(١) تطوير الإصلاح من جيلٍ إلى جيل
إن مهمة الجيل الحالي من الإصلاحيين هو تطوير الجيل الماضي وليس تقريظه ومدحه
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ؛ فالمدح يميت، والقراءة
تُحيي، التقريظ يُنهي، والنقد يُبدئ. وكما طوَّر مالك بن نبي عبد الحميد بن باديس،
وكلاهما من قسنطينة، كذلك يُطوِّر الجيل الحالي مالك بن نبي.
٢ وهذا هو حق الأستاذ على التلميذ، وواجب التلميذ تجاه الأستاذ. ولا تُقلِّل
القراءة النقدية من الجيل الحالي من قيمة الجيل الماضي، بل تُغنيه وتُوسِّع آفاقه، وتُحكِم
خطابه، وتُبلوِر أهدافه، وتُوضِّح مقاصده.
هكذا فعل الأنبياء والرسل. رسالتهم واحدة وأساليبهم وشرائعهم مختلفة، الرسالة
التوحيد، وتطوُّرها في الخطاب. لا فرق بين رسالة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى
ومحمد، تحرير الوعي الإنساني من قهر الطبيعة والمجتمع، وطرقهم في التعبير وصياغتهم
للشرائع مختلفة. مقاصد الشريعة واحدة، تحقيق المصالح العامة وطرقها متباينة، الطاعة
في اليهودية، والمحبة في المسيحية، والعدل في الإسلام. وطبائع الرسل متباينة؛ نوح
الغاضب، وإبراهيم المحاور، وموسى صاحب الشريعة، وعيسى الداعي للمحبة، ومحمد المعلن
استقلال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة؛ لذلك قال السيد المسيح: «ما جئتُ لأُلغي
الناموس بل جئتُ لأُكمله.» كما أن القرآن أتى مُصدِّقًا للكتب السابقة ومهيمنًا
عليها.
ويعني «من القصد إلى الفعل» تحويل فكر مالك بن نبي من المقاصد والأهداف وحسن
النوايا، إلى تحقيقها بالفعل في صياغاتٍ نظرية محكمة. يعني نقل الفكر الإصلاحي كله
من مرحلة الأفغاني حتى مالك بن نبي، مرحلة الخطابة والصحافة والصحوة وحشد الجماهير
إلى مرحلة التحليل والبحث العلمي، مع أخذ التغير في الزمان والمكان والبيئة الثقافية
في الحسبان؛ فقد امتدَّت الحركة الإصلاحية على مدى قرنَين من الزمان أو يزيد، واتسع
نطاقها، وشملَت عدة ثقافاتٍ ولغاتٍ عربية وإسلامية وغربية، أفريقية وآسيوية بل
وأوروبية؛ فالمصلح لا يعرض المصلح، بل يُعيد قراءته ويطوره، حتى يتراكم الإصلاح،
ويتحول إلى تيارٍ فكري عام، بصرف النظر عن أشخاص المصلحين.
يقوم جيلٌ جديد بإعادة قراءته وتطويره بعد ثلاثين عامًا، وقعَت فيه أحداث كبرى، وهو
ابن الأحداث منذ ١٩٧٣م حتى ٢٠٠٣م؛ فقد اندلعَت حرب أكتوبر قبل وفاته بخمسة وعشرين
يومًا، دون أن يتمثَّلها أو يشير إلهيا وهو في مرضه الأخير، ثم حدثَت زيارة القدس في
نوفمبر ١٩٧٧م، وتوقيع معاهدة كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة السلام في ١٩٧٩م، بين مصر
وإسرائيل، واندلاع الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩م، واغتيال السادات في
أكتوبر ١٩٨١م، وتغيُّر الحكم في مصر من الجمهورية الثانية إلى الجمهورية الثالثة، وغزو
جنوب لبنان واحتلال بيروت في ١٩٨٢م، وضرب المفاعل النووي العراقي في ١٩٨٤م، ثم معاهدة
وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، ثم اندلاع انتفاضة الحجارة في ١٩٨٧م، ثم العدوان
العراقي على الكويت في ١٩٩٠م، والعدوان الأمريكي على العراق في ١٩٩١م، وانهيار
المعسكر الشرقي ونهاية نظام القطبَين في ١٩٩١م، ثم العدوان الأمريكي على العراق في
١٩٩٨م، واندلاع انتفاضة الأقصى المسلحة في ٢٠٠٠م، وتفجيرات واشنطن ونيويورك
والاحتلال الأمريكي لأفغانستان في ٢٠٠١م، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق في ٢٠ مارس
٢٠٠٣م، واندلاع المقاومة العراقية حتى الآن.
كان مالك بن نبي بالنسبة لجيلنا مفكرًا إسلاميًّا تقدميًّا إصلاحيًّا، رافدًا
مستقلًّا عن سيد قطب والإخوان بعد صدامهم مع الثورة. التقيتُ به في أوائل السبعينيات
عام ١٩٧٢م، عندما حضر إلى أمريكا بدعوةٍ من رابطة الطلبة المسلمين إلى فيلادلفيا،
وقابلته مع عبد الحميد بو سليمان وأنيس أحمد في بيت أحدهما. وقدَّمتُه في محاضرته في
جامعة تمبل. تعلَّمتُ منه أن فصل باكستان عن الهند كان مؤامرةً بريطانية، هدفها عزل
الإسلامي في باكستان عن محيطه الطبيعي في الهند، بعد الاعتراض على تحليله بأن ذلك
كان من فعل الشيطان؛ لأن الشيطان لا يدخل في العلوم السياسية. وكنا مغرمين بإنشاء
الدولة الإسلامية في باكستان وبانفصالها عن الهند، ومتأثرين بمحمد إقبال والمودودي،
ومعجبين بمحمد علي جناح. ويمكن القول بأن مؤلفاتي الشعبية هي استئناف لفكر مالك بن
نبي بنفس الهموم، وقد صدَرَت معظمها بعد وفاته.
٣
ويغلب على الخطاب روح الحركة الإصلاحية التي جسَّدتْها الكتابات «الإخوانية»؛ فمالك
بن نبي في النهاية مناصر لعبد الحميد بن باديس، والجيل الحالي من الإصلاحيين
الجزائريين هم تلاميذه بطريقةٍ أخرى. ويُشير مالك بن نبي إلى عبد الحميد في بعض
كتبه، بل ويشير إلى أصول الحركة الإصلاحية ومصادرها الأولى عند الأفغاني ومحمد عبده
والكواكبي ومحمد إقبال، وإن لم يذكر حسن البنا وسيد قطب لعلاقته بالثورة المصرية
التي عادت الإخوان منذ أزمة مارس ١٩٥٤م.
ويشير إلى حركات الإصلاح الحديثة التي ينتسب إليها.
٤ ويخرج من مآسي المسلمين المعاصرين وفوضى العالم الإسلامي الحديث، ويُبشِّر
ببواكير نهضةٍ جديدة باتباع طرقٍ جديدة للفكر والممارسة وبعثه الروحي. والإصلاح دعوة
للتغيير؛
٥ فقد نشأَت حركة الإصلاح في الجزائر من أجل التحرُّر والاستقلال ضد
الاحتلال والتخلُّف.
