من العرفان إلى الثورة١
(١) الموضوع والمنهج
ويسود حكمٌ آخر في العالم الشيعي أن الفلسفة إذا كانت قد توقفَت عند ابن رشد في القرن السادس الهجري، فإنها استمرت في العالم الشيعي عند شرف الطوسي في نفس القرن، ونصير الدين الطوسي (٦٧٢ﻫ) وغيرهما من أعلام الفكر الفلسفي، الذي حمل الإشراق والعلم الرياضي في آنٍ واحد. وقد بلغ الذروة منذ صدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ)، بل استمر بعده عند علماء الشيعة وحكمائهم حتى الإمام الخميني، الذي يعتبر تلميذ صدر المتألهين، وكما أن لملا صدرا أساتذةً مثل ميرداماد، فإن له تلاميذَ مثل الإمام الخميني.
والسؤال هو: ما الصلة بين العرفان عند صدر المتألهين والثورة الإسلامية عند الإمام الخميني؟ ما الصلة بين الفلسفة الإشراقية وتجرد النفس الناطقة من ناحية، ومتطلبات الثورة من علمٍ سياسي وتحليلٍ للواقع الاجتماعي من ناحيةٍ أخرى؟ ما الصلة بين «الحكمة المتعالية» و«دروس في الجهاد والرفض»، «شواهد الربوبية» و«الحكومة الإسلامية»، بين «تحرير الوسيلة» و«جهاد النفس»؟ كيف تحوَّل الداخل إلى الخارج، والمتعالي إلى المتداني، والمجرد إلى العيني، والميتافيزيقي إلى التاريخي، والنظري إلى العملي، والفلسفي إلى السياسي، والنخبوي إلى الجماهيري، والفردي إلى الاجتماعي، والحوزة العلمية إلى الشارع، والعقلي إلى الإرادي، والتصوري إلى الحركي، وباختصار العرفان إلى الثورة؟ وهي تساؤلاتٌ تدل على مسارٍ إيجابي وطبيعي وتاريخي من عصر الاستقلال إلى عصر الاحتلال، ومن حكم الأئمة إلى حكم الملوك.
وهناك تساؤلاتٌ أخرى تُوحي بمسارٍ سلبي على مستوى الخطاب الديني السياسي؟ كيف أمكن التحول من القول البرهاني عند صدر المتألهين إلى القول الخطابي عند الإمام الخميني؟ هل يربط القول الجدلي بينهما، دفع الشكوك والاعتراضات والشبهات عند الأول من حكيم الإشراق السهروردي، وفيلسوف الإشراق والرازي وشيخ الإشراق ابن سينا، وحجة الإسلام الغزالي، وابن كمونة، والعلامة الدواني، والطوسي من الموروث، وأرسطو وأفلاطون من الوافد والمشائين والمتكلمين والصوفية، والحكماء المتقدمين والمتأخرين. والجدل مع الخصوم عند الثاني، في الخارج الاستعمار والصهيونية وفي الداخل العلمانيين والماركسيين والرجعيين والرأسماليين والملوك وفقهاء السلطان، فهل هذا هو الثمن الذي يجب أن يدفعه التحوُّل من النخبة إلى الجماهير، ومن العقل إلى الثورة، ومن النظر إلى العمل، ومن الصوري إلى التاريخي، ومن العرفان إلى الثورة؟
قد تكون هناك مرحلةٌ متوسطة ناقصة بين «الحكمة المتعالية» و«ولاية الفقيه»، هي الأيديولوجية الثورية، مسار تحول العرفان إلى ثورة، تقديم العقل للثورة أُسسها النظرية. هناك حلقةٌ ناقصة بين صدر المتألهين والإمام الخميني، هو الفكر الإسلامي الثوري، والذي ما زال ناقصًا حتى الآن في شكلٍ كامل، باستثناء اجتهاداتٍ جذرية من أئمة الثورة الإسلامية، مثل الطالقاني وشريعة مداري وغيرهم داخل إيران مثل علي شريعتي، وربما قبله نواب صوفي وجماعة فدائي إسلام، وربما «مجاهدي خلق» بالرغم من أخطائهم في التحليل السياسي، والخروج على الثورة والارتماء في أحضان أعدائها، وحركة تحرير إيران وآراء بازركان، وربما بعض العلمانيين الذين قطعوا جسورهم مع الثورة، لخلافهم النظري مع ولاية الفقيه مثل بني صدر، وعبد الكريم سروج.
ويمكن تناوُل الموضوع بطريقتَين؛ الأولى قراءة صدر الدين الشيرازي قراءةً نظرية خالصة، وتحويلها إلى أيديولوجية ثورية وثورة إسلامية، انتقالًا من الصوري إلى التاريخي، لعلها تستطيع أن تلتقي مع الإمام الخميني في الظاهر أو في الباطن، وإذا صح أن الإمام الخميني تلميذ صدر المتألهين، وأن ثورة الأول نابعة من عرفان الثاني، وأن إسقاط الشاه تطبيقٌ عملي للحكمة المتعالية، وأن حكم الشعب واستقلاله وتعدُّديته الفكرية، وحواره الخصب بين المدرستَين التاريخيتَين، المحافظة والإصلاحية، هو تحقيقٌ عيني في العالم لشواهد الربوبية.
فإن لم يحدث التقاء بين العرفان والثورة في منتصف الطريق في الأيديولوجية الثورية، فإنه يمكن القيام بذلك بطريقتَين أيضًا: الأولى تأويل «الحكمة المتعالية» بحيث يظهر الكامن الثوري فيها، والتعبير عن الباطن الثوري الكامن وراء الظاهر الميتافيزيقي. وهي قراءةٌ ثورية تأويلية لنصوصٍ ظاهرية مجردة. وإن لم تكن هذه القراءة الثورية هي نقطة الالتقاء غير المرئية، بين صدر الدين الشيرازي والإمام الخميني، فهي افتراض قراءة، وسد الحلقة الفارغة، لو صح افتراض أن الإمام الخميني قائد الثورة الإسلامية في إيران، وليس صاحب المزاج العرفاني الشخصي، تلميذ صدر المتألهين، وأن الثورة بنت العرفان.
