ملاحظات
الفصل الأول: أصل الحياة
(١) بصفة خاصة، هذا تفاعل اختزالي، تنتقل فيه الإلكترونات من واهب (الهيدروجين) إلى مستقبِل (الأكسجين)، الذي يحتاج إليها أكثر بكثير ليكوِّن الماء؛ ذلك المنتج النهائي المستقر من منظور الديناميكا الحرارية. وتتضمن جميع التفاعلات الاختزالية عملية نَقْلٍ للإلكترونات من واهب إلى مستقبل؛ ومن الواضح أن جميع صور الحياة، من البكتيريا إلى الإنسان، تعتمد على عمليات نقل للإلكترونات بشكلٍ أو بآخر من أجل الحصول على الطاقة. وهذا ما أكده العالِمُ المجريُّ الحائز جائزة نوبل ألبرت زنت جيورجي؛ حيث قال: «ليست الحياة سوى إلكترون يبحث عن مكان يستقر فيه.»
(٢) هذه المقولة ليست صحيحة تمامًا؛ إذ إن الفوهات ينبعث منها ضوء خافت (يناقَش هذا في الفصل السابع)، وهو شديد العتامة لدرجة أن العين البشرية لا تستطيع أن تلحظه، ولكن قوته تكفي للحثِّ على عملية البناء الضوئي في بعض البكتيريا. ولكن تلك البكتيريا لا تسهم إلا بالقليل في وفرة المنظومة البيئية إذا قُورِنَتْ ببكتيريا الكبريت. ومن المصادفات أن عدم أهمية وجود الحرارة والضوء قد تأكَّد باكتشاف مواقع يتسرَّب منها الماء البارد عند قاع المحيط؛ حيث يُوجَد الكثير من نفس مظاهر الحياة الحيوانية الوافرة التي تُوجَد في تلك الفوهات.
(٣) هناك مشكلات أخرى تشمل درجة الحرارة (يقول البعض إنها تكون شديدة الحرارة لدرجةٍ تَمْنَع وجود الجزيئات العضوية)، والحموضة (أغلب المداخن السوداء تكون شديدة الحموضة لدرجة لا تتيح لها أن تدعم النظرية الكيميائية التي يفترضها فاختزهاوزر، ولم تنجح العمليات التخليقية التي أجراها في مختبره إلا في ظروف قلوية فقط)، والكبريت (فمقداره أكبر مما ينبغي، بما لا يتوافق مع الكيمياء الحيوية الحديثة).
(٤) هناك تساؤل يثير الاهتمام عن العواقب طويلة الأمد الناتجة عن تبريد قلب الكرة الأرضية؛ فمع برودة الغلاف الخارجي للقشرة الأرضية (طبقة الوشاح) سيميل ماء البحر للارتباط بالصخور فيبقى جزءًا من تركيبها، بدلًا من أن يُدفَع بفعل السخونة مجددًا إلى السطح من خلال النشاط البركاني. وربما يؤدي تبريد الكوكب الأرضي إلى استهلاك محيطاته بهذه الكيفية، ولعل هذه العملية قد أسهمت في ضياع المحيطات التي كانت على كوكب المريخ.
(٥) هناك نمطان من الخلايا البدائية الخالية من النوى؛ وهما: البكتيريا، والعتائق. كان السكان الرئيسيون لحقل المدينة المفقودة من العتائق التي تستمد طاقتها من خلال إنتاج غاز الميثان (عملية توليد الميثان). ولدى العتائق طبيعة كيميائية حيوية تختلف كثيرًا عن الخلايا حقيقية النوى المعقدة التي تشكل بنيان النباتات والحيوانات. وإننا نعرف حتى الآن أن العتائق لم يُشتَق منها أي عوامل مَرَضيَّة أو طفيليات معروفة، وإنما كلها من البكتيريا التي تتشارك في طبيعتها الكيميائية الحيوية بقدر أكبر بكثير مع خلاياها العوائل. ربما كانت العتائق شديدة الاختلاف فحسب. وثمة استثناء واحد، هو الشراكة التي بين إحدى العتائق وأحد البكتيريا، التي ربما أدت إلى تكوُّن الخلية حقيقية النواة ذاتها منذ مليارَيْ سنة؛ انظر الفصل الرابع.
(٦) الاسم الكيميائي للخل هو حمض الأسيتيك (حمض الخليك)، ومنه جاءت التسمية «أسيتيل». يرتبط جزيء الأسيتيل ثيوإستر بذرتيه من الكربون بمجموعة كبريت متفاعلة. وعلى مدة عقدين ماضيين ظَلَّ كريستيان دي دوف يركز على الأهمية الأساسية للأسيتيل ثيوإستر في المرحلة المبكرة من عملية النشوء والتطور، وقد بدأ العلماء التجريبيون في أخذ آرائه على محمل الجد.
(٧) لكل من يريد معرفة القصة بكاملها، مع المزيد من المعلومات عن أعجوبة عملية التناضح الكيميائي وأهميتها الكبيرة، يمكنه الرجوع إلى كتابي «القدرة والجنس والانتحار: الميتوكوندريا ومعنى الحياة».
الفصل الثاني: دي إن إيه
(١) مع حدوث الكثير جدًّا من الطفرات الجديدة، قد تتساءل: لماذا لا يحدث لنا جميعًا انفجار تحولي؟ ونفس السؤال يؤرِّق الكثيرين من علماء الأحياء. والإجابة في كلمةٍ واحدة هي «التكاثر الجنسي»، وشرح ذلك تجده في الفصل الخامس.
(٢) هذا الشكل يتعلَّق بتشابه تسلسل الدي إن إيه. وقد حدثت أيضًا تغيُّرات أخرى أكبر، مثل عمليات الحذف والاندماج الكروموسومية منذ حدوث التشعب بين الشمبانزي والبشر؛ مما أعطى تماثلًا جينوميًّا ككلٍّ بنسبة تقارب ٩٥ بالمائة. وبالمقارنة نجد أن الفروق الجينية بين المجتمعات البشرية ضئيلة؛ فنحن البشر متماثلون جينيًّا بنسبة ٩٩٫٩ بالمائة. ويعكس هذا الاختلاف الضئيل حقيقة مرور البشر من «عنق الزجاجة» منذ فترة حديثة نسبيًّا، ربما منذ ١٥٠ ألف سنة مضت، بسببها صار عدد قليل من السكان في القارة الأفريقية هم أصل جميع الأعراق البشرية الحديثة، عن طريق موجات متتابعة من الهجرة من أفريقيا.
(٣) استُبدِلَتْ هنا بقاعدة الثيامين في الدي إن إيه قاعدة مختلفة قليلًا تُسمَّى اليوراسيل في الآر إن إيه. وهذا أحد اختلافين ضئيلين في البنية التركيبية بين الآر إن إيه والدي إن إيه، والاختلاف الآخر هو استعمال سكر الريبوز بدلًا من الريبوز منزوع الأكسجين في الدي إن إيه. وسوف نرى فيما بعد ما يصنعه هذان التفصيلان الكيميائيان الضئيلان من فارق وظيفي كبير.
