلى هذا الأساس قام
الأشعري أيضًا بتقنين العقيدة معطيًا الأولوية للنص. وكان النص مدعومًا بقوة
السلطان.
ويتجلَّى التشريع للمشرِّع أيضًا في القياس على مثالٍ سبق. وهو ليس القياس بل التمثيل؛
فالقياس رد الفرع إلى الأصل في حين أن التمثيل رد الجزء إلى الجزء، صحيحٌ أنه يمكن
المقارنة بين علمي الأصول، أصول الفقه وأصول الدين، و«الرسالة» للشافعي و«الإبانة»
للأشعري، ولكنهما علمان متمایزان، أصول الفقه لوضع أصول العمل، وأصول الدين لوضع
أصول النظر. وهو ما أكملَه المعتزلة أيضًا بوضعهم «الأصول الخمسة» في مقابل نظرية
«الذات والصفات والأفعال» عند الأشاعرة. وقد قام بذلك باسم الاعتزال الإمام الرسي
في رسائله في التوحيد والعدل، ورد الفرع إلى الأصل، والاستدلال بالشاهد على الغائب
في «جليل الكلام» عند الأشاعرة، و«دقيق الكلام» عند المعتزلة.
٨٢
واستمر في نفس الطريق الحضرمي (ت ١١٧ﻫ) الذي كان أول من بعَّج النحو، ومد
القياس، وشرح العلل. وكان شديد التجريد كما فعل الخليل (١٧٥ﻫ) وسيبويه (١٨٠ﻫ) قبل
الشافعي. واستمر ذلك عند قطرب (ت ٢٠٦ﻫ) تلميذ سيبويه في «العلل في النحو». وبلغ
الذروة عند ابن الأنباري (٥٧٧ﻫ) في «أصول النحو» و«الإغراب في جدل الإعراب»
و«الإنصاف في مسائل الخلاف». وكما قال الكسائي: «إنما النحو قياسٌ يُتبع.» فالتعليل هو
الجامع بين كل هذه المحاولات للتقنين والتقعيد والتنظير. كان النحو هو الأساس طبقًا
لقاعدة «تنزيل الفروع الفقهية على القواعد النحوية»، أو الأصول «تنزيل القواعد
النحوية على الأصول الفقهية»، أو الكلام «تنزيل المفاهيم النحوية على المبادئ
الكلامية» ثم تدور الدائرة «تنزيل المبادئ الكلامية على القواعد النحوية» مما يدل
على عقليةٍ واحدة ورؤيةٍ واحدة. ومن أتقن علمًا أتقن باقي العلوم، كما صرح
السكاكي.
قام النحو منذ البداية على القياس. وكان ذلك كله قبل معرفة المسلمين بالقياس
الأرسطي وسابقًا لعصر الترجمة؛ فالقياس كان من الموروث وليس من الوافد؛ «قسِ الأشباه
بالأشباه والنظائر بالنظائر.»
إن القياس على مثالٍ سبق طبقًا لتعريف القياس، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع
لتشابهٍ بينهما في العلة سواء لا يعني ذلك استقالة العقل أو تقليد الماضي بل رد
الفرع إلى الأصل، والجزء إلى الكل، والقضية الصغرى إلى القضية الكبرى كما هو الحال
في القياس التقليدي.
٨٣ إنما الفرق أن الأصل في القياس الشرعي كليٌّ من كليات الشريعة، مستقرًى من
الجزئيات كنوعٍ من الاستقراء المعنوي كما يقول الشاطبي أو الاستقراء الناقص في
المنطق الاستقرائي الحديث. في حين أن الكبرى في القياس التقليدي مجرد افتراضٍ عقلي
لم يُتحقَّق من صحته في الواقع المادي. والفرع في القياس الشرعي واقعةٌ جديدة ليس لها
أصل في حين أن الصغرى في القياس التقليدي جزءٌ من كل، تندرج تحت الكبرى. والعلة في
القياس الشرعي لا تُعرف من الأصل إلا بقواعد اللغة وفي الفرع إلا بالتجريب. أما الحد
الأوسط في القياس الصوري فمشترك بين الكبرى والصغرى في الصياغة اللغوية وفي الذهن؛
لذلك فإن الحكم في القياس الشرعي جديدٌ في حين أن القياس الأرسطي عقيم لتضمُّن الحكم
في الكبرى.
ويشير «المعقول الديني واللامعقول العقلي» إلى الجوانب الإشراقية والصوفية في
التراث القديم ومصادره في فارس وعند اليونان.
٨٤ ويشمل جانبَين؛ المعقول الديني العربي والموروث القديم؛ ففي الخطاب
القرآني هناك المعقول واللامعقول. ويتمثل اللامعقول في قصص الأنبياء وبداية الزمان
والتاريخ مع كل دورة. وكانت الديانات قبل الإسلام اليهودية والنصرانية والمجوسية
والصابئة وبها عناصر لا معقولة ولا زمانية. كانت المرجعية في حوار الإسلام مع
الديانات الأخرى الكون ونظامه، والقرآن وبيانه.
ويتضمن المعقول الديني العربي، معرفة الله ووحدانيته والنبوة. يتحد بها اللامعقول
الفعلي بالرغم من غموض التعبير وفقدان البساطة فيه. فهمها الأعرابي بجاهلية.
والمفاهيم أجنبيةٌ مستقاة من «اليونان واللامعقول» لدودس. والمادة التاريخية من
الشهرستاني وتسرُّب الإسرائيليات والمانوية وتاريخها والصابئة التي تقول بنفس
المكونات اللاعقلية في المعقول الديني، وجود إلهٍ صانع حكيم، يُتقرَّب إليه بالمتوسطات،
والقول بالتطهير، وإنكار النبوات. ويضم إليها المصدرُ اليوناني الكتاباتِ المنسوبة
إلى هرمس، بالإضافة إلى حكماء اليونان السبعة والشعراء ومتأخريهم مثل الشيخ اليوناني
(أفلوطين) خاصة أنباذوقليس بالتركيز على الألوهية ذاتًا وصفاتٍ.
ويتم وصف العقل المستقيل في الموروث العربي القديم إشارة إلى الهرمسية بعيدًا عن
وضعها في المركزية الأوروبية؛ فلم تمت الثقافات العربية قبل الإسلام بل أصبحَت إحدى
مُكوِّناتها مثل الهرمسية والبربرية والفارسية والهندية والنبطية بالإضافة إلى
اليونانية. وقد انتشَرَت الهرمسية في مدارس حران لدى الدوائر السريانية ولم تكن بعيدة
عن أفلوطين قبل أن تتصوره المركزية الأوروبية مجرد شارح لأفلاطون في الأفلاطونية
المحدَثة. والعودة إلى نصوص الهرمسية ودراستها والنقل منها كما فعل فيستوجيير أفضل
مما يُقال عنها.
٨٥
ويستمر «العقل المستقيل في الثقافة العربية الإسلامية» إشارةً إلى الأفلاطونية
المحدَثة وجمعها بين تياراتٍ شرقية متعددة، بالإضافة إلى الإسرائيليات وعودًا إلى
الهرمسية من جديد. وقد انتهى ذلك كله إلى نسقٍ فلسفي واحد، القول بإله واحد وترابط
العالم العلوي بالعالم السفلي، ووجود سلاسل أسبابٍ غير منتظمة. وقد دخلَت الهرمسية
إلى الثقافة الإسلامية من باب العلم قبل دخولها من باب الفلسفة والدين. في العلم
بداية بخالد بن يزيد (ت ٨٥ﻫ) أول من اشتغل بالعلوم خاصة الكيمياء والتنجيم والطب،
ثم جابر بن حيان ونظريته في النفس وتصنيفه العلوم إلى علم الدين وعلم الدنيا، وعلم
الدين ظاهر وباطن وعلمٌ عقلي هو علم الحروف وتحته العلم الطبيعي والعلم الروحاني
وعلم المعاني، الفلسفي والإلهي، وبالتالي السماح لعلم النجوم وكل علوم السحر
والخرافة والطلسمات بالدخول في المنظومة المعرفية. كما حضَرَت الهرمسية في بعض مقالات
الإسلاميين خاصة عند الغلاة من الخوارج والشيعة. وظهَرَت بشكلٍ واضح عند بعض الصوفية
الأوائل مثل هاشم الكوفي (ت ١٥٠ﻫ)، ثم ذي النون المصري (ت ٢٤٥ﻫ)، واكتملَت في
«رسائل» إخوان الصفا. وبدرجة أقل عند المحاسبي (٢٤٣ﻫ)، والجنيد (٢٩٧ﻫ)، والحلاج
(٣٠٩ﻫ).
٨٦
والسؤال: كيف يستقيل العقل في الموروث القديم وفي الثقافة العربية الإسلامية وهو
أساس الاجتهاد في أصول الفقه، والاستدلال في علم الكلام، والدليل النقلي بمفرده لا
يعطي إلا الظن ولا يتحول إلى يقين إلا بحجةٍ عقلية ولو واحدة كما قال الإيجي في
«المواقف»؟ وهو أول ما خلق الله في الحديث القدسي الشهير،
٨٧ فإذا كانت العقلانية من أرسطو، واللاعقلانية من الهرمسية، فماذا يبقى
للعرب؟
ويرجع «تنصیب العقل في الإسلام» إلى دخول أرسطو منظومة العلوم الإسلامية، وكما
يبدو ذلك حتى في «الملل والنحل» للشهرستاني، و«الفهرست» لابن النديم، ورواية حُلم
المأمون الشهير ونقاش مع أرسطو حول معنى الحُسن والقُبح. وهو حُلمٌ سياسي لإدخال علوم
العجم على علوم العرب لتقوية الدولة ضد خصومها من الزنادقة والشيعة. اتجه المأمون
إلى أرسطو كسلاح للمقاومة، وتم نقل العلوم اليونانية من خلال المترجمين، فنشأ
فلاسفة مثل الكندي للرد على المانوية والمثنوية ونصرة المعقول الديني العربي
الموروث على الغنوص المانوي والعرفان الشيعي والتأويل الباطني اعتمادًا على
المعقول، العقلي الوافد. واستمر الفارابي في ذلك التيار تأييدًا لدولة المعتصم. شرحَ
المنطق الأرسطي ولخَّصَه وعرضَه. وجمع بين أفلاطون وأرسطو لإقرار وحدة العقل، وتنصيب
العقل الكوني ضد النظام البياني والأيديولوجي السني من ناحية والنظام العرفاني
الأيديولوجي الشيعي من ناحيةٍ أخرى.
