أصل الحياة
خلف الليلُ النهارَ في تعاقب سلس. كان النهار يدوم في ذلك الوقت على كوكب الأرض قرابة خمس ساعات أو ست. كان الكوكب يدور في جنون حول محوره، وكان القمر يلوح في السماء ثقيلًا مخيفًا، أقرب بكثير مما هو عليه اليوم؛ ومن ثم بدا أكبر حجمًا. نادرًا ما بدَتِ النجوم ساطعة؛ لأن الغلاف الجوي كان مليئًا بالدخان والضباب والغبار، لكن كثيرًا ما شقَّتْ سماءَ الليل شهبٌ خلابةٌ. أما الشمس، حين كانت تُرى من بين كل هذا الضباب والدخان الثقيل أحمر اللون، فكانت شاحبة وضعيفة وتنقصها القوة التي تتمتع بها الآن وهي في ريعانها. لم يكن بمقدور البشر العيش وقتها، لا لأن أعيننا كانت ستجحظ وتنفجر كما قد يحدث على كوكب المريخ، وإنما لأن رئاتنا لم تكن لتجد أي أكسجين. كنا سنصارع لدقيقة في يأس، ثم نموت اختناقًا.
لم يكن اسم «الأرض» ملائمًا، بل كان من الأفضل أن يُسمَّى الكوكب باسم كوكب «البِحَار». وحتى في يومنا هذا، تُغطِّي المحيطاتُ ثلثَيْ كوكبنا، وتهيمن على المنظر من الفضاء. في الماضي البعيد، كانت الأرض تتكوَّن بالكامل تقريبًا من الماء، خلا بضع جزر بركانية صغيرة الحجم تبرز من بين الأمواج الهائجة. وتحت أسر ذلك القمر القريب، كانت قوى المد جبارة، تصل على الأرجح إلى مئات الأقدام. كان تأثير الكويكبات والمذنبات أقل مما كان عليه الحال في وقت سابق، حين تسبب أكبر الكويكبات في انفصال القمر عن الأرض، لكن حتى في هذه الفترة من الهدوء النسبي كثيرًا ما كانت المحيطات تغلي وتضطرب. كما كانت تغلي من الأسفل أيضًا؛ إذ كانت القشرة الأرضية تمتلئ بالشقوق، وكانت الصخور المنصهرة تتفجر وتلتوي، وجعلت البراكين للعالم السفلي وجودًا دائمًا على السطح. كان عالمًا يخلو من التوازن، عالمًا من النشاط الذي لا يهدأ، كوكبًا وليدًا محمومًا.
كان هذا هو العالم الذي ظهرت عليه الحياة منذ ٣٨٠٠ مليون عام خلَتْ، ربما بفعل الاضطراب المتواصل للكوكب ذاته. نحن نعلم هذا بفضل قليل من الصخور الدقيقة التي أتتنا من ذلك العهد الغابر واجتازت دهورًا طويلةً من الاضطراب حتى وقتنا هذا. داخل هذه الصخور تقبع أصغر آثار الكربون، التي تحمل في تركيبها الذري طابع الحياة الذي لا يمكن لأحد أن يخطئه. قد يُعَدُّ ذلك دليلًا واهيًا على زعم هائل، ولا يُوجَد إجماع بين الخبراء على هذا الأمر. لكن إذا اجتزنا بضع حِقَبٍ زمنية فسنَجِد أنه بحلول ٣٤٠٠ مليون عام مضَتْ، تصير علامات الحياة جلية أيما جلاء. كان العالم يجيش بالبكتيريا وقتها؛ بكتيريا خلفت علاماتها ليس فقط على صورة آثار من الكربون، بل أيضًا داخل الحفريات الدقيقة ذات الأشكال المتنوعة وداخل صروح الحياة البكتيرية؛ ونقصد بهذا الرقائق الكلسية الطحلبية التي قد يصل ارتفاعها إلى المتر. هيمنت البكتيريا على كوكبنا لنحو ٢٥٠٠ مليون عام أخرى إلى أن ظهرت أولى الكائنات المعقدة في سجل الحفريات. يقول البعض إن البكتيريا لا تزال المهيمنة؛ إذ إن بريق النباتات والحيوانات لا يضاهي البكتيريا في حجم الكتلة الحيوية.
