هل يجوز القياس الحضاري؟١
أولًا: الأحكام القطعية ودوافعها
قد تكون أحد أسباب الأزمة الراهنة منذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي حتى غسقها في النصف الثاني من هذا القرن، الأحكام القطعية، والمفاتيح السحرية، وسهولة الحلول لمواقفَ صعبةٍ ومتداخلة، والحسم فيما لا حسم فيه، والأحكام في المتشابهات، وأحادية النظرة في واقعٍ ملتبس.
وعادةً ما تكون هذه الأحكام القطعية تعبيرًا عن رؤًى أيديولوجية ومواقفَ فكرية وسياسيةٍ مسبقة، لا تقوم على تحليل للواقع الاجتماعي أو الموقف الحضاري أو المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع العربي؛ فلو كانت الأيديولوجية إسلامية كان الحكم الذي تحوَّل إلى شعار «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة الإسلامية». ولو كانت الأيديولوجية ماركسية يكون الحكم والشعار «الماركسية هو الحل»، «الاشتراكية هو البديل». ولو كانت الأيديولوجية قومية كان الحكم أو الشعار «القومية طريق الخلاص»، «الوحدة العربية أمل المستقبل» ولو كانت الأيديولوجية ليبرالية كان الحكم أو الشعار «الحرية هو الحل»، «الديمقراطية هو المنقذ»، وحقوق الإنسان هي البداية والنهاية.
ومن ثم يكون السؤال: هل يجوز القياس الحضاري؟ ويعني القياس هنا المعنى الأصولي، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. الأصل هو الغرب والفرع هم العرب، والحكم هو التحديث، والعلة فصل الدين عن الدولة وتحويله إلى علاقةٍ شخصية بين الإنسان والله نظرًا لتعارضه مع العقل والعلم والحرية والديمقراطية والتقدم، مثل التنوير في الغرب. هل هناك حضارةٌ إنسانية عامة وشاملة، هي الحضارة الغربية في العصور الحديثة، تكون نموذجًا لكل الحضارات شرقًا وغربًا وفي كل العصور؟ هل هناك مسارٌ تاریخي واحد لكل الحضارات، هو مسار الحضارة الغربية، وعلى كل حضارةٍ الخروج من مسارها الخاص والدخول في مسار الحضارات الإنسانية الهامة كلها؟ هل خصوصية الحضارات وتعدُّد المسارات أسطورةٌ تُعبِّر عن هاجسٍ مَرضي، إحساسًا بالدونية أولًا ورغبة في التفوق ثانيًا، إحساسًا بالعجز أولًا ورغبةً في التعويض عنه ثانيًا عن طريق الرفض؟
والحقيقة أن لكل حضارةٍ مسارها التاريخي. وتتعدد المسارات بتعدُّد الحضارات. الحضارة الغربية لها مسارها، بداية ونهاية. ولها تحقيبها، القديم والوسيط والحديث. تؤرخ اليابان لعصورها منذ اعتلاء الإمبراطور العرش؛ فالإمبراطور هو الإله في الشنتوية، الدين الوطني لليابان. وتؤرخ إيران في عصر الشاه منذ كورش والعصر الإمبراطوري والأساطير القديمة. وتُحقِّب إسرائيل التاريخ منذ أن خلق الله العالم. والحضارات الشرقية أيضًا لكلٍّ منها مسارها، الصين، والهند، والحضارات الأفريقية تشارك مسارًا واحدًا. والحضارة العربية الإسلامية لها مسارها في عصرها الذهبي الأول، من القرن الأول الهجري حتى القرن السابع. وهي المرحلة التي أرَّخ لها ابن خلدون في القرن الثامن. ثم المرحلة الثانية، عصر الشروح والملخصات من القرن الثامن حتى القرن الماضي في المرحلة المملوكية العثمانية. ثم المرحلة الثالثة التي بدأت منذ فجر النهضة العربية التي تعثَّرت وتأزَّمت مما يدفع البعض إلى التوجه نحو نهضةٍ عربية ثانية، وهي المرحلة التي قد تستمر عدة قرون لو كان التحقيب السباعي له دلالة، فإذا استمرت المرحلة الأولى سبعة قرون والثانية سبعة قرون، فنحن الآن على أعتاب فترة ثالثة تستمر سبعة قرون ثالثة تبدأ في القرن الرابع عشر الهجري وقد تنتهي في القرن الواحد والعشرين الهجري.
