الإسلام الليبرالي١
يصعُب تصنيف بعض المفكرين المعاصرين في أيٍّ من التيارات الثلاثة المعروفة؛ الإصلاحي الذي أسسه الافغاني والذي يبدأ بالدين؛ إذ لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبدأ بالدين أولًا، أو الليبرالي الذي أسسه الطهطاوي وخير الدين التونسي والذي يبدأ بالدولة؛ إذ لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبدأ ببناء الدولة الحديثة أولًا، أو التيار العلماني الذي أسَّسَه شبلي شميل، والذي يبدأ بالعلم الطبيعي، إذ لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبدأ بالعمل والفصل بين الدين والدولة أولًا.
فالعقاد كاتبٌ إسلامي، سليل سعد زغلول، تلميذ محمد عبده، يُعيد كتابة التاريخ الإسلامي، عبقرية الصحابة، والعقائد والمذاهب، والحضارة والتراجم. وهو أيضًا كاتبٌ ليبرالي يدافع عن الليبرالية، وصاحب نزعةٍ إنسانية، ويُقدِّس الحرية. كان من أقطاب حزب الوفد، وأحد أعضائه الصاخبين في البرلمان. وهو أيضًا لا يبتعد كثيرًا عن النظرة العلمية، التي تتبنى بعض المناهج الحديثة، مثل المنهج التاريخي والمنهج النفسي والمنهج النقدي والمنهج المقارن.
هو كاتبٌ على مفترق الطرق وعلى حافة التيارات الثلاثة، بين الإسلام، والليبرالية، والحداثة. وهو غزير الإنتاج، علامة من علامات تاريخ مصر الحديث. يُمثِّل أزهى فترة في تاريخها، العصر الليبرالي، عصر شوقي وحافظ، ومحمد حسين هيكل وخالد محمد خالد، وعبد الوهاب وأم كلثوم، وحرية الصحافة والبرلمان، والجمعيات العلمية والأدبية، والحركة الوطنية، والنضال من أجل الحرية والاستقلال.
أولًا: الموضوعات
وتتضمن «إسلاميات» العقاد عدة موضوعات للدفاع عن الإسلام، وبيان حقيقته، وبطلان اتهامات خصومه كما هو الحال في «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»، وأيضًا «ما يُقال على الإسلام».
وتبرز أهم الموضوعات التي يتساءل عنها الغرب، مثل الصلة بين العقل والإيمان في «التفكير فضيلة إسلامية»؛ دفاعًا عن العقلانية كمطلبٍ داخلي، ودفعًا لاتهامٍ خارجي. وضد اتهام الإسلام بأنه مجرد دينٍ لا يعرف العقلانية، كتب أيضًا «الفلسفة القرآنية»؛ فالقرآن فلسفة، والوحي فكر، والإيمان نظر.
ويكتب ضد الاتهام الشائع بأن الإسلام إنما هو فرقةٌ يهودية مسيحية عربية. صدر «مطلع النور» لإثبات الفرق النوعي بين الجاهلية والإسلام، بين اليهودية والنصرانية والوحي الجديد؛ فالتاريخ ليس اتصالًا دائم بل انفصال أيضًا، وليس تطورًا فقط بل طفرة. هو التاريخ المنبثق، والتاريخ النموذج.
و«الديمقراطية في الإسلام» رد على اتهام الإسلام، والذي ما زال سائدًا حتى الآن، بأن الإسلام لا يعرف الديمقراطية. وقد تراكَم ذلك عَبْر التاريخ حتى صُوِّر الإسلام، بأنه كان أساس النظم التسلُّطية، التي توالت على العالم الإسلامي، منذ الأمويين حتى الثورات العربية المعاصرة.
وإذا تزاهت الحضارة الغربية بأنها حضارة الإنسان، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في حين أن الحضارات الأخرى الشرقية، والإسلامية منها، عرفَت حضارة «الله»، مما جعل حقوق الإنسان فيها مخترقة، وكما كتب محمد بن عبد الوهاب «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد»، صدر «الإنسان في القرآن»؛ دفاعًا لا شعوريًّا عن مركزية الإنسان في الحضارة الإسلامية، وتأكيدًا لخلافة الإنسانِ الله في الأرض، واستئنافًا لما قاله الصوفية، خاصةً ابن عربي والجيلي عن «الإنسان الكامل».
