تجديد علم الأصول١
أولًا: كتابات الإمام في علم الأصول
علم الأصول له شِقَّان؛ علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. علم أصول الدين هو علم العقائد أو علم الكلام، أو علم التوحيد أو علم الذات والصفات. وهو علمٌ نظري يضع أصول النظر أي التصوُّرات العامة للعالم، مثل التوحيد والعدل بلغة الاعتزال أو الذات والصفات والأفعال بلغة الأشعرية. وعلم أصول الفقه علمٌ عملي، يضع قواعد النظر واستنباط الأحكام. هو علمٌ نظري عملي يضع قواعد الاستدلال من أجل تطبيق الأحكام. علم أصول الدين أشبه بالعقل النظري، وعلم أصول الفقه أشبه بالعقل النظري العملي. أما علم الفقه فهو العقل العملي.
وهو العلم الذي يُعبِّر عن روح الحضارة الإسلامية، التوجُّه نحو الواقع من أجل السيطرة عليه عن طريق تنظيم الأفعال الإنسانية فيه، ووضع قواعد السلوك البشري. ليست غايته الآخرة بل الدنيا، وليس الدين بل عمارة الأرض، وليس الله بل العالم؛ فالله هو الشارع، واضع الشريعة. ولمَّا كانت الشريعة، وضعية لها بنيتها في الواقع الاجتماعي، وفي الموقف الإنساني، لم تكن هناك حاجةٌ إلى تشخيص الشريعة في شخص الشارع، وليس الإشراقيات والاتصال بالعقل الفعال، بل العقل الاستنباطي والاستقراء التجريبي مع مباحث اللغة وتحليل الألفاظ.
- (١)
مباحث الدليل اللفظي (ثلاثة أجزاء). يضُم بعد التمهيد في تعريف العلم وموضوعه وتقسيمه، والمدخل في الدلالة والاستعمال وعلامات الحقيقة وتشخيص المعنى والتطبيقات، قسمَين؛ البحوث اللفظية التحليلية وتضُم الحروف والهيئات، والبحوث اللفظية اللغوية مثل الأوامر والنواهي، صِيَغها ودلالاتها وعلاقتها مع بعض المفاهيم الرئيسية فيها مثل الخاص والعام، والمطلَق والمقيَّد، والمُجْمَل والمُبيَّن.
- (٢)
مباحث الحجج، والأصول العملية (أربعة أجزاء). الجزء الأول عن الحُجج والأمارات. ويتوجَّه نحو منطق الاستدلال، وقِسمتُه إلى قطعٍ وظن، وتفسير الظن في السيرة والظواهر والإجماع والشهرة والأخبار، ومُطلَق الظن عندما تَنسَد الدلائل كلها. والقطع يستبعد التجرِّي وهو العمل بلا دليلٍ يقيني. والدليل هو أساسًا الدليل العقلي على عكس ما يُقال في الأصول الشيعية التقليدية من تقليد الإمام المعصوم أو إجماع آل البيت، آل العترة، الإجماع الخاص وليس الإجماع العام. والثاني عن البراءة والتخيير والاحتياط، وهي من مقولات الفعل التي تؤكد على البراءة الأصلية، وأن الأشياء في الأصل على الإباحة، وعلى حرية الأفعال، وأن الإنسان على التخيير، كما هو الحال في المندوب والمكروه، وعلى الاحتياط والحذَر والبُعد عن الشبهات؛ حرصًا على راحة الضمير. والثالث عن الاستصحاب، حُجيَّته، والأقوال فيه، ومقدار ما يثبت به، ثم تطبيقات عليه. والرابع في تعارُض الأدلة الشرعية، وتقسيمه إلى غير مُستقِر ومُستقِر.
- (٣)
دروسٌ في علم الأصول (ثلاث حلقات في جزأين). ويتضمن ثلاثة مباحث بعد المقدمات التمهيدية الأُولى، كلها في الأدلة. الأول الأدلة المحرزة، الدليل الشرعي، والدليل العقلي. والثاني الأصول العملية التي تتركز في الاستصحاب. والثالث في تعارُض الأدلة.