والثانية قراءة الإمام الخميني قراءةً نظرية، بحثًا عن الأُسس النظرية والتصوُّرات للعالم وراء الثورة الإسلامية والممارسات العملية كاجتهادٍ خالص، إن لم تكن موجودة بالفعل كنقطة لقاءٍ تاريخي فكري بينهما، أو على الأقل تملأ الفراغ التاريخي النظري بين صدر المتألهين وروح الله، على نفس الافتراض وهو أن الإمام الخميني تلميذ صدر المتألهين، وأن العرفان هو نظرية الثورة.
- (أ) تحويل النص المقروء إلى تجربةٍ فكرية حية وراءه سابقة على التعبير والصياغة، ووضعها في عصرها الذي نشأَت فيه، وإعادتها إلى موقفها الحياتي الذي نشأَت منه، وتُعبِّر عن إحدى القوى الاجتماعية فيه، الشعبية والتسلطية.٦
- (ب)
المشاركة في هذه التجربة الحياتية عن طريق استدعاء الذاكرة الجمعية، وإعادة كتابة النص للتعبير عن قوةٍ اجتماعية أخرى، من أجل فك الانسداد التاريخي، والتعبير عن القوة الاجتماعية الشعبية، وحتى يتفكَّك النص القديم ويقضي على تكلُّسه، بعد أن أصبح مصدر معرفة وسلطة، ويتحوَّل النص الجديد إلى دافعٍ على التقدم.
- (جـ)
إعادة توظيف فك النص السلطوي القديم، وإعادة كتابة النص الشعبي القديم في ظروفٍ حاضرة مشابهة، وموقفٍ حياتي حاضر، حتى تُنتزع الجذور التاريخية التي ما زالت تفرز نصوصًا سلطوية مشابهة، وإعادة كتابة النصوص الشعبية القديمة، حتى يُفك حصارها التاريخي، وإرجاعها من هامش الذاكرة الجماعية إلى بؤرتها، ومن سكونها في اللاوعي التاريخي إلى حركتها في الوعي التاريخي.
(٢) من الصوري إلى التاريخي
استعمل صدر المتألهين القول البرهاني والتحليل الصوري المجرد الخالص موضوعه لا في مكان، في عالم الفكر الخالص، في «الحكمة المتعالية»، و«شواهد الربوبية»، و«الرسائل الإلهية». يغيب الجانب السياسي الاجتماعي لصالح الجانب الميتافيزيقي الإشراقي، وكما هو الحال عند السهروردي حكيم الإشراق، والرازي صاحب «المباحث المشرقية»، في حين أن حكماء الإشراق مثل الفارابي وابن سينا قد جمعا بينهما.
والثاني من الحق إلى الحق، وهو العلم الطبيعي، مبحث الجوهر والأعراض. ومع أنه أقرب إلى الخلق، إلا أنه صورة الحق في الخلق، الحق عندما يرى نفسه منعكسًا في الخلق؛ فهو من الحق إلى الحق، كنوعٍ من النرجسية عندما يرى الله صورة ذاته في الخلق. وهو ما يعادل الطبيعيات عند المتكلمين والحكماء. يتكون من أربعة فنون وستة مطالب، تدور حول المقولات العشر من الطبيعيات والإلهيات باعتبارها علمًا واحدًا.
والثالث من الحق إلى الخلق، وهو العلم الإلهي. والله يكشف عن ذاته في الخلق، صفاته مثل العلم والقدرة والحياة، والسمع والبصر والكلام، والإرادة التي تتضمن الخير والشر والعناية. وهو ما يعادل نظرية الذات والصفات والأفعال عند الأشاعرة، أو أصلَي العدل والتوحيد عند المعتزلة، والإلهيات عند الحكماء. الحق يهوى الخلق وينزل إليه ويتعين فيه. ويتكون من عشرة مواقف، كل خمسةٍ منها في فن.
السفر الأول من الخلق إلى الحق، طريقٌ صاعد، يبعُد عن العالم ولا يقترب منه، يخرج منه ولا يدخل فيه. هو طريق التأويل لا التنزيل، طريق الصعود لا الهبوط. وفي الحديث القدسي أن الله ينزل إلى السماء السابعة. ينزل الوحي ويهبط جبريل، ويُبلغ النبي ليُبلغه للناس. وهو أكبر الأسفار وأهمها.
ومن الطبيعي أن يكون الواجب واحدًا لأنه المثال، مثال المثل من أجل وحدة الهدف والقصد والغاية. وإذا لم يجب الشيء لم يُوجد؛ فالوجوب علة الوجود؛ لذلك كان الله واجب الوجود. واجب الوجود ذات تتحقق (كل يوم هو في شأن)، عن طريق تحقُّق كلمته في التاريخ، وتحقق النبوة في المجتمع. واجب الوجود إمكانية قبل أن تتحقق. ويتعيَّن الحق في الخلق بهذا التحقُّق، عن طريق فعل الأفراد والجماعات. الوجود ليس من المعقولات الأولى أو الثانية، بل إمكانية تحقُّق. هو خيرٌ محض لا مثيل له ولا ضد له؛ لأنه تحقق بالفيض الذاتي. والشر قصور، فيضٌ سلبي، تحوُّل من الوجود إلى العدم، رجوع إلى الوراء. هو خيرٌ لا شر فيه.
ولا يُوجد ممتنعٌ مطلق كما يُوجد وجودٌ مطلق؛ فالامتناع سلبٌ وغياب، والوجود أساسه. الممتنع قائمٌ على إمكانية الوجود، وليس الوجود قائمًا على إمكانية الامتناع. ليس الامتناع تناقُضًا منطقيًّا، استحالة اجتماع النقيضَين معًا أو رفعهما معًا، مقابل امتناعٍ قيمي وأخلاقي وسياسي، مثل امتناع إزهاق الروح والظلم والجَوْر والتسلط والطغيان والاستغلال والاحتكار. وامتناع الوجود بالذات أن يكون وجودًا بالغير، لامتناع الاغتراب، اغتراب الأنا في الآخر؛ وبالتالي امتناع التبعية، ووجوب الاستقلال، أن تكون الذات نفسها وليس غيرها. الوجود بالذات وجودٌ ذاتي فردي، لا يُقاس عليه وجودٌ ذاتي آخر.