(٤) كيف إذن تتجنَّب الطبيعةُ هذه المشكلةَ؟ الإجابة بسيطة؛ فهي تبدأ عند بداية الدي إن إيه المرسال وتنتهي عند نهايته، وبدلًا من تراص وحدات الآر إن إيه الناقل وتعلُّقها كالخنازير الصغيرة التي ترضع من حلمات أثداء أمها، فإن العملية تجري آليًّا؛ إذ يتم تلقيم الآر إن إيه المرسال مثل شريط التسجيل الصوتي من خلال ريبوسوم يعمل كقارئ للشريط؛ إذ يقرأ كل كودون بدوره إلى أن يصل إلى النهاية. وبدلًا من أن يُغلق البروتين ككلٍّ حتى نهايته، فإنه يُمده جزءًا جزءًا، إلى أن يتم تحريره حينما يصل الريبوسوم إلى النهاية. ويمكن أن تؤدي عدة ريبوسومات دورها على طول نفس شريط الآر إن إيه المرسال مرة واحدة، وكل واحد منها يبني بروتينًا جديدًا في طريقه.
(٦) من المحتمل أن عملية نقل الحمض الأميني إلى الآر إن إيه تعتمد على تسلسل الآر إن إيه. وقد أظهر مايكل ياروس وزملاؤه بجامعة كولورادو أن جزيئات الآر إن إيه الصغيرة المحتوية على تسلسلات مضادات الكودون المتعددة تربط الحمض الأميني «الصحيح» بقوة ربط تزيد مليون مرة عن الأحماض الأمينية الأخرى.
(٧) إن التجربة المعملية تحتاج للإنزيم أيضًا، وهو يُسمَّى بوليميراز الدي إن إيه. ومن المرجح أن يحتاج الأمر إلى إنزيم لتعزيز عملية التكاثر المتضاعف للآر إن إيه أو الدي إن إيه في الفوهات أيضًا، ولكن لا يُوجَد ما يدفعنا إلى الجزم بأن الإنزيم يجب أن يكون بروتينًا. ومن المفترض أن يفعل إنزيم ريبليكاز الآر إن إيه نفس الشيء، وصار العثور على هذا الإنزيم الهدف الشاغل للكثيرين دون نجاح، وإن كان وجوده يبدو مرجحًا.
(٨) لقد أُخِذَتْ طريقتنا (حقيقية النوى) للتكاثر المتضاعف للدي إن إيه من العتائق، وليست البكتيريا؛ لأسباب سوف نستكشفها في الفصل الرابع.
(٩) قال واطسون وكريك: «لعل من المستحيل بناء هذا التركيب (اللولب المزدوج) بوضع سكر الريبوز محل الريبوز منزوع الأكسجين؛ لأن هذا إذا حدث فستُسبِّب ذرةُ الأكسجين الزائدة تلامُسَ فان در فالز شديدًا.»
الفصل الثالث: عملية البناء الضوئي
(١) تزيد كمية الأكسجين في الغلاف الجوي بحوالي ٥٥٠ مرة عن ثاني أكسيد الكربون، ومن الواضح أن هذا يجعل من السهل زيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون إلى الضعفين أو إلى ثلاثة أضعاف. ولكن مع أن مستويات الأكسجين لم تتغيَّر كثيرًا مطلقًا، فإن ارتفاع درجات الحرارة يُقلِّل قابلية ذوبان الأكسجين في الماء. ولقد تأثرت أعداد الأسماك بالفعل بانخفاض مستويات الأكسجين الذائب في المحيطات. فعلى سبيل المثال، تتفاوت أعداد سمك الإلبوت في بحر الشمال عامًا بعد عام حسب تركيز الأكسجين الذائب؛ فكلما نقص الأكسجين نقصت أعداد السمك.
(٢) لمزيد من المعلومات عن دور الأكسجين في التطور، اقرأ كتابي «الأكسجين: الجزيء الذي صنع العالم».
(٣) إذا أردت معرفة المزيد يسعدني أن أوصي لك بكتاب أوليفر مورتون «التهام الشمس».
(٤) حينما قرأ تي إتش هكسلي كتاب «أصل الأنواع» لداروين قال متعجبًا: «ما أشد غباءنا؛ إذ لم نفكر في هذا من قبل!»
(٧) فعليًّا، هي لا تُسمَّى النظم الضوئية في البكتيريا، وإنما هي الوحدات البنائية الضوئية. إلا أن مراكز التفاعلات البكتيرية تعطي صورة مسبقة للنظم الضوئية النباتية بدقة شديدة في كلٍّ من التركيب والوظيفة لدرجة تجعلني أُصِرُّ على استخدام نفس المصطلح.
(٨) البورفيريا هي بالفعل مجموعة من الأمراض التي تنجم عن تراكم البورفيرينات في الجلد والأعضاء. وأغلب صور البورفيريا حميدة تمامًا، ولكن أحيانًا ما يحدث تنشيط للبورفيرينات المتراكمة بفعل الضوء فتسبب أشد الحروق إزعاجًا. وتكون أسوأ صور المرض، مثل بورفيريا تكوُّن الكريات الحمر المزمنة، شديدة التدمير لدرجة أن يحدث تآكل للأنف والأذنين وتآكل للثة فتبدو الأسنان بارزة كأنياب الحيوان، مع تكوُّن نسيج ندبي ونمو الشعر على الوجه. وقد ربط بعض علماء الكيمياء الحيوية بين هذه الحالات والأساطير الشعبية المتوارثة عن مصاصي الدماء والمذءوبين؛ مما أثار حفيظة الأشخاص المصابين بالأشكال الطفيفة من المرض، الذين يشعرون أن لديهم ما يكفي من تحدي المرض وليسوا في حاجة للمزيد من وصمهم بالعار. وفي واقع الأمر إن أسوأ صور البورفيريا لم نَعُدْ نراها هذه الأيام إلا نادرًا؛ إذ أدَّى اتخاذ الاحتياطات وتحسن العلاجات إلى الحد من الآثار السيئة للمرض. وما هو أكثر إيجابية أن الخصائص الكاوية للبورفيرينات الحساسة للضوء قد استُخدِمَتْ بشكلٍ جيِّد كعلاج للسرطان — يُسمَّى العلاج الديناميكي الضوئي — وفيه يُستعمَل الضوء لتنشيط البورفيرينات الموجهة إلى الورم لتدميره.
(٩) يقول جون ألِن: إن النظامين الضوئيين قد تشعَّبا في سلف للبكتيريا الزرقاء تحت استخدام مختلف، بينما يزعم آخرون أن النظامين الضوئيين تشعَّبا في خطَّيْن مختلفين تمامًا من البكتيريا، وانضمَّ أحدهما إلى الآخر فيما بَعْدُ عن طريق نوع من الالتحام الجيني مكوِّنَيْن هجينًا جينيًّا كان هو نفسه سلف البكتيريا الزرقاء الحديثة. وقد ظهرت مؤخرًا بعض الأدلة التي تُعضِّد وجهة نظر ألِن (مفترضة أن النظامين الضوئيين مرَّا من البكتيريا الزرقاء إلى خطوط أخرى بدلًا من العكس)، ولكن في الوقت الحاضر تُعتبَر الأدلة الجينية غير قاطعة. ومع ذلك، وأيًّا كان الأمر، فلا بد أن النظامين الضوئيين قد أدَّيا وظائفهما بشكلٍ مستقل بادئًا ذي بدء.