- (٤)
المعالم الجديدة للأصول. وينقسم بعد المدخل التمهيدي الأول إلى جزأين؛ الأول عن الدليل، وأنواعه اللفظي والبرهاني والاستقرائي، والثاني الأصل العملي مثل الاستصحاب، وهي نفس القسمة في المؤلَّفات السابقة مع تلخيصٍ شديد.
- (٥) الأسس المنطقية للاستقراء. بالرغم من أنه ليس في علم أصول الفقه مباشرة، إلا أنه تنظيرٌ له، بحيث يصبح منطقًا خالصًا يجمع بين الاستنباط والاستقراء، بين استنباط الأصل واستقراء الفرع، بعد نقد المنطق الصوري الخالص، ونقد المنطق التجريبي الخالص من أجل تأسيس منطقٍ ذاتي للمعرفة.٣
وإذا كان في علم أصول الدين اختلافٌ واضح في العقائد بين السنة والشيعة، فإن علم أصول الفقه يقل فيه الخلاف إلى أقصى حد. إنما يظهر التوتُّر فيه بين قُطبَيه، الأصل والفرع، النص والمصلحة، التقليد والاجتهاد، وهو توتُّر يُشارك فيه أصول الفقه السني والشيعي على حدٍّ سواء.
ثانيًا: دلالات المباحث اللفظية
من الواضح تركيز الإمام الشهيد العلم كله على قطبٍ واحد كما يقول الغزالي، وهو طرق الاستثمار وليس الثمرة (الأحكام) أو المستثمَر (بفتح الميم)، وهي الأدلة الشرعية الأربعة، أو المستثمِر (بكسر الميم) وهو الفقيه أو المفتي أو المجتهد. العلم هو منهجه قبل أن يكون موضوعه وغايته. ولمَّا كان المنهج يتعلَّق بطرق الاستدلال فقد غلب عليه المنطق. ولمَّا كان منطق الاستدلال يتعامل مع النص وهو الأصل والواقع وهو الفرع، أصبحت مباحث الألفاظ أهم جانب في منطق الاستدلال. ولمَّا كان الفرع هو الواقع الجديد الذي في حاجةٍ إلى دليل، ظهر دور العقل والدليل العقلي على التقابُل. ولمَّا كان منطق الاستدلال لا يتم عن طريق ربطٍ آلي بين الدليل اللفظي والدليل العقلي ظهر الاستصحاب.
وكما أن هناك منطقًا صوريًّا، ومنطقًا تجريبيًّا ومنطقًا للاستعمال، تأتي نظرية الاستعمال بعد نظرية الدلالة. وإذا كان علم أصول الفقه هو علمٌ نظري عملي، كان من الطبيعي أن يكون منطقه منطقًا للاستعمال. ولا يعني الاستعمال مجرد كيفية العامل مع الأداة، بل هو مرآةٌ وعلامة. وهي مصطلحاتٌ وتصوُّراتٌ مُستحدَثة في علم الأصول. والاستعمال إيجاد، أقرب إلى الفعل الخلَّاق منه إلى الأداتية والوسائلية.
ويتم التعرُّض لموضوع النواهي بنفس الطريقة. ويُقسِّمها إلى قسمَين؛ الأول بحوث النواهي وتشمل الصيغة، واجتماع الأمر والنهي والفساد. والثاني المفاهيم وتضم معنى المفهوم، ثم بعض المباحث اللغوية التقليدية مثل الخاص والعام، والمطلَق والمقيَّد، والمُجمَل والمُبيَّن؛ فصِيَغ النهي تدُل على الاستغراق، وتستدعي الامتثال، وتوفُّر الدواعي «الجامع الانتزاعي». وقد تجتمع الأوامر والنواهي في نفس الصيغة؛ فالفعل تركٌ إيجابي، والترك فعلٌ سلبي. ولمَّا كان الأمر طلبًا للصلاح، فإن النهي كفٌّ عن الفساد. أما المفاهيم فإنها الأُسس التي يرتكز عليها النهي، مثل الشرط والوصف والغاية والاستثناء والحصر، مما يدل على رغبة الإمام الشهيد في العرض النظري، وتحويل علم الأصول إلى منطقٍ شعوري خالص.
