(١) مقدمة: المؤلف والتأليف
إن أعظم تكريم لجيل الرواد هو قراءتهم من أجل تطويرهم؛ فالمدح والتقريظ والتعظيم
والتبجيل تقليدٌ وتبعية ضد حوار الأجيال، والتحوُّل من النقل إلى الإبداع؛ فلولا نقد
أرسطو لأفلاطون لمات كلاهما. ولولا نقد اسبينوزا لديكارت لَمَا حدثَت ثورة العقل، ولَمَا
نشأ النقد التاريخي للكتب المقدسة، ولَمَا حدث التحول من الثيوقراطية إلى
الديمقراطية. ولولا نقد الفلاسفة بعد كانط والكانطيين الجدد لكانط لما عاشت
الكانطية. ولولا نقد ماركس واليسار الهيجلي لهيجل لمات هيجل وماركس، ولما نشأ
اليسار الهيجلي. وحدَث نفس الشيء في مراحل الوحي وتطوُّره من البداية إلى النهاية؛
فلولا القراءة الروحية لليهودية لَمَا نشأَت المسيحية وعاشت اليهودية. ولولا مراجعة
الإسلام لليهودية والمسيحية معًا، والاستفادة من التقابُل بين الشريعة والمحبة، لما
استطاع الجمع بينهما والتأكيد على وحدة الدين، بالرغم من مراحل الوحي طبقًا لتقدُّم
الوعي الإنساني.
٢
والمؤلف كثير الإعجاب بأساتذته وعظيم التبجيل لهم ومعظمهم من الأجانب، بل إنه علَّم
الأستاذ، وتعلَّم الأستاذ منه، فأصبح التلميذ أستاذًا والأستاذ تلميذًا. ويصل حد
التبجيل والتعظيم للأستاذ الروماني في تعامُله مع التراث الروماني أنه هو الذي
فتح عينَي التلميذ العربي الإسلامي على تراثه السياسي، وكأن الوعي بالذات هو نتيجة
وعي الآخر به.
٣
والنص كما يكشف مضمونه الخارجي يكشف أيضًا ذات المؤلف الداخلية وإحالة العلم إلى
العالم، كما يحيل الموضوع إلى الذات، فيُكثر المؤلف من الحديث عن ذاته، وكأن العلم
تجربةٌ ذاتية وليس نسقًا موضوعيًّا، كما هو الحال عند الصوفية.
وتكثُر الألقاب والوظائف لإعطاء أهمية للدراسة من خلال أهمية الشخص. والعالم لا
يحتاج إلى الإعلان عن قيمته بتعدُّد وظائفه،
٤ وتتراوح بين خمسة وواحد، وذلك بضم وظيفتَين «أستاذ» و«رئيس قسم» في
وظيفةٍ واحدة إما الجامعة أو المعهد، ويظهر لقب «أستاذ كرسي» بالرغم من إلغاء
الكراسي منذ بدايات الثورة الأولى في الخمسينيات، وقد يكون الاسم ثلاثيًّا رسميًّا
أو ثنائيًّا وهو الأشهر.
وقد كتب الدراسات الأربع في موضوع «الإسلام السياسي»، سواء في التراث القديم أو
في الواقع المعاصر؛ من أجل استشراف مستقبله في فترةٍ واحدة على مدى ثلاث سنوات ١٩٨١–١٩٨٣م،
وهي الفترة التي أعقبَت الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩م، ومقتل
رئيس الجمهورية الثانية في مصر، والعدوان العراقي على إيران في ١٩٨٠م، والتساؤل
الدولي حول جماعات العنف، وحركات الجهاد والأحزاب السياسية في جنوب لبنان التي
قاومت غزو بيروت في ١٩٨٢م، وبلورة مصطلح «الإسلام السياسي» في الأدبيات الاجتماعية والسياسية.
٥
كما لَعبَت النظم السياسية في مصر والسودان والمغرب والسعودية والخليج بسلاح الدين
وراحت ضحيته؛ فالدين سلاحٌ مزدوج في أيدي الحاكم والمحكوم، يستعمله الحاكم كأداة
للطاعة؛ فقد كان الدين في أيدي الحكام يعني الطاعة، والولاء والالتزام بالقواعد في
العقائد والشرائع، وتأدية الحقوق دون الحصول على الواجبات، وتطبيق الحدود للتخويف
والردع. ويستعمله المحكوم كأداةٍ للعصيان مثل «الحاكمية لله» ضد حاكمية البشر
و«الإسلام هو الحل»، و«الإسلام هو البديل»، وليس الأيديولوجيات العلمانية للتحديث.
و«تطبيق الشريعة الإسلامية» ضد النظم والقوانين الجائرة، وهي شعاراتٌ الهدف منها
زعزعة أنظمة الحكم ونزع الشرعية عنها. هذا التأويل المزدوج للدين طبقًا للوظيفة
المزدوجة التي يلعبها بلغة كارل ماركس، في أيدي الحاكم «أفيون الشعوب»، وفي أيدي
المحكوم «زفرة المضطهدين».
كُتبَت هذه الدراسات الأربع في عصر الاستقطاب أثناء الحرب الباردة، قبل سقوط النظام
الشيوعي في المعسكر الشرقي؛ فقد بدأ الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في ١٩٧٩م، وثورة
الحرم المكي في السعودية في نفس العام، وخشى السوفييت من قوة حركات المقاومة
الإسلامية وإمكانية انتشارها في باقي الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، قبل أن
تستقل في ١٩٩١م.
ويُشار إلى الحرب العراقية الإيرانية، وإلى القنبلة الباكستانية التي أراد الغرب
القضاء عليها، والانتقام من بوتو لإصراره عليها، وتبنِّي فرنسا قضية الدولة البربرية
لإيقاف المد الإسلامي في المغرب العربي، وشق الصف الوطني بين عربي وبربري، والقضاء
على التوجُّه الإسلامي حلقة الوصل بين العروبة والبربرية.
٦
(٢) المنهج والأسلوب
والمنهج المتبع هو منهج التأملات وطرح التساؤلات أمام النفس؛ من أجل محاولة
الإجابة عليها باعتبارها قلقًا داخليًّا، وأرقًا ذهنيًّا. ولا تكاد تخلو فقرة أو
صفحة من هذه التساؤلات. ويستطيع تحليل المضمون أن يصل إليها بسهولة. ليست الغاية
منها البحث العلمي، الذي يقوم على رصد الواقع بمناهج العلوم الاجتماعية،
والجداول الإحصائية وربما الدراسات الميدانية، بل إيجاد الاتساق مع النفس والراحة
الفكرية ورضا الضمير. وهي تساؤلاتٌ عامة يطرحها الفكر الإسلامي المعاصر؛ لذلك جاءت
الأحكام عامة، القصد منها الاستجابة إلى تساؤلات الذهن، وتحقيق الوحدة بين الذات
والموضوع، بين المؤلف والتأليف، بين الموروث القديم وتحديات العصر.
لذلك جاءت الدراسات الأربع أقرب إلى الثقافة السياسية. وهناك فرقٌ بين علم
السياسة، والنظرية السياسية، والفلسفة السياسية، والفكر السياسي، والثقافة
السياسية. علم السياسة يعرفه علماء السياسة وأهل الاختصاص وأساتذة قسم العلوم
السياسية. والنظرية السياسية أحد موضوعات علم السياسة مثل نظرية الدولة، ونظرية
القانون، وفيها تدخل المذاهب والمؤسسات السياسية. أما الفلسفة السياسية فهي أقرب إلى
الأُسس النظرية لعلم السياسة، وتدخل فيها الأيديولوجيات السياسية. والفكر السياسي هو
الجانب السياسي في الفلسفة العلمية، وتطبيقات المذاهب الفلسفية الكبرى في موضوع
السياسة، ولا تبعُد عن الفلسفة السياسية كثيرًا. أما الثقافة السياسية فهي التي تجمع
بين السياسة والثقافة الشعبية، وتبدأ من الأنثروبولوجيا فيما يُعرف بالأنثروبولوجيا
السياسية.