والعدم ليس شرطًا في تقدُّم الفعل؛ لأنه وجودٌ سلبي يتحول إلى إيجاب عن طريق الفعل. والملكة والعدم ضدان لأن الملكة تحقُّق والعدم سلب.
ويتركَّز السفْر على مبحث الجوهر والأعراض، كما هو الحال في علم الكلام المتأخر، بداية بالأعراض ونهاية بالجوهر. وهي نفس بنية الذات والصفات، المركز والأطراف، الواحد والكثرة، البؤرة والمحيط على النحو الآتي:
والأعراض هي مقولات الكَم، والكَيف، والإضافة، والموضع، والأين (المكان)، والمتى (الزمان)، وأن ينفعل، والملكية. ويمكن تحويلها من المستوى الصوري إلى المستوى التاريخي؛ لأنها في الأصل تصورٌ مادي للشيء وصفاته. وهي صورة الإنسان في الموقف، والذات في العالم، والنص في السياق.
والقضية في المعاد الجسماني بين الإنكار والإثبات، سواء عند فلاسفة اليونان أو فلاسفة الإسلام، خاصةً وأن آيات القرآن لها ظاهرٌ وباطن. وحُجج الإنكار تقوم على عدم وفاء الأرض للأبدان غير المتناهية، وطلب المكان للجنة والنار، والتزاحُم المكاني، وعدم استحالة التناسُخ، وإنكار البعث، وصعوبة إعادة الأجسام التي مضت عليها دهورٌ طويلة. والحقيقة أنه ما دام المعاد روحانيًّا فلا لزوم للأجساد. وإذا كانت النفس خالدة بعملها، فإن الجسد خالد بمادته؛ فالمادة لا تفنى ولا تتبدد في دورة الحياة والموت، من فوق الأرض إلى تحتها.
ولا يخرج صدر الدين عن التصوُّر التقليدي للمعاد ابتداءً من عذاب القبر، وما تبقَّى من الإنسان مثل «عجب الذنب»، الذي منه يبدأ نشر العظام. الموت والبعث الحسيان حق، فالأجسام قابلة للحياة الأشرف، بلا تمايُز بين الموجودات، الحشر للعقول والنفوس الحيوانية والإنسانية والنباتية، بل للجماد والعناصر وللهيولى وللأجسام المادية؛ فالله يفيض على الموجودات آخر الزمان، والكون مستمرٌ ودائم بدوام الله، بل ويتم الحشر بداية بعجب الذنب كما تروي أخبار الآحاد. والحقيقة أن هذه التمثيلات المادية لكيفية الحشر، تقوم على قياس الغائب على الشاهد، وبعقلية الغرائب والعجائب. مع أن الخلود مطلبٌ نفسي خالص من خلال الفعل والأثَر، بُعدٌ إنساني وليس في الأشياء.
(٣) من الثوري إلى الأيديولوجي
وتقل الشواهد النقلية في خطبه وبياناته السياسية، باستثناء إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ في بيانات التعزية للشهداء. التحوُّل إذن من الخطابة السياسية إلى التنظير السياسي ممكن نظرًا للاعتماد على الواقع مباشرة، الواقع الجماهيري أو على الأقل الواقع السياسي من خلال الجماهير؛ فالجماهير جزءٌ من الخطاب، طاقة الجماهير وليس عقلها.
وهو ليس بعيدًا عن روح الستينيات وخطاب الستينيات، خطاب حركات الاستقلال الوطني مثل عبد الناصر، وسوكارنو، ونكروما، وسيكوتوري، وبن بللا، ويمكن تحويله إلى خطاب ما بعد الاستقلال، من أجل بناء الدول وتربية العقول.
-
(أ)
من ولاية الفقيه إلى ولاية الأمة. «الحكومة الإسلامية» أو «ولاية الفقيه» هو أهم كتابٍ نظري في الفقه السياسي، وتتم ممارستها عمليًّا بالرغم من الخلاف عليها جذريًّا بين الإسلاميين عمليًّا، وحول مداها بين الإصلاحيين والمحافظين. وبالرغم من أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الفقهاء أمناء الرسل إلا أن هذه الوراثة تتحقق في وظيفة الحسبة، وهي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية؛ أي الرقابة على السلطة التنفيذية، كنوعٍ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسواق، وهو الأصل الخامس من أصول المعتزلة، هي أمانة «الدين النصيحة»، التي يقوم بها كل عالم من علماء الأمة من فوق المنابر أو في ساحات المساجد، أو في حلقات الدرس؛ أي بلغة العصر في أجهزة الإعلام.٦٧
إن الفقهاء ليسوا سلطةً تنفيذية بل سلطةٌ تشريعية وقضائية. إنما الذي يقوم بالتنفيذ هي المؤسسات والسلطات التنفيذية منها، بما في ذلك وظيفة الإمام؛ أي رئيس الدولة، ورئيس الوزراء والوزراء وقواد الجيش. لا يمثل الفقهاء ولايةً اعتبارية إذا كانت تعني الولاية التنفيذية التي تقوم بها مؤسسات الدولة. تعني الحاكمية لله إذن ليس لشخص رجل الدين، بل الحاكمية للقانون. والشريعة وضعية بالرغم من أن الله واضعها والإمام مستنبطها، والحارس عليها وليس مُنفذها. السلطة التنفيذية في أيدي أهل الاختصاص، أهل الحل والعقد. العلماء هم المرجع في التشريع والقضاء وليس في الحكم، الحكم الشوري، والإمامة عقد وبيعة واختيار. العلماء ليسوا منصوبين للحكم بل للنصيحة، ولا يُعزلون لأنهم القادرون على عزل الحاكم الظالم، والخروج عليه إن لم يستمع إلى النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونقض البيعة، ومصالحة الأعداء أو التهاون في الذب عن البيضة، وتقوية الثغور أو في استرداد حقوق المظلومين أو في عدم تحقيق المقاصد الكلية للشريعة. وليس الخميني ذاته رئيس دولة؛ فرئيس الدولة مدني وليس رجل دين، له فقط حق الرقابة والإشراف دون سلطة التنفيذ.