أما مباحث العام والخاص، والمُطلَق والمُقيَّد، والمُجمَل والمُبيَّن، فإنها مباحثُ تقليدية مع قَدْرٍ كبير من التجريد، دون إعطاء أمثلةٍ توضيحية من الفقه، أو الدخول في مناقشاتٍ كلامية؛ نظرًا للتمييز بين العِلمَين؛ أصول الدين وأصول الفقه. إنما يزيد الإمام الشهيد تحليل الخطاب الشفاهي، ويضيف مفهومَي الموافقة والمخالفة من لحن الخطاب ومفاهيم السياق عند أهل السنة. ويسترجع بعض المفاهيم الفلسفية الخالصة، لمساعدة التحليل الأصولي على الوصول إلى درجةٍ عالية من التجريد، مثل قسمة المُجمَل إلى مُجمَلٍ بالذات ومُجمَلٍ بالعرَض.
ثالثًا: منطق الاستدلال وعلم القواعد الفقهية
والثانية حُجة الظواهر أو الظهور أي الكشف؛ فالظاهر هنا له معنًى باطني، وليس كأهل الظاهر الذين يأخذون بظاهر النصوص. وقد يكون الظهور للسيرة الشرعية أو السيرة العقلية. وكل ظهور أصيل، يُعبِّر عما يظهر. الظهور ذاتي وموضوعي، تجلٍّ مُدرك، رؤيةٌ كاشفة. ويثبت بالبرهان.
والرابعة حُجة الشهرة، وهو ما يُعادل المشهور في علم الحديث، والمأثور في الأقوال عن السابقين. وقد يستند القول المشهور إلى قاعدةٍ، فيقل ظنُّه ويزداد يقينُه، وقد يعتمد على مجرد الروايات الخاصة، فيزداد ظنُّه ويقل يقينُه.
والسادسة حُجة الظن المطلق ودليل الانسداد. وهو أقرب إلى الموقف المعرفي المبدئي، باستحالة الوصول إلى اليقين، كما هو الحال في موقف الشكَّاك؛ فلا يُوجد إلا الظن، واليقين وَهْم.
ويتعرَّض الجزء الثاني للبراءة، والتخيير، والاحتياط، وربما الاستصحاب. وهي أقرب إلى الأصول العملية منها إلى الحُجج النظرية؛ فالحُجة ليست مجرد برهانٍ منطقي أو هندسي، بل هي بحثٌ عن أساسٍ نظري للعمل ويقين للسلوك؛ لذلك تم الجمع في عنوانٍ واحد «مباحث الحجج والأصول العملية». ويعني الأصل العملي اليقين النظري، الذي يستند إليه الحكم الشرعي. ولا فرق بين الأصل والأصالة في البراءة والتخيير.
وتعني أصالة البراءة أن الأشياء في الأصل على الإباحة، وأن التحريم طارئٌ عليها في أصول الفقه السني. وعند الإمام الشهيد نوعان؛ البراءة العقلية والبراءة الشرعية؛ فالعقل لا يعرف الإثم، إنما تأتي الآثام من الأهواء والنزوات؛ لذلك كان من صفات الله الإرادة؛ أي عدم اتباع الأهواء. وهناك أدلةٌ نقلية من الكتاب والسنة على البراءة الشرعية، مثل رفع الحرج وعدم جواز تكليف ما لا يطاق، وعدم جواز المساءلة قبل بعثة الرسل، واستقلال الإنسان عقلًا وإرادة. كما ثبت البراءة الأصلية بالاستصحاب؛ أي بطبائع الأمور ومجرى العادات. والبراءة لا تنفيها الشبهة الذاتية والموضوعية لأن البراءة أصل. وعلى أصل البراءة تقوم التكاليف غير الإلزامية.
ويثبُت الاستصحاب بتحليل مصادر المعرفة وأُسسها العملية، وبالحُجج النقلية وبالسيرة العقلية. وعادةً ما يُستخدَم في لحظات الشك التقديري وغياب اليقين المطلق، فيكون استصحابًا للكلي أي مجموع القرائن والإمارات، واستصحاب الأمور المقيدة بالزمان والعصر؛ أي الأعراف والعادات والمصالح المتعارَف عليها، واستصحاب النسخ إحساسًا بالتقدُّم والتغيُّر سلبًا أم إيجابًا نحو المنسوخ أو نحو الناسخ؛ فالتغيُّر ليس خطيًّا بالضرورة، قد يكون تقدُّمًا وقد يكون نكوصًا.