وقد انضمَّت الأقليات المسيحية في الوطن العربي إلى الموقف الأول ربما لإحساسها بالقرب من الغرب، وبالتماهي الثقافي معه؛ فالدين واحد بالرغم من الفروق بين المسيحية الغربية والمسيحية الشرقية، بين الكاثوليكية والبروتستانتية من ناحية والأرثوذكسية من ناحيةٍ أخرى، بين المسيحية والنصرانية. كان من الطبيعي أن تأخذ بعد فصائل الأقلية المسيحية العربية الموقف الأول، الانبهار بالغرب نظرًا لأن موقف الأغلبية كان أقرب إلى الحركة الإصلاحية التي تخرج من الإسلام، والذي خرجت منه معظم حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الغربي في أرجاء الوطن العربي.
وكان للإرساليات والمدارس الأجنبية في مصر والشام دورٌ مزدوج في نشر الثقافة العربية خاصة اللغوية والأدبية وفي نفس الوقت نشر الثقافة الأجنبية، فقام نصارى الشام بنفس الدور المزدوج، ازدهار اللغة والأدب العربي وفي نفس الوقت انتشار الثقافة الغربية؛ فهم امتداد للموروث والوافد في نفس الوقت، واستمرار لسيبويه والخليل بن أحمد والفراء وحازم القرطاجني وابن جني وابن سيده وأيضًا لهيجل ودارون وهيكل وسبنسر وكومت ومل وفولتير ومونتسكيو وروسو حتى جان بول سارتر، من فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر حتى الوجودية في القرن العشرين، من الباستيل حتى الحي اللاتيني.
واستخدم الغرب الاستعماري الطائفي العنصري سلاح الأقليات في الوطن العربي طبقًا لمبدأ «فرِّق تسُد»، فأوهم المارونيين أنهم فرنسيون، ونصارى الشام أنهم غربيون. وذاعت مفاهيم الأقلية والأغلبية وعلاقة الاضطهاد المتبادَل بين الطرفين في إطار تصورٍ عام لمستقبل الوطن العربي نحو مزيد من التفتيت بعد تفتيت الخلافة العثمانية؛ عرب وبربر في المغرب العربي، سنة وشيعة في العراق والخليج، دروز وعلويون في الشام، مسلمون وأقباط في مصر، بدو وحضر في الأردن، حجازیون ونجديون في شبه الجزيرة العربية، زيدية وشوافع في اليمن، أباضية في عمان، عرب وأفارقة في السودان وتشاد ومالي وموريتانيا والصومال وجيبوتي وزنجبار. ولم يكن هذا هو موقف جميع الأقلية المسيحية في الوطن العربي. بل إن مفهومَي الأقلية والأغلبية نفسَيهما مفهومان كمِّيان يقومان على العد والإحصاء وهو ما يناقض مفهوم الثقافة التي هي أقرب إلى الكيف منها إلى الكم.
كان نصارى الشام الأوائل في بداية الحضارة العربية الإسلامية في عصر الترجمة هم حملة العلم. كانوا نصارى دینًا، ومسلمين ثقافة، وعربًا لغة. كان ولاؤهم للثقافة الإسلامية وللسان العربي. وفي مقدمتهم حنين بن إسحاق وإسحاق بن حنين، متى بن يونس، قسطا بن لوقا، أسرة بختيشوع، يحيى بن عدي. لم يقوموا بالترجمة فحسب، بل قاموا أيضًا بالشرح والتلخيص والتأليف والإبداع العلمي في الرياضة والطب والفلسفة.
واستمر الحال كذلك في فجر النهضة العربية التي قامت على أكتاف نصارى الشام وعائلاته مثل زيدان، واليازجي، ومعلوف، والبستاني؛ فبفضلهم تم التعرف على ثقافة الغرب الحديث وريث اليونان القديم. وكما ترجم القدماء عن اليونان ترجم المحدَثون عن الغرب. وكما عرف العرب أفلاطون وأرسطو وجالينوس وإقليدس وأبقراط وأرشميدس وبطليموس بفضل نصارى الرها ونصيبين وبغداد عرف العرب المحدَثون هيجل ودارون وسبنسر وماركس وبرجسون وجوته وشكسبير بفضل نصارى الشام المحدَثين خاصة في لبنان.