وأحيانًا تكون هذه التساؤلات تساؤلاتٍ للنفس لحل إشكالها الذاتي، والبحث عن وحدة
الثقافة بدلًا من ازداوجيتها، ووحدة المعرفة بدلًا من ثنائيتها، ووحدة الموضوع وراء
اختلاف المواقف الحضارية.
وكثيرًا ما تكون هذه التساؤلات وهمية، في ذهن المؤلف وليست في العالم الخارجي،
تُعبِّر عن قلقٍ فكري وأزمةٍ وجودية مثل وجود المؤلف بين ثقافتَين؛ إسلامية وغربية، أو
بين عصرَين؛ قديم وجديد؛ فالتراث القديم ما زال حاضرًا في وجدان العصر، ولم يقطع معه
بعدُ، كما حدث في الوعي الأوروبي إبَّان عصر النهضة في القرن السادس عشر، عندما قطع بين
القديم والجديد، بين أرسطو وبطليموس وأقوال الكنيسة من ناحية، وكبلر وجاليليو
ونيوتن من ناحيةٍ أخرى. وتحوَّل من سلطة النص إلى سلطة العقل، ومن الكتاب المغلق إلى
كتاب الطبيعة المفتوح، ومن الثيوقراطية إلى العقد الاجتماعي لتفسير نشأة السلطة في المجتمع.
٧
لذلك كثُرتْ فقرات الربط بين المباحث للتذكير بما فات والإعلان عما هو آتٍ؛ لأن
الموضوع لا يتحدث بنفسه ولا يُوحي بأقسامه، بل هي تعبيرات عن تساؤلاتٍ في حاجةٍ إلى
تنبيهٍ مستمر. في حين أن الموضوع الذي يتحدث عن نفسه لا يحتاج إلى تقديم وإعلان،
بل تُفرض بنيته على قسمة الخطاب، بحيث تصبح قسمة الخطاب هي بنية الموضوع، وهي طبيعة
المقال السيَّال، الخطاب الموجَّه إلى القُراء، والرغبة في الإقناع عن طريق تسلسُل
الأفكار ومنطق البرهان.
٨
وفي نفس الوقت تكثُر التقسيمات والتفريعات، وكأنها رءوس موضوعاتٍ في حاجة إلى مزيدٍ
من البحث، كافتراضاتٍ علمية أولى وليست كنتائج. تعتمد على قسمة العقل لمشاعر
الوجدان. هنا يتحول السؤال إلى إشكال، والإشكال إلى موضوع. ومع ذلك يظل موضوعًا
تأمليًّا خالصًا، يعتمد على الحدس والرؤية المباشرة، كما يفعل الأساتذة الكبار
والمفكرون أصحاب الدعوات. وأحيانًا لا تكون هذه التصنيفات دقيقة من حيث الواقع،
لاعتمادها على العقل البديهي والإحساس الوجداني، الذي بطبيعته لا يحيط بكل
الواقع، بل بجانبٍ منه فقط، هو الذي تتفاعل معه الذات. ويحتاج الباحث في ذلك إلى
بياناتٍ إحصائية ودراساتٍ استقرائية؛ حتى تكتمل المادة العلمية، وتتفق مع بنية
القسمة العقلية؛ نظرًا للاتفاق المبدئي بين البنية والتاريخ، بين العقل والواقع.
وأحيانًا يكون القسم أقرب إلى المقال الصحفي السيال دون بنية أو تقسيم أو تفريع؛
٩ فقد يكون الفكر أقرب إلى جريان الماء منه إلى النسق الهندسي.
وكثيرًا ما تكون النتائج أقرب إلى البديهيات الأولى،
١٠ يشترك في معظمها القارئ مع المؤلف؛ فكلاهما يعيشان عصرًا واحدًا وربما
همًّا واحدًا، ويُعبِّران عن قلقٍ فكري واحد. وطبيعة الفكر الحدسي هو الذي يتجاوز
غموض المادة العلمية وتحليلها. وكثيرٌ من التحليلات أقرب إلى الأفكار الشائعة، التي
تم التطرُّق إليها عدة مرات، والتي كثيرًا ما عبَّر عنها «الإخواني المستنير»، للدفاع
عن الإسلام بطريقةٍ عقلانية حديثة.
وقد أتت الدراسات الأربع أقرب إلى منبر الصحافة والإعلام؛ لأن التساؤلات المطروحة
هي التي يطرحها الكتاب والصحفيون والمفكرون، في المقالات الصحفية في الصحف اليومية
أو الأسبوعية أو الدوريات الشهرية؛ لذلك أتت معظمها خالية من المصادر والمراجع؛
فالتساؤلات من الذهن، والإجابات من العقل؛ فالصحافة لا تحتمل المراجع ولا الهوامش؛
لأنها تعتني بالفكر وليس بمصادره؛ لذلك غابت الهوامش، والإحالات المرجعية، أسماء
المؤلفين والمصادر والمراجع وأرقام الصفحات من أجل ربط الجديد بالقديم، والاجتهاد
الحالي بالاجتهادات السابقة.
وإذا ظهرت المصادر أو المراجع، فإنها قد تكون في صلب النص كنوعٍ من مراجعة
الأدبيات للحوار مع نتائجها قبولًا أو رفضًا. ونادرًا ما تكون الهوامش بإحالاتٍ
كاملة، الناشر والمدينة والسنة ورقم الصفحة. وقد تُجمع الإحالات المرجعية والهوامش
الوثائقية كملحق مع الملاحق في آخر الكتاب. غالبها مراجع غربية، والمراجع العربية
الوحيدة والنص المنشور «سلوك المالك في تدبير الممالك»، ويبدو أنها أُضيفَت بعد
كتابة التأملات والإجابة على التساؤلات، لاستكمال الشكل ومتطلبات التأليف. وبعضها
دراساتٌ كاملة وُضعَت في الهامش حتى لا تتكرر في صلب الصفحة. والمراجع مجرد إتمام لشكل
التأليف بالإضافة إلى الهوامش، ومكتوبة بنفس الطريقة، سبعة مراجعَ أجنبية ومرجعٌ
واحد، هو نص ابن أبي الربيع الذي نشره المؤلف. كذلك تطول هوامش مقدمة «سلوك
المالك في تدبير الممالك»، إلى درجة اعتبارها دراسات مستقلة.
١١ وكذلك وُضعَت هوامشُ كل نقطة من النقاط الست في «التجديد الفكري للتراث
الإسلامي وعملية إحياء الوعي القومي» في آخر كل نقطةٍ سواء كانت مسهبةً حتى لا تتكرر
في صلب الصفحة أو مقتضبة، مجرد إحالات.
١٢ وتُعادل الهوامش سبعة أمثال النص.
١٣
والملاحق تكرارٌ لنفس المادة التي في صُلب الصفحات. يبدو أنها كانت مادة أيضًا تمَّت
صياغتها من قبلُ، وُضعَت كملاحق حتى لا تتكرَّر في صلب الصفحة.
١٤
(٣) الموروث والوافد
والاعتزاز بالتراث السياسي الإسلامي القديم، إنما هو تعويض للوافد بالموروث
وإيجاد توازُنٍ بينهما في ثقافة العربي الحديث؛ لأنه «عربي بين ثقافتَين»؛ ففي هذه
الفترة، أوائل الثمانينيات، أراد معايشة التراث الفقهي القديم، وقد أدَّى ذلك إلى
اكتشافه «سلوك المالك في تدبير الممالك».
١٥ وقد كان ذلك بالمصادفة أو بفعل الأقدار. ويتجلى هذا الاعتزاز حتى في
استعمال مصطلح «ترجمة» بمعنى السيرة وحياة المؤلف، كما هو الحال في كتب
التراجُم.
وبالرغم من الجانب النقدي في الخطاب السياسي؛ إلا أنه مبني على الدفاع والتسليم
بوجود إسلامٍ حقيقي وإيمانٍ حقيقي، جواهر ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان؛ فلا وجود
لتاريخٍ متغير إلا لنصوصٍ اختلف المسلمون في تأويلها،
١٦ بل إن الأمر يتحول إلى دعوةٍ ورسالة، فيتحول الأسلوب العلمي التقريري
إلى أسلوب الماينبغيات.