والمسلم له دور رسالة في الثلث الأخير من القرن العشرين،
٦ مما يدل على الإحساس بالعصر وضرورة القيام بالرسالة فيه؛ فالإصلاح ليس
النظر بل إصلاح العمل، ليس فقط إعادة فهم بل تنشيط فعل وحشد طاقة.
(٢) المؤلفات والأسلوب
وكثيرٌ من المؤلفات مقالاتٌ تجميعية تم نشرها في الصحف، وأحيانًا تم تجميعها بأكثر
من عنوان. ويتم في بعض المؤلفات التنبيه على عنوان الكتاب ومضمونه، ويكون التنبيه
من المؤلف أو المترجم.
٧ وأكثر المؤلفات كتب لها بنيةٌ محكمة غير العناوين الافتراضية، التي
القصد منها وضع المقالات المتشابهة تحت موضوعٍ واحد، وأقل المؤلفات تجميعٌ لمقالاتٍ
صحفية، نُشرَت أغلبها في مجلة «الثورة الأفريقية».
٨
وقد يكون لبعض المؤلفات عناوينُ فرعية تُحدِّد الظرف التاريخي لها؛
٩ لذلك ظل الفكر حدثيًّا؛ أي مرتبطًا بالأحداث، وآنيًّا؛ أي مرتبطًا
بالظروف، بالزمان والمكان. الموضوعات هي الأحداث الجارية، الكبيرة منها والصغيرة؛
الاستعمار، التخلُّف، والثورة. لا يبدأ الفكر من نفسه ومن موضوعاته، بل من خارجه.
الفكر في مواجهة العالم، وتابع لأحداثه.
وكثيرٌ من الأعمال تعليق على مقالٍ أو تفكير على تفكير مثل «وجهة العالم
الإسلامي»، الذي هو مراجعة وإعادة قراءة لكتاب «الاتجاهات الحديثة في الإسلام»
للمستشرق جب. وقد يكون التعليق على تصريحاتٍ سياسية للقادة أو مقالاتٍ صحفية لمشاهير
الكتاب؛
١٠ لذلك يبدو الفكر السياسي فكرًا علويًّا، تنظيرًا على تنظير. ويظل فرانز
فاتون من جزر الأنتيل والذي عاش في الجزائر ودُفن بها، أكثر تنظيرًا وإحكامًا في
الصياغات.
خطاب مالك بن نبي هو الخطاب الصحفي العام الموجه إلى عامة الناس، وليس الخطاب
الفلسفي المحكم بمصطلحاته ومنطقه وصياغاته النظرية واستدلالاته، مقدماته ونتائجه.
ينتمي إلى الفكر العربي المعاصر منذ بداياته في القرن التاسع عشر، وما زال بعد
قرنَين من الزمان ينقص خطابه الإحكام النظري. وهو أسلوبٌ أدبي إنشائي كما تقتضيه
طبيعة السامعين مثل «وحل السياسة»، «أبواق الاستعمار»، «حديقة الثقافة».
١١ يغلب عليه التكرار لأنه دعوةٌ موجهة إلى الناس، ولا يشترط فيه البناء
النظري.
والفكر أيضًا تجاربٌ حية يعيشها المفكر، بالإضافة إلى التعليقات على القراءات،
فهو مفكرٌ وطني جزائري عربي إسلامي أفريقي آسيوي عالمي.
وتتخلَّل السيرة الذاتية بعض المؤلفات مثل: «مذكرات شاهد قرن» خاصة في «تأملات».
وهي ليست تأملاتٍ نظرية خالصة في موضوعاتٍ ميتافيزيقية، بل هي تفكيرٌ اجتماعي سياسي
أخلاقي حول الصعوبات، باعتبارها علامةً في نمو المجتمع العربي، والمسوغات في
المجتمع، وكيفية بناء مجتمعٍ أفضل، وخواطر عن النهضة العربية، ورسالة العرب في
العالم. ومن القيم الإسلامية الديمقراطية والتضامن والفعالية والثقافة.
١٢
وتتوقَّف السيرة الذاتية «مذكرات شاهد قرن» بجزأَيها، الطفل والطالب حتى ١٩٤٢م؛ أي
حتى قبل «الظاهرة القرآنية» أولى مؤلَّفاته. تخلو من الأبواب والفصول والتواريخ
الفارقة، لا تظهر فيها البواعث على مشروع «مشكلات الحضارة» فبدت منفصلة عنه. ولا
تُحيل إلى المؤلفات التالية بطريقة «الفلاش باك». وتطول مرحلة الطفولة بكل تفصيلاتها
دون دلالةٍ واضحة على المشروع كله، وتخلو من العمق الفلسفي أو الهم الميتافيزيقي. لا
تصل الماضي بالحاضر، وكأن الحاضر لا يتراءى في الماضي. الطفولة سيرةٌ ذاتية محلية
في قسنطينة أولًا والجزائر ثانيًا، مع أن العمر يمتد بالطفل حتى العشرين؛ أي
مرحلة الشباب والوعي الثقافي والعلمي. هي طفولةٌ عادية أقرب إلى التاريخ الخالص مع
بعض الدلالات على سمات الشخصية مثل المرأة الشقراء ورعاية قطة. ولا يبدو «الطالب»
قد اهتم بالتراث القديم أو التراث الغربي. كانت عينه على الواقع الحاضر فحسب، بما
يحمله من همومٍ إسلامية، وتمنيات أن تدخل الهند وروسيا منظمة الدول الإسلامية. وقد
نادى السلطان جالييف من قبلُ بتجمع شعوب الشرق، والأفغاني بالجامعة الشرقية. ويعترف
بجهود الساعي رفيق النضال. وتبدو المعاداة للاستعمار الأجنبي والهيمنة اليهودية على
مقدرات الوطن.
وقد تتصدَّر آيةٌ قرآنية أو حديثٌ نبوي أو آية من الإنجيل أو كلها معًا بعض المؤلفات.
١٣
كما تتصدَّر بعضَ المؤلفات إهداءاتٌ تكشف عن نوع الجمهور المخاطَب، ويتراوح المُهدَى
إليهم بين الأسرة الأب والأم، اللذَين أعطيا الابن أثمن الهدايا، هدية الإيمان.
١٤ وقد يكون الإهداء إلى الشباب المتطلِّع إلى العودة بالمجتمع الإسلامي إلى
«مسار التاريخ».
١٥ وقد يكون الإهداء إلى الشعب الجزائري الثائر أو شهداء الثورة الجزائرية.
١٦ وقد يكون إلى رمزٍ من رموز الثورة الجزائرية مثل الأمير عبد القادر.
١٧ وقد يكون إلى جميع الشعوب المكافحة في سبيل الحرية والسلام.
١٨ وقد يكون لأكثر من طرف، الشعوب المُحبة للسلام والرئيس جمال عبد الناصر.
١٩
ويُضاف إلى أكثر المؤلفات عدة مقدماتٍ واحدة أو اثنتَين، بالإضافة إلى المقدمة
الشرعية المتكررة من الوصيِّ على نشرها.
٢٠ وقد يكون المُترجم نفسه هو المُقدم،
٢١ وقد يكون المُقدم هو المؤلف نفسه بمفرده أو مع غيره.
٢٢ وقد تطول المقدمة لتصبح مراجعةً ودراسة بل نقدًا وتجاوُزًا.