٨٨
وماذا عن الدعوى الأخرى التي يُقال فيها إن أرسطو حجَّم وقنَّن وقيَّد الدافع الحيوي
العربي الذي تُمثِّله الثقافة الإسلامية؟
٨٩
وتُشير «أزمة الأسس … وتأسيس الأزمة» إلى أزمة الفكر الإسلامي في القرن الخامس
الهجري في محاولات ابن سينا والغزالي والشيعة. والصدام بين البيان والبرهان ابتداء
من «البرهان في وجوه البيان» لابن وهب الكاتب قبل المناظرة الشهيرة بين النحو
والمنطق للسيرافي ومتی بن يونس. كما وضَع ابن سينا تعارضًا بين منطق الشرقيين ومنطق
اليونانيين. ونقَض الغزالي الفلسفة في «تهافت الفلاسفة» لصالح العرفان. وانتشَرَت
الإسماعيلية والاتجاهات الباطنية، وظهر أبو حاتم الرازي (ت ٣٣٢ﻫ). وانضمَّت مع
الهرمسية لاختراق العقل العربي؛ فالتصوُّف والتشريع يشتركان في أصلٍ واحد. كانت الشيعة
أول من تهرمَس في الإسلام. ووقع التصادم بين البيان والبرهان، والعرفان والبرهان،
والبيان مع العرفان. ومثَّل ذلك أبو حامد الغزالي (ت ٥٠٥ﻫ) بعد أن أوغل في أعماق
الهرمسية بالرغم من «فضائح الباطنية» باعتبارها حركةً سياسية وليس نظامًا معرفيًّا.
٩٠
وتُشير «بداية جديدة … ولكن» إلى المحاولات الفلسفية في المغرب للخروج من نفق
الهرمسية والتصوف والعرفان في المشرق إلى رحابة البرهان، مع عرض اجتهادات ابن حزم
وابن باجه وابن رشد. واعتمادًا على مقولة «الزمن السياسي الأيديولوجي».
٩١ فالظاهرية عند ابن حزم كانت الحصن المنيع ضد تسرُّب الهرمسية والعرفان
وطغيانهما المطلق على العقل العربي. والعقل عند ابن رشد، المغربي الأرسطي، كان
سدًّا آخر حافَظ على التمسك بالموروث الديني العقلي في الثقافة العربية. واستكملها
ابن خلدون آخر ما وصلت إليه العقلانية العربية من تماسُك وصمود.
أما الخاتمة «العلم والسياسة في الثقافة العربية» فهي أقرب إلى المقال السيال
المتدفق الخالي من مراجعة الأدبيات، واقتباس النصوص، والإحالة إلى المصادر والمراجع
في الهوامش في آخر الفصول.
٩٢ وتتضمن دعوة إلى إعادة كتابة تاريخنا الثقافي من جديد دون هاجس ادعاء
الجدَّة والأصالة والسبق التاريخي، فإذا كانت الثقافة قد انحازت إلى الأيديولوجي فإن
العلم نَدَّ عن هذا الانحياز. العقل العربي يظهر في تاريخ العلم العربي. وهي نفس
النتيجة التي توصل إليها «من النقل إلى الإبداع» في تحليل النصوص التكوينية في علوم الحكمة.
٩٣ ذلك ظل العلم العربي عند الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم وابن النفيس
خارج الثقافة العربية دون أن يُؤثِّر فيها. يتقدم العرب بالعقل. ويتأخر العرب عندما
يستقيل العقل. والبطروجي عالم الفلك الشهير في الأندلس (ت ٩٠١ﻫ) عَرفَته أوروبا،
وكان وراء نهضتها الحديثة في علم الفلك. وهو ما يتفق مع التجربة الأوروبية في بداية
العصور الحديثة بالعلماء جاليليو وكبلر ونيوتن حاملين لواء عقلانيةٍ جديدة كانت أساس
الرأسمالية فيما بعدُ. وهو موضوعٌ آخر حتَّم في التراث والتجديد صياغة الجبهة الثانية
«موقفنا من التراث الغربي»، لا يكون فيه الغرب مصدرًا للعلم أو نموذجًا له بل
موضوع للعلم ونموذج منه.
٩٤
وتظهر عناصر الربط في آخر الفصول للتأكيد على الوحدة العضوية للكتاب حتى يبدو
مُفكَّكًا مُتناثِرًا مُتجزِّئًا. وقد يكون في أولها أيضًا أو في وسطها.
٩٥ كثرتها دالة بطبيعتها. وإيراد معظمها يدل على أهميتها في مكانها
ووظيفتها في إبراز الخيط القائد بعد أن تاه وسط الركام الضخم من تحليلات الأعمال الثقافية.
٩٦ ويستمر نفس الخيط في أول الفصل التالي، الفصل السابع «المعقول الديني
واللامعقول العقلي» بإعادة بيانِ ما تم في الفصول الثلاثة السابقة.
٩٧ وقد تصل فقرات الربط إلى تلخيصٍ كامل للمسار، للقسم أو الفصل، قبل
الانتقال إلى قسم أو فصلٍ آخر. وذلك مثل نهاية الفصل السادس «التشريع للمشرع … القياس
على مثال سبق». وهو تلخيصٌ واضح يكشف مسار الفكر والخيط القائد، بعد أن طواه النسيان
وسط الركام الضخم من تحليل الأعمال اللغوية والكلامية والفقهية والفلسفية والصوفية،
عندما يطغي أحيانًا الأستاذ الجامعي على المفكر أو الباحث.
٩٨
وفي آخر «تكوين العقل العربي» يُعلن عن بداية «بنية العقل العربي» حتى تظهر وحدة
المشروع بالرغم من تعدُّد أجزائه.
٩٩
وبتحليل للفهرس العام لأسماء الأعلام والطوائف والمصادر دون الموضوعات يظهر حضور
أرسطو الطاغي، ممثل العقلانية في تاريخ البشر، وكأن العقل وافدٌ أكثر منه موروثًا.
يتلوه الغزالي ممثل اللاعقلانية، ثم الفارابي ممثل الأرسطية، ثم الشافعي واضع علم
الأصول، ثم ابن سينا ممثل النسق التلفيقي بين العقل والإشراق، ثم الشهرستانی مؤرخ
الملل والنحل، ثم ابن خلدون أمل المغرب والمشرق، ثم ابن النديم السلفي والمؤرخ، ثم
ابن حزم ممثل الظاهرية أمل العقلانية، ثم ابن رشد والكندي ممثلا العقلانية في
المغرب والمشرق.
١٠٠ ثم يتداخل الأعلام بين الفلاسفة والصوفية والنحاة والفقهاء والمتكلمين
والخلفاء والأئمة، فمن المتكلمين الأشاعرة: الأشعري، الباقلاني، الجويني. ومن
المعتزلة: الجاحظ، واصل، عبد الجبار، الحسن البصري. ومن الفلاسفة: متى بن يونس،
جابر بن حیان، ابن باجه، التوحیدي، البيروني، الرازي، یحيى بن عدي، ابن طفيل. ومن
الصوفية: الجنيد، المحاسبي، الحلاج، ابن عربي، الكلاباذي، ابن مسرة، ذو النون،
البسطامي، السهروردي. ومن العلماء: خالد بن يزيد، ابن الهيثم، الخوارزمي. ومن
الفقهاء: ابن تيمية، أبو حنيفة، ابن حنبل، مالك. ومن المؤرخين: القفطي، ابن صاعد، ابن
أبي أصيبعة، ابن قتيبة. ومن النحاة: السيرافي، ابن جني، عبد القاهر الجرجاني،
سيبويه، السكاكي. ومن الأئمة: جعفر الصادق، ابن تومرت، الكرماني. ومن الخلفاء:
المأمون، المتوكل، المستنصر. ومن الصحابة: علي، عثمان، أبو بكر، وعشراتٌ آخرون من
الأعلام يُذكر كلٌّ منها مرةً واحدة.
ومن الطوائف يتقدَّم الشيعة ممثلو اللاعقلانية، ثم المعتزلة ممثلو العقلانية ثم
يتوالى أنصار اللاعقلانية عند الإسماعيلية والباطنية والمتصوفة والمانوية والصابئة
وإخوان الصفا والحكماء السبعة والغنوصيون والإشراقية والعرفانيون بوجهٍ عام. ثم
يتوالی أنصار العقلانية عند الظاهرية والحنفية والأرسطية وأهل الرأي. ومن الفرق
يتقدم أهل السنة ثم الأشاعرة والأشعرية وأهل الحديث والجهمية والخوارج والماتريدية.
ومن الفرق غير الإسلامية الصابئة واليهود والمجوس والبراهمة.
١٠١
ومن أسماء المؤلَّفات يتقدَّم «الفهرست» من أجل تقسيم العلوم، ثم «نحن والتراث»
البيان النظري لمشروع «نقد العقل العربي»، ثم ابن خلدون الذي يُمثِّل طريق الخلاص،
ثم «الملل والنحل» المصدر الأول للفرق الإسلامية، ثم «تهافُت الفلاسفة» لهدم العقل،
ثم «الرسالة» لتقنين العقل. ثم تظهر كتب الأشاعرة مثل «الإبانة». ثم تكثر كتب
التصوف مثل «إحياء علوم الدين»، «الرعاية لحقوق الله»، «التعرف لمذهب أهل التصوف»،
«جواهر القرآن»، «الطواسين»، «المنقذ من الضلال». ثم تظهر كتب التاريخ المساندة مثل
«إخبار العلماء بأخبار الحكماء» و«الإمامة والسياسة»، و«مروج الذهب».
١٠٢
ومن اليونان تتقدَّم مؤلَّفات أرسطو على الإطلاق: الأورجانون، تفسير السماع الطبيعي،
السماء والعالم، الكون والفساد، ما بعد الطبيعة، النفس. ومن أفلوطين التاسوعات، ثم
أفلاطون وهرمس وفيثاغورث ومعظم التيارات الغنوصية، ثم فيثاغوس ونومينوس الأفامي، ثم
أفلوطين، ثم سقراط، ثم أنكساجوراس وأنبارقليس وبطلیموس وطاليس، ثم جالنيوس وديموقريطس.