(١٠) يقول جيم باربر إن هذه هي بالضبط الطريقة التي يتكوَّن بمقتضاها المركب المطلق للأكسجين اليوم؛ فإذا أُزيل المركب من النظام الضوئي ٢ ووُضِع النظام الضوئي «الخاوي» في محلول يحتوي على أيونات المنجنيز والكالسيوم، ثم سُلِّطت عليه سلسلة من الومضات الضوئية، فإن هذا يمكن أن يُعِيد تشكيل هذا المركب. وتعمل كل ومضة على أكسدة أيون واحد من المنجنيز الذي بعد أكسدته يرتبط بموضعه الصحيح مع المركب. وبعد خمس ومضات أو ست تصير أيونات المنجنيز والكالسيوم كلها في مواضعها، مُعِيدةً تشكيل المركب المطلق للأكسجين بكامله. وبتعبيرٍ آخر، فإن المركب إذا أُعطي السياق الصحيح من البروتين فإنه يكون ذاتي التشكل.
الفصل الرابع: الخلية المعقدة
(١) وقت قراءتك لهذه السطور، قد لا يعني نظام ويندوز إكس بي شيئًا لك أكثر من ويندوز ٢٨٦. فسيكون قد اندثر هو أيضًا واستُبدِل به نظام آخر أكثر تعقيدًا (وإن كان هو الآخر غير مستقر وعرضة للفيروسات).
(٢) وهذا لا يعني أن نقول إنه لا تُوجَد أي مكافئات بكتيرية. فمثلًا يتكون الهيكل الخلويُّ للبكتيريا من البروتينات التي تتضح بجلاء صلتها بمكافئات حقيقية النوى؛ ذلك لأن بنيتهما التركيبية متشابهة لدرجة أنه يمكن المطابقة بينهما مكانيًّا. ولكن حتى في هذه الحالة، فقد تشعَّبَت التسلسلات الجينية لدرجة فقدان كل تطابق. لو حكمنا في الأمر على أساس التسلسل الجيني وحده لاعتبرنا البروتينات الهيكلية الخلوية حقيقية النوى بشكلٍ فريد.
(٣) يؤكد وويس أن شجرة الآر إن إيه الريبوسومي التي افترضها تُعتبَر صحيحة؛ لأن الجين الخاص بالآر إن إيه الريبوسومي الفرعي لا يتطوَّر ببطء وحسب، وإنما لا يمكن مطلقًا تبادله من خلال عملية نقل جيني جانبي؛ إذ يتم توريثه رأسيًّا فحسب، أي من الخلية الأم إلى الخلية الابنة. لكن هذا ليس صحيحًا بالضبط؛ إذ تُوجَد أمثلة للنقل الجانبي لجين الآر إن إيه الريبوسومي بين البكتيريا، مثل بكتيريا السيلان (نيسيريا جونوريا). وأما عن درجة شيوع هذه العملية على مدار الزمن التطوري، فهذا تساؤل آخر، ولا يمكن الإجابة عنه إلا من خلال أشجار «توافقية» أكثر تعقيدًا باستخدام جينات كثيرة.
(٤) هذه نسخة خلوية من ذلك الخلاف الفلسفي القديم عن الهوية: هل نحتفظ بإحساسنا «بالذات» إذا استطعنا استبدال كل أجزاء المخ البشري باستثناء الأجزاء الصغيرة المسئولة عن الذاكرة؟ وإذا أمكن زرع تلك الأجزاء الخاصة بالذكريات في مخ شخص آخر، فهل ستنتقل إليه شخصية الإنسان الواهب؟ والخلية بالتأكيد هي مثل الشخص، مجموع لأجزائها.
(٥) إن عملية التطور، بطبيعة الحال، تفعل كلا الأمرين، ولا تعارض البتة؛ ويتلخص الفارق فيما إذا كانت سرعة التغيير تُقاس على مدى الأجيال، أم الحقب الجيولوجية. وأغلب الطفرات الجينية تكون مدمرة ويتم التخلص منها من قبل الانتقاء الطبيعي، تاركًا كل شيء كما هو، ما لم تؤدِّ التغيرات البيئية (مثل حالات الانقراض الشامل) إلى تغيير الوضع الراهن. وحينئذٍ يمكن أن يكون التغير سريعًا فيما يتعلَّق بالزمن الجيولوجي، ولكنه لا يزال يتحقَّق بفعل نفس العمليات عند مستوى الجينات، ولا يزال بطيئًا فيما يتعلَّق بالتغيُّر من جيل إلى الجيل الذي يليه. ويعتمد التركيز على الكوارث أو على التغيرات الصغيرة بقدرٍ كبير على المزاج الشخصي، وما إذا كان العلماء متحمسين لهذه الفكرة أو تلك.
(٦) تفترض «فرضية الهيدروجين» لبيل مارتن وميكلوس مولر أن العلاقة هي بين أحد العتائق، الذي ينمو معتمدًا على الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، وبين أحد البكتيريا القادر على التنفُّس بالأكسجين أو التخمُّر لإنتاج الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، حسبما تقتضيه الظروف. وهذا النوع من البكتيريا المتنوِّع الأنشطة يفترض أن بإمكانه الإفادة من غاز الميثان المنطلق كنفاية من العتائق. ولكني لن أناقش هذه الفكرة بأكثر من هذا هنا؛ فقد فعلتُ هذا بإسهابٍ أكثر في كتابٍ سابق، عنوانه «القدرة والجنس والانتحار: الميتوكوندريا ومعنى الحياة». وقد أوردت الأفكار التي ناقشتها في الصفحات التالية بتفصيل أكثر في ذلك الكتاب.
(٧) من الناحية التقنية، النسبة بين مساحة السطح والحجم تقل عند زيادة الحجم؛ لأن مساحة السطح تزداد كالمربع (أي بالتربيع) بينما يزداد الحجم كالمكعب (أي بالتكعيب). فزيادة الأبعاد الطولية مرتين تؤدي إلى زيادة مساحة السطح أربعة أضعاف (٢ × ٢ = ٤)، ولكنها تؤدي إلى زيادة الحجم ثمانية أضعاف (٢ × ٢ × ٢ = ٨). ويكون نتاج هذا أن كفاءة الطاقة تتناقص كلما كبرت أحجام البكتيريا؛ إذ يصير الغشاء البكتيري المستعمل في توليد الطاقة أصغر بالمقارنة بحجم الخلية.