١٧ ويرُدُّ على اتهامات الغرب للحضارة الإسلامية بأنها سيئة الحظ؛ لأنها لم
تنل حقها في الدراسة أو دراستها من مؤرخين لا يعرفون اللغة العربية؛ وبالتالي لم
يتعرفوا على المصادر الأولى، واكتفَوا بالدراسات الثانوية أو المصادر المترجمة، أو
عدم الفهم الحقيقي لروح الحضارة الإسلامية، أو الإلمام بوسائل البحث الحديثة.
١٨
ومنهج التعامل مع التراث القديم ليس تحليل النص في إطاره التاريخي أو في بنيته
الداخلية، ومحاولته تنظير النص الخام، ولكن من أجل اكتشاف مدارك القدماء، وفي
اتفاقها أو اختلافها مع «رؤى» المحدثين؛ فهو أقرب إلى المنهج الظاهرياتي، الذي
يقوم على تحويل النص إلى تجربةٍ معاشة عند مؤلفه، ثم نقل هذه التجربة القديمة إلى
المعايشة الحديثة؛ فالنص واحدٌ في حين تتعدَّد التجارب.
١٩
وفي نفس الوقت الأسئلة هي أسئلة الغرب، التي تُعبِّر عن همومه بعد الثورة الإسلامية
في إيران، وتخوُّف الغرب من القوة الإسلامية الصاعدة، وأثرها على القوى الدولية
والمنظمات غير الحكومية.
٢٠ وفي الغرب إرثٌ طويلٌ للعداوة بينه وبين الإسلام، وكانت أحد دوافع
تشويه الإسلام وتصويره على أنه مُعادٍ للحداثة. وكان طه حسين نموذجًا لذلك. كما
يستعمل بعض الألفاظ المعرَّبة مثل «ديالكتيك»، والتي تم نقلها إلى العربية من قبلُ في
لفظ «جدل».
٢١
ومعظم المصادر والإحالات إلى المراجع الغربية.
٢٢ والمراجع أيضًا بالإضافة إلى الهوامش غربية. وأُضيف ملخَّصٌ بالإنجليزية من
ثلاث صفحات، كما هو الحال في الرسائل العلمية.
٢٣ ويُوجد إعجابٌ خاص بالتراث السياسي الإيطالي والفرنسي،
٢٤ بل إنه حتى في التحليلات الإسلامية يكثُر الوافد،
٢٥ بل ويُوضع ملخَّص بالإنجليزية لعل أحدًا من القراء الأجانب يطلع عليه.
٢٦
وتعتمد الدراساتُ الأربع على مراجعة الأدبيات الغربية في الموضوع؛ فصاحبها أستاذٌ
جامعي يعرف أن من شروط التقدُّم العلمي، مراجعة الأدبيات السابقة ونقدها وتطويرها
ونقلها نقلةً نوعية.
٢٧ وقد اهتم بالتراث الإسلامي السياسي سلفر الصهيوني، كما تدل على ذلك
خطاباته المودعة بمعهد كليفلاند.
٢٨ ويذكر بعض الغربيين الذين لهم فضل في الترجمة من العربية إلى
اللاتينية، مثل الأسقف ريموندو في طليطلة، والعالِمَين الإيطاليَّين كارلو ميلانيزي
وأليساندو جيراردي.
٢٩
وأحيانًا يتم سجالٌ بين التحليلات المختلفة للآخرين، غربيين وعرب، ويكون ذلك في
الغالب في الهوامش المستفيضة مثل هوامش «سلوك المالك في تدبير الممالك»،
٣٠ والبعض منها يقترب من الافتعال المنهجي. وتمتلئ بالمراجع والمصادر
لمزيدٍ من الاطلاع. تجمع بين الموروث، القديم والحديث، والوافد الغربي. وهي دراساتٌ
مستقلة وُضِعَت كهامشٍ؛ حتى لا تتكرر مادة النص فقط في صلب الصفحة. البعض منها يحتوي
على أحكامٍ شائعة خاصة بعلاقة الفكر الإسلامي بالفكر اليوناني.
ويظهر منهج الأثر والتأثُّر، أثَر الغرب اليوناني في «سلوك المالك في تدبير
الممالك»؛ فلعل ابن أبي الربيع قد اطلع على الكاتب السياسي اليوناني يوليب، في حين
أن كتاباته لم تُترجم إلى العربية، وربما لم يترجم كتاب «السياسة» نفسه لأرسطو.
٣١ وتُعطى نماذج من الغرب للمسلمين لمنطق الأمن القومي ومدركاته؛ فالغرب ما
زال هو النموذج على مستوى اللاشعور العلمي والحضاري.
٣٢
وقد يتم الجمع بين التراثَين، الوافد والموروث؛ فقد ذكر دانتي ابن رشد وابن سينا
في الكوميديا الإلهية، وتحدَّث جوته عن محمد في «الديوان الشرقي للشاعر الغربي»،
ورينان يدعو إلى أخذ حكمة الإسلام.
٣٣ ويمكن مقارنة «رسالة الصحابة» لابن المقفع مع اصطلاحات سرفيوس توليوس،
والتي تُعرف باسم «ثورة الألواح الاثنَي عشر».
٣٤ وفي عملية إحياء التراث السياسي الإسلامي، وموضعها في الاتجاهات
الفكرية المعاصرة، يختلط الموروث بالوافد، ويتفاعل الرازي ويعني الجصاص والفارابي
وابن أبي الربيع وابن سينا وابن رشد، والرسول وخيرة منتقاة من علماء المسلمين، مع
نابليون في مصر وأوجست كونت وكارل ماركس وماكس فيبر وكلاسو في جامعة روما، ولوبتوف
في جامعة ميونيخ، وكوادري وهونك وروزفنتال العالم اليهودي ودانتي وجوته وفشته
وسافيني وأهرتيج وميللو.
٣٥ وتتم المقارنة بين وظائف الدولة وتقاليد الممارسة السياسية في «سلوك
الممالك في تدبير الممالك»، وبعض ممثلي الفكر السياسي الغربي القديم والحديث، مثل
أرسطو وميكيافيلِّي وكاسيرر وبريشت في «أزمة النظرية السياسية»؛
٣٦ فالجمع بين الوافد والموروث هَمٌّ معاصر لدى كثير من الباحثين ذوي
الثقافتَين، دون التضحية بأحدهما لصالح الآخر.
وقد تضطرب علاقة الوافد بالموروث، حيث تتضخم بعض العناوين الجانبية لإخراج
الدراسة من الخاصة إلى العامة، من «الإسلام والقوى الدولية» إلى «نحو ثورة القرن
الواحد والعشرين». بالإضافة إلى أن المسار التاريخي الإسلامي ليس القرن الواحد
العشرين بل القرن الخامس والعشرين؛ فلكل حضارة تحقيبها الخاص، القديم والوسيط
والحديث في الغرب، والعصر الذهبي ثم عصر الشروح والملخصات، ثم فجر النهضة العربية
والإصلاح الديني في حضارتنا العربية الإسلامية.
٣٧
(٤) الإسلام والقوى الدولية
و«الإسلام والقوى الدولية» فقراتٌ متتالية مقسَّمة إلى مقدمةٍ وثلاثة مباحث وملاحق.
٣٨ تصف المقدمة الخوف من الفيضان الإسلامي ودوافعه، وتاريخ التعامُل
الأوروبي الإسلامي وتراث الكراهية، وأخيرًا التعريف بموضوع الدراسة، والخوف من
الطاقة الإسلامية الصاعدة وإمكانية تأثيرها في الموازين الدولية، سواء بالنسبة
للغرب أو بالنسبة للمنظمات غير الحكومية أو لدول عدم الانحياز. المبحث الأول
«الإسلام ومدركاته السياسية»، يعرض المدركات السياسية الإسلامية في العصر الحاضر،
وموقفها من التقليد والتجديد، ثم الثورة الإسلامية المعاصرة وعلمانية الدولة؛
فالإسلام ليس فقط دينًا بل ثقافة وحضارة وتاريخًا. البعض ينظر إليه على أنه ضد
التجديد والتحديث، وأن الثورة الإسلامية في إيران حدثٌ غير متوقع واستثناء من
القاعدة، وأن العالم المعاصر يقوم على الفصل بين الدين والدولة. والبعض الآخر يرى
العكس أن الإسلام بطبيعته حركةٌ ثورية، أساسه التجديد، وغايته التحديث. وهو ما
تؤكده شهادة التاريخ، ولم يجمد إلا بفكر الأقليات. وتكَرَّرتْ نفس المواقف في القرن
العشرين، بين من يرى أن الإسلام ليس في حاجةٍ إلى تجديد، ومن يرى العكس أن الإسلام
في حاجةٍ إلى تجديد، ومن يرى أن التغيُّر لا بد أن يأتي من العالم أيضًا وليس من
الإسلام فقط. الاتجاه الأول يميني خالص يعتمد على العاطفة.