ما السمات التي وُجِدَتْ في الأرض المبكرة وبثت الحياة للمرة الأولى في العناصر غير العضوية؟ أنحن متفردون، أم نادرون للغاية، أم أن كوكبنا ليس أكثر من أحد مليارات الكواكب الحاضنة للحياة والمتناثرة في أرجاء الكون؟ وفق المبدأ الإنساني لا يهم هذا الأمر؛ فإذا كانت احتمالية وجود الحياة في الكون تبلغ واحدًا من مليون مليار، فثمة فرصة إذن أن تظهر الحياة على كوكب واحد في مكان ما من كل مليون مليار كوكب. ولأننا وجدنا أنفسنا على كوكب يستضيف الحياة، فمن البديهي أننا نعيش على كوكب من الكواكب الصالحة للحياة. وبغض النظر عن الندرة الشديدة لفرص وجود الحياة، ففي الكون غير المحدود تُوجَد دومًا احتمالية ظهور الحياة على أحد الكواكب، ومن المؤكد أننا نعيش على أحد هذه الكواكب التي ظهرت عليها الحياة.
إذا كنت ممن لا يقنعون كثيرًا بالإحصائيات — شأني — فإليك إجابة أخرى غير مُرْضِيةٍ طَرَحَها عددٌ من كبار العلماء؛ على غرار فريد هويل وبعده فرانسيس كريك. تقضي هذه الإجابة بأن الحياة بدأت في مكان آخر ثم انتقلت إلى كوكبنا، إما بمحض الصدفة أو بتدبير من كائنات فضائية ذكية. ربما هذا ما حدث بالفعل — فمَنْ ذا الذي سيخاطر بالقول إن هذا لم يحدث؟! — بيد أن العلماء غير مستعدين للخوض في مثل هذا النوع من التفكير، وهم مُحِقُّون في ذلك. الأمر أشبه بالزعم بأن العلم لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال قبل حتى أن ننظر في إمكانية ما إذا كان بمقدور العلم الإجابة عنه أم لا. إن السبب المعتاد وراء البحث عن الخلاص في مكان آخر من الكون هو الزمن؛ فلم يَمْضِ زمنٌ كافٍ على الأرض ليتطور ذلك التعقيد المذهل للحياة.
لكن من يقول بهذا؟ يخرج علينا العالم الفائز بجائزة نوبل كريستيان دي دوف، الذي لا يقل مكانةً عن سابقيه، برأي صادم تمامًا يقضي بأن حتمية الكيمياء تعني وجوب ظهور الحياة بسرعة. ما يعنيه في الأساس هو أن التفاعلات الكيميائية يجب أن تَحْدُث بسرعة وإلا فلن تَحْدُث على الإطلاق، وإذا احتاج أي تفاعل لآلاف السنين حتى يكتمل، فمن المرجح إذن أن تتبدد كل المواد الداخلة في التفاعل أو تتحلل في غضون هذه الفترة، ما لم تستكمله تفاعلات أخرى أسرع. لا ريب أن أصل الحياة ما هو إلا عملية كيميائية، ومن ثم يسري عليها نفس المنطق؛ أن التفاعل الأصلي للحياة لا بد أنه حَدَثَ على نحو تلقائي وسريع. وهكذا يرى دي دوف أنه من الأكثر ترجيحًا بكثير أن تتطور الحياة في غضون عشرة آلاف عام عن أن تستغرق عشرة مليارات عام كي تتطور.
لا نستطيع مطلقًا أن نعرف كيف بدأت الحياة على الأرض. وحتى إذا نجحنا في إنتاج بكتيريا أو حشرات تزحف خارجةً من مواد كيميائية بأنبوب اختبار، فلن نعرف أبدًا ما إذا كانت الحياة على كوكبنا قد بدأت بهذه الصورة تحديدًا، بل كل ما نعرفه أن هذا التفاعل بعينه يمكنه إنتاج الحياة وأنه قد يكون أكثر ترجيحًا عما كنا نظن من قبل. لكن العلم ليس معنيًّا بدراسة الاستثناءات، بل القواعد، وينبغي للقواعد الحاكمة لظهور الحياة على كوكبنا أن تسري في أرجاء الكون. إن السعي وراء أصل الحياة ليس هدفه إعادة بناء ما حدث في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الخميس قبل الميلاد ﺑ ٣٨٥١ مليون عام، بل الهدف هو معرفة القواعد العامة التي يجب أن تحكم ظهور الحياة في أي مكان في الكون، خاصة على كوكبنا — المثال الوحيد الذي نعرفه. ومع أن القصة التي سنرسمها قد لا تكون صحيحة في كل تفاصيلها، فإنها حسبما أعتقد مقبولة على نحوٍ واسعٍ. أريد أن أُبيِّن أنَّ أصل الحياة ليس ذلك اللغز العظيم الذي يجري تصويره أحيانًا، وأن الحياة تظهر، ربما بشكل حتمي، من خضم الحِراك الدائم لكوكبنا.