ومع ذلك تظل الأمارات والقرائنُ أقوى من الأصول العملية؛ فالأمارات مؤشِّرات على اليقين وطريقٌ إليه، والأصول العملية اجتهادٌ في الحصول عليه؛ لذلك تتقدم الأمارات على الأصول، تتقدَّم بالورود وبالحكومة وبالقرينة على أصالة البراءة والاستصحاب.
والتعارُض نوعان؛ غير مستقر ومستقر طبقًا لنظرية الورود؛ أي تقابُل الأدلة وتقاطُعها وتزاحمها. ويكون الحل بالتراجيح؛ أي أولويات الأدلة طبقًا للقوة والضعف. القدرة العقلية مقدَّمة على القدرة الشرعية، وترجيح القدرات الشرعية بعضها على البعض الآخر، طبقًا لأولوياتها في القوة، وترجيح الأقل شكًّا على الأكثر شكًّا، والأكثر يقينًا على الأقل يقينًا. وقد تكون الأهمية مقياسًا للترجيح طبقًا للقدرة الشرعية، وترجيح الأسبق زمنًا على الأحدث في الرواية وليس في النسخ.
وقد يُغني التزاحُم عن الترجيح طبقًا لأحكام التزاحُم، وهي أنه لا يحدث إلا في المتضادين، فيخرج الورود عنه إذا توافرت القدرة الشرعية في الحالتَين وكانا متزامنَين، وإذا توقف فعل الواجب على فعل المحظور. ولا يقع التزاحُم إلا بين الواجبات الضمنية مثل الضيق والموسَّع.
أما التعارض المستقر فهو التعارض الذي يبدو أحيانًا بين الأدلة، في مقابل غير المستقر الذي يبدو عند البعض دون البعض الآخر أو في حالةٍ دون أخرى. وينشأ من عدم المقدرة على استيعاب الرؤية الكلية للواقع المتشابه، وللوجود الإنساني المُحمَّل بالإمكانيات المتباينة. ويُحل التعارُض عن طريق تحديد مركزه بين الدليلَين، تأسيس الأصل الذي يقومان عليه. وكل تعارُضٍ بين دليلَين له حلٌّ ثالث، خلافًا لمبدأ الثالث المرفوع في المنطق الصوري. ولا يتعارض الوضع والحكم لأن الأحكام وضعية بمصطلحات الشاطبي، ولا يتعارض الشمول مع البدل كما لا يتعارض الكلي مع الأجزاء. ويُحل التعارُض عن طريق تغيير النسبة بين الدليلَين المتعارضَين.
رابعًا: تجاوز القدماء
وكل هذه الأدلة مرتبطة بالوجدان؛ فالعقل والحس، الاستنباط والاستقراء، كلاهما في الشعور، وسائل إثباتٍ وجداني؛ فالشريعة ليست مجرد أوامرَ ونواهٍ مفروضة على الإنسان، ويقوم بتنفيذها على نحوٍ آلي، بل هو تقابل الشرع والطبيعة، الوحي والوجدان كنوعٍ من الضمان النظري لتلقائية الطبيعة. الأحكام الشرعية لها أسسٌ نفسية، والوجوب والحظر نفسيان، واللغة لها مدلولٌ نفسي، بل إن الأدلة الشرعية الظنية كالخبر والإجماع والسيرة المُتشرِّعة والدليل اللفظي تقل ظنيتها باليقين الوجداني، بل إن مصادر الشرع هي مصادر الإلهام، أي الجانب الوجداني الذاتي في المعرفة الشرعية؛ لذلك أصبح للاستصحاب دورٌ رئيسيُّ في علم أصول الفقه. والاستصحاب هو جماعُ الأدلة العقلية والنقلية والوجدانية، البداهة العقلية ونزول الوحي والطبيعة التلقائية. هو نوعٌ من الذوق الفطري، القادر على معرفة أحكام الشرع؛ فهو مثل الأدلة الشرعية غير اللفظية، مثل دلالة السكوت والسيرة.