(٨) ذكرتُ هذه الحالة في محاضرات لي حول العالم، وما زلتُ أُواجَه بانتقاداتٍ «قاتلة». وأقربها مِنْ قِبَل كافالير سميث، الذي يشير إلى قليل من الخلايا حقيقية النوى التي تمارس البلعمة الخلوية دون الميتوكوندريا في الوقت الحاضر. ولستُ أظن أن وجودها يدحض ما قُلْتُه؛ إذ إن أقوى ضغوط الانتقاء تكون ضد بدائيات النوى التي تتنفَّس من خلال أغشيتها الخارجية. وما إن تنشأ الخلية البلعمية، يكون من المحتمل أن تذوي أو ينقص منها جزء أو أكثر من أجزائها تحت ظروف مختلفة، وهي عملية تطوُّر اختزالي تشيع في الطفيليات. ومن الأسهل بكثير أن تَفْقِد خلية بلعمية كاملة النشوء الميتوكوندريا تحت ظروف معينة، مثل تحوُّلها إلى الحياة الطفيلية، من أن يتطور كائن بدائي النواة إلى خلية بلعمية دون مساعدة من الميتوكوندريا.
الفصل الخامس: التكاثر الجنسي
(١) يقول البعض: إن هذه السيدة هي السيدة باتريك كامبل، أشهر ممثلة إنجليزية سيئة السمعة، التي استوحى منها شو فيما بَعْدُ شخصيةَ إليزا دوليتل في رواية «بيجماليون»، ويقول البعض الآخر إنها رائدة الرقص الحديث ذات الفضائح إيزادورا دنكان. ولكن يُرجَّح أن تكون هذه القصة مختلقة.
(٢) في أوغندا، إحدى الدول الأفريقية القليلة التي تمكَّنَتْ من قلب موازين الإيدز، انخفضت نسبة انتشار فيروس الإيدز من ١٤ بالمائة إلى ٦ بالمائة على مدى عقد واحد، وقد نجم هذا بدرجة كبيرة عن الإعلام العام والتوعية الجيدة. كانت الرسالة بسيطة نظريًّا وعمليًّا كذلك؛ وهي تجنُّب الجنس بدون وقاية. وقد أظهرت إحدى الدراسات أن نجاح تلك الحملة البدائية البسيطة في أوغندا قام على مبادئ ثلاثة هي: العفة، والأمانة، واستخدام الواقي عند الجماع. وكان النجاح في معظمه عائدًا إلى العامل الثالث.
(٣) سلوك سبق أن تنبَّأ به ريتشارد دوكينز في كتابه «الجين الأناني»، ومنذ ذلك الحين تأكدت وجهة نظره الثاقبة.
(٤) لا تتكاثر البكتيريا استنساخيًّا بهذا المفهوم تمامًا؛ لأنها أيضًا تكتسب الدي إن إيه بالنقل الجانبي من مصادر أخرى. وبهذا المعنى تُعتبَر البكتيريا أكثر مرونة بكثير من حقيقيات النوى اللاجنسية. ويمكن إدراك الفارق الذي تصنعه عملية النقل هذه للبكتيريا في الانتشار السريع لمقاومتها للمضادات الحيوية، وهو ما يتحقق عادة من خلال النَّقْل الجانبي للجينات.
(٥) هذه القصة رواها مات ريدلي بموهبته المعهودة في كتابه «الملكة الحمراء» الذي نُشِرَتْ طبعته الأولى عام ١٩٩٣.
(٦) قد تعترض على فكرة أن جهاز المناعة تطوَّر ليفعل ذلك. صحيح أن جهاز المناعة يفعل ذلك، ولكنه في الواقع يعاني من نقطة ضعف لا يمكن إصلاحها إلا من خلال التكاثر الجنسي. فلِكَيْ يمارس جهازُ المناعة عملَه لا بد أن يميِّز بين ما هو «ذاتي» وما هو «دخيل». فإذا ظلت البروتينات التي تحدِّد ما هو «ذاتي» كما هي جيلًا بعد جيل، فإن كل ما يجب أن يفعله أيُّ كائن طفيلي لكي يتهرب من جهاز المناعة هو أن يخفي نفسه داخل بروتينات تبدو مثل البروتينات «الذاتية» للعائل؛ فيعيش حياته داخل جسمه دون مقاومة. وهذا ما يحدث لأي مجتمعات استنساخية لديها جهاز مناعي. والتكاثر الجنسي وحده (أو حدوث طفرات جينية بمعدلات عالية جدًّا في مواطن مهمة محددة) يمكنه أن يُغَيِّر إدراك الجهاز المناعي للذات في كل جيل.
(٨) هاتان المقولتان لا تقولان شيئًا عن هوية خلية العائل أو طبيعة الاتحاد التكافلي بين الخلايا، وهما وجهان مسببان للخلاف في وجهات النظر. ولا يهم في هذا السيناريو، ما إذا كانت خلية العائل لديها نواة أو جدار خلوي أو تعيش معيشة بلعمية. ومن ثم، ففي حين أن أصل الخلية حقيقية النواة مثير للجدل من أوجه كثيرة، فإن الأفكار المحددة هنا مستقلة عن أي نظرية بعينها.
الفصل السادس: الحركة
(١) كان ويليام كرون واحدًا من الأعضاء المؤسسين للجمعية الملكية ولا يزال اسمه يتردد في المحاضرة التي تُلقى باسمه — المحاضرة الكرونية — وهي المحاضرة الأولى الرئيسية بهذه الجمعية عن العلوم البيولوجية.
(٢) اشتهر عن تشرشل أنه كتب يقول: «سيكون التاريخ رحيمًا بي؛ لأنني أنوي أن أكتبه.» وقد حازت كتاباته الرائعة بحق على جائزة نوبل في الأدب عن عام ١٩٥٣، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي تفوز فيها كتابات تاريخية بجائزة نوبل في الأدب.
(٣) قام كلٌّ من بيرتس وكندرو أولًا بتحديد تركيب الجلوبين العضلي (الميوجلوبين) في حوت العنبر؛ مما يبدو اختيارًا غريبًا. وكان ما دفعهما إلى ذلك هو أن الميوجلوبين يتبلور في بِرَك الدماء المتراكمة على أسطح مراكب صائدي الحيتان (ويُوجَد بتركيزات أعلى كثيرًا في عضلات الثدييات الغواصة مثل الحيتان). ويُعَدُّ ميله هذا للتبلور ذا أهمية؛ إذ يحتاج التصوير البلوري إلى وجود شكل من البلورات، أو تركيب متكرر على الأقل.
(٤) تتكوَّن العضلات المختلفة من خليط من ألياف مختلفة، وتعتمد الألياف سريعة الانقباض على التنفس اللاهوائي كمصدر للقوة، وهو سريع ولكنه غير فعَّال؛ فهذه الألياف تنقبض بسرعة (بالميوسينات السريعة) ولكنها تتعب بسهولة. وتقل حاجتها إلى وجود شبكات غنية من الشعيرات الدموية، وإلى الميتوكوندريا، أو الميوجلوبين — التي هي لوازم التنفس الهوائي — وهذا يكسبها لونًا يغلب عليه البياض، وهو ما يتصف به اللحم الأبيض. بينما تُوجَد الألياف بطيئة الانقباض أساسًا في اللحم الأحمر، وتعتمد على التنفس الهوائي (بالميوسينات الأكثر بطئًا). وهي تنقبض ببطء أكثر ولكنها لا تتعب بسهولة.