١٠٣ ومن الطوائف تتقدم الهرمسية على الإطلاق، ثم الأفلاطونية المحدثة، ثم
الفيثاغورية الجديدة والقديمة، ثم الأرفيوسية.
١٠٤
ومن أعلام الغرب الحديث يتقدم دیكارت، ثم جاليليو وكانط، ثم هيجل ونيوتن ولالاند،
ثم اسبينوزا، ثم هردر ومالبرانش وكبلر وبيكون وليبنتز وكلود لیفي شتراوس وهيزنبرج
وهيوم ويونج.
١٠٥ ومن المؤلفات الغربية: «التأملات»، «نقد العقل الخالص».
بل يعتمد «تكوين العقل العربي» على الدراسات الثانوية المعاصرة التي تُعتبر في
قيمتها أقل من المصادر الأصلية، ولا يعتمد عليها إلا طلاب الدراسات العليا بالرغم
من اجتهادات أصحابها.
١٠٦
كما يعتمد على كثيرٍ من دراسات المستشرقين، وهي موضوع دراسة وليست دراسةً لموضوع،
تكشف عن عقلية المستشرق أكثر مما تكشف عن موضوع دراسة. ومنهم من عليه علامات
استفهامٍ كبيرة مثل برنار لويس.
١٠٧
(٥) بنية العقل العربي
وينقسم الجزء الثاني «بنية العقل العربي» إلى ثلاثة أقسام «البيان» و«العرفان»
و«البرهان»، بالإضافة إلى قسمٍ رابع هو «تفكك النظم ومشروع إعادة التأسيس». أكبرها
«البيان»، الجاحظ وعبد القادر الجرجاني. وتظل عبقرية العرب في الشعر. وأصغرها
«البرهان». وهو أضعفُ جزء في بنية الثقافة العربية.
١٠٨ و«البيان» هو أكثر الأقسام فصولًا، وأصغرها «البرهان».
١٠٩ وفي البيان تتكرر عناوين الفصلَين الأول والثاني «اللفظ والمعنى»،
والثالث والرابع «الأصل والفرع»، والخامس والسادس «الجوهر والعرَض». وفي كل فصل
موضوعٌ واحد يأخذ رقم (١)، وموضوعٌ واحد في الفصل الثاني في موضوعٍ آخر ويأخذ رقم (٢).
هذا بالإضافة إلى مدخل: ما البيان؟ وخاتمة البيان، أصوله وفصوله. وتبدو فيها البنية
الثنائية اليونانية التي استعارتها الثقافة العربية الإسلامية للتعبير بها عن
ثنائياتها الدينية؛ فلا فرق في البنية بين الثنائية اليونانية الوافدة؛ الجوهر
والعرض، العلة والمعلول، الكيف والكم، السكون والحركة، الصورة والمادة، والثنائية
الدينية الموروثة؛ الله والعالم، الخالق والمخلوق، النفس والبدن، الخير والشر، الحق
والباطل، الصواب والخطأ، اليقين والظن، الآخرة والدنيا، الجنة والنار، الثواب
والعقاب، الإيمان والكفر، الهداية والضلال، الإسلام والجاهلية، الملاك والشيطان …
إلخ. وهي ثنائياتٌ معرفية ووجودية وأخلاقية واجتماعية ما زالت مُؤثِّرة حتى الآن.
١١٠
ويحدث نفس الشيء في القسم الثاني «العرفان». الفصلان الأولان لهما نفس العنوان
«الظاهر والباطن»، وفي كلٍّ منهما عنوانٌ واحد مختلف، في الفصل الأول، الحقيقة بين
التأويل والشطح وتأخذ رقم (١)، وفي الثاني «المماثلة أو القياس العرفاني» وتأخذ رقم
(٢). والفصلان الثالث والرابع أيضًا لهما نفس العنوان «النبوة والولاية». وفي كلٍّ
منهما عنوانٌ واحد، الثالث «العرفان الشيعي والزمن الدائري»، ويأخذ رقم (١)، والرابع
«العرفان الصوفي والزمان المنكسر» ويأخذ رقم (٢). هذا بالإضافة إلى مدخل «ما
العرفان؟»، وخاتمة «العرفان: المماثلة والأسطورة».
وفي القسم الثالث، وهو الأهم كيفًا والأصغر حجمًا، تتكرر بعض ثنائيات القسمَين
الأوَّلَين مثل «المعقولات والألفاظ». وهي أقرب إلى ثنائيات البيان. و«الواجب والممكن
والنفس والمعاد» أقرب إلى ثنائيات العرفان. بالإضافة إلى مدخل «ما البرهان؟» وخاتمة
«البرهان … في خدمة البيان والعرفان».
وتحت العنوان الرئيسي «بنية العقل العربي» يُضاف عنوانٌ فرعي «دراسة تحليلية نقدية
لنظم المعرفة في الثقافة العربية». وهو عنوانٌ دالٌّ على منهج الجزء الثاني وموضوعه،
المنهج التحليلي النقدي دون الإعلان صراحة عن المنهج البنيوي في حين أن «نظم
المعرفة» مصطلحٌ بنيوي.
وتميل البنية إلى التكوين؛ فالبنية الثلاثية إنما هي اكتشاف من خلال التكوين بعد
أن طال سكوت العقل عن نفسه.
١١١
وجعلُ هذا التكوين الثلاثي للعقل العربي، البيان، العرفان، البرهان هو نفسه بنية
العقل العربي يوحي بأن العقل العربي نتاجٌ تاریخي صرف. وهنا يتم التضحية بالبنية
لصالح التاريخ. ويتم أَسْر العقل العربي في حتمية التاريخ؛ ومن ثَمَّ يصعب على العقل
العربي أن يتحرر من ذاته طالما أنه تاریخ، خارج نطاق الحرية. وفي حالة عدم تطابُق
البنية مع التاريخ فإنه يتم التعسُّف مع التاريخ لصالح البنية؛ فالبنية حكمٌ مسبق،
ثابت لا يتغير. والتاريخ هو المادة التي يمكن انتقاءُ ما يتفق منها مع البنية وترك
ما لا يدخل فيها. ويستطيع باحثٌ آخر ببنيةٍ أخرى أن يجد مادة تملأ بنيته، ويترك مادةً
أخرى لا تدخل فيها.
هذه البنية الثلاثية الشهيرة، البيان، العرفان، البرهان التي تصف مراحل تكوين
العقل العربي وبنيته في آنٍ واحد. بنيةٌ ثابتة جامدة قد لا تصدُق على مراحل التاريخ
المختلفة التي يتداخل فيها البيان والعرفان في وقتٍ واحد؛ ففي مرحلة البيان، القرنان
الأول والثاني، ظهر أوائل المعتزلة عمرو بن عبيد، والجعد بن درهم، ومعبد الجهيني
وواصل بن عطاء والحسن البصري يمثلون البرهان؛ أي استعمال العقل في البرهان. كما ظهر
العرفان عند العباد والزهاد والنساك والبكائين والصوفية الأوائل، الحسن البصري
ورابعة العدوية، في القرن الثاني.
وفي مرحلة العرفان، القرنان الثالث والرابع، ازدهر الفكر الاعتزالي عند أبي
الحسين البصري والجبائيين، والجاحظ والنظام، والعلاف. كما ظهر الفلاسفة، الكندي
والرازي والفارابي. وتأسَّس علم الأصول عند الشافعي. وظهر الأصوليون الأوائل خاصة
الأحناف عند الجصاص والبزدوي والدبوسي. واستمر البيان عند الشعراء العرب قبل
المتنبي، وعند بعض النحاة واللغويين وأهل البيان.
وفي مرحلة البرهان، القرنان الخامس والسادس، استمر البيان عند المتنبي والشعراء
في عصره. وازدهر العرفان وبلغ ذروته عند الغزالي وابن الفارض والسهروردي وابن عربي.
وازدهرت مدرسة ابن مسرة في الأندلس.
يبدو أن العشق العارم للبنية غلب على التحليل التاريخي الدقيق. وهذا ليس عيبًا في
البنية، ولا ميزة للتحليل التاريخي، بل هي طبيعة المناهج التي لكلٍّ منها مميزاته
وعيوبه. ولا يُوجد منهجٌ واحد خالٍ من العيوب بما في ذلك المنهج التكاملي.
لذلك يغيب أحيانًا الفهرس التفصيلي للمواد التي تضع العناوين الجانبية تحت
العناوين الرئيسية؛ حفاظًا على البنية الكلية التي قد لا تتفق مع الأجزاء
والتفصيلات؛ لذلك أتت البنية تركيبًا مصطنعًا، لا تُطابق الواقع التاريخي؛ فالواقع
أكثر ثراءً وغنًى وحركة من البنية الصورية المحددة الثابتة. كما يصعب تحويل التاريخ
إلى بنية دائمًا. ويصعب أيضًا تحويل المواقف على عقل، والعقل إلى نص.
وهناك علمٌ مميز لكل مرحلة في التاريخ، ولكل جانب في البنية. الأدب في البيان،
والتصوف في العرفان، والحكمة في البرهان. وهو تطبيقٌ صوري؛ فالتصوف ليس فقط عرفانًا
بل هو بيان. وكثيرٌ من الصوفية كابن الفارض وابن عربي شعراء. والحكماء أيضًا أهل
بيان مثل أبي حيان التوحيدي، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة. وبعض العرفان به برهان
مثل «حكمة الإشراق للسهروردي»، وكثيرٌ من الصوفية المتأخرين كانوا أقرب إلى الفلسفة
الإلهية مثل عبد الحق بن سبعين. ليس الدين بيانًا فقط بل يجمع بين البيان والعرفان
والبرهان. وليس الكلام عرفانًا بل هو أقرب إلى البرهان القائم على الأدلة النقلية
والعقلية.
وليس البيان النحو والفقه والكلام والبلاغة.
١١٢ فالنحو به مدرستان؛ مدرسة الأثر في الكوفة، ومدرسة الرأي في بغداد وهي
أقرب إلى البرهان. والفقه ليس بيانًا ولا عرفانًا ولا برهانًا بل هو مصالح الناس.
والكلام ليس بيانًا لأنه يقوم على البرهان خاصة في الكلام الاعتزالي. واللفظ
والمعنى مناقشةٌ قديمة في كل العلوم الموروثة يُعاد إحياؤها من جديد. بلورها
الأصوليون أخيرًا في رسمٍ توضيحي.