•••
بالطبع ليس العلم معنيًّا بالقواعد وحسب، بل هو معني بالتجارب التي تُفسِّر هذه القواعد أيضًا. تبدأ قصتنا في عام ١٩٥٣، ذلك العام الأسطوري الذي شَهِدَ تتويج الملكة إليزابيث الثانية والوصول لقمة جبل إفرست ووفاة ستالين وتفسير بنية الدي إن إيه وأخيرًا وليس آخرًا، تجربة ميلر-يوري؛ البداية الأيقونية الشهيرة للأبحاث المعنية بأصل الحياة. كان ستانلي ميلر في ذلك الوقت طالب دكتوراه طموحًا يعمل بمختبر العالم الفائز بجائزة نوبل، هارولد يوري، وقد تُوفِّي في عام ٢٠٠٧ وهو يشعر على الأرجح بلمحة من المرارة، وكان لا يزال يدافع عن الآراء التي حمل عبئها بشجاعة على مدار نصف قرن. لكن بغض النظر عن مصير أفكار ميلر الخاصة، فإن إرثه الحقيقي كان ذلك المجال الذي أرسى قواعده على تجاربه الاستثنائية، التي لا تزال نتائجها قادرة على إثارة ذهولنا حتى اليوم.
ملأ ميلر دورقًا زجاجيًّا كبيرًا بالماء وخليط من الغازات؛ وذلك لمحاكاة ما اعتبره التركيب البدائي للغلاف الجوي للأرض. وقد اختار الغازات التي كان من المعتقد (من واقع التحليل الطيفي) أنها تُؤلِّف الغلاف الجوي للمشتري، وهناك افتراض منطقي بأنها كانت متوافرة بكثرة في الغلاف الجوي للأرض في أيامها المبكرة كذلك، وهي تحديدًا النشادر والميثان والهيدروجين. مَرَّرَ ميلر عَبْرَ هذا الخليط شراراتٍ كهربيةً لمحاكاة البرق، ثم انتظر. وبعد بضعة أيام، وبضعة أسابيع، وبضعة أشهر، أخذ عينات من الماء وحلَّلَها كي يُحدِّد ماهية الناتج بالضبط. وقد فاقت النتائج أقصى تصوُّراته جموحًا.
لقد نجح في تحضير حساء بدائي؛ ذلك الخليط شبه الأسطوري من الجزيئات العضوية، الذي يحوي عددًا قليلًا من الأحماض الأمينية، التي تُعَدُّ الوحدات البنائية للبروتينات وأكثر الجزيئات التي ترمز للحياة على الأرجح، وتحديدًا في ذلك الوقت، قبل أن يشتهر الدي إن إيه. والأدهى من ذلك أن الأحماض الأمينية التي تكوَّنَتْ بالفعل في حساء ميلر كانت مطابقة تقريبًا لتلك التي تستخدمها الحياة، وليست مجرد تراكيب عشوائية من مخزون التراكيب المتاحة. بعبارة أخرى، لقد عرَّض ميلر خليطًا بسيطًا من الغازات للتيار الكهربي، وتكوَّنَتِ الوحدات البنائية الأساسية للحياة داخل هذا الخليط. الأمر يبدو وكأنها كانت تنتظر أن تظهر إلى الوجود. وعلى حين غرة بدا أصل الحياة أمرًا بسيطًا. ولا بد أن الفكرة مَسَّتْ وترًا مهمًّا في روح ذلك العصر، خاصة وأنها ظهرت على غلاف مجلة «تايم»، وهو مستوى من الشهرة لم تَحْظَ به أي تجربة علمية من قبل قط.