ويُقال أيضًا إن الحضارة الغربية هي حضارة المرأة، وإنها هي التي تُدافع عن حقوق المرأة، في حين أن الحضارات الأخرى، ومنها الإسلامية، هي حضارة الرجل، والمرأة ما هي إلا شيء وموضوع جنسي، المرأة العضوية في الحيض والنفاس، والولادة والطهارة وعدم جواز اللمس أو النظر، والزواج والطلاق والميراث والشهادة والرئاسة؛ لذلك صدر «المرأة في القرآن»، لبيان مركزيتها واحترامها كقيمة في ذاتها، وتفضيل مريم على نساء العالمين.
ومع العقائد والمذاهب الدينية هناك أيضًا الأيديولوجيات السياسية، التي يعارضها الإسلام مثل «الشيوعية والإنسانية». وتعني الإنسانية هنا الرأسمالية ودعواها بأنها إنسانية، تُحافظ على حرية الإنسان وكرامته. ويتكرر نفس الموضوع في «لا شيوعية ولا استعمار»؛ فهناك فرقٌ بين الشيوعية والاشتراكية، والاستعمار هو أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية. ويعظُم النقد للشيوعية في «أفيون الشعب»، وهو الموقف المقتضب لموقف الماركسية من الدين، في نصف عبارة «الدين أفيون الشعب.» دون النصف الثاني «وزفرة المضطهدين.» مثل من يقول «ولا تقربوا الصلاة.» فالدين يلعب دورَين متناقضَين؛ الأول أداة قهر للحكام، وتعويضٍ للناس عن مآسي الدنيا بنعيم الآخرة. والثاني ثورة على الاضطهاد والظلم، ضد نُظُم القهر والتسلُّط. ولما ظَهرَت الفاشية والنازية والصهيونية كنُظم حكمٍ تسلُّطية عنصرية، صدر «الحكم المطلق في القرن العشرين» ورموزه، فرانكو في إسبانيا، وأتاتورك في تركيا، وموسوليني في إيطاليا، وبسمارك في ألمانيا، ونابليون في فرنسا، و«الصهيونية العالمية»، و«هتلر في الميزان» وموقف النازية من الدين في «النازية والأديان».
لم يكن التاريخ الإسلامي أو الحضارة الإسلامية أو العقائد والمذاهب فقط هي مجالات الكتابة، بل أيضًا النقد الأدبي خاصة الشعر في «ابن الرومي»، و«رجعة أبي العلاء»، و«أبو نواس»، و«عمر بن أبي ربيعة»، و«جميل بثينة»، بل امتد مفهوم الأدب إلى الأدب الشعبي في «جحا الضاحك المضحك»، بالإضافة إلى قرض الشعر.
والعقاد كاتبٌ أكثر منه مفكرًا أو فيلسوفًا، بالرغم من مساهماته الفلسفية عن «الشيخ الرئيس ابن سينا»، و«الغزالي»، و«ابن رشد»، مجرد عرض لفلاسفة، إشراقي وصوفي وعقلاني، دون أخذ موقف لصالح أحدهم ضد الآخر.
ولما كان القرن العشرين عصر الأيديولوجيات الكبرى، الاشتراكية والرأسمالية، وظهور النازية والفاشية، واندلاع حربٍ كلَّفَت الغرب أربعة مليون قتيل، ظهر «الإسلام في القرن العشرين»، كأيديولوجيةٍ ثالثة بديلة عن الأيديولوجية الشرقية الاشتراكية، والأيديولوجية الرأسمالية الغربية. وقد لعب الإسلام هذا الدور من قبلُ عندما ظهر أولًا كأيديولوجيةٍ ثالثة بين الفرس شرقًا والروم غربًا في «الإسلام والحضارة الإنسانية»، ومساهمته في صنع التراث الإنساني قَدْر مساهمة الغرب. وليس الإسلام فقط للعرب والأفارقة والآسيويين، بل هو دعوة عالمية لكل البشر في «الإسلام دعوة عالمية». وقد ساهَم الإسلام في حركات التحرُّر الحديثة، واستطاع القضاء في عقدين من الزمان على الاستعمار الغربي، الذي دام قرنَين في «الإسلام والاستعمار». كما ساهَم الإسلام في تحوُّل الحضارة الغربية من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، عَبْر ترجمة العلوم العربية والإسلامية، الرياضية والطبيعية إلى اللاتينية مباشرة أو عَبْر العبرية.