٢٣
ومعظم المؤلفات مكتوبة باللغة الفرنسية ثم تمَّت ترجمتها إلى العربية، باستثناء
البعض منها الذي كُتب باللغة العربية مباشرةً خاصة في فترة الإقامة بالقاهرة.
٢٤ وقد يجمع الكتاب بين التأليف والترجمة.
٢٥ وقد يكون المؤلِّف نفسه هو المترجم.
٢٦ وقد يجمع مؤلَّف بين الترجمة والتأليف.
٢٧
وبالرغم من عروبة المؤلف وتمكُّنه من اللغة العربية، إلا أن ترجماته من الفرنسية
إلى العربية بل وكتبه المؤلَّفة بالعربية يغلب عليها الأسلوب الفرنسي ومصطلحاته
المترجم والمعرب،
٢٨ بل ويضرب بن نبي المثال على أخطاء الترجمة ولكن بمعنى رب ضارة نافعة؛
فكل ترجمة قراءة، تعطي أبعادًا جديدة على النص الأول؛ لأنها إعادة كتابة له من
منظورٍ آخر، وفي تجربةٍ إنسانية أخرى هي تجربة المترجم.
٢٩
(٣) متلقي الخطاب
وهو خطاب «الثورة الجزائرية» التي أهدى إليها أحد مؤلفاته،
٣٠ وكان يمكن أن يظل كذلك في مرحلة ما بعد الاستقلال، من أجل إعادة بناء
الدولة وليس فقط مديرًا عامًّا للتعليم العالي فيها من ١٩٦٣–١٩٦٧م. كان يمكن للفكر
الإصلاحي بداية بعبد الحميد باديس حتى مالك بن نبي ومع أحمد بن بيلا، أن يكون حلقة
الوصل بين الإخوة الأعداء المتقاتلين حاليًّا، جبهة الإنقاذ والدولة؛ فالإصلاح هو
الجسر بين السلفيين والعلمانيين. كان يمكن أن يكون فيلسوف الثورة الجزائرية، لو أنه
تجاوَزَ دور الداعية الثوري إلى المفكر الثوري، من ماركس الشاب إلى ماركس الكهل،
ويكتب «رأس المال الثوري» للعالم الثالث في الثقافة والنهضة والحضارة والاجتماع
والتاريخ وليس فقط في الاقتصاد.
ويُعجب مالك بن نبي بالثورة المصرية في ١٩٥٢م، أهدى «فكرة الأفريقية الآسيوية» إلى
جمال عبد الناصر، وقدَّم الكتاب أنور السادات، ولم ينتقدها خاصة في أزمة مارس ١٩٥٤م،
في الصراع بين الإخوان والثورة. وكان يمكن أن يكون حلقة الوصل بينهما، نظرًا لجمعه
بين الإسلام والثورة.
وللهند وزعيمها غاندي مكانة خاصة.
٣١ وهي قرين مصر في باندونج وفي ثلاثي مصر والهند ويوغوسلافيا، ناصر ونهرو
وتيتو. وقد حدث تقسيم الهند في نفس الوقت، الذي وقع فيه تقسيم فلسطين. واستقلَّت
الهند، وما زالت فلسطين كلها تَرزَح تحت الاحتلال الصهيوني.
ومالك بن نبي هو مفكر العالم الثالث، الذي ظهر إلى الوجود منذ مؤتمر باندونج،
ونظَّر له في «فكرة الأفريقية الآسيوية (في ضوء مؤتمر باندونج)»، وتحديد محور
طنجة-جاكارتا في مقابل محور واشنطون-موسكو، العالم الثالث في مقابل العالمين الأول
والثاني. وهو فهمٌ سياسي جديد للعالم الإسلامي الذي يمتد كله في أفريقيا وآسيا،
٣٢ وأحيانًا يتم التركيز على أفريقيا وحدها،
٣٣ وأحيانًا أخرى يتم التركيز على آسيا وحدها.
وتتكون فكرة الأفريقية الآسيوية من ثلاثة أجزاء؛ الأول الرجل الأفرسيوي في عالم
الكبار، وهو من أبناء الاستعمار، يتعايش معه، ويتأثر به. والثاني بناء الفكرة
الأفرسيوية وتأصيلها تاريخيًّا وحاضر الكتلة العربية الآسيوية؛ فالعرب هم قلب
أفريقيا، وإمكانية تحمُّلها مسئولية النهضة والحضارة عن طريق الثقافة والاقتصاد.
والثالث رسالة فكرة الأفرسيوية والتعايش بين شعوبها وعلاقتها بالعالم الإسلامي
وأوروبا والمجتمع الدولي.
كما يتم الحديث عن العالم الإسلامي صراحةً متميزًا عن العالم الأفريقي الآسيوي،
وهو أشمل وأعم في «فكرة كمنويلث إسلامي». يرمز إليه الحج باعتباره مركزًا له، وله
مُبرِّراته الجغرافية والسياسية والنفسية والفنية (العلمية)،
٣٤ ويتكون من ثلاثة أقسام؛ الأول «مشروع دراسة شاملة»، لتأصيل الفكرة
تاريخيًّا ومحيطها الجديد، وأولوية المعيار الاجتماعي، وما يعوق الفكرة من تقليدٍ،
وفوضى الأشياء والأفكار والاضطراب العام. ويُجدد المشروع في صياغة ومبرراتٍ جديدة، مع
توضيح الأسباب الجغرافية والسياسية والعلمية، بالإضافة إلى الأسباب النفسية.
والثاني «قيمة الفكرة في المجتمع الإسلامي». والثالث «وظيفة كمنويلث إسلامي»
ومقارنته بشبيهه البريطاني، وإمكانية تجاوُز مشاكله بمفاهيمَ إسلامية جديدة مثل
الشهادة والرسالة.
ويعي مالك بن نبي التوجه نحو الشرق، ونهضة الشرق، وما يُسمَّى حاليًّا «ريح الشرق».
٣٥
يمكن تصنيف خطاب مالك بن نبي في مجال خطاب ما بعد الاستعمار، الذي يُحلِّل ما آلت
إليه حركات التحرُّر الوطني، وما خلَّفه الاستعمار وراءه من بقايا نفسية وذهنية في
الفرد، وثقافية وحضارية في المجتمع. ويهدف إلى تحليل الدولة الوطنية الجديدة،
ونجاحها أو فشلها في تحقيق برامجها الوطنية في التعليم والثقافة، وخططها الاقتصادية
في التنمية. كما تظهر في هذا الوقت المبكر التفرقة بين الاستعمار والقابلية
للاستعمار؛ أي الموضوع والذات، الواقع والإمكانية. وهو في هذا يشابه عديدًا من
المفكرين في العالم الإسلامي، مثل علي شريعتي، وفي الهند مثل بارتا كاثارجي وآشيس
ناندي، وراجني كوتاري وغيرهم.
٣٦
ويتناول في مهب المعركة أيضًا موضوع الاستعمار، ووضعه تحت المجهر واكتشاف فوضاه،
وفتحه جبهةً ثالثة في التاريخ بين المستعمِر والمستعمَر وهي الحرية، مع نقد أبواق
الاستعمار وأعوانه وتابعيه من ملوكٍ وأمراء، وعقد مؤتمرات لا فائدة منها.
٣٧ ويعرف الاستعمار قيمة الأفكار وفاعليتها.