أما الولاية التكوينية فإنها أقرب إلى عقائد الشيعة منها إلى النظم السياسية. هي تشخيصٌ كوني للإمام، وتأليه للسلطان، في حين أن الحكم مسألةٌ شرعية. وبالرغم من أن الله هو واضع الشريعة، إلا أنها شريعةٌ وضعية تقوم على أحكام الوضع؛ أي ميدان الفعل ومكوناته في العالم؛ السبب، والشرط، والمانع، والعزيمة والرخصة، والصحة والبطلان كما حدَّدَها الأصوليون. هي موضوع شهادة وليست موضوع غيب، في الأرض وليست في السماء، مع الناس وليست مع الملائكة، في مواجهة عروش الملوك ولا تحمل عرش الله، سلطةٌ إنسانية وليست مرتبةً كونية «لا يبلغها ملكٌ مقرب ولا نبيٌّ مرسل».٦٨إن التحوُّل من ولاية الفقيه إلى ولاية الأمة، يحفظ الدولة من جذور التسلُّط والتصوُّر الهرمي للعالم، وتحديد العلاقة بين طرفَيه بين الأعلى والأدنى في تصورٍ رأسي، وليس بين الإمام والخلف في تصورٍ أفقي. الأوامر من القائد إلى الشعب، والتثوير من الشعب إلى القائد خشية الانتقال من سلطة إلى سلطة، من الملك إلى الإمام، وتظل بنية التسلط قائمة. هي حكومة الشعب وليست حكومة الله، والجنود جنود الشعب وليسوا جنود الله، والثورة واجبٌ شرعي وليست وعد الله. الثورة ليست مجرد تغيير النظام السياسي عن طريق الانقلاب، بل تغيير بنية التسلُّط من الثقافة الموروثة، التي صبَّت في الثقافة الشعبية أساس الثقافة السياسية.
-
(ب)
من جهاد النفس إلى الجهاد الأكبر. وربما كان «جهاد النفس أو الجهاد الأكبر» أقرب نصوص الإمام الخميني إلى صدر المتألهين. يبدو فيه الإمام مصلحًا أخلاقيًّا تقليديًّا، لا يُشكِّك في صحة حديث: «عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» الجهاد الأصغر هو جهاد العدو والجهاد الأكبر هو جهاد النفس، في حين يُشكِّك بعض المصلحين المعاصرين مثل أبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب في رواية الحديث نظرًا لضعف سنده وخطورة متنه على الصراع ضد الاستعمار والصهيونية.٦٩ الثورة الأخلاقية عند الإمام شرط الثورة السياسية، والأخلاق الفردية أساس البنية الاجتماعية، والقدوة الحسنة تسبق تجنيد الجماهير.وفي نفس الوقت يستشهد الإمام بقول الحسين بن علي، بأن الحياة عقيدة وجهاد في سبيل الحرية والاستقلال، واستعادة الحقوق السليبة، جهادًا يُنصر به المستضعفون والمظلومون، جهادًا يُدفع به الظلمة والجائرون، جهادًا في سبيل الرفعة والمنَعة والعزة والفضيلة والمجد.٧٠
والمناجاة الشعبانية غير النظرية الثورية، وضيافة الله غير حركة التاريخ، وحجب النور والظلمة غير جدل التاريخ، تقدمًا ونكوصًا، وقيام الأمم وسقوطها، ونهضة الشعوب وانهيارها، وبعد العلمِ والعمل وليس الإيمان. الإيمان في حاجةٍ إلى برهانٍ من العلم، الإيمان هو الدافع والباعث، المحرِّك والمُنبِّه. صحيح أن اليقظة خطوةٌ أولى في السلوك، ولكن العمل الفعلي وسيلة تغيير المجتمع وحركة التاريخ.
-
(جـ)
«من فقه العبادات إلى فقه المعاملات»، وللإمام الخميني «تحرير الوسيلة»،٧١ وهو كتابٌ تقليدي في الفقه باستثناء الكتاب السادس في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والفصل الملحق به في «الدفاع»، وفي نهاية الجزء الثاني «المسائل المستحدَثة» مجرد ملحقٍ إضافي، دون أن يكون كتابًا فقهيًّا جديدًا،٧٢ وتختلف الكتب فيما بينها من حيث الكم، أكبرها الصلاة ثم الطهارة. وبدأ التحول من فقه العبادات إلى فقه المعاملات.٧٣
وأكبر تحديث في المسائل المستحدثة الصلاة والصوم في وسائل السفر الحديثة مثل الطائرات. وما زالت تغلب عليها المسائل الاقتصادية التقليدية مثل المعاملات البنكية، التأمين والكمبيالات والسرقفلية وبطاقات اليانصيب أو بعض المسائل الغيبية المعاصرة مثل التلقيح والتوليد، والتشريح والترقيع، وتغيير الجنس من ذكرٍ إلى أنثى أو العكس أو بعض المسائل الإعلامية مثل الراديو والتليفزيون. وفقه الثورة ليس هو فقه العبادات أو على أكثر تقدير فقه التجارة والبيع والشراء، بل فقه الصناعة والتصدير والشركات المتعددة الجنسيات والسوق العالمي ومنظمة التجارة العالمية. والمعاملات البنكية تُشكِّل البورصة ومنظمة التجارة العالمية واتفاقية الجات، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والديون، والمواد الأَوَّلية، والأسواق، والعمالة، والهجرة، والقطاع العام، والتأميم.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فقه المصالح العامة، فقه الأمة. ومع ذلك ما زال يدور عند الإمام الخميني على تصوُّرٍ فردي، وليس تصورًا جماعيًّا، أهم مسألة فيه هو الوجوب وبالطريقة التقليدية، فرض الكفاية وفرض العين. المسائل حُججٌ عقلية وحالاتٌ افتراضية أكثر منها «نوازل» واقعية. وعلى أكثر تقدير هي حالاتٌ اجتماعية بعيدة عن أحزان العصر ومآسيه. ويمكن أن تتطور أكثر في كيفية مواجهة الحاكم الظالم والخروج عليه كما هو الحال في الفقه السني. ويبدأ التغيير بالقلب وهو ليس السكوت حرصًا على نقاء الضمير، بل التعبير عنه بحركات الوجه ولغة الجسد، ثم يأتي اللسان أي الجهر بالحق، وأخيرًا تأتي اليد أي التغيير الفعلي؛ فمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإمام الخميني، مراتبُ تصاعدية من القلب إلى اللسان إلى اليد، وهي عند أهل السنة مراتبُ تنازلية باليد ثم باللسان ثم بالقلب طبقًا للحديث الشهير: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان.»