ثانيًا: المناهج
- (١) المنهج النفسي: وقد تم استعماله بوضوحٍ في العبقريات. وهو منهجٌ يجمع بين صفات الجسم والنفس،
والتي يجمعها المزاج طبقًا لما كان سائدًا في الغرب في ذلك العصر، وهو علم
النفس الجسمي «السيكوفيزيقي»، وليس المنهج النفسي الخالص في علم النفس الوصفي
أو علم النفس الظاهرياتي. كما يتم تطعيم المنهج النفسي الجسمي بمفاهيمَ فلسفية
أخرى، مثل الطبيعة الإنسانية باعتبارها أريحية ونخوة؛ فالطبيعة ليست مفهومًا
ماديًّا، بل هي طبيعةٌ أخلاقية تتوق إلى الكمال. بها نقصٌ وكمال، سلبٌ
وإيجاب.
ومن ضمن آليات المنهج النفسي المستعمل هو مفهوم «مفتاح الشخصية»؛ فلكل شخصية «مفتاح» أي سمةٌ رئيسية ودافعٌ مُوجه؛ فهو عند أبي بكر الإعجاب ببطولة النبي، وعند عمر الجندي، وعند علي آداب الفروسية، وعند عثمان التوتُّر بين القيم والحوادث، بين الإسلام والجاهلية، وعند خالد الجندية والحيوية، وعند عمرو التجارة والإمارة والسياسة، وعند معاوية الدهاء والحكم والسلطة، والعظمة والقدرة. وبلال هو داعية السماء ضد العنصرية. أما الحسين فهو رومانسية التاريخ، الشعر والثورة، وجمال الروح، ومثالية البشر، والتحوُّل من الدنيا إلى الآخرة.
تم تطبيق هذا المنهج الجديد في العبقريات لدراسة الصحابة؛ فالبطل صانع التاريخ كما هو الحال في الأيديولوجيات الليبرالية، كما وصف كالاريل في «الأبطال والبطولة». محمد والصديق وعمر أبطال صنعوا التاريخ. التاريخ تصنعه الشخصيات مثل علي والحسين وفاطمة وعثمان والصديقة (عائشة)، وخالد وعمرو ومعاوية وبلال، لا فرق بين صحابي وخليفة وسيد الشهداء وأم المؤمنين، والقائد المغوار والسياسي الداهية والزهراء. والشخصية حياةٌ وفكر، فردٌ وقدوة.٣ - (٢) المنهج التاريخي: وهو المنهج الذي كان سائدًا أيضًا في الغرب، خاصةً في القرن التاسع عشر،
وامتداداته في الوضعية الاجتماعية في القرن العشرين. ويقترن المنهج التاريخي
بالجغرافيا في وصف البيئة الجغرافية؛ فالتاريخ للزمان في تفاعُله مع المكان، مما
يُفسِّر هجرة إبراهيم من الشمال إلى الجنوب.