(٥) هذا تبسيط طفيف حقًّا؛ إذ تكون التسلسلات الجينية متطابقة بنسبة ٨٠ بالمائة، ولكن تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين يكون متطابقًا بنسبة ٩٥ بالمائة. وهذا ممكن لأن هناك طرقًا عدة من تشفير نفس الحمض الأميني (انظر الفصل الثاني). ويعكس التناقض وجود طفرات منتظمة في التسلسل الجيني، علاوة على عملية انتقاء قوي من أجل الحفاظ على التسلسل البروتيني الأصلي. وتكون التغيرات الوحيدة تقريبًا في التسلسل الجيني التي تسمح بها عملية الانتقاء هي تلك التي لا تغير هوية الأحماض الأمينية في السلسلة. وهذه مجرد علامة صغيرة أخرى على الصورة التي تؤدي بها عملية الانتقاء مهمتها.
(٦) بالطبع إن هذه التغيرات حدثت بالفعل على نحوٍ معكوس؛ فصارت العوامل المحركة العملية في نهاية الأمر هي الشعيرات السميكة في العضلة. ولعل هذا يفسر السبب في أن كل جزيء ميوسين لا يزال لديه رأسان في العضلة، وإن كانا لا يتسقان معًا، على ما يبدو، بشكل مفيد.
(٧) يمكن أن تتحرك البكتيريا أيضًا باستخدام سوط مميز، يختلف كثيرًا عن أي شيء معروف في الخلايا حقيقية النوى. وحركته أساسًا تشبه حركة بريمة صلبة، تدور حول محولها بمحرك بروتيني. وكثيرًا ما يُوصَف السوط البكتيري كمثال للتعقيد غير القابل للتبسيط، ولكن هذا الرأي نُوقِش بتوسع في مواضع أخرى مما يجعلني لا أنوي التعرض له هنا. فإذا أردت المزيد عن السوط البكتيري فيُرجى منك قراءة كتاب «السوط مفرودًا» لكين ميلر، وهو عالم بارز في الكيمياء الحيوية، وشديد الانتقاد لما تُسمَّى حركة التصميم الذكي، وكاثوليكي ملتزم. وهو لا يرى تعارضًا بين الاعتقاد أن التفاصيل الجزيئية للحياة يفسرها التطور وبين الإيمان بالله. ومع ذلك فإنه ينبذ مؤيدي حركة التصميم معتبرًا إياهم في حالة فشل مزدوج؛ «فالعلم يرفضهم لأنهم لا يتواءمون مع الحقائق، كما فشلوا دينيًّا لأنهم لا يذكرون الرب إلا قليلًا.»
(٩) ثمة مثال أقل فائدة يُسمَّى الاعتلال المخي الإسفنجي، والمعروف بمرض جنون البقر. وهو مرض معد تنتقل عدواه البريونات، وهذه بدورها بروتينات تعمل كجسيمات معدية تؤدي إلى تغيير تركيب البروتينات الملاصقة لها. وتتبلمر البروتينات المتغيرة إلى لييفات طويلة، وبتعبير آخر فهي تكون نوعًا من الهيكل الخلوي. وبالرغم من افتراض أن تلك البروتينات ضارة، فإن هناك بحثًا حديثًا يفيد أن بروتينات شبيهة بالبريونات ربما تلعب دورًا في تكوين الذاكرة طويلة الأمد عند التشابكات العصبية بالمخ.
الفصل السابع: الإبصار
(١) من الحوادث التي نالت بعض الشهرة في مدرستي القديمة في كامبريدج تلك الخاصة بطالب شارك في سباق للزوارق بين كامبريدج وأكسفورد. كانت مهمته توجيه دفة القارب، فحدث أن وجَّهَ قارب كامبريدج بحيث اتَّجَه مباشرةً نحو مركب ضخم واصطدم به، فغرق القارب الصغير بطاقمه عديم الحيلة. وقد برَّرَ فيما بعد فعلته بقوله إن المركب الضخم كانت صورته عند النقطة العمياء لشبكية عينيه فلم يَرَه.
(٢) «أستطيع أن أرى أنه إن لم يكن ساخطًا حقًّا، فإنه كان بعيدًا عن أن يكون راضيًا حقًّا.»
(٣) هل تعلم، على سبيل المثال، أن معظم الثدييات (بخلاف الرئيسيات) ليست لأعينها القدرة على التكيُّف، بمعنى أن تضبط بؤرة الصورة على شبكية العين من المسافة البعيدة إلى المسافة القريبة؟ فهذه مزية إضافية.
(٤) انقرضت قواقع الأمونيت مع الديناصورات تاركة أصدافها الخارجية الحلزونية الرائعة وراءها كحفريات في صخور العصر الجوراسي. وعيِّنتي المفضلة مطمورة في صخرة ناتئة من الهضاب الشاطئية البحرية قرب بلدة سوانادج بمنطقة دورست البريطانية، وهي عسيرة المنال لمتسلق للجبال مُسِنٍّ مثلي.
(٦) مثالي المفضل في هذا الصدد هو تلك الدودة المفلطحة الطفيلية الضئيلة المسماة إنتوبديلا سولياي، التي لها عدسة عينية مكوَّنة من الميتوكوندريا الملتحمة معًا. تعمل الميتوكوندريا في حالتها العادية «محطات لتوليد الطاقة» في الخلايا المعقدة؛ إذ تولِّد كل الطاقة التي نحتاجها لنعيش، وبالتأكيد ليست لديها أي خصائص بصرية خاصة. وتُوجَد بالفعل ديدان مفلطحة أخرى لديها عدسات عينية مكوَّنة من مجموعات من الميتوكوندريا التي لم تلتحم حتى معًا. ويبدو أن ذلك التجمع من المكونات الخلوية العادية يكسر الضوء بدرجة تكفي لأداء بعض الفائدة للكائن.
(٧) كان فريق معامل بِل مهتمًّا بالفعل بالإنتاج التجاري لمجموعات من العدسات الدقيقة لتُستخدَم في أجهزة إلكترونية وبصرية. وبدلًا من أن يُجرِّب هذا الفريق تجهيز تلك المجموعات بأشعة الليزر، وهو الأسلوب التكنولوجي العادي المنتشر والمتصف بالعيوب، فإنهم اتبعوا دروس علم الأحياء؛ فاستخدموا أسلوب المحاكاة البيولوجية وتركوا الطبيعة تؤدِّي مهمتها بدلًا منهم. وقد نُشِرَ تقرير عن نجاحهم هذا بمجلة «ساينس» في عام ٢٠٠٣.
(٨) كان العالم الراحل السير إريك دنتون رئيس معمل جمعية علم الأحياء البحرية في بلايموث قد أدلى يومًا بتصريح مختلف قال فيه: «حينما تحصل على نتيجة جيِّدة، فاحصل على وجبة غداء جيِّدة قبل أن تكرِّر التجربة. فحينئذٍ ستكون على الأقل قد تناولت غداءً جيِّدًا.»