٧٤ كما أنه يعتمد على الشواهد النقلية من القرآن والحديث وأقوال الأئمة علي والحسين، نماذج البطولة في التاريخ.والأمثلة السياسية المباشرة على مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قليلة؛ فمن نماذج المرتبة الأولى وهو الزجر القلبي، أنه لو كان في إعراض علماء الدين ورؤساء المذاهب عن الظلمة وسلاطين الجور، احتمال التأثير في تخفيف ظلمهم أو تخفيف تجرِّيهم على مبتدعاتهم، وجب عليهم ذلك. ولو كان في رد هدايا الظلمة وسلاطين الجور احتمال التأثير في تخفيف ظلمهم أو تخفيف تجرِّيهم على مبتدعاتهم وجب الرد ولم يجُزِ القبول. وهناك عدة مسائل أخرى تدور كلها على كيفية مواجهة الجور.٧٥ وفي ختام كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصل عن الدفاع.٧٦ -
(د)
من فقه المعاملات إلى فقه الثورة. إن المشكلة الرئيسية في فكر الإمام الخميني هي ثنائية التقليد والثورة؛ فهو عالمٌ تقليدي في مؤلَّفاته العلمية خاصة في العلوم النقلية، الحديث والفقه أو العلوم النقلية العقلية خاصة أصول الفقه، وفي نفس الوقت صاحب خطابٍ سياسي، بيان أو نداء أو رسالة إلى الجماهير. وما بينهما فراغ في الأيديولوجيا السياسية، في الإبداع السياسي، في الفقه الثوري، الحلقة المتوسطة بين الفقه القديم والثورة الحديثة، وهو ما يُسمَّى بلغة العصر الثقافة الشعبية الحامل للثقافة السياسية أو ما سماه جرامشي الثقافة الوطنية، الغائبة في الجزائر مثلًا مما يجعل التضحية بها سهلًا ميسورًا من الخطابَيْن النقيضَيْن، السلفي التقليدي والعلماني الحديث. هناك نظريات بلا ممارسات، وممارسات بلا نظريات. والنية متوافرة لملء هذه المنطقة الوسطى بين التراث القديم والواقع المباشر، بين الفقه التقليدي والثورة المعاصرة. دور الفقهاء هو التحوُّل من فقه الحيض والنفاس إلى فقه المقاومة، ومن إمامة الصلاة إلى إمامة الأمة، كما أنشَد محمد إقبال من قبلُ:
يا إمامًا لركعةٍ في الورىأما تدري ما إمامة الأقوام؟وهذه النية لم تتحقق، ولم يملأ أحد هذا الفراغ إلا القلائل، مثل طالقاني وعلي شريعتي ومحمد خاتمي. وهو ما لاحظه الإمام الخميني وتمناه للأجيال القادمة،٧٧ لم يشأ الإمام الخميني تثوير الثقافة الإسلامية الموروثة أو العالمة وتركها تقليدية، وهو في خضم الممارسات الثورية؛ لذلك تشتد المحافظة الدينية لدرجة خطورة التراجع عن مكاسب الثورة، عندما تصبح الثقافة التقليدية معادية للثقافة الثورية، كما هو الحال الآن في الصراع بين المحافظين والإصلاحيين. والاستقلال فرضةٌ شرعية. لقد فرض الله على كل مؤمنٍ ومؤمنة، المحافظة على البلاد الإسلامية والذود عن استقلالها.٧٨الإسلام ثورةٌ سياسية وليس مجرد شعائر وعباداتٍ فقهية. الثورة والتحرر والتقدم أسماء تدل على نفس الشيء. والإسلام أو الجهاد يعني في العصر الحاضر الثورة ضد الظلم والطغيان. العلماء هم العلماء الأحرار وليس فقهاء السلطان أو فقهاء الحيض والنفاس. رجال الدين الفقهاء هم حصون الإسلام، والأئمة علي والحسين نماذج البطولة في التاريخ. للعلماء إذن دورٌ في الثورة والوقوف أمام الحاكم الظالم؛ فتثوير رجال الدين شرط الثورة السياسية. وربما تحتاج المرحلة الراهنة للخطاب الديني السياسي للثورة الإسلامية، إلى التحول من فقه الثورة إلى أيديولوجية الثورة. كان الرسول ثوريًّا وكان الصحابة حوله يشاركونه في التجربة الثورية. الثورة واجبٌ شرعي كما أن النظر عند ابن رشد واجبٌ بالشرع. والطلبة هم علماء المستقبل؛ ومن هنا أتت ضرورة تثوير المؤسسات الدينية والحوزات العلمية؛ فالنبوة ثورةٌ على الطاغوت، والوحي ثورةٌ على التسلُّط والطغيان.
كان يمكن استعمال فقه القدماء، فقه المظالم وديوان المظالم، وفقه الخروج على الحاكم الظالم، والتوحيد والعدل عند المعتزلة والخوارج، وتصوف المقاومة من إعادة بناء الموروث القديم من جانبه التسلُّطي إلى جانبه الثوري، ومن ثقافة الحاكم إلى ثقافة المحكوم، ومن عقائد السلطة إلى عقائد المعارضة.٧٩ -
(هـ)
من الممارسة السياسية إلى التأصيل النظري. وأعداء الأمة اليوم نوعان؛ من الخارج ومن الداخل، وكلٌّ منهما سبعة؛ فأعداء الخارج هم:
- (١)
الاستعمار هو الأخطبوط الحديث لنهب ثروات المسلمين، والسيطرة على مقدراتهم وتفتيت صفوفهم، طبقًا لمبدأ «فرِّق تسُد»، شيعة وسنة باسم الغَيْرة على الطائفة في العراق وإيران. تحتاج مقاومة الاستعمار إلى نظريةٍ في المقاومة وربطه بالرأسمالية كما فعل لينين، وبالمركزية الأوروبية وبالعنصرية وبالهيمنة كقصدٍ كما حاول «علم الاستغراب».