٣٩ وبه جناحٌ رافض يُطلَق عليه اليسار الإسلامي، يؤكِّد على العدالة
الاجتماعية والاتجاهات الاشتراكية.
٤٠ والاتجاه الثاني يرى ضرورة تطويع التراث الإسلامي لحضارة القرن العشرين.
٤١ وقد يؤدي إلى الشك في الذات والانبهار بالغرب. والاتجاه الثالث إيجاد
عمليةٍ متبادلة، تجديد إسلامي وتجديد مماثل في حضارة القرن العشرين،
٤٢ وهو الاتجاه الذي له المستقبل.
٤٣
والمبحث الثاني «الإسلامي وصراع القوى الدولية» يضع الظاهرة الإسلامية في الوضع
الدولي الراهن، وكيفية التفاعل بين الاثنين خاصة في لحظة الاستعمار الجديد. وهل
تستطيع الأمة الدخول في هذا المعترك الدولي؟ وما أسباب الضعف الإسلامي؟ وهل هناك
فرقٌ بين الإسلام العربي والإسلام الأفريقي والإسلام الآسيوي بل والإسلام الغربي؟
فإذا كان للإسلام قدراتٌ حقيقية؛ الكثافة السكانية، الامتداد الإقليمي، الحقيقة
العالمية، إلا أن هناك مظاهرَ للضعف الإسلامي مثل التخلُّف الاقتصادي والاجتماعي،
النقص القيادي، غياب فكرٍ إسلامي متكامل، غياب تنظيم دولي ديمقراطي، عدم خروج
المجتمعات الإسلامية إلى الوظيفة الكفاحية.
٤٤
والمبحث الثالث «مستقبل الإسلام في العلاقات الدولية»، يعرض لتفاعُل الإسلام
السياسي بين الداخل والخارج، بين الإسلام والقوى الدولية، وضرورة إعادة البناء
الأيديولوجي وصياغة إسلام القرن الواحد والعشرين، خاصةً فيما يتعلق بالصلة بين
الإسلام والقومية، والإسلام والطائفية، ودور التنظيم الإقليمي ممثلًا في الجامعة
العربية بين الإسلام والقوى الدولية. ويقوم البناء الأيديولوجي على القيم المعاصرة
مثل العدالة في بناء نظام القيم السياسية، ورفض مطلَق التمييز العنصري في التراث
الإسلامي، وتأسيس العلاقة بين المواطن والحاكم على الاتفاق والرضا، ووحدة قواعد
التعامل في النطاق الداخلي والممارسات الخارجية. وما زالت الدوائر الثلاث حول مصر
هي ركيزة العلاقة بين الإسلام والقوى السياسية.
٤٥
وملاحق الكتاب أقرب إلى منهج الدراسة الذي يضع منهاجية التعامل مع الظاهرة
الإسلامية وقواعد التحليل السياسي. ويقسمها في ثلاثة بنود؛ الأول منطق تحليل
الظاهرة الإسلامية، تعدُّد الأبعاد ومنهاجية التعامل الإسلامي، ويصف التقابُل بين
التخلف الفكري بين التقوقُع الديني والتفرنُج الحضاري، ويُبيِّن مستويات تحليل السياسة
الإسلامية، ويُحدِّد المنطلقات الفكرية لتحليل التراث الإسلامي.
والثاني «استراتيجية التعامل الدولي في تقاليد الممارسة الإسلامية»، ويتضمن وصفًا
فكريًّا لهذه الإستراتيجية منذ عقيدة الجهاد حتى العصر العباسي الأول. ويحاول
إخضاعها لتقاليد التحليل العلمي، عن طريق تحديد الإدراك الإسلامي للعالم الخارجي،
ومصادره الفكرية والتوثيقية؛ لإدراك منطق التعامل الدولي والأمن القومي، خاصة إدراك
النخبة مع نظريةٍ نقدية مقارنة.
والثالث «الأمة الإسلامية في وضعها الحالي بين الكم والكيف»، وتقسيمها في مجموعات،
عربية وأفريقية (جنوب الصحراء)، وآسيوية وغربية (أوروبا والولايات المتحدة
الأمريكية)، وكيف يمكن صياغة تحركٍ إسلامي بناءً على السياسات القومية.
ويتم الحديث عن «المنهاجية» وليس «المنهجية»، والثانية أصح؛ فالمنهج هو طريقة
البحث العلمي، في حين أن المنهاج طريقة العيش وأسلوب الحياة
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. المنهج للبحث
النظري والمنهاج للتوجه العملي.
٤٦ كما يستعمل لفظ «المنهج» بمعنى الطريق. ويظهر اللفظ أيضًا في «الصعوبات
المنهاجية وعملية التجديد الفكري للتراث الإسلامي».
٤٧
ويُحال إلى بعض الأصول التراثية مثل ابن أبي الربيع وتاريخ الطبري والكامل لابن الأثير،
٤٨ وتُذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، المصدران الأساسيان
للتشريع؛ القرآن لإثبات التعدُّدية، والحديث لوضع أخلاقيات القتال.
٤٩
(٥) التجديد الفكري للتراث الإسلامي وعملية إحياء الوعي القومي
لم تكن الغاية من دراسة التراث السياسي الإسلامي غايةً علمية محضة، عرض تراث
القدماء، بل استعادته من أجل إحيائه وتجديده، وتوظيفه في إعادة إحياء الوعي السياسي
المعاصر، وهو الهدف من هذه الدراسة الثنائية. والحقيقة أن النصف الأول من العنوان
أدق «التجديد الفكري للتراث الإسلامي»، والعنوان الثاني مقحم «وعملية إحياء الوعي
القومي» لظروف طباعته في سوريا مهد الفكر القومي.
٥٠ كما أن مضمون الكتاب في نقاطه الست كلها في عملية التجديد الفكري
للتراث الإسلامي، ولا شيء فيها يتعلق بعملية الإحياء القومي.
٥١ وشتان ما بين الإسلام والقومية عند الإسلاميين. ربما كان المقصود
محاولات حزب البعث الأخيرة خاصة عند ميشيل عفلق، جعل الإسلام ثقافة العرب، والعرب
حمَلَة الإسلام. والإسلام جزءٌ من التاريخ الثقافي للعرب، أو الثقافة العربية في أزهى
عصورها؛ فالإسلام يُعبِّر عن عبقرية العرب الثقافية «إذا كان محمد كل العرب، فكل العرب
محمد.» ويعود نفس الهَم القومي في مقدمة «سلوك المالك في تدبير الممالك» بعنوان
«الخليفة المعتصم وخصائص السياسة القومية الإسلامية».
٥٢
ويعني «التجديد الفكري للتراث الإسلامي» مجرد إعادة قراءة التراث السياسي
الإسلامي الجديد من منظور العصر، ومعرفة كيف يمكن لهذا المخزون النفسي والثقافي
القديم الدخول في تحدياته. وتتكرر بعض العناوين مثل «الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية»،
٥٣ مرة في أول عنوان ومرة في آخره، مما يدل على ثبات الحدْس واستمرار الرؤية
بل وعلى نمطية التعبيرات.
وفي نفس الوقت الذي يزداد فيه الوافد والأدبيات الغربية هناك إحساسٌ شديد
بالخصوصية الإسلامية، وضرورة تجديدها ورفض الانغلاق والتقليد والتبعية للقدماء، حتى
ولو كانت خصوصيةً سلبية؛ فالحضارة الإسلامية لم تعرف التصويت بمعنى المشاركة كأسلوب
من أساليب الممارسة الديمقراطية، المجالس النيابية بغض النظر عن وظيفتها كتعبيرٍ
نظامي عن الإرادة الشعبية، الضمانات التشريعية أو النظامية لحماية الحرمات الفردية
في مواجهة الإرادة الحاكمة واختفاء مفهوم المعارضة السياسية.