ويبدو المنهج التاريخي بوضوحٍ في «الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية»؛ فالأفكار تنشأ في التاريخ، وتتطور فيه. تنشأ في الأرض ولا تهبط من السماء. تتكوَّن بتفاعُل الذهن مع الواقع من أجل إيجاد نسقٍ معرفي يخلقه الإنسان، كي يعيش في وفاقٍ مع الطبيعة. تنشأ الفكرة في الذهن، ثم تتطور طبقًا لمراحل الوعي الذاتي والوعي الكوني. ويتضح ذلك من تطوُّر مفهوم الله لدى الشعوب القديمة في مصر والهند والصين واليابان، وفارس وبابل واليونان، حتى وصولها إلى اليهودية والمسيحية والإسلام. ويبدو المنهج التاريخي الجغرافي في «عقائد المفكرين»، العلماء والأدباء والفلاسفة، وتطوُّرها في إطارٍ تاريخي جغرافي. وهو منهجٌ طبيعي حيوي يستعمل لغة الحياة في النبات والحيوان والإنسان؛ ففي «مجمع الأحياء» تظهر الحياة في اليمامة والثعلب، والقرد والأسد، والمرأة والإنسان، والطبيعة، كما ظهر ذلك عند الجاحظ في كتاب «الحيوان». ولا ضَيْر أن يجمع المنهج التاريخي بين التاريخ والأسطورة؛ فالأسطورة عنصرٌ مكمل للتاريخ وأحد مصادره، مثل الدراسات عن المرأة في «الإنسان الثاني» و«هذه الشجرة»، وما بها من رموزٍ للغواية والجمال والحق، و«إبليس» وما يتضمَّن من صور الشيطان عن المحظور في الثقافة الشعبية، وفي الأدب والفن وممارسة الدين في الحياة اليومية.
والوحي مرتبطًا بالزمن أساسُ رؤية وضع المرأة في القرآن، بالمقارنة بوضعها في العصر الجاهلي أو الحضارات المجاورة. كما ظهر المنهج التاريخي الدفاعي التقليدي في «أثر العرب في الحضارة الأوروبية»؛ من أجل إثبات أثر الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الغربية، وهو ما لا يُنكِره أحد. وربما دفاعًا لا شعوريًّا على هجوم الاستشراق على الحضارة العربية الإسلامية، واتهامها بالنقل دون الإبداع، وقصر مهمتها على نقل الحضارة اليونانية مع تشويهها، والخلط بين نصوصها إلى الحضارة الغربية؛ فكما تأثَّر العرب باليونان أثَّروا في الغرب الحديث، في اللغة والعلم والفكر والعمران. كما استُعمل المنهج التاريخي الدفاعي في «الثقافة العربية»، وإثبات نهاية المعجزة اليونانية في تفاعلٍ متبادلٍ بين الشام وشبه الجزيرة العربية.
- (٣) المنهج المقارن: ويتحول المنهج التاريخي إلى منهجٍ مقارن في دراسة تاريخ الأديان، المذاهب والعقائد، والأيديولوجيات السياسية. ويُحيل إلى الثقافة الغربية كإطارٍ مرجعي وشخصيات مثل كارلايل وبنتام وبرجسون. ليس الإسلام دينًا فريدًا غريبًا، بل يُدرس في إطار تاريخ الأديان المقارن؛ فمحمد آخر الأنبياء، بدايةً بإبراهيم «أبو الأنبياء»، وقبل عيسى في «حياة المسيح». ويُدرس أبو الأنبياء في إطارٍ مقارن يهودي مسيحي إسلامي صابئي، وفي إطار التاريخ القديم. إبراهيم صورة عند المؤرخين وليس فقط اعتمادًا على الحفريات. والأنبياء هم «مجمع الأخيار»، دورات حياة الإنسان الأولى مع «إبليس» و«هذه الشجرة». وفي مقابل الإنسان الأول هناك «الإنسان الثاني». وتُدرس «حياة المسيح» من مخطوطات البحر الميت في وادي قمران. ويُقارن بين صورته في اليهودية والمسيحية والإسلام، في التوراة وفي الأناجيل.
- (٤) المنهج التحليلي: ويتضح في بعض الدراسات الإسلامية. ولا يعني منهجًا تحليليًّا خاصًّا للغة أو للمعاني أو للواقع الاجتماعي، بل تحليل الموضوعات وعرضها في جزئيات؛ ففي دراسة «الشيخ الرئيس ابن سينا» تُعرض موضوعات الحرية والنفس والخير والطب والعلم والأدب، كما هو الحال في الكتب الجامعية والمدرسية المقررة. وتعرض دراسة «ابن رشد»، نكبته مع العلم والعقل والشروح؛ جمعًا بين الشخصية وفكرها، دون تفصيلٍ محكم لفكر ابن رشد الشارح والملخص والجامع، والمدافع عن الفلسفة في «تهافت التهافت»، والمدافع عن ضرورة النظر في «فصل المقال»، وفي نقد علم الكلام وخطورته على حرية الفكر، وعمل العقل والنظر إلى الطبيعة في «مناهج الأدلة». والدراسة عن الغزالي مجرد محاضرةٍ عامة للتعريف به من غير مُتخصِّص لعموم القُراء.