ومصادر الإلهام هي البحوث التطبيقية في الفقه التي يُسمِّيها المغاربة «النوازل»، والكلام، والفلسفة؛ رغبة في تطوير العلم إلى أقصى درجةٍ من التجريد والتنظير، والظرف الموضوعي أي المجتمعات الراهنة، وعامل الزمن أي اللحظة التاريخية الراهنة، وأخيرًا عنصر الإبداع الذاتي، وشجاعة المجتهد وغَيْرته على مصالح الأمة وعلى بقائها في التاريخ.
والطبيعة البشرية لا تعرف الجبر وأحادية الاتجاه؛ لذلك جاء «التخيير» ضمن الأصول العملية للاستدلال؛ فالطبيعة مملوءة بالإمكانيات، والفعل الشرعي بالرغم من أن له صيغةً وجوبية فقط في الأفعال، بل يكون أيضًا في الروايات طبقًا لباقي الأدلة. الدلالة تابعة للإشارة وليست مجرد معنًى مجرد؛ لذلك يظهر مفهوم الامتثال الكلي؛ فالشريعة موضوعة للامتثال كما هو الحال عند الشاطبي؛ أي أن تتحول إلى طبيعةٍ أولى أو ثانية. الأفعال لها زمنٌ مُضيَّق أو مُوسَّع، أداء أم قضاء، على الفور أم على التراخي.
خامسًا: تجاوز المحدثين
وكما تجاوَزَ المحدَثون القدماء يمكن للمحدَثين أن يتجاوزوا المحدَثين الذين أصبحوا قدماء بفعل الزمن؛ فما زالت هناك بعض الموضوعات في علم الأصول عند الإمام الشهيد في حاجةٍ إلى مزيد من التجديد؛ فبالإضافة إلى الأسلوب الشفاهي، أسلوب المحاضرات، وبالإضافة إلى التكرار الذي يمكن تجنُّبه مع مزيدٍ من التركيز، يمكن التخفُّفُ من العجمة اللغوية التي تُثقل أحيانًا عمق التحليل النظري، قد تمنع علماء الأصول المحدَثين من الدخول في علم الأصول الجديد.
وما زالت عقيدة الإمام المعصوم قابعةً داخل علم الأصول، مع أنه علمٌ له بناؤه الذاتي المستقل، ويقينه الداخلي الذي يتجاوز حتى الأدلة الشرعية التقليدية، اللفظية والظاهرية والإخبارية والسيرة الشرعية بل حتى الإجماع. يتمايز علم أصول الفقه عن علم العقائد، وعصمة الأئمة من عقائد الشيعة التي يمكن إخراجها من البنية الداخلية للعلم؛ فما دام الزمن متجددًا بعد زمن الإمام المعصوم، فلِمَ التوقُّف على زمنه وتحويله إلى أصلٍ أو دليلٍ ثابت؟
ويمكن أن يتحول الإجماع إلى تجربةٍ جماعية مشتركة، ولا يلزم الإجماع السابق الإجماع الحالي نظرًا لتغير الظروف، فيتحول من ظنٍ خارجي إلى يقينٍ داخلي، ويظل السؤال من هم المجمعون؟ من هم أهل الحل والعقد؟ من هم علماء الأمة، فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس أم فقهاء الأمة، فقهاء الثورة والغضب؟
أما القياس فما زال آليًّا شكليًّا صوريًّا، مجرد قياس فرعٍ على أصل، واقعٍ على نص، مصلحةٍ عينية على أصلٍ لفظي. في حين أن هناك إشكالاتٍ عدة للاجتهاد، تم التركيز فيها على الاستصحاب كأصلٍ عملي. وهناك أيضًا الاستحسان والاستصلاح، وكل أشكال المصالح المرسلة؛ فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن.