ولم يقتصر دور نصارى الشام المحدَثين على الثقافة بل امتد إلى الحركة الوطنية العربية خاصة الحركة القومية؛ فوجدوا في القومية العربية بديلًا طبيعيًّا للحركة الإصلاحية، في مقابل القومية الطورانية والخلافة العثمانية، فنشأت حركة القوميين العرب في الشام على حدود تركيا. واستمر الأمر في الجيل الثاني عند جورج حبش ونايف حواتمه. كان الاضطهاد في الخلافة العثمانية للأعراق مثل الأرمن والعرب أكثر منه للطوائف التي كان يحميها نظام الملة؛ فالأمة الإسلامية متعددة الطوائف والأعراق.
ثانيًا: المناسبة والالتفاف: ابن رشد ورينان
المناسبة «ابن رشد»، فيلسوفٌ إسلامي مقبول في الداخل والخارج، وأعداؤه في الخارج قَدْر أعدائه في الداخل. هو العلة التي تربط بين الأصل والفرع. لا يرفضه أحد من المسلمين لأنه قاضي قضاة قرطبة، وفقيه المالكية الأندلسي. ولا يرفضه أحد من الغربيين لأنه أحد مصادر النهضة الأوروبية الحديثة. ابن رشد هو الذي يحمل لواء التنوير والحداثة باسم الإسلام، العقل والحرية والعلم والتقدم المجتمع المدني؛ فالغرب قابع في الإسلام من خلال ابن رشد. وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا وقد ظل ابن رشد باستمرار منذ فجر النهضة العربية الحديثة سلاحًا ضد السلفيين، ولنقد المحافظة الدينية من داخلها، والتحرُّر من الأشعرية من داخل حضارتها ونقد ابن رشد لها، منذ فرح أنطون حتى جارودي ورودنسون اللذَين روجا لابن رشد وابن خلدون كدعاية للفكر العلمي من داخل الإسلام وليس من خارجه. ويستعمله العلمانيون المعاصرون للدفاع عن النموذج الغربي، فصل الدين عن الدولة، باسم الإسلام ومتترسين خلف ابن رشد.
يستعمل فرح أنطون ابن رشد لهدم العقائد الدينية وليس العقائد الأشعرية انتقالًا من الحكم على الجزء إلى الحكم على الكل، ومن خصوص السبب إلى عموم الحكم كما يقول الفقهاء. ويجد أداةً داخلية للدعوة إلى نموذج الحضارة الغربية كما فعل شبلي شميل في البحث عن جذور نظرية التطور لدارون عند إخوان الصفا وابن طفيل وابن بشرون والمعري. ويظل هذا التأصيل التراثي للمذاهب الغربية حتى هذا الجيل مثل «الشخصانية الإسلامية»، «الوجودية العربية»، «الاشتراكية العربية» … إلخ.
والإهداء إلى عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية وغيرهما؛ فالمعركة واحدة بين العقل والعلم والمدنية والحرية والتقدم من ناحية والدين بما يمثله من خرافة وأسطورة وتسلُّط وقهر وتخلُّف من ناحيةٍ أخرى. ولا فرق بين معركة ابن رشد في الحضارة الإسلامية ومعارك التنوير في الحضارة الغربية. وهو ابن رشد الريناني؛ أي كما فهمه وفسره وأوله رينان؛ فقد كان رينان نموذج الفيلسوف المادي العقلاني، الطبيعي العلمي، جعل العلم وريث الدين في «مستقبل العلم»؛ فالدين أحد أسباب التخلُّف، والعلم أحد أسباب التقدُّم.
وهي صورة ابن رشد في الرشدية اللاتينية، كذلك سمَّى رينان كتابه «ابن رشد والرشيدية»؛ أي توظيف ابن رشد العقلاني العلمي في نقد التراث الكنسي في العصر الوسيط، وجعل العقل أساس النقل، والدفاع عن السببية ضد نقد الغزالي والأشاعرة لها. وهي نفس الصورة التي رسمها أيضًا «مونك». وهي الصورة القديمة التي رسمتها فلسفة التنوير له، وكما بدا في «دائرة المعارف الفلسفية» وعند مولر والاستشراق الألماني، كما بدا في كتابه «فلسفة ابن رشد ومبادئه الدينية».