٣٨ ونظرًا لأهمية موضوع الاستعمار فإنه يدخل عنوانًا في «الصراع الفكري في
البلاد المستعمَرة». والاستعمار ليس ظاهرةً موضوعية فقط، بل أيضًا ظاهرةٌ نفسية كما
وضح ذلك في «نحن والاستعمار».
٣٩
ولا تظهر الصهيونية في فكره إلا بعد هزيمة حزيران–يونيو ١٩٦٧م، وهو في مصر. ولم
تظهر بوضوحٍ إلا في «بين الرشاد والتيه»، الذي كُتب بين ١٩٦٥–١٩٦٧م. وخُصِّص الفصل
الرابع في قضية فلسطين إلى القضية الفلسطينية في عدة مقالات كتب معظمها عام ١٩٦٧م.
٤٠
(٤) وحدة المشروع
ويمكن دراسة فكر بن نبي من أعماله السبعة عشر مرتبةً ترتيبًا زمانيًّا؛ فربما تطور
من العمل الأول «الظاهرة القرآنية» إلى العمل الأخير «مذكرات شاهد قرن».
٤١ وقد يُساعد ذلك على معرفة إذا ما كان هناك تطوُّر في فكره الإصلاحي أم أن
هناك منطلقاتٍ ثابتة من البداية إلى النهاية. والأغلب هي المنطلقات الثابتة من
البداية إلى النهاية، مع تطبيقاتٍ متعددة في الثقافة والسياسة والاجتماع والأخلاق
والتاريخ.
والمشروع كله يبدأ من العمل ويتوجه إليه. وتجربة العصر كله هي تجربة الثورة
والاستقلال؛ فالثورة روح العصر وهو معنى «الاطراد الثوري»، وهي التزامٌ خلقي. المهم
أن تتحول إلى دولة.
٤٢ الثورة هي طريق الاستقلال، ليس فقط استقلال الدولة بل بداية باستقلال الإنسان.
٤٣ المشروع إذن تأسيسٌ نظري لثورةٍ عملية، يبدأ بتثوير الفكر من أجل تثوير
الواقع، ومن إصلاح الفرد إلى إصلاح الأمة.
ويدور فكر مالك بن نبي على ثلاثة محاور: الأول التراث القديم الذي لم تساعده
الظروف الاستمرارية فيه بعد «الظاهرة القرآنية». وتحوَّل من التراث الإسلامي القديم
إلى الثقافة الإسلامية المعاصرة، فنقص المشروع جذوره التاريخية لصالح فروعه
الحاضرة. والثاني التراث الغربي. ولمَّا غاب التخصُّص الدقيق والعودة إلى المصادر
الأولى فيه، تحوَّل إلى الثقافة الغربية العامة الواسعة في السياسة والاجتماع
والاقتصاد، والتي يعتمد عليها في تحليل الواقع الآني، خاصةً ما شاع منها في الثقافة
العربية المعاصرة. والثالث تلخيص تحديثات العصر كلها في «مشكلات الحضارة»، بما في
ذلك النهضة والتحرُّر من الاستعمار، والقضاء على التخلُّف ومظاهره من فقرٍ وقهر وتجزئة،
وذلك عن طريق التنظير المباشر للواقع، وتحويل أحداث عصره إلى مرتكزاتٍ فكرية، مثل
مؤتمر باندونج وتنظيره في «فكرة الأفريقية الآسيوية». وهو البُعد الأغلب الذي ساد
فكره الإصلاحي، فتوارى خلفه البُعدان الأولان؛ التراث الإسلامي والتراث الغربي. وهو
الذي أخذ عنوان «مشكلات الحضارة».
ويتضح الواقع المباشر والتجارب الحية من أسماء المعسكرات والبلدان والعواصم التي
يزخر بها «مشروع مشكلات» الحضارة باستثناء «الظاهرة القرآنية»، الدراسة العلمية
الوحيدة، فيُحال كثيرًا إلى العالم الإسلامي ومحاوره وطنجة-جاكارتا في مواجهة
واشنطن-موسكو، والبلدان الإسلامية، والعواصم الإسلامية في مقابل أوروبا والبلدان الغربية
وعواصمها والتحالُف مع الشرق بلدانه وعواصمه. ويُحال إلى كثيرٍ من المنظمات الدولية
والإقليمية، وإلى عديدٍ من الأحداث الكبرى، بل ويُذكر الكيان الصهيوني وعاصمته، مما
يدل على أن المفكر غارقٌ في أحداث العصر في الجغرافية السياسية.
٤٤
ومشروع «مشكلات الحضارة» مشروعٌ متكامل؛ إذ يحيل كل كتابٍ لاحق إلى المؤلفات
السابقة، فإذا كانت «شروط النهضة ومشكلات الحضارة» لم تشر إلى «الظاهرة القرآنية»،
فإن «وجهة العالم الإسلامي» تُحيل إلى «الظاهرة القرآنية» و«شروط النهضة ومشكلات الحضارة».
٤٥ وتحيل «مشكلة الثقافة» إلى «شروط النهضة ومشكلات الحضارة»، وإلى «فكرة
الأفريقية الآسيوية» (في ضوء مؤتمر باندونج)» و«الظاهرة القرآنية» و«الصراع الفكري
في البلاد المستعمرة».
٤٦ وتُحيل «فكرة كمنويلث إسلامي» إلى «وجهة العالم الإسلامي» و«فكرة
الأفريقية الآسيوية».
٤٧ ويُحيل «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» إلى «وجهة العالم الإسلامي»
و«فكرة كمنويلث إسلامي».
٤٨ وتُحيل «تأملات» إلى «فكرة كمنويلث إسلامي» و«فكرة الأفريقية الآسيوية»
و«الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» و«الظاهرة القرآنية».
٤٩ ويُحيل «في مهب المعركة» إلى «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»
و«وجهة العالم الإسلامي» و«فكرة الأفريقية الآسيوية» و«شروط النهضة ومشكلات الحضارة».
٥٠ ويُحيل «ميلاد مجتمع» إلى «مشكلة الثقافة».
٥١ ويُحال في «القضايا الكبرى» إلى «شروط النهضة ومشكلات الحضارة»
و«الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» و«فكرة الأفريقية الآسيوية» و«مشكلة الثقافة»
و«وجهة العالم الإسلامي».
٥٢ ويُشار في «بين الرشاد والتيه» إلى «شروط النهضة» و«الصراع الفكري»
و«فكرة الأفريقية الآسيوية».
٥٣ ويُحال في «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» إلى «شروط النهضة»
و«الظاهرة القرآنية» و«فكرة الأفريقية الآسيوية».
٥٤ ويُشار في «المسلم في عالم الاقتصاد» إلى «فكرة الأفريقية الآسيوية».
٥٥ ولا يُحال في «من أجل التغيير» إلى أيٍّ من المؤلَّفات السابقة.