- (٢)
وأمريكا هي الشيطان الأكبر، المستكبر الأعظم. تُريد غزو العالم كله والسيطرة عليه، تتحالف مع الصهيونية ضد العرب والمسلمين. ولا فرق بين أمريكا وروسيا والصين وكل الدول الكبرى في النيل من الإسلام كلٌ على طريقته؛ لذلك على الجميع الاتحاد ضد أمريكا العدو الأول؛ فالتفرقة رأس كل رذيلة. والحقيقة أنه لا يكفي الهجوم عليها، بل يُضاف إلى الهجوم تحليل نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومعرفة نقاط ضعفها وقوتها، حتى يتحول العدو إلى موضوع دراسة، وليس موضوع خطابة تحشد الجماهير وتهزم الجيوش.
- (٣) والصهيونية نوعٌ من الاستعمار الاستيطاني الجديد. استولت على أكثر من نصف فلسطين في ١٩٤٨م، وواصلت إسرائيل اعتداءاتها على فلسطين والعرب في ١٩٥٦م، و١٩٦٧م، حتى احتلت فلسطين كلها؛ ومن ثَمَّ لا يجوز شرعًا الصلح معها، منفردًا أو جماعة. وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة؛ لذلك على كل مسلم أن يتأهب ويُسلِّح نفسه ضد إسرائيل. لا فرق بين الإمام الخميني وعبد الناصر في الستينيات في نفس العصر؛ لذلك سلَّحه عبد الناصر وأيده ضد عدوهما المشترك الاستعمار والشاه وإسرائيل. مسألة تحرير القدس في حاجةٍ إلى لاهوت الأرض،٨٠ اعترف بها الشاه، واعترفَت بها مصر، ولا يجوز شرعًا الصلح بين إسرائيل أو الصلاة في الدار المغصوبة.٨١
- (٤)
والرأسمالية تقوم على نهب ثروات الشعوب؛ فالمشروع الاستعماري الغربي هو مشروعٌ مادي استهلاكي، يقوم على الربح والمضاربة والاستغلال والاحتكار، قانون الغاب الذي وضعه دارون ونيتشه. وقد يكون ذلك صحيحًا، فـأين الاشتراكية الإسلامية القادرة على إعطاء البديل؟ وأين تطوير الاقتصاد الإسلامي ومُكوِّناته؟ وأين ممارساته في العالم الإسلامي الخاضع للنظام الرأسمالي العالمي؟
- (٥)
والماركسية مذهبٌ مضاد للإسلام، مادية وإلحاد وشيوعية كما هو الحال في التصور الشعبي، ونقد الوعاظ والدعاة من رجال الدين. والماركسيون الإسلاميون تعبير الشاه؛ فالإسلام عدو الماركسية حتى مع تحالُف الاثنين لإسقاط الشاه، ومع ذلك للماركسيين الحق في المواطنة وحرية التعبير. وماذا عن الاتفاق في المبادئ، العدل الاجتماعي والمساواة بين البشر، والعمل مصدر القيمة، ورفض الاحتكار والاستغلال والتكوين الطبقي للمجتمع؟ ولا يجوز اتهام أحدٍ بالكفر والإلحاد؛ لأنه لم يشق أحد على قلوب الناس، ولا يجوز الحكم على أحدٍ أو جماعة بأنهم مجرمون يجب قتلهم بعد ثبوت هويتهم، حتى بلا تحقيق ورحمة بهم بعد التحقيق، ما دام الحكم قد صدر قبل المداولة، وإلا سالت الدماء أنهارًا، وأُخذ الحابل بالنابل، وعمَّت موجة التكفير كما كان الحال في عصر الإرهاب بعد اندلاع الثورة الفرنسية.
- (٦)
والعلمانية كما غرزها كمال أتاتورك في تركيا ورضا خان في إيران، نبذٌ للدين وقضاءٌ عليه، وفصل للدين عن الدولة، وتقليد التجربة الغربية. تجعل الغرب نموذجًا يُحتذى به، مع أن الغرب تجربة ضمن تجاربَ أخرى شرقية، تقول بالتحاور بين القديم والجديد، وإسلامية تقول بالاجتهاد. وماذا عن قيمها الإسلامية مثل العقل والعلم والإنسان والحرية والديمقراطية والتقدم والحرية؟ وماذا عن مقاصد الشريعة ابتداء، الحياة، والعقل، والحقيقة، والعرض؛ أي الكرامة الوطنية، والمال؛ أي ثروات الشعوب؟
- (٧) والمنظمات الدولية ألعوبة في أيدي الدول الكبرى وأداة لتنفيذ سياستها، تقوم على المعيار المزدوج في تطبيق مواثيقها، إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف طبقوا عليه الحد. وتمثل هذه القوى ميزان العلاقات في العالم بعد الحرب العالمية الثانية لصالح الغرب وأمريكا، ولهما السيطرة على الإعلام والرأي العام الدولي. إن الدول الكبرى لا تفكرُ في حقوق الإنسان إلا للرجل الأبيض، وتستعملها ضد الحكومات التي تخرج على بيت الطاعة وتعصي أمريكا. وثيقة حقوق الإنسان في الغرب تُستخدم لتضليل الأمم «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون».٨٢
والأعداء في الداخل أيضًا سبعة:- (١) الملكية وتأخذ شرعيتها من الوراثة وليس من الشعب، من الدم وليس من البيعة؛ لذلك تجد أحلافها في الخارج وليس في الداخل، مع الأجنبي وليس مع الوطني. والإسلام يعارض مبادئ الملكية، وكل من يلاحظ السيرة النبوية، يرى أن الإسلام جاء لهدم الظلم والملكية، وأن الملكية من أرذل مظاهر الرجعية القذرة.٨٣
- (٢) التسلُّط والطغيان وما يصاحب ذلك من تعذيبٍ وقهر للشعوب نتيجة للملكية الشاهنشاهية. والدستور ما هو إلا قناع لإخفاء التسلُّط. والهدف من إقامة الحكم الإسلامي إسقاط النظام الاستبدادي؛ لذلك كان دور الشعوب بقيادة المثقفين والعلماء والأحرار الثورة ضد الحكام؛ فمشكلة المسلمين هم حكام المسلمين المستبدين. الثورة واجبٌ شرعي، ثورة المستضعفين ضد المستكبرين دون انتظار المهدي.٨٤
- (٣)
الفساد ومظاهر الانحلال في السر والعلن، ليس فقط الانحلال الخلقي بل الفساد السياسي، والرشوة، وتهريب الأموال. وهو ما عرض الإمام في الأمور المستحدثة مُجدِّدًا فقه المعاملات القديم. وبعد أن تخلَّى العالم الإسلامي عن اختياره الاشتراكي في الستينيات، ودخل في العولمة والخصخصة وقطاع الأعمال زاد الفساد؛ لأن القيم الليبرالية التي تقوم عليها الرأسمالية لم يتمثَّلها مثل العقلانية والمنافسة الشريفة.