٥٤ والحقيقة أنه من خلال القراءة والتأويل، فإن التصويت هو البيعة والمجالس
النيابية هم أهل الحل والعقد، والضمانات التشريعية لحماية الحريات الشخصية ما
أكثرها، مثل عدم التلصص والتصنت، حتى ولو كانت من الخليفة ذاته، كما هو الحال في
حادثة عمر الشهيرة التي تسلَّق فيها سُور بيت لمعرفة ماذا يجري بداخله. والمعارضة
السياسية ما أكثرها في الحياة السياسية! معارضةٌ علنية مسلحة خارج المدن، وتقوم على
غزو الأسواق والانقضاض عليها من الخارج، وهي معارضة الخوارج، ومعارضةٌ علنية فكرية
غير مسلحة، تُقارع الرأي بالرأي، والحُجة بالحُجة، والبرهان بالبرهان، وهي معارضة
المعتزلة، ومعارضةٌ سرية تحت الأرض، تنتظر الخلاص حتى يحين وقت ظهور الإمام الغائب،
وهي المعارضة الشيعية.
(٦) «سلوك المالك في تدبير الممالك» لابن أبي الربيع
هي رائعته الأولى والأخيرة التي كثيرًا ما يُشيد بها، والتي جعَلَته مفكرًا
إسلاميًّا وباحثًا عربيًّا في تراث الإسلام السياسي، ويظهر هذا الاعتزاز الشديد
بهذا النص الفريد في التصدير.
٥٥
وهي ليست تحقيقًا لمخطوطٍ بل تصويرٌ له، ونشره كما هو ودون مقارنة بين المخطوطة
الأم وباقي النسخ، بل ودون وصف للمخطوط ومكان وجوده، أوله ونهايته، وعدد النسخ
المتوافرة منه كما هو الحال في النشر الحديث. صحيحٌ أن الخط واضح ولكن أصول النشر
معروفة لدى المحققين وفي مراكز تحقيق التراث. وقد سبق من قبلُ تحقيق العشرات من نصوص
تراث الإسلام السياسي منذ «الأحكام السلطانية» للماوردي حتى «بدائع السلك» لابن
الأزرق، بل إن الرسومات التوضيحية تُرِكَت كما هي؛ لذلك جُمِعَت كل الهوامش في مقدمة
الكتاب لصعوبة تذييلها في النص المصوَّر. ويُحال إليه باستمرار في باقي الأعمال على
أنه نموذج علم «التخطيط السياسي».
٥٦
ولا يُوضع النص مع غيره من النصوص إلا مع «رسل الملوك ومن يصلح للسفارة» للحسين بن
محمد و«رشاد الملوك في سداد السلوك» لإبراهيم بن أبي زيد الهندي.
٥٧ وقد كثُرت المقارنات والاحتمالات والافتراضات بين «سلوك المالك» و«تهذيب
الأخلاق» لابن عربي، وشتان ما بين النصَّين؛ الأول من الأخلاق إلى السياسة، والثاني
أخلاق خالصة.
٥٨
وهو نصٌّ عادي مثل غيره من عشرات النصوص المماثلة،
٥٩ وليس أفضل النصوص نظرًا لسيادة النظرة الأخلاقية على التحليل السياسي؛
لذلك لا يمكن تحميل العنوان أكثر ما يحتمل، «سلوك» أي المدرسة السلوكية في العلوم
السياسية خاصة مدرسة فرويد، مع أن اللفظ لا يعني أكثر من حسن السلوك بالمعنى
الأخلاقي، و«تدبير» أي النظرية السياسية مع أن اللفظ لا يعني أكثر من العناية وحسن
التصرُّف. وهو معنًى أخلاقي عام في تدبير النفس وتدبير الشئون العامة؛ فالنص في
الأخلاق السياسية أو في السياسة الأخلاقية، وليس في علم السياسة أو النظرية
السياسية أو الفلسفة السياسية أو الفكر السياسي أو الثقافة السياسية.
ووُضِعَت له مقدمةٌ طويلة تضع النص في عصره، تتكلم عن المؤلف، ابن أبي الربيع،
والخليفة المعتصم أكثر مما تتناول تحليل النص لمعرفة بنيته ومصادره وكيفية تكوينه،
والمقارنات مع نصوصٍ أخرى معاصرة مشابهة، وتطوُّر هذه النصوص حتى آخرها «بدائع السلك
في طبائع الملك» لابن الأزرق؛
٦٠ فتَحْت عنوان «سلوك المالك والتعريف بصاحبه»، تظهر عدة عناوين (ثلاثة عشر
عنوانًا) تدور حول الخليفة المعتصم والإطار التاريخي (خمسة)، والمنهج والموضوع
(ثلاثة)، وتحليل الإطار الفكري ومفاهيم النص (خمسة).
٦١ ويكثر الحديث عن الخليفة وخصائص الخليفة، لدرجة أنها هي التي تحدد
طبيعة العصر؛
٦٢ فهو محدود الثقافة والعلم، عسكري النزعة في سلوكه وسياسة الدولة، فائض
العناية بالأمور العملية، محب للنصيحة وسماع رأي الآخرين، وأخيرًا مقلد وملتزم في
الصراع بين المعتزلة وأهل السنة.
٦٣ والإطار الاجتماعي للعصر تتحدد ملامحه بأن الدولة في عصر الإمبراطورية،
تقوم على مفهوم التقدُّم العمراني، واشتداد الصراع السياسي، وسيادة مفهوم العصبية
والتمتُّع بملذَّات الدنيا، وأخيرًا الانفتاح الفكري.
٦٤
ولم يتحقق شيء من المنهج المقترح، وهو فقه اللغة، اللهم إلا محاولة التعرف على
أهم المفاهيم السائدة في النص، والتحليل اللغوي وتحليل المفاهيم شيئان مختلفان. ولم
يتحقق أيضًا منهج «تحليل المضمون»، الذي يعني «ديناميات التعامل الفكري من خلال
تكرار الألفاظ، وربط المعاني بالنسيج المتكامل للتصور والمدركات الذاتية».
٦٥ فلم يحدث تحليلٌ كمي إحصائي ولا قراءاتٌ كيفية لها، بل مجرد انطباعاتٍ
عامة من النص بغاية التجديد والتطوير؛ فالمنهج أقرب إلى القراءة والتأويل منه إلى
تحليل المضمون، ويقوم على عدة خطوات؛ الأولى وضع النص في إطار العصر لمعرفة كيفية
تصوير النص له. والثانية نقله من العصر الماضي إلى العصر الحاضر لإعادة قراءته، وليس
كتابته، من منظور ثقافة العصر.
٦٦ الأولى قراءةٌ حرفية، والثانية قراءةٌ تأويلية. وربما تأتي خطوةٌ ثالثة
موضوعية في اكتشاف الموضوع المشترك بين القديم والجديد؛ فالخبرة الإنسانية
واحدة.
والنص ما زال يدور في فلك الثقافة اليونانية. صحيحٌ أنه يمكن إعادة قراءته في إطار
الثقافة السياسية الغربية المعاصرة؛ نقلًا للنص من ثقافةٍ قديمة إلى ثقافةٍ جديدة،
ومن لحظةٍ تاريخية إلى لحظةٍ تاريخية أخرى. وفي هذه الحالة تكون قراءة المعاصرين
الذاتية، وليست تفسيرًا موضوعيًّا للنص، الذي سبق النظريات المعاصرة، بل إن فيه
فقرة لمقارنة أفلاطون بأرسطو.