(٥) الثقافة الإسلامية
و«الظاهرة القرآنية» أهم ما أبدع مالك بن نبي من فكرٍ أصيل يُجدِّد به علوم القرآن
مناهج التفسير، ويضع قواعد جديدة لفهمه من أجل حل قضايا المسلمين، والدخول في
تحديات العصر. ويبدو أنه البحث الذي تقدَّم به إلى ماسنيون، ليحصل به على درجة
الدكتوراه في الفكر الإسلامي، وتردَّد ماسنيون في القبول أو رفضها صراحة، مما دفع
الطالب العنيد إلى أن يُثبِت للأستاذ أنه قادرٌ على التفكير والتجديد. ربما وجده
ماسنيون غير حاصل على شهاداتٍ سابقة في الدراسات الإسلامية، وربما أحس منه بالغَيرة
على الإسلام والمسلمين، مما يدفع بالمستشرق عن لا وعيٍ إلى التراجُع والتخوُّف لما في
القلب من موروثٍ تاريخي قديم تجاه الإسلام، وموروثٍ استعماري معاصر. ويُشير مالك بن
نبي إلى ماسنيون «هذا المستشرق البارز مؤخرًا»، في إشارةٍ إيجابية إلى قدرة اللغات
السامية على التعبير عن الآداب والكتب المنزلة، وفي نفس الوقت عن العلوم الرياضية
والطبيعية، كما حدث بعد ذلك في تاريخ الحضارة الإسلامية. كما يستشهد به مع مونييه
وجيلسون في القيام بأسبوعَين للثقافة الكاثوليكية.
٥٦
و«الظاهرة القرآنية» في أحد جوانبه ردُّ فعل على قضية «الشعر الجاهلي» لطه حسين،
ورد الاعتبار للقرآن ضد ما يشاع عن الشعر الجاهلي من إنكار حوادث التاريخ خلف قصص
الأنبياء، وأن «الشعر العربي» مثل القرآن، كثيرٌ منه منحول، يُعبِّر عن خيال الشعراء
وتقليد الشعر أكثر مما هو منسوب للقائلين به.
٥٧ وهي القضية التي أثارها مرجليوث وسمعها طه حسين عندما كان في فرنسا في
العشرينيات. كما أن قضية الصحة التاريخية للنصوص الدينية، التوراة والإنجيل، كانت
مثارة منذ بداية العصور الحديثة في القرن السابع عشر، خاصةً عند اسبينوزا وأوستريك
وريشتارد وسيمون. واستمرت في القرن الثامن عشر عند فولتير، وبلغَت الذروة في القرن
التاسع عشر عند لسنج وشتراوس ورينان وأنصار النزعة التاريخية. وكانت وراء الاتجاه
التحديثي في القرن العشرين عند كوشو ولوازي.
٥٨
والكتاب غير مقسم إلى أبوابٍ وفصول، وموضوعاته غير مرقَّمة ولا تنتظم في نسق. ومع
ذلك يمكن التعرف على ستة أقسام؛ مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية، والحركة البنوية،
وأصول الإسلام، بحث في المصادر، والخصائص الظاهرية للوحي، والعلاقة بين القرآن
والكتاب المقدس، وموضوعات ومواقف قرآنية.
ولفظ «الظاهرة» لفظٌ جديد في علوم القرآن، قبل علم الظاهريات «الفينومينولوجيا»،
فلسفة ومنهجًا، وهي ظاهرة «الوحي». يترك المؤلف الموضوع ويتبع قسمة لا تُغطِّيه
كظاهرة. وتُصبح الظاهرة الدينية بوجهٍ عام وليس ظاهرة الوحي وحدها، وعرض المذهبَين
المادي والغيبي في تفسيرها، وتعني الغيبي الروحي في مقابل المادي أو الميتافيزيقي
في مقابل الطبيعي، ثم تتحول الظاهرة إلى «الحركة النبوية» مبدأ النبوة وادعاؤها،
٥٩ ثم يتم التحوُّل من النبوة إلى النبي، ومن الرسالة إلى الرسول، حياته قبل
البعثة وطفولته ومراهقته، والزواج والعزلة، ثم يعرض العصر القرآني في مرحلتَيه
المكية والمدنية، وكيفية الوحي، ثم يستمر تشخيص الوحي في اقتناع الرسول الشخصي،
ومقام الذات المحمدية باستعمال مصطلحات الصوفية، والفكرة المحمدية كما يفعل
المستشرقون قياسًا على اشتقاق اسم الدين «المسيحية» من اسم الرسول «المسيح». وتضيع
الرسالة لصالح الرسول، ويتوه مقياسا الحي، العقل والواقع، في الاقتناع الشخصي،
والمقياسان الظاهري والعقلي. ولا يدخل في الموضوع إلا القسم الرابع «الخصائص
الظاهرية للوحي»: التنجيم أي أسباب النزول، والوحدة الكمية، والوحدة التشريعية،
والوحدة التاريخية، والصور الأدبية، ومضمون الرسالة.
٦٠ وينتهي الكتاب بموضوعاتٍ ومواقفَ قرآنية مثل إرهاص القرآن وما لا مجال
للعقل فيه مثل خواتم السور، والمناقضات والمرافقات والمجاز في القرآن، والقيمة
الاجتماعية لأفكار القرآن، وهو ما يخرج عن الظاهرة إلى الموضوع.
٦١
والجديد في الكتاب هو المنهج المقارن، مقارنة النبوة في القرآن بالنبوة في العهد
القديم خاصة أرمياء، وتفسير بنوَّته تفسيرًا نفسيًّا، ثم تُعقد مقارنات بين القرآن
والكتاب المقدس في بعض الموضوعات، مثل ما وراء الطبيعة والأخرويات والكونيات،
والأخلاق والاجتماع والوجدانية.
٦٢ وتتم مقارناتٌ أخرى في قصة يوسف في القرآن والكتاب المقدس، بمنهجٍ نقدي
للتعرف على الغرض في الروايتَين.
ويعتمد الفكر على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي تكثر أو تقل طبقًا
لطبيعة الموضوع، ومنطق الاستدلال فيه، وما هو متاح من نظرياتٍ غربية أو محاولات
اجتهادية لخلقٍ وتنظير جديد. وتختلف المؤلفات في اعتمادها على الآيات والأحاديث بين
الأقل والأكثر؛ فأكثرها بطبيعة الحال «الظاهرة القرآنية».
٦٣ وهناك مؤلفات تخلو تمامًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛
٦٤ فالفكر الإسلامي قادرٌ على الاستقلال بذاته، يُحلِّل الواقع تحليلًا
مباشرًا، ويقدر على معرفة مضمون الآية من الواقع وليس من النص، استقراءً وليس
استنباطًا.
والدراسات الإسلامية الوطنية تُحيل إلى موقفٍ نقدي من الاستشراق، كما هو الحال في
«إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث»، كفصلٍ خامس في «القضايا الكبرى»؛
٦٥ فالاستشراق ليس دراسة لموضوع بل موضوع لدراسة.
٦٦ ويُحال إلى عديدٍ من المستشرقين في مجموع المؤلفات، مثل مارجوليوث
ودرمنجهام وجب، وأربري ورينان وهانوتو وماسنيون، وأسين بلاثيوس والأب تيري ولامانس،
وفيجور وفولفسون.
٦٧
وتغيب إعادة بناء العلوم الإسلامية القديمة إلا بعض الإشارات العابرة، مثل فلسفة
الإنسان وأساسها الغيبي؛ أي النظري المبدئي، وليس تحليل أسباب غيابها في المجتمعات
العربية المعاصرة.
٦٨ كما تُعقد مقارنة بين الدراسات العصرية والتصوُّف الإسلامي.
٦٩ ويُستشهد في البناء الثقافي ببعض القيم الإسلامية مثل الأُخوَّة.