- (٤) والرجعية يُمثِّلها رجال الدين، فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس، يُزيِّنون للسلطان ما يشاء ويُبرِّرون له من القرارات ما يريد. تُخلق طبقة من رجال الدين، تتوسط بين الحاكم والمحكوم وتستفيد من الاثنَين. الرجعية ضد التمدن والعصرية، والإسلام دين التقدُّم. وتُمثِّلها الحكومات العميلة للغرب، ومشاريع الأحلاف الإسلامية، والتي تبدد أموال المسلمين من عائدات النفط، وتعتبرها ملكيةً خاصة للعائلات، مع أنها من الركائز مما في باطن الذي هو ملك للأمة.٨٥ وتتجلى مظاهر الرجعية في النعرات القومية والطائفية والحكومات العميلة المهزومة، ووعَّاظ السلاطين والإسلام الممسوخ والمهزومين.٨٦
- (٥)
البهائية والمجوسية والزرادشتية وكل الطوائف والأقليات، التي تظن واهمة أن الإسلام دين الأغلبية، أتاها وافدًا من الخارج، وأنها تمثل الديانات الوطنية في البلاد قبل الإسلام. والبهائية قراءةٌ صهيونية للعرفان، معبدها الرئيسي في تل أبيب، تُسقِط الجهاد السياسي وتتستَّر بالمحبة، لتُخفي أبشع أنواع الاستغلال. والمجوسية والزرادشتية نِحلٌ وثنية، تُعلي من شأن ديانات فارس القديمة على حساب دين التوحيد.
- (٦)
التبعية للغرب نظرًا لارتباط الإسلام بالوطن ومصالح الناس؛ لذلك كان الشاه حليفًا للغرب وصنيعة له، وكان الغرب أكبر نصير له. أصبح الغرب مثلًا يُحتذى به عند معظم الحكومات الإسلامية؛ فالغرب لا يتعاون إلا مع الحكومات العميلة، ويعادي النظم الوطنية، كما هو الحال في معاداة الثورة الإسلامية في إيران، والنظم الوطنية في ماليزيا والصين.
- (٧)
نهب ثروات الشعوب في مظاهر البذخ وعُنجُهية السلطان كما فعل الشاه فيما سماه بأعياد قورش، وبناء القصور وتبديد الأموال حتى اشتد التفاوت بين الأغنياء والفقراء، بين من يملكون ومن لا يملكون. وانشق الوطن قسمَين، في السياسة؛ راعٍ ورعية، حاكم ومحكوم، جائر ومظلوم. وفي الاقتصاد؛ غني وفقير، مالك ومملوك، عامل وعاطل.
- (١)
-
(و)
من الروحانيين الأحرار إلى الثوار الأحرار. التحول من العرفان إلى الثورة إذن ممكن، من «الروحانيين الأحرار»، مجموعة ١٥ خرداد إلى الثوار الأحرار أو المسلمين الثوار، الصوفية المناضلين، الإشراقيين المجاهدين.٨٧ ويدعو الإمام الخميني إلى الالتحاق بالانتفاضة الإسلامية من أجل الشعوب المستضعفة؛ فالهتافات والمظاهرات عبادة وصلاة.٨٨ الإسلام حاضرٌ في أي جزءٍ من العالم به نهضةٌ ضد المستكبرين، والله تحرُّر، الله أكبر قاصمٍ للجبارين وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. «لا إله إلا الله» إعلان تحرُّر البشر، نفي الآلهة المزيفة بفعل النفي «لا إله»، ثم إثبات الإله الحق الذي يتساوى أمامه البشر جميعًا بفعل الاستثناء «إلا الله».٨٩دور المثقفين والعلماء في تثوير ثقافة الشعوب؛ فالأعياد الدينية مناسباتٌ لتثوير الثقافة الشعبية، والفتاوى قادرة على التأثير في حركة الجماهير، مثل فتوى التمباك الشهيرة نموذجًا للأمر الثوري، وفي العالم ما يفوق المليار مسلم؛ فالتوحيد عقيدةٌ وثورة، الدعوة إلى توحيد الأمة الإسلامية دعوةٌ سياسية قائمة على التوحيد، والأمة الواحدة نموذجٌ تاريخي للإله الواحد. ويغيب هذا الربط بين النظر والعمل، بين التوحيد الديني والتوحيد السياسي في «الحكومة الإسلامية».٩٠الإسلام دينٌ سياسي، الأولوية فيه للسياسة كما هو الحال عند ماوتسي تونج. وأي دعوةٌ لفصل الدين عن السياسة، والسياسة عن الدين كما كان يُقال في مصر أثناء الجمهورية الثانية (١٩٧٠–١٩٨١م): «لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين.» هو قضاءٌ على الدين والسياسة في آنٍ واحد. يعلم السلطان أن الدين ثقافة الأمة، وأن تثويره يقضي عليه، وأن السياسة فعل الأمة للوقوف في مواجهة السلطان. الفصل بين الدين والسياسة هو فصل بين النظر والعمل، بين العقل والثورة، بين القصد والأداة.٩١
والوعي الجماهيري موضوع لعلم السياسة، كما فعل فريري في «تربية المضطهدين». وتثوير الخطاب الديني أيضًا موضوع لتحليل الخطاب السياسي والثقافة السياسية. ويمكن التحوَّل من البيانات السياسية القصيرة النفس إلى التنظير السياسي المعمَّق، ومن الفتاوى الثورية إلى التنظير الثوري، ومن النتائج العملية إلى المقدمات النظرية. وتلك مهمة أجيالٍ قادمة بوعيٍ تاريخي في التحول في الخطاب السياسي، من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة ما بعد الاستقلال؛ حفاظًا على مكتسبات الثورة.
