هامش على هامش السيرة١
أولًا: مقدمة
فن «القراءة» شكلٌ أدبي معاصر على نقيض فنونٍ أدبية معروفة عند القدماء، مثل فن «المناقضة» بين الشعراء، الجرير والفرزدق، وهناك أيضًا فن النقض مثل «نقض المنطق»، وفن الرد والتفنيد مثل «الرد على الرواندي الملحد»، «الرد على الجهمية والمعطلة»، «الرد على المنطقين». وكلها فنونٌ تقوم على منطق الاستبعاد، والصواب والخطأ. وهو منطق الفرقة الناجية الذي ما زال متحكمًا في الفكر حتى الآن، بعيدًا عن التعدُّدية الفكرية بل والسياسة، ونسيانًا لتراثنا القديم أن الحق مُتعدِّد، وأن كل مجتهد مصيب.
ثانيًا: علم السيرة
(١) السيرة بين الموضوعية والذاتية
لا تُوجد سيرةٌ موضوعية لأحدٍ، لا للذات في السيرة الذاتية ولا للآخر في كتب السير والتراجم. السيرة رؤية ومنظور، هي إعادة بناء التاريخ طبقًا للإحساسات الحالية، ومن خلال وسائل المعرفة المتاحة، بل إن النصوص التاريخية القديمة كُتبَت أيضًا من منظور المؤرخ، وبوسائل إدراكه وباهتماماته، وربما بولاءاته وانتماءاته الفكرية والمذهبية والسياسية؛ فلا يُوجد ضمانٌ مطلق بين الرواية والواقع، كما نبه ابن خلدون في مقدمة «المقدمة» على أخطاء المؤرخين، وضرورة تجاوز الرواية إلى المشاهدة، والنص إلى الواقع. لا يُوجد تاريخٌ بلا تدوين. والتدوين يصنع التاريخ ويُصوِّره. ومقياس صدقه ليس التطابق مع الواقع بل التطابق مع النفس، كما هو الحال في العمل الأدبي. التاريخ رواية. والرواية ليست فقط خبرًا بل هي عملٌ أدبي، وكل خبر هو عمل روائي بالضرورة، بل إن الرواية الصوفية الذاتية تقُص أخبارًا لا شأن لها بالأحداث، وتُصوِّر واقعًا خياليًّا قد يكون هو الواقع الفعلي، في حين أن الواقع الحسي مجرد وهمٍ مجرد، وكما لاحظ هيجل من قبل في «ظاهريات الروح»، أن الحس الساذج المباشر في الزمان والمكان هو المجرد، أول درجة من تطور الروح، وأن التصوُّر هو العِياني، وهو آخر مرحلة من تطوُّر الروح، التدوين إدراكٌ حسي، وفهمٌ عقلي، وتأويلٌ نفسي، وقصدٌ إنساني. ليس التدوين مجرد نص، بل العمليات الحسية والذهنية والنفسية والقصدية والوجودية وراء النص.
الذاتية هي الموضوعية ولكن على نحوٍ أسمى؛ فالحقيقة ليست فقط المفهوم المنطقي القديم، تطابُق العقل مع نفسه، أو العلمي الحديث، تطابُق العقل مع الواقع، بل تطابُق العقل مع النفس، والفكرة مع التجربة الحية. ولمزيدٍ من الاطمئنان يتضاعف التطابُق بين التجربة الفردية وتجربة الآخرين، لعدم الوقوع في الذاتية بمعنى النسبية؛ فالحقيقة المشتركة من خلال العلاقات بين الذوات، هي الضامن للموضوعية التقليدية والبديل عنها.
الموضوعية الحسية الشيئية الساذجة افتراضٌ عقلي، ووهمٌ معرفي، واغتراب عن النفس، ووقوعٌ في الشيئية، والتضحية بالذات في سبيل العالم، «وماذا يكسب الإنسان لو كسب العالم وخسِر نفسه؟». وقديمًا قال سقراط: «اعرف نفسك بنفسك.» وأعاده أوغسطين: «في نفسك أيها الإنسان تكمن الحقيقة.» وهو ما سُمِّي «الكوجيتو» الديكارتي، أو «الأنا أفكر» الكانطي، أو «الأنا الحر» عند فشته، أو «الأنا موجود» عند سارتر. وهو ما أكَّده القرآن وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
بل إن الله ذاته يرى العالم في زمانٍ ومكان. ويُرسل الوحي على مراحلٍ في التاريخ، ويضعه لمصلحة الإنسان كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. وليس لأحدٍ القول الفصل في أي شيء، ولا يُوجد رأيٌ واحد في أي موضوع، هناك الرؤية والمنظور.