- (٥) المنهج النقدي: كما يستعمل المنهج النقدي في الدراسات الأدبية دون الالتزام بمنهجٍ معين، باستثناء رسم الشخصيات والانطباعات الجمالية العامة من الشعر والشعراء؛ فلم تكن المناهج الأدبية المتنوعة قد ذاعت بعدُ مثل البنيوية واللغوية والوصفية. ولم يتم تطبيق المنهج الاجتماعي نظرًا للعداء الكامن للماركسية، وقد ارتبطت ارتباطًا عضويًّا بالمنهج التاريخي الاجتماعي. لم يتجاوز المنهج النقدي التراجم والسير التقليدية، بالإضافة إلى دراسة الأدب بالشواهد الأدبية خاصة الشعرية؛ فالأدب منهجٌ وموضوع في آنٍ واحد. والأسلوب أدبيٌّ مؤثر، عاطفيٌّ إنساني، يؤثِّر في القارئ فيجعله يتعاطف مع موضوعه.
- (٦) المنهج الدفاعي: واستمرت مناهجُ تقليدية مثل المنهج الدفاعي بسبب الاتهامات الموجهة إلى الإسلام، تاريخًا وحضارةً، عقيدة وشريعة، شعوبًا وقبائل من المستشرقين. وقد ظهر ذلك في «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»، فيما يتعلق بالاتهامات المُوجَّهة إلى الإسلام في العقائد والمعاملات، والحقوق، والحرية، والرق، والأسرة، والحرب. والدفاعُ عن الإسلام أحد دوافع الإصلاح، ونشأة الفكر الإصلاحي ضد اتهامات المستشرقين للحضارة الإسلامية بالجدب والنقل وغياب الإبداع، وبأنها تعبيرٌ عن العقلية السامية، وكما وضح ذلك أيضًا عند مصطفى عبد الرازق من تلاميذ محمد عبده.
- (٧) المنهج النصي: كما استعمل المنهج النصي الذي يعتمد كثيرًا على الحُجج النقلية، الآيات والأحاديث. وهو قريبٌ من المنهج الدفاعي الذي يعتمد على حُججٍ، لا يؤمن بها الخصوم المراد إقناعُهم والردُّ عليهم. يستنبط الواقع من الفكر، والظواهر الاجتماعية من النص، ويهرب إلى النص للعجز عن تحليل الواقع الاجتماعي، في حين أن المنهج النصي ذو حدَّين؛ إذ يستطيع الخصم أيضًا أن ينتقي من النصوص ما يشهد له ويعارض به خصمه، ثم يتم التراشق بالنصوص ويضيع الموضوع، والكل إلى رسول الله منتسب. في حين أن النقل لا يتم الحجاج به إلا استنادًا إلى العقل. وإن كل الحجج النقلية، مهما تضافَرتْ لإثبات شيء أنه صحيحٌ ما أثبتته، وظل ظنيًّا، ولا يتحول إلى يقينٍ إلا بحجةٍ عقلية ولو واحدة؛ فالحجة النقلية خاضعة لقواعد اللغة ومنطق الاشتباه؛ الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤَوَّل، المحكَم والمتشابه، المطلَق والمقيَّد، الخاص والعام، الأمر والنهي. في حين أن الحُجة العقلية واحدة، بديهية لا تحتمل التأويل.
ثالثًا: النزعات
وتبدو في كتابات العقاد ثلاثُ نزعاتٍ رئيسية؛ النزعة الإصلاحية، والنزعة العصرية، والنزعة الإنسانية.