يعرف فرح أنطون ابن رشد من الاستشراق الغربي والدراسات الثانوية حوله وليس من نصوصه. يلتف حول التراث الإسلامي ويصل إليه عن طريق رينان والرشيدية اللاتينية وليس عن طريق ابن رشد المباشر دفاعًا عن تاريخ الفلسفة وأرسطو الطبيعي العقلاني ضد أرسطو الأشعري الإشراقي، ودفاعًا عن أصحاب الطبائع في «تهافُت التهافُت» وعن وحدة العقل والوحي أو الحكمة والشريعة في «فصل المقال» أو عن الأصول الكلية النظرية في «الكليات» دون الاكتفاء بالفروع والممارسات العملية التي تركها لابن زهر. ابن رشد اللاتيني وليس ابن رشد الإسلامي. ابن رشد الغربي وليس ابن رشد الشرقي. ابن رشد كما فهمه اللاتين لاستعماله في معاركهم ضد الكنيسة حتى يُعيد فرح أنطون استعماله ضد السلطتَين الدينية والسياسية عن طريق رينان وليس مباشرة في إعادة بناء ابن رشد طبقًا لظروف العصر. هو ابن رشد الخارج وليس ابن رشد الداخل، ابن رشد الفرنسي وليس قاضي قرطبة. ليس ابن رشد الظاهري الذي يلجأ إلى ظاهر القول سواء عند أرسطو حمايةً له من سوء تأويل الشراح له، يونان ومسيحيين ومسلمين أو ضد سوء تأويل الأشاعرة للعقائد الإسلامية. وليس ابن رشد الفقيه المالكي الذي يؤسس الفروع في الأصول، ابن رشد القاضي في «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، ابن رشد شارح الغزالي والمدافع عنه في «الضروري» في علم أصول الفقه، ابن رشد المفتي في «فصل المقال» الشهير، وهو فتوى شرعية حول الحكم الشرعي للحكمة، هل هي واجب أم محظور أم مندوب أم مكروه أم مباح؟
وبالرغم من لجوء فرح أنطون إلى بعض المؤرخين القدماء مثل الأنصاري، والذهبي، وابن أبي أصيبعة، وابن العبا، وابن الأثير، وابن الفداء، وابن خلكان إلا أن هذه المصادر تاريخيةٌ صرفة لا تفيد في معرفة دور ابن رشد في تاريخ الفكر الإسلامي وفي دفاعه عن العقل والطبيعة باسم الوحي نظرًا لاتحاد الأنساق المعرفية الثلاثة، قوانين العقل، ونظام الطبيعة، ونزول الوحي.
ثالثًا: السجال بين الخارج والداخل
وهو ليس سجالًا بين المسيحية والإسلام؛ فالمسيحية متعددة الاتجاهات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. والإسلام أيضًا متعدد الاتجاهات من أقصى الأشعرية السلفية إلى أقصى الاعتزال وأصحاب الكمون. إنما السجال بين رأيَين وموقفَين شائعَين. موقف فرح أنطون الذي يمثل أحد المواقف الغربية من الدين والعلم أو الدين والمدنية، وهو التيار العلمي العلماني الذي يفصل بين الدين والعلم، وبين الدين والدولة؛ فالدين إيمانٌ قلبي والعلم برهانٌ تجريبي. الدين قطع واعتقاد وإطلاق، والعلم نسبية واحتمال وتغير.
وهو نفس السجال بين رينان والأفغاني، يُعيد فرح أنطون بناءه ويستدعيه من جديد؛ ففرح أنطون هو رينان العرب. في رأي رينان أيضًا أن الدين من ناحية والخرافة والأسطورة والجهل والتخلُّف والقهر من ناحيةٍ أخرى متلازمان. أما العلم فإنه والعقل والطبيعة والحرية والتقدُّم متلازمان. استبعد فرح أنطون الجانب العنصري عند رينان والربط بين الدين والعقلية السامية، وبين العلم والعقلية الآرية.