٧٠
وقد ظهر لفظ «الإسلامي» في عديدٍ من المؤلفات،
٧١ وكلها إشاراتٌ متفرقة وعابرة من غير متخصص في العلوم الإسلامية، ولا
تغني الفروع عن الجذور، ولا القشور عن اللباب.
ويُحال إلى عديدٍ من الأعلام الإسلامية، أنبياء وفلاسفة وصوفية، وفقهاء ومؤرخين
وصحابة، وشعراء وكُتَّاب ومصلحين، وملوك وقادة وحركات إصلاحية. ونادرًا ما تُذكر
المصنفات التراثية القديمة أو الحديثة، مما يدل على أن الثقافة الإسلامية، كانت إما
سماعًا أو من مصادرَ ثانوية، أو مجرد معلوماتٍ عامة منذ أيام الصبا.
٧٢
(٦) الثقافة الغربية
وأوروبا حاضرة في فكر مالك بن نبي واقعًا وتاريخًا وثقافةً ونموذجًا. وأحيانًا
يستعمل مصطلح العالم الغربي.
٧٣ والإحالة إليها عابرة. ولا يُوجد مؤلَّفٌ واحد في الثقافة الغربية، بالرغم
من حضورها الشديد في كل المؤلفات، كإحالاتٍ مرجعية وأُطرٍ نظرية. ويمكن معرفة قَدْر
حضورها في مجموع المؤلَّفات بمنهج تحليل المضمون، سواء لكل عمل أو لمجموع الأعمال،
لمعرفة مدى اتساع الثقافة الغربية، وفي نفس الوقت نقص عُمقها؛ فالإحالات عابرة إلى
أسماء الأعلام دون أمهات المصادر.
ففي «الظاهرة القرآنية» يتصدر من الفلاسفة ديكارت ثم أفلاطون وإنجلز ونيتشه وهيجل
ودانتي وتوما الأكويني، وسقراط وإقليدس. ومن العلماء المحدثين هابل ثم ماندليف
وهيلر دي بارانثون وأينشتاين.
٧٤ ومن الأعمال واحد فقط هو كتيب ماركس «فيورباخ ونهاية الفلسفة
الكلاسيكية». وواضحٌ من صدارة ديكارت إعمال النظر العقلي، كما أعمل طه حسين الشك
الديكارتي في الشعر الجاهلي. ولا حرج من الإحالة إلى أعلام الماركسية مثل إنجلز، أو
دعاة النفي المطلق مثل فيورباخ ونيتشه.
وفي «وجهة العالم الإسلامي» يتصدر ديكارت ورينان؛ أي العقل والعلم، ثم من المفكرين
الدينيين أمبرواز وجربرت الراهب وجينون، ومن العلماء جاليليو ونيوتن، ومن
الاقتصاديين ريكاردو وآدم سميث ومالثوس، ومن الأدباء برنار شو، ومن الفلاسفة موسى بن
ميمون ونيتشه وباكونين، ومن المؤرخين ثيو سيديد وريشيه وتوينبي، ومن المذاهب الشيوعية.
٧٥
وفي «مشكلة الثقافة» يتصدر وليم أوجيرن ثم نيوتن، ثم ديكارت ثم كونستانتينوف،
تداخلًا بين العلماء والفلاسفة، ثم دارون وكومت وليبنتز، ثم من الفلاسفة أرسطو
وتوما الأكويني وجوبينو، وشوبنهور ولينين ونيتشه، ومن علماء النفس يونج، ومن
العلماء باستور ولافوازييه وماركوني.
٧٦
وفي «فكرة كمنويلث إسلامي» لا تظهر إلا الماركسية، مما يدل على أن الماركسية أحد
البواعث على تفكيره سلبًا، مما جعله هدفًا لنقد الشيوعيين له، بل والاعتداء عليه في
أيامه الأخيرة.
وفي «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» يتصدر بافلوف العالم الروسي صاحب تجارب
الفعل الشَّرطي أو المنعكس، ومن المذاهب الشيوعية، مما يدل على أن أحد البواعث
الفكرية لديه هو مناهضة المادية.
٧٧
وفي «تأملات» يتصدر ستاخانوف المادي الروسي، ثم آدم سميث الاقتصادي البريطاني
الشهير، ثم من الفلاسفة أفلاطون، وروسو وماركس، ومن العلماء أديسون وبطليموس، ومن
الأدباء هوجو وتولستوي، ومن المؤرخين ثيو سيديد وجيزو وتوينبي.
٧٨
وفي «مهب المعركة» يتصدر المؤرخ البريطاني الشهير توينبي، ومن الفلاسفة لوك
وهيجل، ومن علماء الاجتماع ليفي بريل.
٧٩
وفي «القضايا الكبرى» يتصدر توينبي من جديد ثم لينين ونيتشه، ثم هوفيلد وديكارت،
ثم توما الأكويني وفشته، ومن المؤرخين جيزو، ومن الفنانين دافنشي، ومن الفلاسفة
أفلاطون، وإنجلز، وماركس، وكالفان، واشبنجلر، وجاليليو، وأورتيجا، ولالاند، ومن
الأدباء شيشرون، وهوجو، ومارلو، ومن العلماء أرشميدس وأديسون.
٨٠
وفي «بين الرشاد والتيه» يتقدم ماركس على الإطلاق ثم لينين، مما يدل على وجود
الماركسية كدافعٍ سلبي، ثم ديكارت وكومت وآدم سميث وفورييه وبرودون، مما يدل على
حضور الفكر الاشتراكي، ثم سقراط وروسو وأينشتاين، لا فرق بين الفلاسفة والعلماء.
٨١
وفي «من أجل التغيير» يتصدر إتيين دينيه الرسام، ثم توما الأكويني وسقراط ثم
مونييه، ومن مؤرخي الفلسفة جيلسون، ومن العلماء أديسون.
٨٢
وفي «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» يتصدر أرشميدس ثم سقراط، ثم أفلاطون، ثم
ماركس والماركسية، ثم نيتشه، ثم ستالين ولينين وأينشتاين، ثم يتداخل الفلاسفة مثل
توما الأكويني وبسكال وإنجلز وفيثاغورس، وليبنتز وميكيافيلِّي وهيجل وهراقليطس
وكومت، مع المؤرخين مثل توينبي، مع الأدباء والخطباء مثل دانتون وتولستوي وبوالو،
مع علماء النفس مثل فرويد وبافلوف، ومن زعماء الثورة الاشتراكية الروسية مثل تروتسكي.
٨٣
وفي «مذكرات شاهد قرن» لا يُذكر إلا مصدر «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه.
٨٤
(٧) العلوم الإنسانية
وتبدو أهمية العلوم الإنسانية، علم النفس والتربية والأخلاق والاجتماع والسياسة
والاقتصاد؛ فالخطاب الثقافي يجمع بين هذه العلوم، ولا يُحلِّل علمًا واحدًا. ويعتمد
على نتائجها في رؤيةٍ حضارية إنسانية عامة واحدة؛ فالإنسان هو الإنسان في كل ثقافة
وحضارة وبيئة وتاريخ.