١١٣
وتحليل لفظ البيان تحليلٌ لغوي مسهب قد يخرج عن حد المطلوب.
١١٤ ومشتقات النحاة العرب لا شأن لها بمقولات أرسطو إلا عرضًا. في النحو
مشتقة من اللغة، وعند أرسطو وصف للطبيعة.
١١٥ «نقد العقل العربي» يميل أكثر إلى متى بن يونس في حين يميل «التراث
والتجديد» إلى السيرافي، المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو.
١١٦
ويتم التحوُّل من نظام الخطاب إلى نظام العقل، والانتقال من وصف بنية اللغة إلى وصف
بنية العقل.
١١٧ وتُعرض أعمال عبد القاهر الجرجاني وابن رشيق والتوحيدي والخوارزمي
والسكاكي والباقلاني وهو واضع تعبير «نظام الخطاب».
ويمكن قراءة الشيء الواحد على وجهَين، وليس على وجهٍ واحد وهو الأقل شهرة والأكثر
صعوبة في القبول. الإجماع كسلطة السلف والإجماع كتشاوُرٍ جماعي.
١١٨ ليس الإجماع فقط التفكير على أصلٍ سابق لأن إجماع العصر السابق غير ملزم
للعصر اللاحق لتغير المصالح. ويتم تحليل الإجماع بهدفٍ سلبي وهو تقويضه بحُججٍ أشبه
بحُجج النظام ضد الإجماع. الإجماع ليس استبدادًا بل مشورة جماعية.
والقياس أيضًا ليس ردة من الفرع إلى الأصل، بل هو اكتشاف العلة في الفرع
تجريبيًّا. والتعليل أساس القياس. وهو أقرب إلى المنهج التجريبي الجزئي منه إلى
المنهج الاستنباطي الكلي. ولا شأن له بالوافد في القياس الأرسطي، بل له جذوره في
الموروث في الحديث الشهير مع معاذ وفي رسالة عمر: «قِسِ الأشباه بالأشباه والنظائر
بالنظائر.» وقياسُ الغائب على الشاهد قياسٌ إسلامي أصولي وضعَه الفقهاء والمهندسون في
الإلهيات، رد اللامرئي إلى المرئي. وهو قياسٌ علمي أصيل ضد القياس الاستنباطي الصوري
المجرد، بل لقد فصَّل المسلمون أنواع الأقيسة مثل قياس العلة، وقياس الدلالة، وقياس
الشبه. وفصَّل الشاطبي في تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط. وفصَّل غيرهم قياس
العلة، وقياس الطرد، وقياس الشبه، وكل ذلك أقرب إلى البرهان منه إلى البيان.
والكلام ليس فقط اللفظ والمعنى، بل أيضًا الشيء الذي يُحيل إليه الكلام في العالم
الخارجي؛ فالقسمة ثلاثية: اللفظ والمعنى والشيء، وليست ثنائية فقط: اللفظ والمعنى.
١١٩
وثنائية الجوهر والعرَض، والمكان والزمان، ومشكلة السببية مشكلةٌ طبيعية وليست
لغوية؛ أي برهانية وليست بيانية. وتُستخدم كدليلٍ طبیعي لإثبات وجود الله في الكلام.
١٢٠ وتُحيل مشكلة الجوهر والعرَض أيضًا إلى مشكلة المعرفة، العقل والوجود
ومشكلة الكليات.
١٢١ وهي مشكلةٌ منطقية ميتافيزيقية برهانية لا شأن لها بالبيان. وتدخل بعض
الموضوعات الإلهية داخل البيان مثل القول بالجوهر الفرد لإثبات قدرة الله.
١٢٢
ويستعمل مفهوم «جينيالوجيا» البيان في الترجمة العربية الشهيرة الأصل والفصل،
للانتقال من اللغة إلى السحر وقيافة الأثَر والكهانة والعرافة. وهي موضوعاتٌ لا تتعلق
باللغة وحدها، بل أيضًا بالعرفان والبرهان اللاشعوري.
١٢٣ وما سُمي بنية العقل مثل الظاهر والباطن هو في الحقيقة بنية النص.
١٢٤
ويتم تحديد العرفان لغويًّا أولًا، تحولًا من أرسطو إلى هرمس، وكأن كلًّا من
البيان والعرفان لهما نموذجٌ خارجي في الوافد وليس في الموروث. والعرفان ترجمة
للكلمة المعرَّبة «غنوص» أو «غنوصية»، تدُل على وافدٍ خارجي، وليست كلمةً عربية أصيلة
تدل على موروثٍ داخلي. وتُقدِّم ترجمةً طويلة لرؤية هرمس وكل ما نُشر من قبلُ من الترجمات
العربية القديمة عن هرمس، رؤيته وصلاته.
١٢٥ والتصوُّف الذي يقابل العرفان مصدره داخلي وليس خارجيًّا.
١٢٦
والظاهر والباطن، والحقيقة بين التأويل والشطح، والتمايز بين الشريعة والحقيقة
مادة من التصوف عامة والتشيع خاصة. والموضوع له ثلاثةُ مستويات؛ سیاسي مباشر،
وأيديولوجي مذهبي، ودیني ميتافيزيقي. والشطح ناتج عن اتساع الرؤية وضيق العبارة.
١٢٧
ويُحيل الظاهر والباطن أيضًا إلى المماثلة أو القياس العرفاني. وهي الصورة الفنية
التي تُعبِّر عن معنًى أو بلغة التشيُّع الممثل والممثول، فالتشبيه قياسٌ مجازي. ومادة
التحليل من السراج الطوسي والقشيري وابن عربي انتقاء من باقي الأعمال الصوفية. ولا
ضير من إضافة «البرهان في علوم القرآن» للزمخشري.
١٢٨
بل إن القياس أيضًا في الوجود، في العرفان الشيعي، والزمان الدائري، وكما هو واضح
في «رسائل» إخوان الصفا في التقابُل بين العالم الأصغر والعالم الأكبر وفي «علم
الميزان» في «راحة العقل» عند الكرماني.
١٢٩ وتُحلل أعمال القاضي النعمان. وربما يظهر العرفان في قياس الولاية على
النبوة. ومع ذلك يجمع الفصل بين العرفان والبرهان وليس عرفانًا خالصًا.
وفي العرفان الصوفي ينكسر الزمان. وهو تعبير مجازي. وهو زمان الغيبة والحضور،
الصحو والسكر، زمان التقلُّب في الأحوال والمقامات، الزمان النفسي أو زمان الأنفس.
١٣٠ ويتم تحليل أعمال ابن عربي الذي يجمع بين العرفان والبرهان، مثل معظم
الصوفية المتأخرين أصحاب الفلسفة الإلهية.
١٣١
والعرفان في النهاية مماثلة تقترب إلى حد الأسطورة؛ أي الرؤية السحرية للعالم.
١٣٢ ولا يتم تناول الوظيفة السياسية للعرفان كمؤشر على البديل، على التكالب
على الدنيا والتبرير العقلي.
والمعارضة السياسية ليست عرفانا فقط بل هي بيان وبرهان أيضًا؛ فقد عارض أوائل
المعتزلة الحكم الأموي. وأثبتوا حرية الاختيار ضد عقيدة الجبر التي روَّج لها جهم بن
صفوان بإيعاز من الأمويين. كما عارض الفلاسفة مثل ابن رشد الأشعرية بعد أن أصبحَت هي
الفرقة الناجية، والشافعية تجلياتها في الفقه؛ لذلك كان ابن رشد أقرب إلى المعتزلة
والمالكية، إعمالًا للعقل والمصلحة.
وماذا عن موقف الفقهاء الذين رفضوا كل هذا التنظير وعارضوا الإسراف في تعقيل
النص، وأثروا العودة إلى النص الخام كعاملٍ مطهر منذ ابن حنبل حتى ابن تيمية ومحمد
بن عبد الوهاب ورشيد رضا والسلفية المعاصرة؟
والبرهان ليس لفظًّا مشتقًّا من جذر في اللغة العربية ولا يحتاج إلى مرادف أو
اشتقاق في اللغة الفرنسية
Démonstration.
١٣٣ وهو القضية العامة، والبرهان الأرسطي أحد أشكاله. وفي كل حضارةٍ ما يعادل
البرهان. وهو لفظ قرآني
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
١٣٤ ولا يتجلى بالضرورة في «الكليات الخمس» أو في «باري أرمنياس» أو في
«التحليلات الأولى» أو «التحليلات الثانية» في منطق أرسطو، بل هو أوسعُ من ذلك بكثير؛
فقد يكون عرفانًا
لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ
رَبِّهِ. وهو متنوع الطرق؛ حسية وعقلية وقلبية. المهم الإقناع. والفصل
كله أقرب إلى درس في المنطق، عرضًا لأرسطو من أستاذٍ محترف دون توظيف أو قراءة أو
إعادة بناء.
والمقولات والألفاظ لا تتعلق فقط بالقياس البرهاني، بل تعود أيضًا إلى المعنى
واللفظ في البيان.
١٣٥ والمادة من تحليل أعمال الكندي المنطقية، والفارابي، خاصة كتاب الحروف، مع
استعمال لفظ «الأبستمولوجية» بغية التحديث، وباقي أعمال الفارابي المنطقية مقارنة
بأرسطو، إرجاع للفرع إلى الأصل. ثم يأتي الغزالي في مقدمة «المستصفى» لإتمام المادة
المنطقية بالرغم من ثلاثيته المنطقية الأخرى الشهيرة التي حاول إعادة بناء المنطق
اليوناني فيها كمنطقٍ إسلامي؛ «القسطاس المستقيم»، «محك النظر»، «معيار العلم».
و«المستصفى» في أصول الفقه وليس في المنطق. والمقدمة المنطقية مدخل لعلم الأصول.
١٣٦
والواجب والممكن والنفس والمعاد موضوعاتٌ فلسفية وليست براهينَ منطقية، مستقلة عن
أرسطو، ومُعبِّرة عن رؤية إسلامية. والمادة من ابن سینا، نموذج الفيلسوف؛ فهو أقرب إلى
الفيلسوف الطبيعي منه إلى الفيلسوف المنطقي كالفارابي. وتتداخل المادة «العقل
الأخلاقي العربي» في موضوع السعادة و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا. والفلسفة
الإشراقية كلها وحكمة الإشراق جمعٌ بين العرفان والبرهان. ويتحول عَرض ابن سينا إلى
كتابٍ مدرسي يُلخِّص براهينه الشهيرة في خلود النفس؛
١٣٧ فالبرهان كان دائمًا في خدمة البيان والعرفان اعتمادًا على تلخيصٍ قد
يراه البعض شبه مدرسي.