وفي السجال يأخذ فرح أنطون موقف الأشاعرة ويُعمِّمه على الإسلام ككل، انتقالًا من الخاص إلى العام. وهو موقف يسهل نقده باسم العقل والعلم وحرية الإرادة. ويأخذ محمد عبده موقف المعتزلة الذي يقوم أيضًا على العقل والعلم وحرية الإرادة، فلا خلاف بين الاثنَين من حيث الهدف والدعوة. إنما الخلاف في الجهة والمصدر. فرح أنطون يستمد ذلك من الخارج، من الغرب الحديث. ومحمد عبده يستمده من الداخل، من التراث الإسلامي ذاته. يظن فرح أنطون أن ما يدعو إليه ليس موجودًا في الدين. ويرى محمد عبده أن ما يدعو إليه موجود في الدين. الخلاف في التجربتَين، الغربية والإسلامية، نظرًا لطبيعة المعطى الديني في كلا الحضارتَين، المسيحية والإسلام وخصوصية كلٍّ منهما؛ فالمسيحية دين يقوم على أن الإيمان سر يتجاوز حدود العقل، وأن الإرادة الإنسانية لا تصبح حرة إلا بعد أن يتدخل الفضل الإلهي، أشبه بالكسب الأشعري، وأن الخطيئة في الطبيعة البشرية لا يقوى عليها إلا المُخلِّص، وأن الطبيعة لا تخضع لقوانينَ ثابتة نظرًا لمعجزات السيد المسيح، وأن المؤمن لا يستطيع أن يتوجه إلى الله مباشرة إلا عن طريق الكنيسة، وأن مصير الإنسان بإيمانه وليس بأعماله. في حين أن الإسلام يقوم على العقل وحرية الإرادة وثبات قوانين الطبيعة والأخذ بالأسباب، والجمع بين الإيمان والعمل، والعلاقة المباشرة بين الإنسان والله دون توسُّط وغياب السلطة الدينية. صحيحٌ أنه في الحركة الإصلاحية المسيحية وما تلاها من فلسفاتٍ عقلانية عند ديكارت وكانط هناك اقتراب من التراث الاعتزالي. كما أن في الإسلام تراثًا سلفيًّا يقترب من المسيحية التقليدية التي يمثلها توما الأكويني. كل تراث به التياران. والسجال بين فرح أنطون ومحمد عبده ليس سجالًا بين المسيحية والإسلام بل بين المسيحية السلفية والإسلام الاعتزالي. ولو كان السجال بين توماوي وأشعري أو بين كانطي ومعتزلي لبان الاتفاق بين الدينَين.
لذلك يقوم محمد عبده بتصحيح فهم فرح أنطون للعقائد الكلامية في الرد الأول عليه وفي الموضوعات الأربعة التي أثارها وهي: الوجود، وخلق العالم والاتصال بالخالق، وطريق الاتصال، والخلود. ويدافع محمد عبده عن السببية في الطبيعة وحرية الإرادة في الإنسان، من داخل التراث الإسلامي وليس من خارجه. ما يعتبره فرح أنطون في الغرب وليس في الإسلام يعتبره محمد عبده في الإسلام وليس في المسيحية. فرح أنطون يتكلم عن الغرب الحديث ومحمد عبده يتحدث عن المسيحية العقائدية التقليدية. في ذهنه الإسلام الأشعري وفي ذهن محمد عبده الإسلام الاعتزالي.
لقد أخطأت مقالات «الجامعة» في ادعائها أن المتكلمين ينكرون الأسباب في الطبيعة وحرية الإرادة في الإنسان. ومعركة ابن رشد ضد الغزالي في «التهافت» دليل على ذلك؛ إذ يدافع ابن رشد عن السببية باسم العقيدة الإسلامية، وأن الله عاقلٌ حكيم، وليس من حكمته أن يعيش الإنسان في عالم لا يخضع لقانون وإلا استحال تنظيم الحياة. إنما الخلاف في تصور المتكلمين ووقوعهم بين اختيارَين كلاهما مر؛ إعطاء الأولوية للإرادة على الحكمة كما تفعل الأشاعرة، وإعطاء الأولوية للحكمة على الإرادة كما تفعل المعتزلة وابن رشد. كما أخطأَت «الجامعة» في عرضها للعقائد التفصيلية عند المتكلمين حول الحدوث والإيجاد، والاتصال، والنفس؛ لأن فرح أنطون أقرب إلى المستشرقين، يأخذ علمه من الكتب الثانوية وليس من علماء الأمة الذين يستمدون علمهم من المصادر الرئيسية.