- (١) النزعة الإصلاحية: وتتمثل في قراءاته للتاريخ الإسلامي؛ فقد كان نظام الحكم في عهد الصديق وعمر نموذجًا للحكومة العصرية، والمدافع عن المصالح العامة، والقابل للواقع المحلي الذي اعتاد عليه الناس قبل الإسلام مثل الدواوين والخراج والتشريع الطبيعي. وكانت عائشة نموذج المرأة المعاصرة، فيما يتعلق بحقوق المرأة العربية المسلمة الخالدة. وفي «المرأة في القرآن» تظهر نفس الدعوة الإصلاحية في تناول موضوعات السرائر والإماء، والحقوق والحجاب، والزواج والطلاق، والدرجة التي للرجال على النساء. وفي «الإنسان في القرآن» يتم الحديث عن الإصلاح في الإسلام، وضرورة تفسير القرآن في العصر الحديث، مقارنةً بوضع الإنسان في التاريخ. كما تتجلى النزعة الإصلاحية في التاريخ الإسلامي، وهو تاريخٌ وطني ليبرالي يمثله سعد زغلول؛ فالوطنية أساس الإسلام وركيزته. وقد خرجَت معظم الحركات الوطنية من جُبَّة الحركة الإصلاحية؛ فقد وضع الأفغاني شعار «مصر للمصريين»، ودوَّن محمد عبده برنامج الحزب الوطني، وسعد زغلول من تلاميذ محمد عبده. ولم تنفصل الحركة الوطنية المصرية عند مصطفى كامل ومحمد فريد عن الولاء لدولة الخلافة.
- (٢) النزعة العصرية: وتبدو المعاصرة في «الإسلام في القرن العشرين»، وتناوُل موضوعات الطاقة، والفضاء، وحكم العالم، وغاية النوع، والآلة، وأفريقيا، وآسيا، وهي موضوعات متفرقة في العلوم الطبيعية والإنسانية لا رابط بينها. إنما هي قراءاتٌ عصرية أو «ساعات بين الكتب»، ومعرفة موقف الإسلام المعاصر منها؛ فالصديق وعمر نموذجان للدولة العصرية في الإسلام، والديمقراطية والعالمية نزعتان عصريتان في الإسلام. والحرية الإنسانية للإسلام والأرض تجعل الإسلام متفقًا مع أحداث العصر؛ فالإسلام حارسٌ للمصالح العامة. وهناك تعاطفٌ مع الفكر الشيعي باعتباره نموذجًا للنزعة العصرية في حب آل البيت والمعارضة السياسية والذرية الفاطمية. الحسين أبو الشهداء، وفاطمة الزهراء والفاطميون.
- (٣) النزعة الإنسانية: وتبدو النزعة الإنسانية في العبقريات؛ فمحمد ليس فقط النبي أو الرسول بل الإنسان، البليغ والصديق والرئيس. وهو الزوج والأب والسيد والعابد والرجل. وإبراهيم أبو الأنبياء هو خليل الرحمن وخليل الإنسان. والصحابة ليسوا فقط خلفاء بل أيضًا بشر؛ فالصديق في بيته إنسان، بالرغم من اختلاف النماذج بين المثال والواقع. وهو التقابل بين أبي بكر وعمر، بين النبي والزعيم؛ فقد أحبَّ أبو بكر محمدًا النبي، وأحبَّ عمر محمدًا الزعيم. ولكلٍّ ثقافته الإنسانية، ثقافة الصديق الكلام، وثقافة عمر الشعر، وثقافة علي السُّنة والخلق وإقامة الحق، وثقافة عثمان الشعر والأنساب. وطوالع البعثة المحمدية، عبد الله وآمنة، كانت تبشر بدين الإنسانية. والإسلام حضارةٌ إنسانية تقوم على العقل والبرهان والعلم.