١٣٨
والأهم من الأقسام الثلاثة الأولى؛ البيان، العرفان، البرهان، القسم الرابع «تفكك
النظم… ومشروع إعادة التأسيس».
١٣٩ قد تتزامن اللحظات في توازنٍ ذاتي
autoréglage. وقد تجتمع معًا في آنٍ واحد
assemblage في تداخُلٍ تكويني. ومع ذلك ظلت
محاولات التوفيق بينها هامشيةً معزولة عن مركز الثقافة لأنه قائم على التداخل
التوفيقي. وقد ظهر ذلك في بعض مؤلفات الغزالي.
١٤٠
تفكَّكَت النظم واختلطَت المفاهيم ابتداءً من القرن الخامس تحت أثَر ضربة الغزالي
للعلوم العقلية والتعدُّدية الفكرية والسياسية، وإيثار الفرقة الواحدة الناجية،
الأشعرية، والمذهب الفقهي الواحد، الشافعية، وتكفير مذاهب المعارضة الباطنية
كالإمامية، والعلنية كالمعتزلة. بعده بدأ عصر الشروح والملخصات والتجميع من كل نظام
وتدوين الذاكرة مرةً ثانية بعد التدوين الأول. ومعه عبد القاهر البغدادي. حاول ابن
رشد الإصلاح ولكن الزمن كان متأخرًا، القرن السادس، والصقع كان بعيدًا، الأندلس.
والحركة كانت ضعيفة نظرًا لوجود الظاهرية الضمنية داخل الفكر الرشدي ومعه الرازي في
«المباحث المشرقية» و«المواقف» للإيجي. وقد دخلَت الفلسفة على الكلام المتأخر من
الباب الخلفي بعد تكفير الغزالي للفلاسفة. يقع كل عصر الشروح والملخصات في «التداخل
التلفيقي» نظرًا لظروف العصر.
١٤١
و«مشروع إعادة التأسيس» يُحيل إلى الظاهرية، ابن حزم الذي يعتز به المغاربة قَدْر
اعتزازهم بابن رشد وابن خلدون دون ابن مسرة وابن عربي، مع أن أستاذ ابن حزم الذي
أسَّس المذهب، داود الأصفهاني، كان من المشرق قبله بقرنَين من الزمان. والتمييز بين
العلة والسبب ليس خاصًّا بابن حزم، بل هو واردٌ عند كل الأصوليين حتى الشاطبي في «الموافقات».
١٤٢ ونظرًا لإعجاب المغاربة بأرسطو أيضًا فقد خرج ابن حزم أرسطيًّا؛ لأنه
وظف المنهج الاستقرائي بشقَّيه الاستنتاج والاستقراء، مع أن ابن حزم حاول في «التقريب»
ضم المنطق الأرسطي داخل المنطق الأصولي؛ حتى يبدو المنطق نابعًا من الداخل وليس
وافدًا من الخارج. وفي النهاية أتى الشاطبي الغرناطي وأكمل الحقيقة في المغرب.
انهيار في المشرق عند الغزالي وإحياء في المغرب عند ابن حزم وابن رشد والشاطبي.
١٤٣
وتُقدِّم الخاتمة العامة «من أجل عصر تدوين جديد» تلخيصًا لأقسام الكتاب وفصوله.
البيان كفعلٍ معرفي ظهورٌ وإظهار وفهمٌ وإفهام. والعرفان كشفٌ وعيان. والبرهان كفعلٍ
معرفي استدلالٌ واستنتاج. البيان كحقلٍ معرفي عالم المعرفة المستمد من علم اللغة.
والعرفان كحقلٍ معرفي خليطٌ من هواجس وعقائد وأساطير. والبرهان كحقلٍ معرفي في فلسفةٍ
علمية ناشئة من الترجمة. ثم حدث تداخُلٌ تلفيقي بينهما في المشرق تم حصاره باتجاهٍ
تجديدي في الأندلس.
١٤٤
وذلك يكشف في النهاية عن سلطة اللفظ، وسلطة الأصل وسلطة التجويز؛ فكيف يتم
الانتقال من الماضي إلى الحاضر، والتمييز بين الغطاء الأيديولوجي والأساس المعرفي،
وتحقيق «الاستقلال التاريخي التام» بلغة جرامشي بعيدًا عن الماضي الإسلامي
والمستقبل الأوروبي كمرجعيتَين على التبادل؟ فالهروب إلى الخلف والهروب إلى الأمام
هروبٌ واحد. أما التجديد والتحديث فهي ممارسة وتفاعل مع الحاضر. لا يبدأ التجديد أو
التحديث من الصفر بل يُكمل مسار ابن حزم وابن رشد والشاطبي، مسار الأندلس، ظاهرية
ابن حزم، وعقلانية ابن رشد، وواقعية الشاطبي، اللفظ والمعنى والشيء، الماضي والحاضر
والمستقبل، الأنا والآخر والواقع، الوحي والعقل والطبيعة.
١٤٥ الشرط إذن هو دفن الماضي وتغيير مجرى الزمن.
١٤٦ ليس المهم ماذا نأخذ وماذا نترك من التراث بل كيف نفهم، ومن أين نبدأ؟
١٤٧
إن مخاطر هذه البنية هي في تطبيقها على الوطن العربي، والحكم بأن المشرق العربي
موطن البيان والعرفان، والمغرب الغربي موطن البرهان؛ وبالتالي هناك «قطيعة معرفية»
بين المشرق الإشراقي والمغرب العقلاني؛ ففي المشرق ظهر كبار العقلانيين النحاة
والأصوليين في مدارس البصرة وبغداد. وفي المغرب ظهر كبار الصوفية كابن مسرة وابن
عربي. والغزالي مشرقي حاضر في المغرب قَدْر حضوره في المشرق. والطرق الصوفية في
المغرب لا تقل نشاطًا وأثرًا عنها في المشرق، في مصر وتركيا وفارس وأواسط
آسيا.
وإذا كان نموذج البرهان عند أرسطو نواة الغرب، والمغرب وثيقة الصلة بالغرب عَبْر
مضيق جبل طارق فإن الغرب هو قمة التطوُّر الإنساني، والمغرب قمة التطوُّر العربي؛ ومن
ثَمَّ يحق للمغرب بحق أن يكون دولةً أوروبية، وأن يكون أول الأقطار العربية طلبًا
للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على نقيض أقطار المشرق البيانية الإشراقية. مع أن
المغرب ولوعٌ أيضًا بالبيان؛ فمنهم الشعراء والأدباء، وولوع بالعرفان فمنهم كبار
الصوفية. وبفضل الطرق الصوفية في المغرب انتشر الإسلام جنوب الصحراء على ساحل
أفريقيا الغربي في موريتانيا والسنغال ومالي وغانا.
وإن صحَّت البنية الثلاثية، البيان، والعرفان، والبرهان فإنها تُوجد في كل ثقافة.
ظهَرَت في الحضارة اليونانية، البيان عن سقراط صاحب الحكم والأمثال، ومُحلِّل الألفاظ
والمعاني ضد السوفسطائيين. وأفلاطون يمثل العرفان في نظرية المثل وخلود النفس
وأسطورة الكهف. أما أرسطو فهو البرهان، واضع المنطق وطرق الاستدلال.
وبالرغم من وجود بنيةٍ واضحة للكتاب إلا أن عادة الربط الخارجي ما زالت قائمة. إذ
ترتبط أيضًا الفصول ببعضها البعض بالإعلان عن ذلك في بداياتها أو نهاياتها.
وأحيانًا يتم التذكير بالخيط كله في الخاتمة.
١٤٨ وقد تظهر عبارات الربط بين الكلام في وسط الفصل.
١٤٩
ويدل الفهرس العام الذي يضم الأعلام والفرق دون الفصل بينهما في فهرسَين
مستقلَّين على أولوية اسمٍ على آخر أو فرقةٍ على أخرى؛ ففي الأسماء يتصدر أرسطو مما يدل
على إحالة بنية العقل العربي كصورة والثقافة العربية كمادة إلى الوافد، أرسطو، وليس
إلى الموروث، ثم الغزالي وابن سينا ممثلَي اللامعقول، ثم القاضي عبد الجبار وابن حزم
وابن رشد والشاطبي وابن خلدون والشافعي، وكلها علامات على إعمال العقل في النص
والواقع والتاريخ. ومن أنصار البيان عبد القاهر الجرجاني، والسكاكي، والجاحظ،
والسيرافي، وابن جني، وسيبويه. ويتداخل المعتزلة مع الأشاعرة، المعتزلة مثل: أبي
الحسين البصري وأبي هاشم الجبائي، وأبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبائي. والأشاعرة
مثل: الباقلاني، الرازي، الجويني، الشهرستاني، عبد القاهر البغدادي، الإيجي، إمام
الحرمين. ثم يتداخل الأصوليون والصوفية، الأصوليون مثل: الشافعي، أبي يعلى الجنبلي.
والصوفية مثل: الهجويري، الجنيد، السراج الطوسي، السهروردي، البسطامي، الشهرزوري،
الحلاج. ثم يتداخل الفلاسفة والمتكلمون، الفلاسفة مثل: الفارابي، الكندي، ابن باجه،
والمتكلمون الشيعة إمامية وإسماعيلية مثل: الكرماني، محمد بن إسماعيل، محمد الباقر،
هشام بن الحكم، أبي يعقوب السجستاني. كما يظهر الأنبياء: محمد وإبراهيم وموسى وعيسى
وإسماعيل. ويتراءى الوافد الغربي عن بُعد، ديكارت ثم كانط وهيجل وهوسرل وغرامشي.
١٥٠ ثم تظهر عشراتٌ من الأسماء، كلٌّ منها مرةً واحدة.
١٥١
ومن الكتب يتصدر «لسان العرب»، ثم «البرهان في علوم القرآن»، ثم «البيان
والتبيين». ثم تتداخل كتب الكلام مع الفلسفة والتصوف وعلوم القرآن والفقه والتاريخ
جمعًا بين العلوم النقلية العقلية، والعلوم النقلية دون العلوم العقلية الخالصة،
الرياضية والطبيعية.