ويقوم فرح أنطون بضرب المتكلمين بالفلاسفة؛ فإن الفلاسفة يقولون بالأسباب وهو ما يؤدي إلى هز العقيدة، وإبطال الوحي الإلهي، واعتباره قوةً طبيعية موجودة في الرؤيا والإلهام والحدوس وأشكال المعارف المباشرة، وإنكار البعث والحشر والقيامة، وإبطال المعجزات لأنها جهل بقوانين الطبيعة وخداعٌ للحواس، وإبطال علم الله الجزئيات واعتباره أملًا للإنسان في مواصلة الحياة ورغبةً في تخيُّل عالمٍ أفضل، وإعطاء الأولوية للاستنباط على الاستقراء وللمبادئ الكلية على الجزئيات الحسية. وقد استطاع ابن رشد اعتمادًا على قانون التأويل التوفيق بين الفلسفة والدين أو الحكمة والشريعة حتى يزيل هذا التناقُض بين المتكلمين والفلاسفة، ويُعيد بناء العقيدة على أسسٍ فلسفية خالصة. وبعد استعمال فرح أنطون للفلاسفة ضد المتكلمين ينقد الفلاسفةَ ومذهبهم في العقول والأجرام السماوية. وهذا غير صحيحٍ فقد كتب الفلاسفة مثل الفارابي ضد التنجيم؛ أي الشكل الخرافي لعلم أحكام النجوم أو علم الهيئة. وكانوا من مؤسسي علم الفلك في صيغته العلمية الحديثة في الغرب كما يشهد بذلك المستشرقون أنفسهم.
وفي الرد الثاني، يُبيِّن محمد عبده موقف الإسلام والمسيحية من قضية الحرية والاضطهاد في أي الدينَين أكثر أو أقل. يرى فرح أنطون أن فصل السلطتَين الدينية والسياسية سبب تقدُّم الغرب وحصوله على الحريات الفكرية، واحترام الرأي الآخر، والتسامُح ضد التعصُّب للرأي واضطهاد المخالفين. وتم ذلك بجهود الفرير والفرنسيسكان. وفي رأي محمد عبده أن ذلك من صلب الإسلام بنص القرآن؛ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. إلا أن عدم معرفة فرح أنطون بالتراث الإسلامي العقلاني عزى الحرية إلى الغرب، وجعل الاضطهاد في الشرق. وهو ابتسار للغرب والشرق معًا؛ فكم سقط من شهداء الفكر الحر في الغرب منذ محاكم التفتيش وحرق جيورادنو برونو، والمذابح المتبادلة بين البروتستانت والكاثوليك حتى الآن.
ويُبرِّئ محمد عبده الإسلام من تهمة الاضطهاد. وينفي القتال بين المسلمين لأجل الاعتقاد. ويُبيِّن تسامُح الإسلام مع العلم والعلماء، وقبوله باقي الأقوام مثل الفرس والأتراك؛ فالإسلام يقوم على تعدُّد الثقافات واللغات بل والأديان؛ فالوحدة في الاختلاف؛ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً. ثم يرُدُّ على الخصوم، ويُبيِّن أن طبيعة الدين المسيحي مناهضةٌ للعلم والعقل والمدنية، تؤمن بالخوارق، وسلطة الرؤساء، وتعتمد على غير العقول، وتترك الدنيا، وتؤمن باحتواء الكتاب المقدس كل شيء، وتُفرِّق بين المسيحيين.
ويُعبِّر فرح أنطون عن دهشته وأسفه لهذا التصوُّر. ويبين أن المسيحية أكثر تسامحًا مع الفلسفة، كما أن الإسلام أكثر تسامحًا مع العلم؛ فالفلسفة داخلة في تشكيل العقائد المسيحية منذ بداياتها الأولى والعلم قائم على العقل والطبيعة. كما أن المسيحية تؤاخي القريب بناءً على حب الجار مما قد يتطلب استبعاد الغريب. وتُقرب بين جماعات المؤمنين في مقابل غير المؤمنين. وتفصل بين السلطتَين الدينية والسياسية، بين الكنيسة والدولة مما جعل الشعوب الغربية أكثر قدرة على التحرُّر والتقدُّم وتأسيس الدول الحديثة.
رابعًا: المماثلة اللاتاريخية بين الآخر والأنا
من الواضح أن تحليل العلاقة بين الأنا والآخر في هذا التيار العلمي العلماني في الفكر العربي الحديث الذي يمثله شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا نظرًا لمعرفته المستفيضة بالآخر لانتمائه الثقافي له، ومعرفته الأقل بالأنا نظرًا لعدم انتمائه الثقافي له جعله يعطي الآخر أكثر مما يستحق، ويعطي الأنا أقل مما تستحق. الخير كله يأتي من الآخر، العقل والعلم، حرية الإنسان ونظام الطبيعة، والتقدُّم في التاريخ. والشر كله يأتي من الأنا، الأسطورة والخرافة والتخلُّف.