(٩) الشخص دقيق الملاحظة، أو من يعلم تلك المعلومة مسبقًا، سيلاحظ أن المخاريط المختصة باللون الأحمر تمتص الضوء بحد أقصى عند ٥٦٤ نانومترًا، وهذا لا يدخل ضمن نطاق اللون الأحمر من الطيف، لكنه يقع في الجزء الأخضر المصفر منه. واللون الأحمر بكل ما يتميَّز به من حيوية هو شيء مختلق من نسج الخيال؛ فنحن «نرى» اللون الأحمر حينما يتولَّى المخ تمثيل المعلومات الصادرة من مخروطين مختلفين، فلا تأتي إشارة مطلقًا من مخروط اللون الأخضر، بينما تأتي إشارة متضائلة من مخروط اللون الأخضر المصفر. وهذا يظهر لك قوة التخيل. وفي المرة القادمة حين تتجادل مع زوجتك عما إذا كانت درجتان غير متماثلتين من اللون الأحمر تتوافقان أم لا، فذكِّرها بأنه لا يُوجَد جواب واحد صحيح، وأنها مخطئة بالتأكيد.
(١٠) كما يعرف كل مصوِّرِي المشاهير (الباباراتزي)، كلما كبرت العدسة في الحجم كانت الرؤية أفضل، ونفس الشيء ينطبق على العيون. ومن الواضح أن العكس صحيح أيضًا، وهو ما يضع حدًّا أدنى لمدى صغر العدسة يقترب من حجم إحدى سطيحات العين المركبة للحشرة. ولا تتعلق المشكلة بحجم العدسة فحسب، ولكن بالطول الموجي للضوء أيضًا؛ فالأطوال الموجية الأقصر تعطي وضوحًا أفضل للصورة. ولعل هذا يُفسِّر السبب في أن الحشرات حتى يومنا هذا، كما كانت الفقاريات الأولى (الصغيرة) في الزمن الماضي، ترى الأشياء بالأشعة فوق البنفسجية؛ إذ تعطي تلك الأشعةُ وضوحًا أفضل للصورة في العيون الصغيرة. أما نحن البشر فلا نحتاج إلى هذا لأن لدينا عدسة عينية أكبر؛ ومن ثم يمكننا تحمُّل التغاضي عن ذلك الجزء المُضِرِّ من الطيف. ومما يثير الاهتمام أن قدرة الحشرات على الرؤية في وجود الأشعة فوق البنفسجية يعني أن بإمكانها إدراك أنماط وألوان تُوجَد في الزهور التي نراها نحن بيضاء فحسب. وهذا يساعدنا في فهم السبب في وجود الكثير من الأزهار البيضاء في هذا العالم؛ فهي تُعتبَر بالنسبة للحشرات التي تُلقِّحها مُزوَّدة بأنماط وألوان مختلفة لا ندركها نحن البشر.
(١١) الرودوبسينات البكتيرية شائعة. ولها بنية تركيبية مشابهة لكلٍّ من الرودوبسينات الطحلبية والحيوانية، وتسلسلاتها الجينية قريبة من الرودوبسينات الطحلبية. وتستخدم البكتيريا تلك المواد كعوامل حساسة للضوء، وأيضًا للحصول على شكل من البناء الضوئي.
الفصل الثامن: الدم الحار
(١) كان كليمنت فرويد حفيدًا لسيجموند فرويد، وسياسيًّا ليبراليًّا لفترة ما. وحينما كان في رحلة رسمية إلى الصين، دُهِشَ لمَّا وَجَدَ أن زميله الأقل شأنًا مُنِح جناحًا أكبر. وفسَّرَ له المسئولون هذا بقولهم إنه حفيد ونستون تشرشل، وعلَّق فرويد على هذا فيما بَعْدُ قائلًا: «إنها المرة الوحيدة التي كان جَدُّ أحدهم أعظم شأنًا من جدِّي.»
(٢) هذا ليس صحيحًا تمامًا. فالحيوانات الأكبر حجمًا تنتج حرارة أقل، لكل رطل من أوزانها، من الحيوانات الصغيرة، أي إن معدل الأيض يقل كلما زاد الحجم. وهناك خلاف بشأن أسباب ذلك ولن أخوض فيها هنا. ومن يرغب في الحصول على شرح وافٍ فعليه أن يرجع إلى كتابي «القدرة والجنس والانتحار: الميتوكوندريا ومعنى الحياة». يكفي أن نقول إن الحيوانات الكبيرة تحتفظ بالفعل في أجسامها بالحرارة أفضل من الحيوانات الصغيرة، حتى وإن كانت تُولِّد حرارة أقل لكل رطل.
(٣) مع الاعتذار لأسطورة أغاني البلوز هاولين وولف الذي غنَّى قائلًا: «بعض الناس خُلِقوا على هذا الشكل، والبعض الآخر على ذاك. ولا ينبغي أن يَصِفني أحدٌ بأنني سمين؛ لأنني خُلِقْتُ بما يناسب حياة الراحة، وليس الجري السريع.»
(٤) إذا كنت تجد صعوبة في فهم كيفية انتقاء كل هذه الصفات الوراثية دفعة واحدة؛ فانظر حولك فحسب. فبعض الناس تجدهم متسمين بأجساد رياضية أفضل من غيرهم؛ فنسبة ضئيلة من الأشخاص يتمتَّعون بقوام أوليمبي. وقد لا ترغب في تجربة الأمر على نفسك، ولكن من شأن برنامج لتزويج ذوي الجسم الرياضي بغيرهم من ذوي الجسم الرياضي، وانتقاء أنسبهم وأفضلهم فقط أن ينجح بشكل يكاد يكون مؤكدًا في إنتاج رياضيين متفوقين. وقد أُجْرِيَتْ تجارب من هذا النوع على الفئران لدراسة الداء السكري، وتم تحسين «القدرة الهوائية» بنسبة ٣٥٠ بالمائة على مدى عشرة أجيال (مما قلَّلَ من خطورة المرض السكري). كما عاشت الفئران ستة شهور أطول من المعتاد؛ وهي زيادة عمرية قدرها نحو ٢٠ بالمائة.
(٥) ثمة احتمال يثير الاهتمام، طرحه بقوة كلٌّ من بول إلس وتوني هلبرت من جامعة ولونجونج في أستراليا، يتعلَّق بالتركيب الدهني للأغشية الخلوية؛ إذ يتطلب معدَّلُ الأيض السريع المرورَ السريعَ للمواد عَبْر تلك الأغشية، وهذا بصفة عامة يحتاج إلى وجود نسبة عالية نسبيًّا من الأحماض الدهنية متعددة اللاتشبُّع التي تُسبِّب سلاسلها الملتوية قَدْرًا أكبر من السيولة، وهو الفارق بين الشحوم الجامدة والزيوت السائلة. فإذا تم انتقاء بعض الحيوانات لما تتمتع به من قدرة هوائية عالية، فإنها تَمِيل لأن يكون لديها المزيد من الأحماض الدهنية متعددة اللاتشبُّع، وقد يحثُّ وجود هذه الأحماض في الأعضاء الحشوية على رفع معدل الأيض عند الراحة أيضًا. عيب هذا الأمر هو وجوب تغيير تركيب الأحماض الدهنية للأغشية الخلوية في الأنسجة المختلفة، وهذا يحدث بالتأكيد إلى حدٍّ ما. ومن ثم فأنا غير مقتنع بأنه يحل المشكلة تمامًا، كما أنه لا يفسر السبب في وجوب وجود المزيد من الميتوكوندريا في الأعضاء الحشوية لذوات الدم الحار. وهذا يوحي بأنه قد تَمَّ انتقاء صفة ارتفاع معدل الأيض قصدًا في هذه الأعضاء، وليس الأمر متعلقًا بتركيب دهني غير مقصود.