٦٧
فالإطار التاريخي القديم كان يدور في فلك الدولة المدنية، وخروج التراث الإسلامي
السياسي عن هذا الإطار إلى الدولة العالمية، لها شعبٌ قائد هو الشعب العربي، وتضم
شعوبًا متساوية في الحقوق والواجبات، ويحكمها جميعًا مبدأ التسامح من أجل تحقيق
الرفاهية للجميع. مهمة الدولة العالمية تحقيق التقدُّم العمراني، والدولة السياسية هي
الأداة. عليها واجباتٌ أربعة؛ العناية بإدارة شئون الملك، تقوية سلطان الدولة، معرفة
طبقات الناس وأحوالهم وأخلاقهم، والتوجيه العمراني هو الهدف الأقصى للسياسة
القومية. ولا ضير أن يرتبط هذا التطوُّر العام في المجتمع السياسي باكتمال تطورٍ خفي
حول مفهوم الصراع السياسي.
ويظهر الإطار الفكري للنص أيضًا داخل الإطار التاريخي للنص وللعصر؛
٦٨ فقد اهتم العصر بالتقدُّم العمراني وهو مفهومٌ رئيسي في النص. كما أن
الدولة الإسلامية كانت متسعة الأرجاء، متعددة الطوائف، مما ساعد على إنشاء مفهوم
الدولة العالمية.
٦٩
وأخيرًا يأتي «الإطار الفكري للوجود السياسي» للنص بصرف النظر عن إطاره التاريخي.
٧٠ أولًا، لب هذا الإطار مركزية الإنسان وتسخير كل شيء في الكون لصالحه،
وهو تصورٌ قرآني لعلاقة الإنسان بالعالم
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. ثانيًا، المعرفة الإنسانية إما نظرية في المنطق
والطبيعيات والإلهيات، كما هو الحال في قسمة علوم الحكمة النظرية. ثالثًا، القيادة
هي أهم صفة للمالك أي السلطة. رابعًا، وظائف الدولة تأتي بعد القيادة؛ فبناء الدولة
نابعٌ من صفات الحاكم، كما هو الحال عند الفارابي في مدنه.
ووظائف الدولة تقوم على أركانٍ أربعة: الملك والرعية والعدل والتدبير.
٧١ والملك من المالك أو الملك، ولا خلاف بين الاشتقاقَين؛ فالملك هو
المالك، وهو الملك الفاضل، الملك القادر، والملك الحق. وتُمثِّل هذه الوظائف بناءً
سياسيًّا متكاملًا، يُعبِّر عن روح النصوص الإسلامية. هذه الدولة تُحقِّق ذاتية المسلم،
وتنشر العدل بين الناس، وتُنظِّم عملية الجهاد. العدل علاقة الحاكم بالمحكوم، والجهاد
علاقة الدولة بغيرها من الدول.
٧٢ وهذه كلها هي التي تُحدِّد سلوك المالك، وهي خمسة؛ القيادة، السلطة،
العدالة، التدبر، السلوك.
٧٣ وتقوم القيادة على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد
الرعية. ويجمع مفهوم السلطة بين القيادة والتدبير. وهي حقيقةٌ عضوية، تفترض مبدأ
الاختيار، ذات طبيعةٍ دينية، وتقبل المشاركة في الممارسة. أما العدالة فهي قيمةٌ
ونظام في آنٍ واحد، وهي القيمة العليا التي يقوم عليها نظام الدولة. وهي قيمةٌ
واضحة لا لبس فيها. وهي علاقة تربط بين جميع مستويات الوجود السياسي. وهي القيمة
التي بفضلها تستمر الدولة وتنجح في أداء وظائفها؛
٧٤ فالملكُ سلوكٌ وفعلٌ يقوم على الاختيار وعلى القدرة على الارتقاء والوصول
إلى الكمال، وعلى تطويع الفرد وإصلاح ذاته.
٧٥
وقد تخفَى بعض الدلالات حتى في العنوان «سلوك المالك في تدبير الممالك»، وكأن رئيس
الدولة هو مالكها، كما أن الله هو مالك العالم ووارثه؛ فهو أقرب إلى الأخلاق
السياسية أو السياسة الخلقية منه إلى علم السياسة أو النظرية السياسية أو فلسفة
السياسة أو الفكر السياسي. وهو شبيه بالفلسفة السياسية عند كانط في «مشروع السلام
الدائم» لإقامة سلام دائم بين الدول على أساسٍ أخلاقي.
٧٦
يتضمن الكتاب أربعة فصول؛ الأول المقدمة، والثاني في أحكام الأخلاق، والثالث في
أصناف السيرة العقلية وانتظامها، والرابع في أقسام السياسات وأحكامها. الأول،
المقدمة منهجية خالصة في الاستقراء والمعرفة، وعلاقة السببية، والأوصاف ومراتبها،
ومراتب الإنسان ومحورها الاختيار ثم الإرادة والحركة، وأنواع الأفعال وحدود
المسئولية الفردية، ووصف قوى الإنسان مثل الإدراك. والهدفُ من الكتاب كمالُ الإنسان
وسموه بفضائله، والدين أداة لمنع التسلط، والرئاسة واحدة والرئيس واحد مما يوقع في
التناقض؛ لأن منع التسلط مشروطٌ بالتعدُّدية السياسية وتداوُل السلطة، وهو الإنسان
الكامل، والخليفة المعتصم نموذج لذلك الإنسان، وهو طبيعي من فقيه السلطان. وتدعيم
الاستقرار السياسي والأمن والطمأنينة في الداخل والخارج، إنما ينبع من خصائص
القيادة! وتأتي شرعية السلطة والانتماء إلى شجرة الرسالة. والكل إلى رسول الله
منتسب، وكما تُقِر بذلك التجربة الشعرية.
٧٧
والثاني «في أحكام الأخلاق» في عدة محاور؛ الإنسان والأُسرة والمجتمع.
٧٨ والثالث «في سيرة الإنسان مع أصل نوعه» وسلوكه مع الطبقة العليا مثل
الملوك والطبقة السفلى والطبقة المتوسطة، والسلوك مع الإخوة والأصدقاء والأعداء.
٧٩ أما الفصل الرابع والأخير «في أقسام السياسات وأحكامها» فهي الأقرب إلى
موضوع الفقه السياسي بدايةً بالفرد ومبدأ الطاعة، ثم تتحول الأخلاق الفردية إلى
أخلاقٍ اجتماعية وتأسيس المجتمع المدني، ثم تأسيس الدولة، الحكومة والرعية
وسياساتها والفعاليات السياسية وأنواع السياسات، ومنطق الحرب والسلم، وقواعد
التعامُل مع الرعية، والعدل، والتخطيط العمراني، والملك والوزارة والدواوين مثل
الخراج والحِجابة، وحالة الفتنة.
٨٠
(٧) مستقبل الإسلام السياسي
وهو أشبه بالمقال السيال بين علم السياسة وفلسفة السياسة والنظرية السياسية،
والفكر السياسي، والثقافة السياسية. وهو موضوع علم المستقبليات. والكتاب محاولة
لإرساء قواعد قومية لهذا العلم.
٨١
والعلم ما زال في بدايته لأن الموضوع أيضًا ما زال في بدايته؛ فما زالت الأقطاب
الإسلامية في آسيا في دور التكوين. وهناك مفاهيمُ مترسبةٌ في الوجدان الديني الثقافي
تمنع من انطلاق هذا العلم، مثل النظر إلى الإسلام على أنه ضد التحديث والتجديد، وأن
الثورة الإسلامية حدثٌ فجائي غير متوقع، وأن العالم المعاصر يقوم على أساس الفصل
بين الدين والدولة. وقد عرف الإسلام الوحدة المطلقة في نظام القيم، مما يجعل حركته
في التاريخ، لها ماضٍ وحاضر ومستقبل.
والأفكار مكررة من قبلُ في باقي الأعمال «الإسلام والقوى الدولية» و«التجديد
الفكري للتراث الإسلامي»، والتكرار سمة أصحاب الرسالات وحدوسُهم وهمومُهم التي
يحملونها عبر سنوات العمر،
٨٢ ولكن هذه المرة معروضة بوضوحٍ بالغ وبأسلوبٍ سهل بسيط دون تعالُم من
مراجع ومصادر، من الموروث أو الوافد.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام دون تسميتها أقسامًا أو أبوابًا أو فصولًا؛ الأول
«الإسلام السياسي»، والثاني «رصد الواقع الإسلامي»، والثالث «الإسلام السياسي
والتطورات المقبلة»؛ أي الإسلام السياسي بين الماضي والحاضر والمستقبل.