١٥٢ ومن مؤلفات صاحب المشروع يُحال إلى «الخطاب العربي المعاصر».
١٥٣
ومن الفرق يتقدم الصوفية والعرفانيون قبل المعتزلة والأشاعرة مما يدل على حضور
اللامعقول أكثر من المعقول في الثقافة العربية. ثم يتوالى الصوفية في أسماءٍ أخرى
مثل الإسماعيلية والهرمسية والباطنية والسينوية وإخوان الصفا والإشراقية
والأفلاطونية، والفيثاغوريين والمسيحية، والأفلاطونية المحدثة. وفي مقابل ذلك يأتي
أهل السنة والأصوليون والبيانيون والفقهاء والنحاة العرب والظاهرية والفلاسفة
والحنفية والعقلانية والشافعية والكوفيون والمناطقة العرب وأصحاب الرأي والمالكية
لتأكيد دور العقل.
١٥٤
(٦) العقل السياسي العربي
وتستمر البنية الثلاثية من خلال قسمةٍ ثنائية تتضح في العنوان الفرعي «محدداته
وتجلياته»؛ فالعقل السياسي محددات وتجليات، والمحددات أكبر والتجليات أصغر.
١٥٥ الأولى ستة فصول والثانية عشرة على التوالي. المحددات تكتنفها البنية
الثلاثية مرتَين والتجليات بلا بنية. الأولى «سنكرونية»، والثانية «دياكرونية» بلغة
البنيويين. والبنية الثلاثية في المحددات تقوم على قسمةٍ ثنائية؛ من الدعوة إلى
الدولة، ومن الردة إلى الفتنة. وهي ليست البيان والبرهان والعرفان كما هو الحال في
«بنية العقل العربي»، بل العقيدة والقبيلة والغنيمة في «من الدعوة إلى الدولة»، ومن
القبيلة إلى الغنيمة إلى العقيدة في «من الردة إلى الفتنة». كانت العقيدة أولًا هي
الدافع على إنشاء الدولة ثم أصبحت القبيلة في الردة والفتنة. وكما تتميز ألفاظ
البيان والعرفان والبرهان بإيقاعٍ صوتي يمثله حرفان «ان». كذلك تتميز ألفاظ العقيدة
والقبيلة والغنيمة بإيقاع صوتي آخر يمثله حرفٌ واحد «ﻫ» كما هو الحال في القافية
الشعرية أو النثرية.
والتجليات تتضمن: دولة الملك السياسي، وهي دولة الأمويين وسندهم الأشاعرة،
وميثولوجيا الإمامة وهي دولة الشيعة إمامية وإسماعيلية، وحركة تنويرية تمثلها
المعتزلة، وأيديولوجيا السلطة وفقه السياسة وهو فكر الفقهاء من «الأحكام السلطانية»
حتى «بدائع السلك». هذا بالإضافة إلى مدخلٍ عام «مقاربات في المنهج والرؤية»، وخاتمةٍ
فاتحة «من أجل استئناف النظر، خلاصات وآفاق» اعتمادًا على تحليل المؤرخين. المحددات
هي البحث النظري، والتجليات هي التطبيق العملي.
١٥٦
والعنوان «نقد العقل السياسي» له ما يشابهه في التراث العربي أكثر من مرة.
١٥٧
والبنية هذه المرة متحركة وليست ثابتة. وهي حركة نكوصٍ وردة، قائمة على رؤيةٍ
تشاؤمية لمسار التاريخ؛ فبالرغم من أن «من الدعوة إلى الدولة» تمثل تقدمًا في
التاريخ إلا أن المسار بدأ بالعقيدة وانتهى بالقبيلة والغنيمة، وكأن العقيدة لم
تستبعد القبيلة بعد أن ساوت العقيدة بين القبائل والشعوب، وأصبح الباعث السياسي هو
الغنيمة؛ أي سلطان الجاه والمال. ويبدو التشاؤم واضحًا في المسار الثاني «من الردة
إلى الفتنة»، من الخليفة الأول الذي وقعَت في عهده الردة إلى الخليفة الرابع
الذي وقعَت في عهده الفتنة. وفي هذا المسار كانت القبيلة هي الدافع الأول في حروب
الردة، رفضًا لإعطاء الزكاة لقريش، واستمرت الغنيمة باعثًا على الحراك السياسي،
ووُظِّفَت العقيدة لتشريع الأمر الواقع، وإعطاء الشرعية للغالب. والحقيقة أن البنية
الثلاثية؛ العقيدة، القبيلة، الغنيمة سواء في «من العقيدة إلى الدولة» أو في «من
الردة إلى الفتنة» مع اختلاف الترتيب إنما تشير إلى عوامل التغير الاجتماعي
والسياسي؛ فالعقيدة هو العامل الديني، والقبيلة العامل الاجتماعي، والغنيمة العامل
الاقتصادي. قد يراها البعضُ مفاهيمَ مشينة لقراءة التاريخ السياسي للمسلمين؛ فالعقيدة
بنَت التاريخ لسيطرة قبيلة، وفرض زعامتها على باقي القبائل. والقبيلة شعوبيةٌ مرذولة.
والغنيمة طمع في الدنيا، في عقيدة تقول: بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى.
والسؤال هو كيف يمكن الانتقال من التاريخ السياسي إلى العقل السياسي؟ وهل العقل
حصيلة التاريخ، والبنية نتاجه؟ والحقيقة أنه من كثرة الهجوم على المشاريع العربية
المعاصرة بأنها لا تاريخانية؛ أي تُغفل التاريخ لحساب الفكر، لجأ «نقد العقل العربي»
إلى التاريخ لاستكمال هذا النقص.
يبدأ «العقل السياسي العربي» بما يبدأ به الأزهري، الدعوة المحمدية وانتشارها من
مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى شبه الجزيرة العربية، ثم إلى العالمين الشرقي
والغربي، فارس والروم. وهو أقرب إلى التاريخ الصرف منه إلى التحليل السياسي، المهم
في ذلك هو بيان أن «العقيدة»، النمط الأول من العقل السياسي العربي، إنما كانت في
تفاعل مع التاريخ؛
١٥٨ لذلك سهل الانتقال من الدعوة إلى الدولة عن طريق القبيلة، قريش، لأن
العقيدة لم تكن خارج التاريخ، والدولة نفسها من صنع التاريخ والصراعات الاجتماعية.
١٥٩ وهو ما يُفسِّر نشأة الدولة الأموية. وأخيرًا تم الانتقال من الدعوة إلى
الدولة عن طريق الغنيمة. ولم يكن العامل الاقتصادي غائبًا عن نشأة الدعوة في
بدايتها من خلال مكة وطرق التجارة والنشاط التجاري للصحابة بل ومن الرسول نفسه.
١٦٠
وتعود القبيلة للظهور كعاملٍ محدد في «من الردة إلى الفتنة». بدأَت بمشكلة داخلية،
في اجتماع السقيفة اعتمادًا على رواية «الأئمة من قريش.» تغيب الأمة، وتتوارى
العقيدة إلى عواملَ اجتماعيةٍ واقتصادية. هكذا بدأَت الشعوبية أيضًا بتغليب القبيلة ثم
الغنيمة على العقيدة؛ فالشعوبية أساسها العرب بتفضيل قريش على غيرها من القبائل،
وبإيثار العرب على غيرهم من الشعوب. وبدأَت ثورات المناطق في اليمن وغيرها مثل
العراق والشام ضد سلطة القبيلة. وكان توزيع فرق الجند على أساسٍ قبلي أيضًا. وكان
ولاء الجيوش للحكم القبلي، وليس للأمة أو الخلافة.
١٦١
والغنيمة هي التي تضفي المعقولية والتاريخية على صراعات القبيلة.
١٦٢ والفتح السريع والانتشار الأسرع للإسلام إنما تم بفضل غير العرب،
البربر في المغرب العربي، والفرس في خراسان، بقيادة عربية فضلاء الصحابة وفيهم عبق
النبوة. وتأسَّسَت الدواوين اقتباسًا من الفرس، والخراج اقتباسًا من الروم. وهو ما
يعادل الاقتصاد الريعي الآن. ويتم توزيعه على التفضيل وليس على التسوية، فتراكمت
الثروة في أيدي المسلمين الأوائل. وقد كان عمر ينوي تغيير ذلك إلى مبدأ المساواة.
وقامت بعض الاعتراضات بل والثورات المكتومة من الفقراء ضد الأغنياء. والكل مسلمون.
كل فريق يُؤَوِّل القرآن لصالحه. جسَّد معاوية منطق القوة، وعثمان منطق الثروة، وعلي
منطق
الثورة. وانتصر عليٌّ على الأغنياء الذين موَّلوا حرب الجمل، ولكنه لم يستطع السيطرة
على صفوف الفقراء في جنده.
١٦٣ عارض عثمانَ باسم العقيدة لإبطال مفعول القبيلة والغنيمة. وهي ممارسة لا
سياسية؛ أي مثالية مبدئية. حارب الناس معه من أجل العدل بمعنى الزيادة في العطاء،
ونيل نصيبٍ أوفر من الغنيمة. وفي هذا الصراع بين المثالية السياسية التي يمثلها
عليٌّ والواقعية السياسية التي يمثلها معاوية كان النصر لمعاوية.
١٦٤
ثم يظهر دور العقيدة في ظاهرة الردة عند المتنبِّين. وهم كثر، وليس فقط أشهرهم،
مسيلمة. جاء الخطر من المراكز الوثنية الهرمسية التي كانت في شرق الجزيرة وجنوبها،
حركة مسيلمة في الشرق، والأسود العنسي في الجنوب، وسجاج التميمية وطليحة الأسدي في
الشمال الشرقي من شبه الجزيرة وفي وسطها. وادعى الكل الانتساب إلى الحنفاء مثل
محمد. ومع استطراداتٍ عديدة عن تاريخ العرب قبل الإسلام يمكن تفسير تاريخ العرب بعد
الإسلام ودور اليمانية والسبئية في ذلك. وقراءة التاريخ كلها سلبية، تآمر، وصراع،
ونزوات وكأن الإسلام لم يأتِ بقيمٍ جديدة مثل التقوى والتضحية بالنفس والشهادة،
والإيمان الخالص بالله. نشأَت المعارضة اللاسياسية عند أبي ذر، والسياسة الحركية
«الراديكالية» عند عمار بن ياسر، «كان عمار يقاتل على التأويل».