فعند فرح أنطون الغرب مهد احترام الأديان، والإيمان بالعقل، وجعْل العلم قاعدة العمران، وفصْل الدين عن الدولة وهو بيت القصيد؛ فقد أدى هذا الفصل في رأيه إلى إطلاق الفكر الإنساني من كل قيدٍ لصالح مستقبل الإنسانية، وجعل العقل في مقابل القلب، والعلم في مواجهة الدين، كما أدى إلى المساواة بين أبناء الأمة طبقًا للحق الطبيعي وإلغاء طبقة الأشراف وسلطة الباباوات ورجال الدين والكهنوت. وكان من آثاره عدم تدخُّل الدين في الأمور البشرية، وتركها لمصالح البشر وحسن تقديرهم، وعدم الزج بالدين خارج نطاقه، وهي العلاقة الشخصية الإيمانية بين الإنسان والله. وقضى على السبب الرئيسي لضعف الأمم وهو تدخُّل رجال الدين في الشئون السياسية، والخلط بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة. كما انتهى إلى إثبات استحالة الوحدة الدينية بين الشعوب المنتسبة إلى نفس الدين؛ فطالما نشبت الحروب بين أهل الدين الواحد، وكم من الرقاب قُطعَت والأرواح أُزهقَت باسم الله وباسم الدين.
يعترض محمد عبده على هذه الصورة الوردية للعلمانية الغربية. ويُبيِّن أن الدين مغروز في فطرة البشر، حكام ومحكومين، لا يمكن استئصاله أو استبعاده أو تحييده. الناس في حاجة إلى دينٍ كما هم في حاجة إلى سياسة. يتعاملون مع رجال الدين كما يتعاملون مع رجال السياسة. وهو تصورٌ تقليدي للدين والسياسة معًا؛ فالدين مغروز في الفطرة ولكن ليس له رجال. كما أن السياسة نظامٌ اجتماعي يقوم على الاختيار الحر وبيعة الحكام وليس له رجالٌ وإلا تم الوقوع في «عبادة الشخص» في الدين والسياسة على حدٍّ سواء.
ويصف محمد عبده في الردود الثالثة والرابعة والخامسة تجربة الأنا كي يعطيها حقها بعد أن أعطاها فرح أنطون أقل مما تستحق أثناء إعطائه الآخر أكثر مما يستحق، منتقلًا من المسيحية إلى الإسلام على دعوتَين؛ التوحيد والنبوات؛ أي العقليات والسمعيات. وهي القسمة الأشعرية التقليدية الموروثة من علم الكلام القديم، بمميزاتها وعيوبها. مميزاتها في جعل التوحيد من العقليات، الذات والصفات والأفعال عند الأشاعرة، والتوحيد والعدل عند المعتزلة. وكلاهما يتفقان على وجود بُعدٍ أو حدٍّ عام شامل يتساوى أمامه الجميع. ويتجلى في مسئولية الإنسان واستقلال عقله وإرادته. أما النبوة والمعاد والإيمان والعمل والإمامة فهي مسائلُ ظنية تختلف فيها الآراء ولا يقين عقلي فيها.