ويمكن إعادة قراءة مباحث الألفاظ واكتشاف البُعد الفردي الحر فيها، حتى يمكن التخفُّف من تصوُّر الشريعة كقهر وإجبار؛ فالحقيقة والمجاز يدلان على بُعد الصورة الفنية، وأن الغاية من الحكم الإقناع قبل الامتثال، وأن الخيال لا يقل أهمية عن العقل، والظاهر والمُؤَوَّل يدلان على اختلاف الناس في فهم النصوص، طبقًا لأعماق النص المساوقة لأعمال الشعور. الناس مُتفاوِتة في فهمها والنص مُتنوِّع في دلالته؛ ومن ثَمَّ لا يُوجد فهمٌ واحد ووحيد للنص، مما يسمح بالفروق الفردية في فهم الأحكام. والمُحكَم والمتشابه يشيران إلى أن الحكم أحادي الجانب، ينزل على واقعٍ متشابه فيحتاج إلى أحكام. وهو ما ظهر في أسلوب الفقه القديم بالتعبير الشهير «فيها قولان»؛ فالنص أُنزل لواقعٍ واحد ولكن لفهمَين وذهنَين حتى تتعدد التفسيرات، وتكون صالحة لكل زمانٍ ومكان، والعصر هو الذي يحكُم المتشابه. والمُجمَل والمبين يشيران إلى أن النص يوحي بمجموعةٍ من المبادئ العامة التي تتكيف حسب ظروف كل عصر، وأن هناك مساحة واسعة للاجتهادات في الفهم والتفسير، طبقًا لطبيعة المجتمعات وتبايُنها. والعام والخاص يُبرزان البعد الفردي للأحكام، وحضور الفرد داخل الحكم. والأمر والنهي يتعلقان بالأفعال، وأن غاية الشرع أن يصبح منطق سلوك، وأساسًا نظريًّا للفعل بين الإقدام والإحجام.
ولم يتعرض المحدثون لمنطق السياق، فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ومفهومَي الموافقة والمخالفة كثيرًا. وهو ما يتجاوز مبحث الألفاظ إلى مباحث اللغة واللسانيات، النبرة والصوت، المنطوق والمسكوت؛ فالنص ليس مجموعة من الألفاظ، بل سياق وإيحاءات وإيماءات وتوجُّهات وإشارات كما لاحظ الصوفية. ويمكن لمباحث التعليل التي أغفلها المحدثون أن تربط بين النص والواقع، وأن تساعد على صياغة المنطق التجريبي ومنهج الاستقراء، وطرق اقتناص العلة مثل السبر والتقسيم. التعليل نموذج الجمع بين الاستنباط والاستقراء والاستصحاب.
أما المقاصد والأحكام التي حاول الشاطبي بلورتها، فإنها تُعتبر آخر ما وصل إليها آخر القدماء من تجديد لعلم أصول الفقه لأول المحدَثين، وهي نوعان؛ مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. ومقاصد الشارع خمس؛ وضع الشريعة وهي المحافظة على الضروريات الخمس: النفس أو الحياة، والعقل لمَّا كانت الحياة هي الحياة العاقلة، والدين أي الحقيقة الثابتة التي يمكن أن يلتقي عليها العقلاء في مواجهة النسبية والشك، والعِرْض بالمعنى الواسع ويعني الكرامة والعزة، العِرْض الخاص والعِرْض العام؛ فالأرض عِرْض، والمال وتعني ثروات الأمة، المال الخاص والمال العام، ثم وضع الشريعة للإفهام؛ فكل شيء في الشريعة يدركه العقل. ولا شيء في الشريعة غير معقول وإلا لم يكن ملزمًا؛ فالعقل أساس الشرع؛ ومن ثَمَّ لا يمكن تطبيق الشريعة آليًّا دون فهم، وإجبارًا دون إدراك كما يحدث حاليًّا في فرض أحكام الشريعة على المسلمين وغير المسلمين، دون إفهام الناس مآثرها ورعايتها للمصالح العامة، ثم وضع الشريعة للامتثال أي للتمثُّل وتحويلها من أمرٍ إلى فعل، ومن نهيٍ إلى ترك، ومن نصوصٍ وأحكام إلى أفعالٍ إرادية طبيعية، ثم وضع الشريعة أخيرًا للتكليف أي للتطبيق؛ فالتطبيق لا يأتي في البداية بل في النهاية، ثمرة وليس بذرة، عربة وليس حصانًا. أما مقاصد المكلَّف فهي النية؛ فالأعمال بالنيات مما يقضي استبعاد سوء النية، والتظاهُر بالفعل دون أساسٍ خاصة في العبادات.