١٦٥
وفي القسم الثاني «التجليات» تشير دولة الملك السياسي إلى الدولة الأموية وسندها
العقائدي في الأشعرية.
١٦٦ كما تُحيل «ميثولوجيا الإمامة» إلى الدولة الشيعية المعارضة. بدأها
المختار والزبير ومحمد بن الحنفية بدافع التشدُّد و«الطلب بدماء آل البيت». وظهَرَت
فكرة المهدي لتقوية الزعامة السياسية.
١٦٧ ثم قامت حركةٌ تثويرية قادها المعتزلة الأوائل، معبد الجهني وواصل بن
عطاء وغيلان الدمشقي. وكان الخوارج الأوائل يستمدون من المعتزلة أصولهم في التوحيد
والعدل. لقد أفرزت الدولة الأموية عقيدة القضاء والقدر فواجهتها قوى المعارضة
بعقائدَ أخرى. وكلاهما يستمدان الشرعية من الكتاب والسنة. وولَّدت الأموية عقيدة
القدرية على لسان جهم بن صفوان. وعارضه واصل.
١٦٨
وتُحيل «الأيديولوجيا السلطانية وفقه السياسة» إلى تراث الفقهاء السياسي باستعمال
مفهوم «الكتلة التاريخية»، والتمييز بين المركز والأطراف، وبروز تصوُّر الخليفة
«سلطان الله في أرضه» في الدولة العباسية، وهو تصوُّرٌ منقول من الأدبيات الفارسية،
ودخل في «الآداب السلطانية». لا فرق بين ابن المقفع والماوردي، بين «رسالة الصحابة»
و«الأحكام السلطانية». وهو ما عارضه الفكر السياسي المعاصر.
١٦٩ فالطريق إلى نقد العقل السياسي العربي يبدأ من نقد الميثولوجيا التي
تقول بالمهدي المنتظر، ورفض الأيديولوجيا التي تعتمد على مبدأ الأمر الواقع.
١٧٠
ومن أجل الربط بين النصوص والشواهد تأتي عبارات الربط أيضًا.
١٧١ بل إن الخاتمة-الفاتحة كلها هي تلخيص يلمُّ أطراف الأقسام والفصول.
وتنتهي إلى ثلاث نتائجَ محددة؛ عدم إقرار طريقةٍ محددة مقنَّنة لتعيين الخليفة، عدم
تحديد مدة ولاية الأمير، عدم تحديد اختصاصات الخليفة. وهو ما لا يتفق مع أساليب
الديمقراطية الحديثة؛ فالنتيجة الأولى تسمح بالملكية وبالانقلاب، بقريش والجيش.
والنتيجة الثانية تجعله رئيسًا مدى الحياة. والنتيجة الثالثة تجعله مطلق السلطان لا
يقف أمامه نائب أو رئيس وزراء أو وزير أو رئيس مجلس شعب أو مجلس الشعب نفسه أو حتى
ثورة الشعب عليه. المطلوب اليوم هو تجديد العقل السياسي العربي في ثلاثة اتجاهات
كذلك؛ تحويل القبيلة في مجتمعنا إلى لا قبيلة، وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد ضريبة،
وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي.
١٧٢ وتلك أيضًا مهمة الفكر العربي المعاصر.
١٧٣
ومن تحليل فهرس الأعلام في «العقل السياسي العربي» يتقدم عليٌّ ثم معاوية نظرًا
للصراع بينهما، ثم عمر وعثمان وأبو بكر، وباقي الخلفاء. ومن المعتزلة الحسن البصري
والجاحظ، ثم الجعد بن درهم، واصل. ومن الأئمة: محمد بن الحنفية، الحسن بن علي. ومن
الفلاسفة: ابن خلدون، ثم الفارابي. هذا بالإضافة إلى كثير من الصحابة والمؤرخين؛ مما
يدل على الطابع التاريخي العام للكتاب.
١٧٤ ومن الكتب، وهي الأقل من الرباعية النقدية، تتقدم كتب التاريخ مثل:
«تاج العروس» و«أخبار مكة» وغيرها.
١٧٥
ومن أعلام الغرب يتقدم ماركس ثم ريجيس دوبريه، وإنجلز وموريس غودلييه، ثم فوكو،
ثم دارون وغرامشي وفرويد، وفيبر، وكالفن، وكانط، ولوثر، ويونج، وهيجل من الفلاسفة
وعلماء النفس والاجتماع والمصلحين.
١٧٦ ومن المستشرقين يظهر رينان ورودنسون.
١٧٧
ومن الطوائف والمذاهب والفرق تأتي في المقدمة بطبيعة الحال الدعوة المحمدية، ثم
اليهودية، ثم الخوارج، ثم الرأسمالية، ثم المعتزلة، ثم الماركسية والليبرالية، ثم
اليونان، ثم الاشتراكية والجاهلية والماركسيون.
١٧٨ يختلط القدماء بالمحدثين، والفرق القديمة بالمذاهب الحديثة. والسؤال:
من هو الإطار المرجعي لمن؟
(٧) العقل الأخلاقي العربي
وقد تم التقسيم هذه المرة على نفس منوال «تكوين العقل العربي»، قسمان غير
متساويَين في الحجم. الأول «المسألة الأخلاقية في التراث العربي». والثاني «نظم
القيم في الثقافة العربية.»
١٧٩ والثاني خمسة أضعاف الأول، فإذا كان الأول قد تضمَّن فصولًا أربعة فإن
الثاني انقسم بدوره نظرًا لكبر حجمه أولًا إلى أبواب خمسة، كلٌّ منها عدة فصولٍ
متتالية من الخامس حتى الثالث والعشرين بصرف النظر عن الأبواب.
١٨٠ أكبرها الباب الثاني «الموروث اليوناني: أخلاق السعادة»، وأصغرها
الرابع «الموروث العربي: أخلاق المروءة.»
١٨١ هذا بالإضافة إلى مقدمة «الفكر الأخلاقي العربي: الوضع الراهن»،
ومدخل «قضايا المنهج والرؤية: مقاربات أولية».
١٨٢ وخاتمة «خلاصات وآفاق: لم يدفنوا بعدُ أباهم أردشير.»
١٨٣ ينقسم العمل إذن إلى أقسام وفصول دون أبواب كعنصرٍ متوسط بين الأقسام
والفصول، ويبدو الكتاب كالقطار الذي يسير دون أن تتحدَّد قضبانه أو يُعرف اتجاه
سيره إلا أولًا بأول.
اقتصر «العقل الأخلاقي العربي» على عرض النصوص القديمة وتحليلها وأحيانًا نقدها
دون تطويرها من أجل تثوير الثقافة الأخلاقية؛ فكل فصلٍ مجموعةٌ متشابهة من النصوص،
وكل قسمٍ لعلم أو لمصدر؛ فالقسم الأول «المسألة الأخلاقية في التراث العربي» في علم
أصول الدين؛ أي علم الكلام، فموضوعاته كلاميةٌ صرفة مثل الحرية والمسئولية؛ أي الجبر
والاختيار، وأيهما أساس الأخلاق، العقل والنقل دون التعرض للإيمان والعمل، وهي قضية
النظر والعمل، والأسس الخلقية للإيمان بالله، وعقيدة التوحيد، والصلة بين نظرية
الذات والصفات والأفعال والإنسان الكامل.
١٨٤ ومما يدل على تجميع النصوص العنوان «الكلام في الحرية والمسئولية» وليس
موضوع أو إشكال «الحرية والمسئولية». وهي مسائلُ تقليدية صرفة يعرفها أساتذة علم
الكلام دون تطوير أو قراءةٍ جديدة مع استعمال طريقة القسمة التقليدية مثل قسمة الفصل.
١٨٥ ولا يتجاوز التحديث إلا عبارة «المفكر فيه» ترجمة للتعبير الفرنسي. ولا
يعني ذلك انفصال علم الكلام عن الأخلاق؛ لأن كل مسائل العقائد لها أسسٌ ونتائجُ أخلاقية.
١٨٦
والباب الثالث من القسم الثاني «نظم القيم في الثقافة العربية» بعنوان «الموروث
الصوفي» عن أخلاق الصوفية «أخلاق الفناء وفناء الأخلاق».
١٨٧
والباب الخامس «الموروث الإسلامي» أقرب إلى علم أصول الفقه لكون «المصلحة أساس
الأخلاق والسياسة».
١٨٨
وهناك ثلاثة أبوابٍ أخرى في مصادر الأخلاق العربية. الباب الأول «الموروث الفارسي:
أخلاق الطاعة». وأخلاق الطاعة لها مصادرها الخارجية في فارس ومصادرها الداخلية في
الأموية، وفي فقه السلطان.
١٨٩ والباب الثاني «الموروث اليوناني: أخلاق السعادة»، وهي أيضًا الأخلاق
في علوم الحكمة؛ فالحكماء ليسوا فقط أتباع اليونان بل لهم مصادرهم الداخلية في
الأخلاق الإسلامية.
١٩٠ والباب الرابع «الموروث العربي: أخلاق المروءة» عن المصدر الجاهلي
السابق على الإسلام والأخلاق العربية الفطرية التي جاء الإسلام مكملًا لها.
١٩١
ومن أجل الربط بين تحليل المصادر، الواحد تلو الآخر، يُضاف خلاصة للقسم الأول «عود
على بدء» لجمع الموضوع كله في خيطٍ واحد.
١٩٢ وكذلك يُضاف للفصل التاسع من القسم الثاني «إجمال ومناقشة».
١٩٣ ويُغفل هذا الباب كل أدبيات الخروج على الحاكم الظالم. وتتكرر هذه
اللازمة في أخر كل باب.
١٩٤
وهناك فقراتٌ أخرى رابطة تعلن عن نهاية فصل وبداية أخر حتى يتم ربط عرض الأعمال
الفلسفية في مجموعاتٍ متكاملة.
١٩٥ كما يُحال إلى أجزاء الكتاب السابقة لربطها بالأجزاء اللاحقة.