الأول «الإسلام السياسي» ويتضمن صعوبة الفصل بين الإسلام السياسي وغير السياسي،
وتعدُّد نماذج التطبيق الإسلامي، وعدم تقبُّل مبدأ المقارنة المنهاجية نظرًا لوجود
عناصرَ مثالية في النسق الإسلامي، يدور حول مبادئ عشرة؛ الخلافة، وحدة الأمة، الشورى
أسلوب الحكم، تطبيق الشريعة الإسلامية، العدالة كعلاقة بين المواطن والدولة، احترام
الكرامة الفردية، حق التشريع المستقل عن السلطة السياسية، استقلال السلطة القضائية،
الجهاد في سياسة الدولة الخارجية، التزام الدولة بتحقيق الفرد لذاتيته الإسلامية.
وهو أشبه بالفكر الإسلامي في باكستان، من نوع أبي الأعلى المودودي وامتداداته في
مصر عند سيد قطب.
وتقوم عناصر القوة في الرؤية الإسلامية للعالم على عشرة عناصر أيضًا؛ الإسلام
نظامٌ عام شامل يُنظِّم علاقة الإنسان بالإنسان مثل علاقته بالله، الأخلاقية
والاجتماعية والسياسية؛ فهو منهجُ حياةٍ متكاملٌ جوهره العقل، وهو حلقةٌ متصلة مع
الديانات السابقة، وهو ثورةٌ مستمرة وتقدمٌ مطرد حتى بعد انقطاع الوحي وختم الرسالات،
وهو شعور بالانتماء للأمة؛ فهو مستمر من الماضي إلى الحاضر، ينتمي إلى العالم
الثالث نظرًا لوجود العالم الإسلامي فيه. ويُمثِّل أيديولوجية في إطار الأيديولوجيات
المعاصرة، الليبرالية والماركسية والقومية. يقوم على مبدأ العدل كقيمةٍ إنسانية
عامة، ويرتبط بمفهوم الاعتدال والتوسط.
٨٣
وينعى خصوم الإسلام السياسي على الحضارة الإسلامية خمسة أشياء؛ الأول أنها لم
تعرف التصويت أي المشاركة السياسية كأسلوبٍ للممارسة الديمقراطية، ولا المجالس
النيابية كتعبيرٍ عن الإرادة الشعبية ولا الضمانات التشريعية لحماية الحريات
الفردية. والثاني غياب نظريةٍ استراتيجية للتعامل الدولي بالرغم من وجود قواعد الحرب
والسلام. والثالث غياب المؤسسات السياسية في تاريخ الإسلام السياسي في الماضي
بالرغم من «الأحكام السلطانية»، وكل مصنفات التراث السياسي الإسلامي منذ «سلوك
المالك» لابن أبي الربيع حتى «بدائع السلك» لابن الأزرق. والرابع فشل الإسلام
السياسي في تحقيق وحدة الأمة بالرغم من المنظمات الإسلامية الحالية. والخامس غياب
مفهوم شرعية المعارضة السياسية بالرغم من الفرق القديمة والمعارضة العلنية المسلحة
في الخارج، معارضة الخوارج، والمعارضة السرية تحت الأرض انتظارًا لعودة الإمام
الغائب، معارضة الشيعة، والمعارضة العلنية في الداخل، الرأي بالرأي، والحجة بالحجة،
وبالبرهان بالبرهان، معارضة المعتزلة. ويرُدُ المؤلف على هذه الشبهات بإيجاد حُججٍ تنفي
هذا الغياب أو النقص قَدْر الإمكان والاعتراف ببعضها مثل عدم توحيد الأمة وضعف المعارضة.
٨٤
والثاني «رصد الواقع الإسلامي» لمعرفة خصائص الواقع الإسلامي المعاصر. وتتمثل
عناصر قُوَّته في ست خصائص؛ الكثافة السكانية، والامتداد الإقليمي، والعلاقة الجاذبة
لدول العالم الثالث، والحقيقة العالمية، والتعاطف مع حركات
العنف السياسي، والفراغ الأيديولوجي.
وتعود أهمية الكثافة السكانية لوجود الثروة البترولية والمعدنية والإستراتيجية.
والامتداد الإقليمي يجعل المسلمين قادرين على التحكُّم في التدفُّق البشري والمواصلات
الجوية والبحرية، والتحكُّم في الاستقطاب الذي كان موجودًا إبَّان الحرب الباردة.
ودول العالم الثالث في غالبيتها دول العالم الإسلامي في مواجهة الغرب المعتز بأصوله
اليونانية والمسيحية، والرافض لحضارة الإسلام كحضارة توحيد للديانات وللشعوب؛ لذلك
يقف الإسلام العالمي في مواجهة هذه العنصرية الغربية. وحَّد بين شعوب آسيا وأفريقيا.
وهو محور القومية المحلية في الدول ذات الأغلبية الإسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا
وباكستان وجمهوريات آسيا الوسطى وتركيا وإيران والبلاد الأفريقية الإسلامية. وتمارس
الأقليات الإسلامية في الدول ذات الأغلبية غير الإسلامية دورًا نشطًا وبارزًا.
وتُقاوم الاندماج والانصهار في القوتَين العظميَين في عصر الاستقطاب، والآن في أوروبا
وأمريكا. أما حركات العنف فتستنبط أصولها من الجهاد والشهادة في سبيل الحرية والعدل.
٨٥
ومع ذلك في العالم الإسلامي المعاصر عشر نقائص عليه أن يتجاوزها حتى يستطيع
استنفار طاقاته وإمكانياته وهي: التخلف الاقتصادي والاجتماعي، النقص القيادي، توظيف
النظم الأجنبية الحركاتِ الإسلاميةَ لصالحها، التجزئة دون حدٍّ أدنى من الوحدة
الإسلامية، غياب تنظيمٍ دولي ديمقراطي يُعبِّر عن الإرادة الإسلامية كشعوب وليس
كحكومات، عدم احترام التعاليم الإسلامية، تغلغُل المفاهيم الغربية في الثقافة
الإسلامية، انقطاع التراث الإسلامي السياسي القديم مع الواقع المعاصر، غياب بناءٍ
فكري سياسي متكامل قادر على التفاعُل مع العالم المعاصر، عزلة المجتمعات الإسلامية
عن الوظيفة الكفاحية بالرغم من حركات المقاومة والعمليات الاستشهادية في فلسطين
والشيشان وكشمير.
وبالإضافة إلى هذه النقائص التي تمثل ضعف الأمة الإسلامية يقوم الغرب العنصري
بتخطيطٍ واضح يسير في مسالكَ أربعةٍ ضد العالم الإسلامي؛ الأول، الاستئصال للأقليات
الإسلامية عن طريق تحديد النسل وهجرة العقول وإغراء القيادات. والثاني، الإحاطة
بالأغلبية الإسلامية عن طريق تشجيع أعراقٍ إسلامية أخرى لإنشاء دولٍ مستقلة، كما تفعل
فرنسا في تغذية البربرية في المغرب العربي. والثالث، التسلُّل لخلق أقلياتٍ عرقية
وطائفية داخل العالم الإسلامي لتفتيت الأمة، كما كان يُخطَّط للبنان أثناء الحرب
الأهلية، وكما يُخطَّط الآن للعراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية ومصر وباكستان والهند
وماليزيا وإندونيسيا. والرابع، تشويه صورة الإسلام وربطه عضويًّا بالتخلُّف والقسوة
والقمع والعنف والإرهاب، وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل … إلخ.