أما الأحكام فهي أيضًا قسمان؛ أحكام الوضع وأحكام التكليف. تدل أحكام الوضع على أن كل حكم، أمرًا أو نهيًا، هو في الحقيقة ليس حكمًا صوريًّا في صيغة «افعل» أو «لا تفعل»، بل هو بينة الفعل في العالم ومجاله الحركي. وهي خمسة أيضًا. السبب أي إن كل فعلٍ له سبب، ولا تُوجد أفعال بلا أسباب؛ فلا عبث في الطبيعة، ولا يعني السبب هنا العلة الفاعلة بل العلة الغائية؛ فالسبب الفاعل هو الغاية، السبب الذي يجذب إلى الأمام أكثر من العلة التي تدفع من الخلف. ثم الشرط وهي الظروف المادية التي فيها يصبح العلم ممكنًا. هو سياق الفعل ابتداءً من القدرة حتى التحقُّق. إذا تَوافَر الشرط تحقَّق الفعل، وإذا لم يتوافَر لم يتحقَّق الفعل؛ فشرط حد السرقة الوفرة والكفاية، وإشباع الحاجات الأساسية، فإن لم يتوافَر يتوقَّف الحد. ثم المانع وهي العقبة التي تمنع من تحقيق الفعل؛ فالجوع مانعٌ من تطبيق حد السرقة. المانع هو الشرط السلبي أي غياب الشرط، وتحول هذا الغياب إلى عقبة. ثم العزيمة والرخصة وهما شكلان للفعل في حالتَيه المثلى أو الواقعية، طبقًا لقدرات الإنسان البدنية طبقًا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وأن الضرورات تبيح المحظورات، واتفاقًا مع المحافظة على الحياة المقصد الأول للشارع. وأخيرًا الصحة والبطلان، أي إن الأفعال قد تكون صحيحة من حيث الشكل، باطلة من حيث المضمون؛ حمايةً للإنسان من التحايُل على الشرع، مثل من يُسافر قصدًا للإفطار في رمضان.
أما أحكام التكليف فهي ثمرة علم أصول الفقه. وهي خمسةٌ أيضًا، اثنان في الحد الأقصى إيجابًا وسلبًا، وهما الواجب والمحظور، الفعل المطلق بين الأمر والنهي، الفعل والترك؛ ازدهارًا للطبيعة وكمالها بالفعل، وحمايةً لها وجودًا ونماءً بالترك. وهناك اثنان بين الفعل والترك اختيارًا من الإنسان لو شاء فعل ولو شاء ترك، وهما المندوب والمكروه؛ إفساحًا للمنافسة في الخير؛ فالسابقون السابقون. وأخيرًا هناك منطقة وسطى بين الإيجاب والسلب بين الضرورة والاختيار، منطقة الفعل الطبيعي الذي تُوجد شرعيته في داخله وليس في خارجه، وهو المباح؛ فالطبيعة بما تُمثِّله من براءةٍ قادرة على أن نفعل دون احترازٍ أو احتياط، وحتى لا تصبح الشريعة مُغلِّفة لكل شيء، مُغطِّية لكل فعل. الشريعة تنظيمٌ للطبيعة عن خروجها إلى حدودها القصوى نحو الأطراف.
تجديد علم الأصول تيَّارٌ مستمر عَبْر التاريخ منذ «الرسالة» للشافعي حتى «العدة» للطوسي و«الموافقات» للشاطبي و«المعالم الجديدة للأصول» للإمام الشهيد محمد باقر الصدر؛ فكما استطاع تجاوُزَ القدماء، يستطيع المحدَثون تجاوُزَه، حتى نصبح نحن المحدَثين قدماء، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
(٢) مباحث الحُجج والأصول العملية (أربعة أجزاء)، تقريرات الشهيد السعيد الأستاذ آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، تأليف السيد محمود الهاشمي، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، إيران، ١٩٩٧م.
(٣) دروس في علم الأصول (جزآن)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقُم المُشرَّفة «د.ت». وله طبعةٌ أخرى، دار المنتظر، بيروت، ١٩٨٥م.
(٤) المعالم الجديدة للأصول، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ١٩٨١م.
(٥) الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ١٩٨٢م.