(٦) ساعد اكتشاف حفرية لأحد الليستروصورات في القارة القطبية الجنوبية على يد العالم إدوين كولبرت في عام ١٩٦٩ على تأكيد نظرية كانت موضع خلاف في ذلك الحين عن الصفائح التكتونية؛ إذ تَمَّ بالفعل العثور على الليستروصورات في جنوب أفريقيا والصين والهند. فكان الاعتقاد أن القارة القطبية الجنوبية كانت عائمة في نفس تلك المناطق أكثر معقولية من أن الليستروصورات الثقيلة سبحت مسافات طويلة.
(٧) تقول الفكرة الأساسية التي أدلى بها ريتشارد بروم بجامعة ييل إن الريش أنبوبي أساسًا. وهذه الأنابيب في الريش مهمة من الناحية الجنينية؛ لأن لها محاور عدة: لأعلى وأسفل، وبالعرض، وللداخل والخارج. وهذه المحاور تُولِّد تدرجات كيميائية حيوية أثناء تغلغل الجزيئات الإشارية فيها. وهذه التدرجات بدورها تنشط جينات مختلفة على طول هذه المحاور. تلك الجينات التي تتحكم في التطور الجنيني والأجسام الحيوانية أيضًا يعتبرها علماء الأجنة في صورة «أنابيب» أساسًا.
(٨) باعتباري مدخنًا سابقًا ومتسلقًا للجبال في ماضي حياتي، فأنا ألهث طلبًا للهواء في مختلف المناطق المرتفعة عن سطح البحر، ويمكنني أن أتخيَّل ما يمكن أن تشعر به الطيور إذا كانت تدخن وهي تطير؛ فلا بد أن يكون تأثير التنفس المستمر للدخان، ومعدل سحب الهواء المرتفع مسببًا للدوار.
(٩) يوحي حجم جماجم الثيروبودات بأن كانت لديها مخاخ كبيرة، ولعل هذا أُتِيحَ لها بفضل ارتفاع معدل الأيض لديها. إلا أن كبر حجم المخ أمر يصعب القطع به؛ لأن الكثير من الزواحف لا تمتلئ جماجمها بالمخاخ. وتوحي الفحوص التي أُجْرِيَتْ على الجماجم الثيروبودية بأن الأوعية الدموية المغذية للمخ كانت ملاصقة لعظم الجمجمة؛ مما يشير إلى أن المخ كان يملأ تجويف الجمجمة، ولكن هذا ليس قطعيًّا تمامًا. وهناك طرق أخرى لتكوين مخ كبير تقل في تكلفتها عن جعل الحيوان من ذوات الدم الحار؛ فلا يُوجَد إذن ارتباط ضروري.
(١٠) الدليل على كل ذلك محفوظ في الصخور على صورة «توقيعات متناظرة». ولمن يرغب في معرفة المزيد، أُوصِي بقراءة مقالة كتبتُها لمجلة «نيتشر» عن هذا الموضوع بعنوان «قراءة كتاب الموت»، (يوليو، ٢٠٠٧).
الفصل التاسع: الوعي
(١) يقول مايكل جاتسانيجا في كتابه «العقل الاجتماعي»، إن أستاذه روجر سبيري كان قد عاد من مؤتمر بالفاتيكان؛ وصرَّح بأن البابا قال له ما معناه: «يمكن للعلماء أن يمتلكوا المخ، أما الكنيسة فلديها العقل.»
(٢) إنني أستخدم كلمات مُعَبِّرة عن فكرة الازدواجية — مفترضًا وجود تفرقة بين العقل والمخ — وإن كنت لا أظن أن هناك فارقًا بينهما، وهذا للتأكيد على أن هذه الازدواجية محفورة بعمق في اللغة، وأيضًا لأن هذا يعكس الصعوبة التفسيرية. فإذا كان العقل والمخ شيئًا واحدًا، فلا بد أن نُفسِّر السبب في أنهما لا يبدوان هكذا. ولا يكفي أن نقول: «إن الأمر مجرد وهم!» فهذا لا يصلح. فما هو إذن الأساس الجزيئي للوهم؟
(٣) خَسِرَ كمبيوتر «الأزرق العميق» الأصلي سلسلةً من المباريات أمام جاري كاسباروف في عام ١٩٩٦، وإن كان قد فاز في مباراة واحدة. ويُوجَد طراز حديث، يُعرَف بصفة غير رسمية باسم «الأزرق الأكثر عمقًا» هزم كاسباروف في سلسلة أخرى عام ١٩٩٧، ولكن قال كاسباروف إنه كان يجد «ذكاءً وإبداعًا عميقين» في نقلات الكمبيوتر، واتهم شركة آي بي إم بالغش. من ناحيةٍ أخرى، إذا كان بإمكان عدد من مبرمجي الكمبيوتر أن يتغلَّبوا على أحد عباقرة الشطرنج، فإن تداعيات ذلك تُعَدُّ سيئة بنفس الدرجة؛ فهذا يعني أن هناك لجنة من العباقرة هي مَنْ هزمَتْه.
(٤) لكل من يهتم بمعرفة المزيد عن هذه الحالات الغريبة، أوصيه بقراءة كتب في إس راما شاندران الشيقة، والمتعمقة في علمَي الأعصاب والتطور.
(٥) تُعتبَر التذبذبات تغيُّرات إيقاعية في النشاط الكهربائي للخلايا العصبية المفردة، وإذا عملت معًا في تناغم أمكن التقاطها بجهاز تخطيط كهربية الدماغ. وحينما تطلق خلية عصبية نبضاتها يحدث لها إزالة استقطاب، بمعنى أنه يحدث تبدُّد جزئي لشحنة الغشاء الخلوي، مع اندفاع أيونات مثل الصوديوم والكالسيوم إلى داخل الخلية. وإذا كان إطلاق النبضات العصبية عشوائيًّا ومتقطعًا، فمن الصعب التقاط أي شيء بجهاز تخطيط كهربية الدماغ، ولكن إذا حدثت إزالة استقطاب لأعداد كبيرة من الخلايا العصبية في المخ ثم أُعِيدَ استقطابها في موجات إيقاعية، فإن تأثيرات ذلك يمكن التقاطها كموجات مخية بجهاز تخطيط كهربية الدماغ. وتعني الذبذبات في نطاق ٤٠ هرتز أن الكثير من الخلايا العصبية تطلق نبضاتها في تزامن كل ٢٥ ملي ثانية تقريبًا.