(٢) هل هناك سيرة موضوعية للرسول؟
لا توجد سيرة واحدة تاريخية وموضوعية للرسول، بل هناك سيرٌ مختلفة ورؤًى متعددة. وهي نفس القضية مع السيد المسيح، الذي ليس له سيرةٌ تاريخية موضوعية واحدة، بل هناك عدة سير له طبقًا لرؤى الكُتَّاب؛ فهناك المسيح الفقير، والمسيح مؤسس الكنيسة، والمسيح العملي، والمسيح الإشراقي، والمسيح الإنسان؛ لذلك تمت التفرقة بين «مسيح التاريخ» و«مسيح الإيمان». مسيح التاريخ مجرد افتراضٌ نظري، في حين أن «مسيح الإيمان» هو الواقع الفعلي. المسيح كما رآه الحواريون وسمعوه وعاشوا معه، وتأثَّروا بتعاليمه وحزنوا لفراقه.
كذلك كُتبَت سيرة الرسول طبقًا لعدة مناهجَ ورؤًى مختلفة من القدماء إلى المحدَثين. وتتراوح بين الإنسان التاريخي والإنسان الأسطوري، الذي يصل إلى حد الألوهية، كما هو الحال في «الحقيقة المحمدية» عند الصوفية.
ومن ثَمَّ لا يعني «علم السيرة» أن السيرة علم، بل يعني دراسة السيرة دراسة علمية بمناهج المحدَثين دون التسليم بسير القدماء. السيرة ليست علمًا بل شكلٌ أدبي وفن من فنون الكتابة. كان الدافع عليه تقليد سِيَر النصارى واليهود في كتابة سِيَر لأنبيائهم وقسيسيهم وأحبارهم لتعظيمهم بل ولتأليههم، مزايدة في الإيمان عن طريق الخيال، في حين أن السلوك والأفعال مخالفٌ لعقائد الإيمان؛ لذلك دخلت الإسرائيليات في علم السيرة لتضخيم سيرة الرسول، وحتى لا تبدو أقل تعظيمًا وتأليهًا وإعجازًا من سير أنبياء بني إسرائيل. وكان المسلمون قد طلبوا من الرسول أن يقص عليهم كما يقص أهل الكتاب، فنزلت نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ استجابةً لطلبهم، ولم يطلبوا سيرةً أُسوة بأهل الكتاب؛ لأن الرسول كان بينهم ويعلمونه بالمشاهدة المباشرة وبالمعاصرة، وليس بالذاكرة وأنباء السابقين.
(٣) تعدُّد السير عند القدماء
وتتعدد سير الرسول، وبالتالي تتباين صوره؛ فهناك السيرة التاريخية التقليدية مثل سيرة ابن هشام وابن اسحق، يغلب عليها المنهج التاريخي. وكانت الرواية المصدر الرئيسي لها دون تحقُّق من صحتها وتواتُرها. وهو المنهج الغالب أيضًا على علم التفسير.
وهناك السيرة الصوفية التي يبدو فيه الرسول قطبًا من الأقطاب، وبدلًا من الأبدال، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية. هي سيرةٌ ذاتية خالصة لا تعتمد على الروايات، بل على الإلهامات الروحية والكشوف الربانية، مصدرها العلوم اللدنية. وتكشف عن الحياة الروحية للرسول، وليس عن حياته كزوج وأب وصديق، يحب ويكره، يفعل وينفعل، يفرح ويحزن، يصيب ويخطئ. هي سيرة السماء وليست سيرة الأرض، مملوءة بالمعجزات. والرسول فيها القدوة والإنسان الكامل. والصوفي مثله هو الولي والرسول النبي، يجري الكرامات كما يجري النبي المعجزات، ويغرف من نفس بحر العلوم، وهي العلوم الذوقية. والعلماء ورثة الأنبياء، والأئمة خلفاء الرسل.