علم النفس هو المدخل لتحليل الثقافة، وهو أحد المُبررِّات النفسية، وأحد دوافع إقامة
كمنويلث إسلامي؛ نظرًا لحاجة المسلمين لبعضهم البعض، ومطلبهم في الوحدة المبنية على
الأُخوَّة. وهو مرتبطٌ بعلم الاجتماع في علم النفس الاجتماعي؛ فالإنسان يُولد في مجتمع،
وظواهره النفسية ظواهرُ نفسية اجتماعية.
٨٥
وتظهر الأخلاق منذ البداية في «الظاهرة القرآنية»؛ إذ يقوم الوحي على أساسٍ أخلاقي.
٨٦ وترتبط الأخلاق بالمجتمع؛ فالأخلاق فردية واجتماعية.
٨٧ والأخلاق هي أساس الثورة؛ فالثورة قيمة أخلاقية اجتماعية سياسية.
٨٨ وهي أيضًا أساس الاقتصاد.
٨٩
التربية هي ممارسة الأخلاق اعتمادًا على علم النفس وعلم الاجتماع، هي الأخلاق
التطبيقية لخلق الإنسان الكامل والمجتمع الفاضل.
٩٠
وفي الاجتماع يتم تحليل المجتمع العربي، بل ويظهر البُعد الاجتماعي منذ «الظاهرة
القرآنية»، في التركيز على القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن، وأولوية المعيار
الاجتماعي ضمن معايير إقامة كمنويلث إسلامي.
٩١ ويتجلى علم الاجتماع في «ميلاد مجتمع» في علاقته بالأخلاق وعلم النفس
والتربية والتاريخ والدين والجغرافيا.
٩٢ وهو تفكيرٌ اجتماعي مثل باقي المصلحين منذ الأفغاني حتى علال الفاسي،
وكما يتضح ذلك في «ميلاد مجتمع»؛ إذ يُحلِّل نشأة المجتمعات تاريخيًّا، ويبحث عن أصل
العلاقات الاجتماعية وطبيعتها الداخلية والخارجية، والأمراض الاجتماعية، والتربية
الاجتماعية، وكيفية استثمار الثروة الاجتماعية، وعلم الاجتماع هو المدخل لدراسة الاستقلال.
٩٣ والمجتمع بنية؛ فهناك بناءٌ اجتماعي. وهو بناءٌ اقتصادي في الأساس يقوم
على التخطيط ورأسمالية الأفكار وقوانين السوق وليس «سوق البركة».
٩٤
والدين أيضًا ظاهرةٌ اجتماعية تتجلى في العلوم الدينية مثل الكلام والتصوف وأصول
الفقه، بل والعلوم النقلية مثل التفسير والفقه.
٩٥ والاقتصاد أيضًا ظاهرةٌ اجتماعية وليس فقط ظاهرةً مادية.
٩٦
وتظهر السياسة منذ «شروط النهضة ومشكلات الحضارة»، وهي إحدى مبررات إقامة كمنويلث
إسلامي.
٩٧ وللسياسة معنًى أخلاقي؛ لذلك يتضمن «في مهب المعركة» الفصل الثاني «في
وحل السياسة». كما يتضمن ظاهرة الحقد على الإسلام، ويتطرق إلى أحداثٍ سياسية بالمغرب
وبعض ملوكه، وبعض المؤتمرات السياسية في كولمبو وجنيف.
٩٨ ويُخصِّص «بين الرشاد والتيه» الفصل الثالث كله للسياسة. ويتعرض لعلاقة
السياسة بالأخلاق وبالأيديولوجيا وبالثقافة وبحكمة الجماهير وبالألاعيب السياسية (البوليتيك).
٩٩
وتقوم فكرة الأفريقية الآسيوية في بعض أُسسها على الاقتصاد،
١٠٠ ثم يتوسَّع الاقتصاد في «بين الرشاد والتيه»، الذي يُخصِّص الفصل الخامس
«حول الاقتصاد»، ويُحلِّل المؤتمرات الاقتصادية في ١٩٧٧م، ومؤتمر نيودلهي، ويُبيِّن
إمكانيات البترول العربي وشروط الإقلاع الاقتصادي، والفرق بين اقتصاد القوت واقتصاد
التنمية، ويختار اقتصاد الصناعة أي الإنتاج على اقتصاد الاستيراد «نشتري أم نصنع؟».
١٠١ وفي «من أجل التغيير» يصوغ مذهبًا اقتصاديًّا إسلاميًّا وسطًا بين
الماركسية والرأسمالية.
١٠٢
وقد خُصِّص للاقتصاد مؤلَّفٌ خاص «المسلم في عالم الاقتصاد» مثل «الإسلام وأوضاعنا
الاقتصادية»، لعبد القادر عودة. وهو كتابٌ نسقي منطقي علمي، يتكون من ثلاثة أجزاء؛
الأول «عموميات البحث»، يعرض لصورة العلاقات الاقتصادية الراهنة في العالم، ينقد
النزعة الاقتصادية، ويُبيِّن حدود الاختيار الإسلامي. والثاني «صورة المشكلات»، يُبيِّن
خريطة توزيع الإمكانات الاقتصادية في العالم، وحدود التفسير الاقتصادي، والبحث
لتوزيع الإمكانيات، ويُعيد بناء عالم الاقتصاد على أسسٍ حضارية. والثالث «شروط
الأخلاق»، يُحدِّد بعض الإجراءات الاقتصادية، مثل دور المال في اختزان العمل
والاستثمار المالي والاجتماعي، وضرورة الاكتفاء الذاتي، وتطوير الاقتصاد الوطني إلى
اقتصادٍ جهوي لتحقيق الاكتفاء. والاقتصاد في النهاية جزءٌ من حركية المجتمع، وله
أساسٌ مبدئي في الأخلاق.
(٨) الثقافة والحضارة والتاريخ
ويتم عرض موضوع الثقافة في «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»، كما فعل علي
شريعتي في «دور المفكر».
١٠٣ العنوان كبير والحجم صغير، والموضوعات متفرقة متناثرة، مما يجعل علال
الفاسي المعاصر له، والمتوفي في نفس العام ١٩٧٣م، أكثر إحكامًا نظريًّا في ارتباطه
بالتراث الأصولي القديم في فكرة المقاصد عند الشاطبي في «مقاصد الشريعة ومكارمها»،
وبالجانب النظري في «مشكلة الحرية» وفي الشعر. ويشاركه في «النقد الذاتي» ووحدة
المغرب العربي، وحركات الاستقلال.
١٠٤
وتبدو أولوية الثقافة في «مشكلة الثقافة»، وهي ليست الثقافة المتعالية أو النظرية
المجردة، ولكنها تلك التي ترتكز على أسسٍ نفسية؛ إذ ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول غير
متساوية في الحجم؛ الأول تحليل نفسي للثقافة بعد تعريف الثقافة، وربطها بعلم
الاجتماع، ثم اختيار علم النفس الثقافي ومقاييسه الذاتية. والثاني تركيب نفسي
للثقافة، وهي تراكيبُ جزئية وكلية، تكرارًا لبعض ما قيل في «شروط النهضة ومشكلات
الحضارة»، فيما يتعلق بتوجيه الأفكار، وتوجيه الثقافة، والتوجيه الأخلاقي، والتوجيه
الجمالي، والتوجيه الفني أو الصناعة.
١٠٥ والثالث تعايش الثقافات، ولا يعني ذلك إلغاء الصراع بينها، والذي
يُعبِّر عن صراع القوى، مثل الصراع بين محور طنجة-جاكارتا مع محور واشنطن-موسكو.