ثم يُفصِّل محمد عبده أصول الإسلام في سبعة؛ الأول النظر العقلي لتحصيل الإيمان. فالعقل أساس النقل، ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل، لا فرق بين المعتزلة وابن تيمية في «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، وبنص القرآن قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. ثانيًا، تقديم العقل على ظاهر الشرع حين التناقُض، وهو قانون التأويل الذي يعرضه ابن رشد في آخر «مناهج الأدلة». العقل صريح، والنص حمَّال أوجه. العقل محكم، والنص متشابه. العقل رؤية، والنص لغة. العقل بداهة، والنص تأويل. ثالثًا، البعد عن التكفير، واتهام المخالفين، والشق على قلوب الناس، وإقصاء الخصوم خاصة لو كان لصالح السلطان ضد المعارضة. ومن قال لأخيه أنت كافر فقد باء بها. رابعًا، الاعتبار بسنن العقل في الخلق نظرًا لوحدة نظام العقل ونظام الطبيعة؛ ومن ثَمَّ يقوم الإسلام على العقل والعلم وهما دعامتا الوحي. الوحي في الفطرة، والعقل في البرهان، والعلم في الطبيعة. وسنن الطبيعة ثابتة وهي نفسها قوانين التاريخ؛ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا. خامسًا، رفض السلطة الدينية كعاملٍ متوسط بين الإنسان والله بعد تجربة الأحبار والرهبان الذين جعلوا أنفسهم أربابًا من دون الله؛ فالطاعة عبادة. والإمامة عقد وبيعة واختيار. لا حاكمية خارج البيعة، ولا سلطان ظل الله في الأرض. سادسًا، مودة المخالفين في العقيدة والاجتماع معهم على كلمةٍ سواء؛ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه جعل لكل فردٍ شرعًا ومنهاجًا. التوحيد يجمع البشر جميعًا ثم تتعدد الشرائع طبقًا لاختلاف الزمان والمكان. سابعًا، الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة؛ فلا رهبانية في الإسلام، ولا رد فعلٍ عليها بالانغماس في الدنيا. ينهى الإسلام عن الغلو في الدين ويدعو الناس إلى التمتُّع بزينة الدنيا والطيبات من الرزق. بل إن الدين وسيلة وصلاح الدنيا وعمارة الأرض غاية. وينزل الدين على مصالح الدنيا بدليل الرخص؛ فالضرورات تبيح المحظورات، ولا ضرر ولا ضرار. هذه المبادئ السبعة التي يقوم عليها الإسلام تُحقِّق تجربة الغرب الحديثة من الداخل وليس من الخارج. الإسلام دین به الإصلاح لأنه حصيلة التجربتَين اليهودية والمسيحية. وبه التنوير فلا يحتاج إلى تنویرٍ خارجي.
ثم يُبيِّن محمد عبده أسباب قوة العلم والفلسفة والمدنية في أوروبا. ويجدها أربعة؛ الأول الجمعيات العلمية بما في ذلك الماسونية التي انخدع بها الأفغاني قبل أن يكتشف دوافعها السرية؛ فقد قامت هذه الجمعيات بما قامت به دُورُ الحكمة في العواصم الإسلامية وبلاط الخلفاء الذي كان محفلًا للعلوم والآداب. والثاني شدة ضغط الدين على العقل مما ولد تمسك العقل بالقيمة كبديل عن الدين، فأصبحَت الأخلاق والعلوم والفنون وظيفة الدين. أخذ الغربيون مضمون الدين وتركوا صورته، وهذا هو أحد أسباب تقدُّمهم. وأخذ المسلمون صورة الدين وتركوا مضمونه، وهذا هو أحد أسباب تأخُّرهم. والثالث الثورة الفرنسية وما أعطته لأوروبا من ثقة بالنفس في البحث عن الحقيقة، وفي مقاومة السلطتَين الدينية والسياسية، وما قدَّمَته من مُثُل التنوير، العقل، والعلم؛ أي حرية الإرادة وقوانين الطبيعة، والمساواة والعدالة الاجتماعية، والتقدم والعمران. وهي مشابهة لأصول الإسلام. في الغرب إسلام بلا مسلمين. وفي الشرق مسلمون بلا إسلام. والرابع ترك المسيحية واستبعادها من الحياة العامة، وإبقاؤها علاقةً شخصية بين الإنسان والله تحقيقًا لحديث «أنتم أعلم بشئون دنياكم.»
حاول فرح أنطون تمثُّل الاستشراق والترويج له اعتمادًا على رينان. وحاول محمد عبده تأسيس علم الاستغراب اعتمادًا على تجاربه الشخصية ومعرفته بحياة الأوروبيين وإقامته بينهم عندما لحق بأستاذه الأفغاني منفيًّا إلى باريس. الأول يمثل الخارج ويجعله نمطًا للداخل ونموذجًا له. والثاني يمثل الداخل ويجعله نمطًا للخارج ونموذجًا له. ويشعر فرح أنطون بذلك ويحاول ضرب محمد عبده بقاسم أمين؛ فالمسلمون أيضًا مدافعون عن العلمانية، النمط الغربي للتحديث، وكما فعل علي عبد الرازق بعد ذلك. والحقيقة أن القياس الحضاري خطأ لا يقع فيه نصارى الشام ومصر وحدهم بل مسلموهم أيضًا. القضية هي في الموقف الحضاري، في القدرة على الإحساس بالتمايُز بين الأنا والآخر، على نقد الآخر قَدْر الانبهار به، وعلى الثقة بالنفس وأصالتها قَدْر نقدها حتى لا يُكال بمكيالَين والوقوع في الأحكام المطلقة، الخير كله من الغير، والشر كله من النفس.