٨٦
والثالث «الإسلام السياسي والتطورات المقبلة» في ربع القرن القادم (١٩٨٣–٢٠٠٨م)
الذي ولَّى بالفعل، فإلى أي حد يمكن مد السؤال ربع قرنٍ آخر، من عصر الاستقطاب أيام
الحرب الباردة إلى عصر القطب الواحد والعدوان الأمريكي على العراق وتهديد باقي
الدول العربية الإسلامية، إيران وسوريا ولبنان والسعودية والسودان واليمن
ومصر؟
وتبدأ الإجابة بإعطاء أربع ملاحظات؛ الأولى، أن موجات العنف ليست وحدها هي المُعبِّر
عن الثورة والرفض، بل أيضًا محركات الخلاف عند مسلمي أواسط آسيا. والثانية، التمييز
بين المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة والأخرى ذات الأقلية الإسلامية. والثالثة،
الأيديولوجية الإسلامية وإمكانية بلورتها وسط أربع أيديولوجياتٍ قائمة؛ اللينينية
اليسارية، والكونفوشية الماركسية، والكاثوليكية الغربية، والإسلامية الشرقية. وهي
في الحقيقة تصنيفاتٌ غير دقيقة، تُشير إلى روسيا والصين وهما أيديولوجية واحدة بالرغم
من الخلاف في التطبيق بينهما. والكاثوليكية الغربية مثل البروتستانتية والأرثوذكسية
أيضًا منقسمة بين الليبرالية والماركسية. والإسلامية الشرقية موجودة في الغرب
أيضًا، في المغرب العربي على الأقل، وفي قلب أوروبا وأمريكا. وتمييز الأيديولوجية
الإسلامية بأنها تمثل تحولًا من الإسلام العربي إلى الإسلام الآسيوي. وفي آسيا
يتميز المسلمون حيث هم أغلبية عن غير المسلمين حيث هم أقلية. ومع ذلك هناك وحدة فكرٍ
إسلامي عبر الإسلام العربي والآسيوي والأفريقي. والرابعة، عدم الخلط بين الإسلام كقوة
دولية والإسلام كنظامٍ داخلي للمجتمعات الإسلامية.
٨٧
ويتحدَّد مستقبل الإسلام السياسي إذا ما استطاع توفير قيادةٍ روحية وإبداع ثقافةٍ
إسلامية من دول العالم الثالث، ووضعه في الإطار الدولي المعاصر. والظروف مواتية
لوجود فراغ أو صراعٍ أيديولوجي وحضاري، وسيطرة الجهاد السلوكي، والإيمان بالوظيفة
العالمية للإسلام، والتواضُع القيادي، والفضول الحضاري. والمتغيرات داخل العالم
الإسلامي ضرورية وهي أربعة؛ إعادة البناء الأيديولوجي، والفصل بين الإسلام كقومية
والإسلام كدعوة عالمية، وتجاوُز عدم التجانُس الداخلي بين المجتمعات الإسلامية، وفرض
التنظيم الإقليمي.
وتتطلب إعادة البناء الأيديولوجي رصد نسق القيم الإسلامي وتأويله كأخلاقيةٍ
سياسية، وتقنينه للواقع المعاصر. ويحتاج التراث الإسلامي إلى تنقية في موضوعات
المرأة، والحدود، والربا. وللإسلام مفهومٌ خاص للقومية، أن المجتمع القومي يملك
إرادةٌ واحدة، والطاعة لها التزامٌ جماعي أمام الأمة، والأمة وحدةٌ معنوية، والتجانُس
الداخلي يقتضي حل قضية الأقليات داخل المجتمعات الإسلامية. أما التنظيم الإسلامي
فلا يكفيه المؤتمر الإسلامي أو غيره من التنظيمات الحكومية لعدم فاعليتها.
وطريق المستقبل مرهون بأربع قواعد؛ التدرُّج في الدعوة إلى النظام العالمي الجديد،
فرض الاهتمام بالإسلام على القيادات المسئولة، التدرُّج في بناء الدولة الإسلامية،
إدراك خطورة الدعوة إلى الإسلام السياسي وهي ثلاثة؛ الجمود وتقليد الماضي، تعدُّد
الولاءات في الأمة نحو الطائفة والمذهب والعرق، توظيف الإسلام لتحقيق أهدافٍ غير
أهداف العالمية.
٨٨
(٨) خاتمة: من جيل إلى جيل
وفي النهاية قد يشوب المعلوماتِ بعضُ عدم الدقة مثل اعتبار أن شرع من قبلنا من
مصادر الإسلام بعد الكتاب والسنة وهو غير صحيح؛ فبعد الكتاب والسنة يأتي الإجماع
والقياس. وشرع من قبلنا مثل عمل أهل المدينة وقول الصحابي وغيرها من المصادر
المختلف عليها. وشرع من قبلنا هي الديانات السابقة مثل اليهودية والمسيحية وليس
التراث اليوناني.
٨٩ كما يعتبر المؤلف الأسماء الكبرى الخلَّاقة مثل الفارابي وابن سينا
والغزالي وابن رشد وابن خلدون «فقاعاتٍ جانبية» لا تعكس لا الإستراتيجية ولا الأصالة
الفكرية.
٩٠ وهو حكمٌ عام لا يصدُق عليهم. ولكلٍّ منهم رسالةٌ خاصة سواء بالنسبة للوافد
أو للموروث أو لواقع العالم الإسلامي وتطوُّر مجتمعاته في التاريخ.
والملاحق تكرار لنفس المادة التي في الفصول. ويبدو أنها كانت مادة أيضًا تمت
صياغاتها من قبلُ وُضِعَت كملاحقَ حتى لا تتكرر في صُلب الصفحة.
ولا يُشار إلى أحد من المعاصرين الذين اجتهدوا في الميدان من الأساتذة
والمفكرين الإسلاميين.
٩١ ويتم التوقُّف على رواد الحركة الإصلاحية، الأفغاني ومحمد عبده ورشيد
رضا. ولا تُذكر الأحزاب والقوى السياسية في العالم الإسلامي التي تحاول أن تجعل
للإسلام مكانًا على الساحة الدولية في المغرب وتونس والسودان والأردن ولبنان وتركيا
وإندونيسيا وماليزيا. ولا تُذكر أيضًا المؤسسات الإسلامية الأوروبية مثل المجلس
الإسلامي الأوروبي أو الأمريكية مثل المجلس الإسلامي الأمريكي للعلاقات الدولية.
ولا يُحال إلى الجامعات التي أُنشئَت لهذا الغرض مثل الجامعة الإسلامية الدولية في
كوالالمبور بماليزيا. كما لا تُذكر المجلات الإسلامية المتخصصة مثل «إسلامية
المعرفة» في كوالالمبور و«قضايا إسلامية معاصرة» في إيران، بل وبعض الدراسات الهامة
في «السياسة الدولية» في القاهرة.
ونظرًا لأن «الإسلام والقوى الدولية» قد كُتبَت منذ أكثر من عشرين عامًا فقد تجاوز
الواقع الإحصائيات والجداول البيانية في الملاحق من حيث تعدادُ السكان.
٩٢
ونظرًا لأن المنهج السائد أحيانًا هو المنهج السجالي، الدفاع والهجوم، فقد تم
الدفاع عن النظام السعودي، ونفي تهمة الشبهة الأمريكية دفاعًا عن المكتسبات
البترولية للطبقة الحاكمة؛ إذ إنه يتبع سياسة الدبلوماسية الهادئة لصالح الدعوة الإسلامية.
٩٣ فلعل السعودية تستطيع أن تُموِّل مشروعًا لنشر وتحقيق التراث السياسي
الإسلامي، ويصبح المؤلف أحد القائمين به. ومن ناحيةٍ أخرى يتم الهجوم على الإخوان
لشبهة علاقاتهم مع المخابرات الأمريكية منذ أيام عبد الناصر. فلعل المؤلف يجد حظوةً
عند أولى الأمر نظرًا للعداء المشترك بينه وبينهم ضد الإخوان خصوم النظام.
٩٤
ومع ذلك، يظل للمؤلف فضل المبادرة وفتح الآفاق، والتنبيه والإشارة والتذكير.
٩٥ إنها «خارطة الطريق» تحدد معالم المستقبل للتراث الإسلامي السياسي وسط
التراث السياسي الغربي المعاصر. وربما يضيف جيلٌ آخر التراث السياسي الشرقي القديم
والمعاصر من أجل المقارنة أولًا، وتحقيق بعض ميزان التعادُل في المادة العلمية
العامة، دون سيطرة مادة من حضارة على مواد من حضاراتٍ أخرى. والتحدي لهذا التراث
الإسلامي الإنساني هو قدرته بعد قراءة الذات على قراءة العصر في تواضُعٍ جم، ومنهجٍ
علمي دقيق، ورؤيةٍ تاريخية تحققها الأجيال القادمة جيلًا وراء جيل.