(٦) التشابكات العصبية هي فجوات ملتحمة دقيقة بين الخلايا العصبية، وهي تقطع — فيزيائيًّا — مرور النبضة العصبية (بمعنى أنها تعوق عملية انطلاق النبضات). تنطلق عوامل كيميائية تُسمَّى النواقل العصبية حينما تصل نبضة عصبية إلى أحد تلك التشابكات. وهي تنتشر عَبْرَ الفجوة ثم ترتبط بمستقبلات على الخلية العصبية التالية للتشابك، فإما أن تنشِّط تلك الخلية وإما أن تثبطها، أو تعمل على إحداث تغيرات أطول أمدًا تقوِّي التشابكات أو تُضْعِفها. وتدخل عملية تكوين تشابكات جديدة أو تغيير التشابكات الموجودة في تشكيل الذكريات وفي التعلم، وإن كان الكثير من الآليات التفصيلية لذلك الأمر لم يُكتشَف بَعْدُ.
(٧) هناك حتى أدلة وجيهة على أن الوعي يتكوَّن من «صور ثابتة» بطريقة تشبه الفيلم السينمائي بدرجة كبيرة. وهذه الصور يمكن أن تتفاوت في مدتها من بضع عشرات من الملي ثانية إلى مائة ملي ثانية أو أكثر. كما أن تقصير مُدَد هذه الصور أو إطالتها — تحت تأثير الانفعالات، على سبيل المثال — قد يكون السبب في أن الزمن يبدو كأنه أبطأ أو أسرع تحت ظروف مختلفة. وهكذا يمكن أن يبطئ الزمن لخمسة أضعاف إذا تكوَّنت الصور كل ٢٠ ملي ثانية بدلًا من كل ١٠٠ ملي ثانية. فيمكننا حينئذٍ أن نرى يدًا تمسك سكينًا؛ تتحرك بالسرعة البطيئة.
(٨) المادة المظلمة هي مادة الوعي، وتُوصَف بأنها مثل «الغبار» الذي في ثلاثية الروائي فيليب بولمان «مواده المظلمة»، وأفترضُ هذا تقديرًا مني لما يُسمَّى «الغبار الذهني» لويليام جيمس.
الفصل العاشر: الموت
(١) من الناحية التقنية، لدى البكتيريا والنباتات إنزيمات تُسمَّى «الميتاكاسباز»، وليست إنزيمات كاسباز الحقيقية، إلا أن تلك الميتاكاسبازات هي السابقات التطورية للكاسبازات التي تُوجَد في الحيوانات وتخدم أغراضًا مماثلة. وللتبسيط أقول إنني سأسميها جميعًا باسم إنزيمات الكاسباز. ولمزيد من التفاصيل اقرأ مقالي بمجلة «نيتشر» بعنوان «منشأ الموت»، (مايو، ٢٠٠٨).
(٢) التسلسلات الإنزيمية مهمة في الخلايا؛ لأنها تضخم الإشارة الصغيرة منذ بدايتها. وتخيَّلْ أن يتمَّ تنشيط أحد الإنزيمات، وهذا بدوره ينشِّط عشرة إنزيمات مستهدفة، وكلٌّ منها ينشِّط عشرة إنزيمات أخرى. فيكون لدينا الآن مائة من الإنزيمات النشطة. فإذا نشط كلٌّ منها عشرة إنزيمات مستهدفة يكون لدينا ألف، ثم عشرة آلاف … وهكذا. ويستغرق كل تسلسل ست خطوات فقط من أجل تنشيط مليون إنزيم من إنزيمات الإعدام التي تمزق الخلية تمزيقًا.
(٣) كان ثمة أسباب أخرى، بالطبع، تضع حقيقيات النوى على الطريق إلى التعدد الخلوي — بينما لم تتطور البكتيريا لما بعد مرحلة المستعمرات — ولا سيما ميل الخلايا حقيقية النوى إلى النمو لأحجام أكبر وتكديس الجينات. وتُعَدُّ الأسباب التي وراء هذا التطور موضوعًا رئيسيًّا في كتابي: «القدرة والجنس والانتحار: الميتوكوندريا ومعنى الحياة».
(٥) أطلق كيركوود على نظريته اسم «نظرية الجسد القابل للتخلص منه»، معيدًا للأذهان الغرض من مشروع فايسمان؛ إذ تكون الخلايا الجسدية خاضعة للخلايا الجنسية، حسبما يقول كيركوود وفايسمان في تناغم، ويُعتبَر السالمون الباسيفيكي حالة نموذجية لهذه النظرية.
(٦) قد تكون هناك بعض المثالب غير المتوقعة. على سبيل المثال هناك رجل أخضع نفسه لنظام غذائي صارم من تقييد السعرات، ثم انكسرت ساقه إثر سقطة طفيفة. كان مصابًا بحالة خطيرة من هشاشة العظام، وقد حذَّرَه طبيبه، بحق، من هذا النظام الغذائي.
(٩) «الساعات العمرية» الأخرى المفترضة، مثل طول التيلوميرات (وهي الأغطية الطرفية الموجودة عند نهاية الكروموسومات، والتي تَقْصُر مع كل انقسام للخلية) لا ترتبط مع الأعمار في الأنواع المختلفة من الكائنات. ومع أن الارتباط لا يثبت وجود السببية، فإنها نقطة ابتداء جيدة لهذا الموضوع. وعدم وجود ارتباط يثبت عدم وجود السببية إلى حدٍّ ما. وسواء أكانت التيلوميرات هذه تحمي من السرطان عن طريق إعاقة الانقسام الخلوي اللامحدود أم لا، فهذا موضع نقاش، ولكنها بالتأكيد لا تحدِّد العمر.
(١١) ترجع فكرة التحويل الحالِّ للسكر إلى العالم أوتو فاربورج في عقد الأربعينيات من القرن العشرين، ولكن تم إثباتها مؤخرًا. ونقول كقاعدة عامة إن الخلايا التي يمكنها الاستغناء في نشاطها عن الميتوكوندريا هي وحدها التي تنقلب إلى خلايا سرطانية. وهذا ينطبق بالدرجة الأكبر على الخلايا الجذعية، التي لا تعتمد إلا قليلًا على الميتوكوندريا وغالبًا ما تنخرط في عملية تكوين الأورام. وكأمثلة أخرى هناك خلايا الجلد، وخلايا الرئتين، وخلايا الدم البيضاء. وكلها مستقلة نسبيًّا عن الميتوكوندريا، وترتبط جميعًا بنشوء الأورام.
(١٢) على حدِّ قول جوستافو بارخا، فإن الحقيقة القائلة إن عملية التطور يمكن أن تطيل العمر أضعافًا مضاعفة تعني ضمنًا أن إطالة عمر الإنسان على نحوٍ كبير مهمة قابلة للتنفيذ، كل ما في الأمر أنها تحتاج جهدًا شديدًا.