-
(ز)
من الهجاء السياسي إلى التحليل السياسي. وهناك فرقٌ بين الهجاء السياسي والسب السياسي من ناحية، والنقد السياسي والتحليل السياسي من ناحيةٍ أخرى. ربما تستطيع بعض التعبيرات مثل «مزبلة التاريخ»، «الرجعية القذرة» وغيرها حشد الجماهير وإلهاب حماسها، ولكن بطريقةٍ وقتية واستجداءً لتصفيقها، ثم يعود الظلام السياسي من جديدٍ دون فهم أو إدراك. إن الهجاء السياسي مثل التفكير الديني والإقصاء الاجتماعي. وهو تحولٌ من الفكر إلى الشخص، ومن الوضع إلى الفرد. والظواهر الاجتماعية والسياسية لها بنياتها المستقلة عن الأشخاص؛٩٢ لذلك لا يجوز تشخيص النظم السياسية في رموزها؛ فالنظام السياسي مستقلٌّ عن الأشخاص.٩٣
إنها مهمة الجيل الثاني للثورة الإسلامية، تأسيس الأيديولوجية الإسلامية الثورية، التي تربط بين الماضي والحاضر، القديم والجديد، التراث والمعاصرة، وتُحوِّل فقه العبادات والمعاملات إلى فقه الثورة والانتفاضات، وتصوُّف الاستسلام إلى تصوُّف المقاومة، والحكمة المتعالية إلى الحكمة المتدانية، ومن العقيدة إلى الثورة، ومن النص إلى الواقع، ومن النقل إلى العقل، حتى تأمن الثورات الإسلامية انشقاقها وصراعها بني الإخوة الأعداء، المحافظين والإصلاحيين، والذي يصل في بعض الأقطار الإسلامية إلى حد الصراع المسلَّح، والدين والوطن هما الخاسران.
ابن طفيل، «حي بن يقظان»، تحقيق أحمد أمين، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٦م.
-
«الحكومة الإسلامية»، نشر د. حسن حنفي، القاهرة، ١٩٧٩م.
-
«جهاد النفس أو الجهاد الأكبر»، نشر د. حسن حنفي، القاهرة، ١٩٨٠م.
-
«دروس في الجهاد والرفض» (نسخة مصورة)، «د.ت».
-
«موقف الإمام الخميني تجاه إسرائيل»، منشورات ١٥ خرداد، ١٣٩٤ﻫ/ ١٩٧٤م.
-
«تحرير الوسيلة» (جزآن).
-
«من هنا المنطلق»، الآداب، النجف الأشرف، ١٩٧٤م.
-
«زبدة الأحكام»، مؤسسة الوفاء، بيروت، «د.ت».
-
«الإمام في مواجهة الصهيونية»، مقتطفات من خطب الإمام حول الصهيونية، مركز إعلام الذكرى الخامسة لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، طهران، ١٤٠٣ﻫ.
-
«دروس في الجهاد»، وثائق ومواقف من سيرة جهاد الإمام القائد آية الله الخميني، منشورات مجلة فلسطين المحتلة، «د.ت».
-
«مختارات من أقوال الإمام الخميني»، وزارة الإرشاد الإسلامي، «د.ت».
-
«الإمام الخميني و١٥ خرداد»، ترجمة محمد جواد المهدي، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، ١٤٠٢ﻫ ق.
-
«الإمام الخميني و١٢ فروردين»، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، ١٤٠٢ﻫ ق.
-
«مشاكل وعقبات أمام وحدة المسلمين»، إعداد: محمد علي حسين كما يتحدث عنها الإمام القائد، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، ١٤٠٣ﻫ.
-
«مسألة تحرير القدس»، مركز الإعلام العالمي للثورة الإسلامية في إيران، «د.ت».
-
«مسألة المهدي المنتظر»، مركز الإعلام العالمي للثورة الإسلامية في إيران، «د.ت».
-
«نداء إلى أبناء العالم الإسلامي»، وزارة الإرشاد الإسلامي، «د.ت».
ويتكون الجزء الثاني من سبعة وعشرين كتابًا هي: (١) الرهن، (٢) الحجر، (٣) الضمان، (٤) الحوالة والكفالة، (٥) الوكالة، (٦) الإقرار، (٧) الهبة، (٨) الوقف والحوالة، (٩) الوصية، (١٠) الأيمان والنذور، (١١) الكفارات، (١٢) الصيد والذباحية، (١٣) الأطعمة والأشربة، (١٤) الغصب، (١٥) اللقطة، (١٦) النكاح، (١٧) الطلاق، (١٨) الخلع والمباراة، (١٩) الظهار، (٢٠) الإيلاء، (٢١) اللعان، (٢٢) المواريث، (٢٣) القضاء، (٢٤) الشهادات، (٢٥) الحدود، (٢٦) القصاص، (٢٧) الديات.
أما ترتيب كتب الفقه من حيث الكم فعلى النحو الآتي (عدد الصفحات):
الصلاة (١٤٣)، الطهارة (١٢٣)، الحج (٩١)، النكاح (٨٩)، المكاسب، المتاجر (٦٢)، الزكاة (٥٩)، الديات (٥٥)، الحدود (٥٣)، القضاء (٥١)، القصاص (٤٥)، المواريث (٤١)، الصيد (٣٤)، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٣٩)، الوقف وأخواته (٢٩)، إحياء الموات والشركات (٢٦)، الطلاق (٢٤)، الأيمان والنذور، الغصب (٢٣)، الصيد والذباحية (٢١)، الوصية (١٨)، الإجارة (١٦)، اللقطة (١٥)، المضاربة (١٤)، الشركة، الحجر (١٣)، الوديعة (١٢)، الوكالة، الكفارات (١٠)، الصلح، الرهن (٩)، الحوالة، الكفالة (٨)، المزارعة، الإقرار (٧)، الشفعة، الضمان، الهبة (٦)، الجعالة، العارية، المساقاة، الخلع، المباراة (٥)، اللعان (٤)، الظهار (٣)، الإيلاء (٢).