١٩٦
وقد ذُكرتِ المصادر الخارجية للأخلاق العربية، فارس واليونان دون المصادر الأخرى،
الرومان والهند؛ فقد عرف العرب أخلاق الرومان خاصة الرواقية وبعد ترجمة «تاريخ
العالم» لأورسيوس. كما عرفوا أخلاق الهند بعد ترجمة «كليلة ودمنة» وبعض كتابات
حكماء الهند، وكما عرضها البيروني في كتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة
في العقل أو مرذولة». ويبدو الأثر الخارجي واضحًا خاصة اليوناني. وقد كُتب «العقل
الأخلاقي العربي» لمناقشة الحكم الشائع والمبالَغ فيه عن أثر اليونان على الثقافة
العربية الإسلامية.
١٩٧ بدأ الأثر الفارسي في الظهور في التراسُل؛ أي الخطب والرسائل السياسية ثم
تجلي القيم الكسروية في الدين والدولة؛ فمن حسن الأدب والسياسة تأديب العامة إلى
آخر ما هو معروف من الاستبداد الكسروي الذي يمثله عصر أردشير؛ فقد تمَّت أسلمة
الفرس كدافعٍ خارجي بالإضافة إلى الأموية كدافعٍ داخلي. وقد تم التشريع لها في كتابات
ابن المقفع وآداب السلطان والأدب الكبير. ومن القيم الكسروية التي غزت الساحة
«الدين طاعة رجل.» وتُشارك في أخلاق الطاعة بعض المؤلفات اليونانية مثل «مختار الحكم
ومحاسن الكلم» للمبشر بن فاتك.
١٩٨
ويتجلى الموروث اليوناني في ثلاث نزعات، نزعةٍ علمية في أخلاق الطب وهندسة الأخلاق
ومرجعيتها جالينوس. وتُعرض أعمال جالينوس و«الأخلاق إلى نيقوماخيا» لأرسطو
وامتداداتها في أعمال الكندي والرازي وثابت بن قرة، وهندسة الأخلاق في أعمال ابن
الهيثم وابن حزم. ونزعةٍ فلسفية في أخلاق المدينة الفاضلة والقيم الكسروية وتدبير
المتوحد وكأن غاية السعادة هي المعرفة النظرية ومرجعيتها أفلاطون وأرسطو.
١٩٩ وتُعرض أعمال الفارابي تفصيليًّا. كما تُعرض أعمال ابن باجه وابن رشد في
«الضروري في السياسة» دون تمييز بين الأنواع الأدبية عند ابن رشد، الشرح والتلخيص
والجمع من ناحية والتأليف من ناحيةٍ أخرى؛ فالضروري في السياسة هي من الجوامع
لجمهورية أفلاطون. وهناك نزعةٌ تلفيقية في السعادة والاستبداد ومرجعيتها الجمع بين
المرجعيات السابقة.
٢٠٠ وتُعرض أعمال العامري ومسكويه. السعادة اليونانية اتصال إلى أعلى
والسعادة الفارسية اتصال إلى أسفل، الأولى إلى الله والثانية إلى العالم.
ثم يأتي المصدر الداخلي قبل الإسلام «الموروث العربي: أخلاق المروءة». وهي تتبُّع
لنشأة الأخلاق العربية الخالصة منذ الشعر العربي والأمثال العربية حتى الكتابات
العربية التي لا أثَر فيها للوافد.
٢٠١ ويضم الشعوبية ممثلة في الجاحظ وكأن العرب شعب وعرق وليس قيمًا إنسانية
عامة. وتُعرض أعمال ابن عبد ربه والأحنف بن قيس وفرق الفتوة والصعلكة والملامتية.
وإذا كانت المروءة قيمةً أرستقراطية فكيف تقوم نهضة؟ وتُعرض أيضًا أعمال عبد الحميد
الكاتب وابن المقفع وابن قتيبة وابن عبد ربه والأبشيهي والقلقشندي.
ويتم عرض الموروث الصوفي «أخلاق الفناء وفناء الأخلاق» من خلال استعراض المقامات
والأحوال الصوفية عند «الصوفية والمتكلمين» ويعني الفلاسفة الإلهيين.
٢٠٢ وتوحي الأعمال بالمصدر الهندي للتصوف. ومع ذلك تُعرض أعمال كبار الصوفية
كالحسن البصري والمحاسبي داخل التصوف السني. ويتم تحليل علاقة الشيخ بالمريد
ابتداءً من أعمال الكلاباذي والسراج الطوسي والقشيري وابن عربي. وتُفصَّل المقامات
والأحوال، من التوبة حتى الفَناء، اعتمادًا علي أبي طالب المكي. وتُنقد أخلاق الفَناء
بأنها تنتهي إلى عكسها من الحرية إلى إسقاط التدبير، ومن الشريعة إلى الحقيقة، ومن
الفعل إلى اللافعل.
ومع ذلك تتجلى الأخلاق الإسلامية الخالصة عند المحاسبي والكلاباذي. وتتجلي في
أعمالهم أزمة القيم في عصرهم؛ فقد حاول المحاسبي أسلمة الأخلاق. وحاول الماوردي
تهذيبها في أدب الدنيا والدين. ومعهم يدخل الراغب الأصفهاني والغزالي.
وفي البحث عن أخلاقٍ إسلامية يتم اختيار أصول الفقه والمصالح العامة في نهاية
المطاف. وتُحلَّل أعمال العز بن عبد السلام وابن تيمية أساسًا دون أعمال الشاطبي
والطوفي.
ويبدو رصد الأعمال، واحدًا تلو الآخر حتى في التحديدات الأولية واختيار المفاهيم؛
أخلاق، أدب، نظام القيم.
٢٠٣ صحيح أن مراجعات الأدبيات المعاصرة ضرورية في البحث العلمي ولكنها أقرب
إلى مقدمات الرسائل العلمية وليس إلى الأبحاث المعمقة والأعمال الإبداعية.
٢٠٤ وربما كان ذلك بسبب منهج تحليل الأعمال، ومعرفة العقل عن طريق منتجاته.
وهي أعمال تجمع بين الشعبية للقارئ العام والتخصصية الدقيقة للنخبة المتخصصة. وكل
مراجعة هي بطبيعة الحال جزئية. تذكُر أعمالًا وتنسى أخرى.
٢٠٥ تبدأ مراجع التاريخ ثم مراجع اللغة.
ويغيب بناء الشعور الأخلاقي بالرغم من تعدُّدية أنواع الأخلاق. كما يغيب وصف الشعور
الأخلاقي وراء مواده المختلفة من الكلام أو التصوف أو الأصول، ومصادره عند الفرس
واليونان والعرب قبل الإسلام.
٢٠٦ وإذا أراد أحدٌ أن يجيب على سؤال: «ما العقل الأخلاقي العربي؟» لخرج
بمادةٍ تاريخية مجمعة عن كتب الأخلاق من خلال علوم الكلام والحكمة والتصوف والأصول
ومصادرها العربية واليونانية والفارسية.
والرؤية تقليدية، «في البدء كانت أزمة القيم».
٢٠٧ وهو موقفٌ شائع نابع من تفسير آية
لَا يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. وقد تصح أيضًا
عبارة «في البدء كان الصراع السياسي». وهو أيضًا تفسيرٌ شائع منذ اجتماع السقيفة حتى
الفتنة الكبرى.
وإذا كان العرب «لم يدفنوا بعدُ أباهم أردشير» فكيف نمت حركات التحرر الوطني ضد
الاستعمار؟ وكيف قامت الثورات والهبَّات الشعبية ضد خلفاء أردشير؟ كيف يمكن فهم
استمرار المقاومة في فلسطين وكشمير والشيشان وأفغانستان وأخيرًا العراق؟ ألم يسقط
الشهداء الذين واجهوا السلاطين لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأن أفضل شهادة
كلمة حق في وجه سلطانٍ جائر؟ هل أخلاق الطاعة هي المترسبة في أعماق الوعي وحركات
التحرر الوطني والهبَّات الشعبية من أجل الخبز ما هي إلا دوافعُ وقتية على هامش
الشعور؟
ومن تحليل أسماء الأعلام في «العقل الأخلاقي العربي» يتقدم ابن المقفع ممثل
الثقافة الفارسية، ثم الماوردي ممثل الثقافة السلطانية، ثم المحاسبي ممثل الثقافة
الصوفية، ثم مسكويه نموذج الأخلاق الفلسفية، ثم الفارابي، ثم الراغب الأصفهاني صاحب
المواعظ، ثم الهجويرى الصوفي، ثم ابن رشد ناقد العقل الديني. ثم يتراءى الصوفية
كالقشيري والغزالي وأبي طالب المكي والسراج الطوسي وذي النون وابن عربي والبسطامي
وإبراهيم بن أدهم. وواضح كثرة النصوص الصوفية. ثم يأتي الصحابة: علي، معاوية، أبو
بكر، أبو ذر الغفاري، أبو هريرة، ابن عباس. ثم الفلاسفة: الرازي الطبيب، الكندي،
ابن سينا، ابن طفيل. ثم المعتزلة: الحسن البصري، القاضي عبد الجبار، واصل، الجاحظ.
ثم الفقهاء أحمد بن حنبل، ثم الأشاعرة، الأشعري، وعشراتٌ آخرون من الأعلام ذُكرَت
مرتَين أو مرةً واحدة.
٢٠٨
ومن الطوائف والفرق يندُر ما يُذكر منها ربما لأن الفهرس للأعلام باستثناء إخوان
الصفا.
٢٠٩ في حين أن الفهارس السابقة كانت نصفها من الأعلام. ومن الوافد اليوناني
يتقدم أرسطو بطبيعة الحال، ثم أفلاطون، ثم جالينوس، ثم أبقراط، ثم سقراط، ثم
الإسكندر المقدوني، ثم فيثاغورس، ثم ثمانيةٌ آخرون كلٌّ منهم مرةً واحدة.
٢١٠ ومن الوافد الفارسي يتقدم أردشير بطبيعة الحال ثم كسرى أنوشروان ثم
برزجمهر وبيدبا وغيرهم من أعلام الفرس.
٢١١ كما يُعتمد على بعض الدراسات المحدَثة الثانوية مثل دراسات أحمد أمين
وطه حسين ومحمد يوسف موسى.
٢١٢ ومن فلاسفة الغرب، ديكارت وروسو وكامي وسارتر.
٢١٣ ومن المستشرقين جولدزيهر ونللينو.
٢١٤
ولا تحتاج هذه الدراسة إلى نهايةٍ تُوجد في البداية. تحيةً إلى الأخ الصديق في عقده
السابع قبل المائة.