ولم يكتب علماء الأصول، أصول الدين وأصول الفقه، سيرًا للنبي، بل اكتفى علماء أصول الدين بجعل النبوة أحد قواعد العقائد، والقرآن دليله المعجز، والإسلام ينسخ ما قبله، وبه نسخٌ داخلي في تشريعاته. واكتفى علم أصول الفقه بالحديث عن السنة كمصدرٍ ثانٍ للتشريع بعد القرآن دون تشخيص القول في الشخص، والتحول عن الحديث إلى السيرة كما تحوَّلَت الكلمة إلى الشخص في المسيحية؛ فالحديث قولٌ وفعل وإقرار.
(٤) تعدُّد السير عند المحدَثين
كان الطهطاوي أسبق في كتابة السيرة في «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، من أجل إيجاد نموذج لبناء الدولة في الموروث للاستعانة به في بناء الدولة العصرية، دولة محمد علي، ثم استأنف المحدَثون سنة القدماء في كتابة السيرة لاستعمالها كأداة للتحديث، طبقًا للأيديولوجية المختارة الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية. كان أكثرها انتشارًا السير الليبرالية مثل «حياة محمد» و«في منزل الوحي» لمحمد حسين هيكل، لا فرق بين محمد وجان جاك روسو، يُقرأ محمد من خلال جان جاك روسو، ويُقرأ جان جاك روسو من خلال محمد؛ فكلاهما يمثل دين الطبيعة والعقل. وكتب العقاد «عبقرية محمد»، وخالد محمد خالد «محمد»، بنفس الدافع الليبرالي انتصارًا لليبرالية، الأيديولوجية المختارة في النصف الأول من القرن العشرين. كُتب «على هامش السيرة» في هذا الإطار. وكان الهدف البحث عن نموذجٍ للقيادة، الحاكم الليبرالي المستنير، ونظام الحكم وهو النظام الليبرالي الوافد من الغرب. وكان لا بد من تأسيسه في الموروث الإسلامي؛ حتى يكون أوسع انتشارًا وأكثر قبولًا. وشارك في ذلك أقباط مصر، فكتب نظمي لوقا «محمد رسول الله». كما شارك المسلمون في كتابة سيرة السيد المسيح، كما فعل العقاد في «عبقرية المسيح». وتجمع السير الليبرالية كلها بين العقلانية والرومانسية والوطنية وروح التسامُح والأُخوَّة. كما تُعبِّر عن النزعة الإنسانية؛ فالإسلام كما جسَّدَته ثورة ١٩١٩م، دينٌ عالمي للبشر أجمعين.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، عندما تم التحوُّل من الخيار الليبرالي إلى الخيار الاشتراكي القومي، كتب عبد الرحمن الشرقاوي «محمد رسول الحرية»، يظهر فيها محمد رسولًا للحرية الفردية والاجتماعية، وكما غنَّت أم كلثوم شعر شوقي في «نهج البردة»:
وفعل نفس الشيء في «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا» و«الأئمة الأربعة». ولا فرق بين التاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني في «الفتى مهران» و«وطني عكا».
وانضم القوميون أيضًا إلى كُتَّاب السيرة على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، سيرة كاملة أو جزء منها، فكتب ميشيل عفلق مقاله الشهير «في ذكرى المولد النبوي». وأطلق عبارته الأشهر «إذا كان محمد كل العرب فكل العرب محمد». وكتب خلف الله محمد خلف الله «محمد والقوى المضادة»، يُصوِّره قائدًا طليعيًّا ضد قوى التخلُّف والتسلُّط السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
لم يكتب التيار العلمي العلماني شيئًا، شبلي شميل، فرح أنطون، يعقوب صروف، سلامة موسى، زكي نجيب محمود. وإن كان شبلي شميل قد حاول استخراج نظرية التطور من القرآن الكريم؛ حتى يكون لها حضورٌ أوسع ومعارضةٌ أقل. وحاول فرح أنطون تأصيل نفس التيار في التاريخ الإسلامي في «أورشليم الجديدة» و«ابن رشد وفلسفته». كان معظم رواد التيار العلمي من النصارى في الشام ومصر، شبلي شميل، فرح أنطون، يعقوب صروف، سلامة موسى، باستثناء نظمي لوقا في كتابه عن الرسول؛ إعجابًا بالإنسان الليبرالي.