١٠٦ والرابع الثقافة في اتجاه العالمية. والخامس الثقافة المضادة.
١٠٧
والثقافة هي الثقافة الحية وليست الأفكار الميتة أو الأفكار القاتلة. تنبع من
الضمير، وتقوم على النقد السليم.
١٠٨ وهي بنيةٌ في الفكر واللغة والواقع الذي يحكمه قانون الفعل ورد الفعل.
١٠٩ وهي ثقافةٌ تاريخية مرتبطة بشعب وحضارة مثل الثقافة الأفريقية الآسيوية.
١١٠
ويستمر نفس الموضوع في «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»، في عمومياته ومظاهره
وأهميته باعتباره حلبة الصراع الأولى، بل يمكن البرهنة على حياة الأفكار بالبراهين
الرياضية. ومن هنا تأتي أهمية دلالة أحزاب الجامعة في «البناء الثقافي»؛ أي الثورة
الثقافية وحركات الشباب التي بدأت في فرنسا والغرب عامةً في مايو ١٩٦٨م، والتي بعدها
استقال ديجول.
١١١
والثقافة هي أيضًا عالم الأفكار. والأفكار ليست تصوراتٍ مجردة أو مفاهيمَ نظرية،
بل
هي دوافع على الفعل أقرب إلى الأفكار، القوة عند فوييه وجييو.
١١٢ وهذا ما يتضح من «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي». وهو أقرب
المؤلفات إلى الفلسفة، وأكثرها اقترابًا من التحليل النظري مثل «الظاهرة القرآنية».
وهو أشبه بكتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» لسيد قطب. يتضمن سبعة عشر فصلًا
ومقدمة وخاتمة صغيرتَين، لكن كلها تدور حول موضوع الأفكار، كردِّ فعل على الفراغ الكوني.
١١٣ وترتبط الأفكار بالطفل منذ نشأته، وبالمجتمع منذ ولادته، وبالحضارة
وقيامها، وبالسياسة ومسارها، وباللغة وأدوات التعبير عنها،
١١٤ والأهم من ذلك كله هو حيوية الأفكار وحركيتها في المجتمع؛ فعالم
الأفكار ليس عالمًا ميتًا، بل إن من الأفكار أفكارًا ميتة وأفكارًا مميتة. حيويتها
في جدليتها، جدلية العالم الثقافي، وجدلية الفكرة والشيء، وجدلية الفكرة والوثن.
فاعليتها من أصالتها، وهي أساس تحريك المجتمع وقيام الثورات فيه. والأفكار المخذولة
تنتقم من الموت، لتبعث فيها الحياة.
١١٥
وتدخل «الثقافة» مع «الحضارة» و«المفهومية»، لتكون ثلاثيًّا في «القضايا الكبرى».
ويبدو أن المفهومية هي التحليل النفسي للمفاهيم، بعد أن غابت الفلسفة في المشروع
كله؛ فالثقافة لا تستقل بذاتها، بل هي أحد أبعاد الحضارة والتاريخ.
١١٦
ويعرض «شروط النهضة ومشكلات الحضارة» مسار الحضارة العربية الإسلامية في التاريخ.
يضع الحاضر والتاريخ أي الماضي في بابٍ أول، والمستقبل في بابٍ ثان. ويضم البابان
عدة موضوعاتٍ متفرقة، يغلب عليها الرومانسية خاصة في البداية «أنشودة رمزية»، ثم
يأتي دور الأبطال والسياسة والفكرة بل والوثنية.
١١٧ والمستقبل هو الأهم.
١١٨ ويغلب عليه مفهوم التوجيه، توجيه الثقافة، وتوجيه الأخلاق، وتوجيه
الجمال، وتوجيه العمل، وتوجيه رأس المال.
١١٩
ثم تَرِد استطرادات في توجيه الثقافة، في تعريف الثقافة، والحرفية في الثقافة.
١٢٠ وتُضاف استطرادات أخرى في توجيه العمل، في المنطق العملي والصناعة.
١٢١ وتُشفَع باستطراد في التوجيه الجمالي عن الفنون الجميلة.
١٢٢ وتُعرض موضوعاتٌ أخرى يصعب إدخالها ضمن مفهوم التوجيه وأبعاده، مثل مشكلة
المرأة، ومشكلة الزي ومشكلة التكيف.
١٢٣
ومن ثَمَّ تتفرق الموضوعات على نحوٍ غير متسق أو منهجي، ودون تأسيس نظري في نظرةٍ
حضارية شاملة لكل نشاطات الذهن الإنساني؛ إذ يقوم الاقتصاد أيضًا على أسسٍ حضارية.
والعلوم الإنسانية كلها تعبيرٌ عن رؤيةٍ حضارية واحدة.
١٢٤
وللتاريخ علاقةٌ بباقي العلوم الإنسانية مثل الفلسفة والاجتماع،
١٢٥ بل كلها سُمِّيَت في وقتٍ ما «العلوم التاريخية». والتاريخ هو مادة فلسفة
التاريخ. وفلسفة التاريخ موضوعٌ ثابت في معظم المؤلفات منذ «شروط النهضة ومشكلات
الحضارة». كتاب «وجهة العالم الإسلامي» هو أيضًا في فلسفة التاريخ، يتكون من ستة
فصول، تصف مسار المجتمع الإسلامي عامة والمغربي خاصةً في التاريخ، ابتداءً من مجتمع
ما بعد الموحدين، مرورًا بالنهضة، ونهاية بفوضى العالم الإسلامي الحديث، وفوضى
العالم الغربي، ثم استشرافًا لمرحلةٍ قادمة أكثر أملًا بالطرق الجديدة. وقد بدأَت
بشائرها في بواكير العالم الإسلامي والمآل الروحي لعالم الإسلام.
وقد تصوَّر ابن خلدون من قبلُ التاريخ كدوران، يحدث فيه التراكُم التاريخي وليس
التكديس، حتى يتحقق قانون التاريخ.
١٢٦
ويظهر الثلاثي الذي يُكوِّن أسس الحركة في المجتمع والتاريخ؛ الإنسان والتراب
والوقت، أي الإنسان والأرض والزمان.
١٢٧ وهي ثلاثية الإنسان بين السماء والأرض، بين الله والعالم، بين الخلود
والزمان. وهي ثلاثية معروفة في كل حضارة، مثَّلَها سقراط وأفلاطون وأرسطو عند اليونان،
وأوغسطين وبوتافنتورا وتوما الأكويني في العصر الوسيط الأوروبي، وسقراط وهيجل
وماركس في العصور الأوروبية الحديثة. وهي معنى آية
إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ.
هذه هي ملحمة فكر مالك بن نبي قبل ثلاثين عامًا وعلى مدى سبعة عقود. يُعيد صياغتها
أبناؤه الذين عرفوه، بل وأحفاده الذين يستأنفونه نظرًا وبنوايا حسنة، لعلها
تتحقَّق في إيقاف القتال بين الإخوة الأعداء في الجزائر، الذي دام منذ عشر سنوات،
وكلف ما يقارب المائة ألف شهيد؛ ففي الفكر الإصلاحي تلتقي السلفية والعلمانية، بعد
أن تخاصما في غيبةٍ من الزمان، كبا فيها الإصلاح فوقع الاستقطاب.