وأخيرًا تتميز كتابات العقاد بالدعوة إلى التفكير وإعمال النظر في موضوعات الحضارة الإسلامية، وتبني عدة مناهجَ عصرية أو تقليدية تُعيد تقويم الإسلام بأسلوبٍ واضح وعلى نحوٍ رومانسي، أُسوةً بالتراث الوطني الليبرالي الإنساني عند محمد حسين هيكل وأحمد أمين. بها جُرأة في النقد والتخلي عن الزخم التاريخي الفظ القديم، الثقيل على النفس، العويص في الفهم، الخالي من العصرية. وشتان بين القارئ والمقروء؛ نظرًا لبُعد المسافة الزمنية بينهما. وتُمثِّل نوعًا من البحث العلمي الرصين والتحليل العقلاني المقبول. يُقنع القارئ ويدخل إلى نفسه عن طيب خاطر، ويتعاطف مع الموضوع وإعجاب بالكاتب. تنبعث منها روح الإصلاح الليبرالي، وتؤسس الإسلام المستنير، استئنافًا لمحمد عبده ومحمد حسين هيكل، متواصلًا مع خالد محمد خالد قبل أن يرتد سلفيًّا في أواخر حياته. وتُعبِّر عن تيارٍ سياسي وطني تجسَّد في ثورة ١٩١٩م؛ فقد تربى الكاتب في بيت سعد زغلول، كما تربى محمد عبد الوهاب في منزل أحمد شوقي. والكاتب عصامي النشأة والتكوين. لم يتلقَّ تعليمًا جامعيًّا في المرحلة الأولى، أو في الدراسات العليا. كوَّن نفسه بنفسه دون علمٍ كبير باللغات الأجنبية، مع نقص المراجع والمصادر الأولى. ومع ذلك كان كاتبًا موسوعيًّا يضرب في كل مكان، في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وحياة المسلمين المعاصرة. كان نافذةً على العالم لعدة أجيالٍ قادمة وما زال. وكان صالونه يمثل ملتقًى له لاستئناف دوره عند المعجبين به. ينطلق من صعيد مصر إلى شمالها، ويشعُّ من الجنوب كما شعَّت طيبة من قبلُ. ومنها خرج الجنوبي.
ومع ذلك لم يُتَح للكاتب التوثيق العلمي الحديث والإحالة في الهوامش إلى المصادر والمراجع. ولم يقم بتخريج الروايات كما يفعل الأزهريون المعاصرون. أخذ مواقفَ حاسمة، وأصدر أحكامًا قاطعة بالرفض ضد المنهج المادي والتحليل الاجتماعي والماركسية، وهي الأحكام التقليدية التي سادت الإصلاح منذ الأفغاني ضد الشيوعيين «الكومينست»، والاشتراكيين «السوسيالست»، والعدميين «النهيليست» المتهمة جميعًا بالكفر. لم تخلُ كتاباتُه من بعض المناهج الدفاعية ونوايا التقريظ، كما تسود الكتابات بعضُ النزعات التقليدية عن الرسول والأعياد ورمضان والصيام؛ فلا يُوجد ميزانٌ متعادل في حركات الإصلاح بين القديم والجديد، والمحافظة والتجديد. وما زال الحديث عن المعجزات قائمًا دون التعرُّض لها بالنقد أو بالتجاوُز. والأسلوب هو الأسلوب الثقافي العام لمخاطبة الجمهور العريض، دون تخصُّصٍ دقيق في التاريخ أو الفلسفة، أو العقائد أو المذاهب السياسية.
الإصلاح الليبرالي مهمةُ عدة أجيالٍ منذ رُوَّاد عصر النهضة الأوائل، الأفغاني والطهطاوي وشبلي شميل حتى الجيل الثاني محمد عبده، والجيل الثالث عند طه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد، ثم توقَّف عند خالد محمد خالد. المهم أن يتطوَّر ويستأنف من جديد، دون خصومة مع الاشتراكيين أو القوميين. ويتحوَّل من الإسلام المستنير إلى الإسلام الوطني الثوري، القادر على الحوار الوطني بين التيارات المتصارعة، وحقن الدماء بين الإخوة الأعداء، السلفيين والعلمانيين؛ فموقعه بين الاثنَين لتجاوز الاستقطاب والخصومة في الدين والوطن، وإنهاء الاتهامات المتبادلة بالتكفير والتخوين. وقد تفاقمَت الأحداث في هذا الجيل بعد احتلال فلسطين والعراق، وأفغانستان والشيشان وكشمير وسبتة ومليلية، مما يستدعي دورًا جديدًا للإصلاح الليبرالي، كي يتحول نوعيًّا إلى التغير الثوري، فتتحوَّل «كبوة الإصلاح» في الإسلام الليبرالي إلى «نهضة الإصلاح» في الإسلام الثوري.