وبهذه الطريقة يمكن تصوير الرسول قائدًا لكل عصر قادرًا على حل مشاكله؛ ففي تحديات الأمة الداخلية الرسول محرر للأرض من الاحتلال والغزو، ومُحرِّر للمواطن من القهر والتسلُّط والطغيان، ومُحقِّق للعدالة الاجتماعية ضد التفاوُت الشديد بين الأغنياء، والفقراء، ومُوحِّد للأمة ضد مخطَّطات التجزئة والتفتيت للأمة إلى دويلاتٍ عرقية وطائفية؛ كي تصبح إسرائيل أقوى دولةٍ عرقية طائفية في المنطقة، تأخذ شرعيةً جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية المحلية، بدلًا من الشرعية القديمة التي أعطاها لها هرتزل في الدولة اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، أرض المعاد وشعب الله المختار والعهد والميثاق، ومُحقق التنمية المستقلة ضد التبعية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والمُثبت للهوية ضد الاغتراب في الآخر والتميع فيه، والحاشد للناس ضد اللامبالاة والفتور.
ويكون محمد أيضًا قائد المواجهة ضد التحديات الخارجية؛ فهو المناهض للعولمة واقتصاديات السوق، والعالم ذي القطب الواحد، وهو الناهي للتاريخ، تاريخ الوحي، والبادئ لتاريخ الاجتهاد واستقلال العقل والإرادة، وهو المحاور للحضارات وليس المصادم لها. وهو مؤسس المجتمع المدني في استقلال القضاء والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدين النصيحة؛ فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرس. وهو الذي يُحسِن الإرادة العليا للدول، ويضع نظمها ومؤسساتها. وهو المدافع عن حقوق الإنسان «كلكم لآدم وآدم من تراب.» وهو شهيدٌ على أن عباد الله إخوان. وهو المناصر لحقوق المرأة؛ فالنساء شقائق الرجال. وهو المثبت لحقوق الأقليات فليست العروبة بأبٍ أو أم، إنما العروبة هي اللسان، ولا فضل لعربيٍ على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. وهو أول من حدَّث الخطاب الديني بنقد الوثنية، وتعدُّد الآلهة والخرافة والسحر والوهم والكهانة، داعيًا إلى تحكيم العقل واستعمال البرهان.
فكم من سيرة يمكن كتابتها في كل عصر، وكم من هامشٍ يمكن أن يكتب عليها، فتكثر الهوامش وتتضاعف «على هامش السيرة».
ثالثًا: السيرة الأدبية
(١) السيرة والتاريخ الإسلامي
«على هامش السيرة» جزءٌ من مشروعٍ أوسع، وهو إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من منظورٍ إنساني بشري، يُصوِّر حياة الرسول والصحابة وعواطفهم وانفعالاتهم، آمالهم وإحباطاتهم؛ فالتاريخ بشري يصفه بشر. وهو ما يسمى «إسلاميات» طه حسين، بالإضافة إلى «أدبياته»، وكلها حنينٌ إلى الماضي ورومانسية الحلم الليبرالي. طبَّقَه في «الشيخان»، الصديق أبو بكر، والفاروق عمر، ثم استمر في «عثمان بن عفان» و«علي وبنوه»، حتى وقع الحدث الضخم «الفتنة الكبرى».
بل وظهرت «الإسلاميات» في «الأدبيات» في «الوعد الحق» و«مرآة الإسلام» من أجل ربط الماضي بالحاضر، وتأصيل الحاضر بالماضي؛ فالإسلام الليبرالي العقلاني الوطني، هو ما تحتاجه الأمة في نضالها الوطني وبنائها القومي ونهضتها المعاصرة.
(٢) الصورة الأدبية
(٣) النموذج الغربي
(٤) الأدب الحي
(٥) المنهج العاطفي
(٤) رابعًا: مراجعات نقدية
وبالرغم من أهمية السيرة كصورةٍ أدبية حية تُؤثِّر في القارئ الحديث، إلا أنها تتسم أحيانًا بالسطحية والسذاجة. ويصل حد الرغبة في التأثير على القُراء، إلى أن تُصبح السيرة أقرب إلى قصص الأطفال، بما بها من عناصر التشويق والتأثير واستجداء العواطف، عاطف الاستحسان للمؤمنين والاستهجان للكافرين، في تقابُلٍ شائع بين الإسلام والجاهلية، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ. والسيرة ليست قصة أو حكاياتٍ مُشوِّقة من حكايات الأطفال، بل هي تحدٍّ بين التاريخ والأدب، والواقع والخيال.
ولا تخلو الإشارة إلى الآداب الأجنبية من تعالُمٍ وإظهار المعرفة بالآداب الأجنبية القديمة مثل اليونانية واللاتينية والحديثة مثل الفرنسية. والعيش في فرنسا لم يعُد حكرًا على طبقة المتعلمين والدارسين وطلاب البعثات، بل أصبح شائعًا ومطروقًا للعمالة المهاجرة. ولم يعُد السيْر على ضفاف السين ميزةً لكاتب، بل أصبح الآلاف من المصريين والعرب يجوبونه ليلَ نهار.
وهل تُكتب السيرة بجماليات الأسلوب وتحويلها كعلمٍ إلى مجرد إنشاءٍ أدبي يُؤثِّر في النفوس؟ فالسيرة أسلوب. صحيح أن السيرة نوعٌ أدبي وفن من فنون الكتابة، ولكنها أيضًا علمٌ يخضع لنقد الروايات التاريخية. صحيحٌ أن عَيْش الحدث والانفعال به والتفاعُل معه جزءٌ من فن الكتابة، ولكن ليس جزءًا من علم التاريخ. صحيحٌ أن الجانب الإنساني هو الظاهر، والذي يشارك فيه كل إنسان بصرف النظر عن لونه وعقيدته، ولكن التجربة الإنسانية تجُبُّ الواقعة التاريخية. ولا يُوجد تعارضٌ بين الرواية التاريخية كالسيرة والرواية الأدبية؛ لذلك يُعتبر «حياة محمد» و«في منزل الوحي»، أكثر توازنًا بين الاثنَين دون التضحية بالأدب من أجل التاريخ، كما فعل القدماء، أو بالتاريخ من أجل الأدب كما فعل الكاتب.
خامسًا: خاتمة
علم السيرة عند المحدَثين السيرة السياسية والسيرة الاجتماعية، بما في ذلك السيرة الأدبية … إلخ. يتجدد بتجدُّد العصور. ليس إسقاطًا من كل عصر، بل هو تحديثٌ للرؤية، وتنوُّع في المنظور، وإعادة توظيف العلوم القديمة خاصةً النقلية منها في خضم أحداث العصر؛ فالتراث ليس غاية في ذاته بل وسيلة لتحقيق غايةٍ أخرى، هو التقدُّم في كل عصر، والنهضة في كل زمان. ومع ذلك يظل للسيرة حدودها بل وخطورتها، حتى مع تحديثها وتجديدها وإعادة قراءتها وتوظيفها.
فما زالت تقوم على عبادة الشخص وتعظيمه وإجلاله وليس الكلمة. ما زالت تعطي الأولوية للرسول على الرسالة، وللنبي على النبوة، وللوسيلة على الغاية، وللحامل على المحمول، وللحديث على السيرة، كما حدث عندما تحوَّل السيد المسيح من الكلمة إلى الشخص، ومن الأقوال إلى الأفعال، ومن الموعظة على الجبل الى ابن الإنسان؛ لذلك كانت الوهابية على حقٍّ عندما رفضَت تعظيم أحد من البشر، بما في ذلك الرسول، والتوسُّط به بين الإنسان والله، والاحتفال بالمولد النبوي، والتواشيح في مدحه، والأدعية له مثل: «أغثنا يا رسول الله»، «أعنا يا رسول الله»، «يا حبيبي يا رسول الله». وكانت المعتزلة قد رفضَت من قبلُ الشفاعة والبشارة؛ إيثارًا لقانون الاستحقاق.
وكان الرسول نفسه قد حذَّر من التركيز على شخصه وتعظيمه وإطرائه «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم.» فهو بشر مثل باقي البشر، «ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد.» وبعد موته أُصيب الصحابة بصدمةٍ لدرجة اعتقاد البعض أنه سيعود، كما عاد عيسى بن مريم، أو أنه رفع إلى السماء كما رفع، لولا أن ذكَّرهم عمر «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت.»