لكن بمرور الوقت فقدَتْ فكرةُ الحساء البدائي جاذبيتَها. وقد فقدَتْ قبولَها تمامًا حين أوضحت التحاليل التي أُجْرِيَتْ على الصخور القديمة أن الأرض لم تكن غنية قط بالميثان والنشادر والهيدروجين، على الأقل ليس بعد القصف الكويكبي الهائل الذي تسبب في انفصال القمر عنها. شَقَّ هذا القصفُ الهائلُ غلافَ كوكبنا الجوي للمرة الأولى وأطاح به إلى الفضاء، كما أن عمليات المحاكاة الأكثر واقعية للغلاف الجوي البدائي كانت مخيبة للآمال. جَرِّبْ تمرير تيار كهربي عَبْرَ خليط من ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين مع مستويات بسيطة من الميثان والغازات الأخرى، وستتساقط الجزيئات العضوية المتكونة في تعاسة، ولن يتكوَّن أي حمض أميني تقريبًا. وهكذا صارت فكرة الحساء البدائي أمرًا مثيرًا للفضول لا أكثر، وإن كان بيانًا مُعَبِّرًا عن «إمكانية» تكوين الجزيئات العضوية بواسطة وسائل بسيطة في المختبر.
عادت فكرة الحساء البدائي لدائرة الضوء مجددًا مع اكتشاف العديد من الجزيئات العضوية في الفضاء، وخاصة على المذنبات والكويكبات. بدا أن بعض هذه المذنبات والكويكبات يتألف بالكامل من الثلج الملوَّث بالغبار ومن الجزيئات العضوية، ويحمل نطاقًا مشابهًا على نحو مدهش للأحماض الأمينية التي تكوَّنَتْ داخل الغازات المكهربة. وبالإضافة إلى حقيقة وجودها التي تدعو للدهشة في حد ذاتها، بدا الأمر وكأن هناك شيئًا مميزًا على نحو خاص في جزيئات الحياة؛ مجموعة فرعية صغيرة من المكتبة الشاسعة لكل الجزيئات العضوية الممكنة. الآن اتخذ القصف الكويكبي الهائل معنى جديدًا بالكامل؛ إذ لم يَعُدْ هذا القصف مدمرًا، بل صار المصدر الأساسي لكل المياه والجزيئات العضوية التي تحتاجها الحياة كي تُوجَد. لم يتكوَّن الحساء على كوكب الأرض، بل جاءنا من الفضاء الخارجي. ومع أن أغلب الجزيئات العضوية ستتفكك عند الاصطدام، فإن الحسابات تشير إلى أن عددًا كافيًا منها أمكنه النجاة بحيث يتراكم مُكَوِّنًا الحساء.
حتى إذا لم تحظَ فكرة غرس بذور الحياة من الفضاء الخارجي بتأييد عالم الكونيات فريد هويل، فإن الفكرة مع ذلك تربط أصل الحياة، أو على الأقل أصل الحساء البدائي، بنسيج الكون ذاته. لم تَعُد الحياة مجرد استثناء وحيد، بل صارت ثابتًا كونيًّا جليلًا حتميًّا، شأنه شأن الجاذبية. ولا حاجة لنا بالقول بأن البيولوجيين الفلكيين أحبوا هذه الفكرة، لكن لا يزال العديد منهم يؤيدها؛ فبالإضافة إلى كونها فكرة مرضية، فإنها تمدهم أيضًا بالأمان الوظيفي.
حَظِيَتْ فكرة الحساء بقبول مماثل من جانب علم الوراثة الجزيئي، وخاصة فكرة أن الحياة قائمة على المتضاعفات، وتحديدًا الجينات، المؤلفة من الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (الدي إن إيه) أو الحمض النووي الريبوزي (الآر إن إيه)، التي تنسخ نفسها بدقة وتنتقل إلى الجيل التالي (المزيد عن هذا في الفصل التالي). من المؤكد أن الانتقاء الطبيعي لا يمكنه العمل دون وجود نوع من المتضاعفات، ومن الصحيح أيضًا أن الحياة لا يمكنها أن تُطوِّر التعقيد إلا من خلال الانتقاء الطبيعي. وبهذا يكون أصل الحياة من منظور العديد من علماء البيولوجيا الجزيئية هو أصل عملية النسخ نفسها. تتوافق فكرة الحساء مع هذه الفكرة على نحو جيد؛ لأنها من الظاهر توفر كل المقومات التي تحتاجها المتضاعفات للنمو والتطور. ففي الحساء الغليظ الملائم، تأخذ المتضاعفات ما تحتاجه، وتكون مركبات كيميائية (بوليمرات) أكثر تعقيدًا، وفي النهاية تستغل الجزيئات الأخرى لتكوين بنًى مُعقَّدة على غرار البروتينات والخلايا. وفق هذه النظرة، ما الحساء سوى بحر للأبجدية يموج بالحروف التي تنتظر أن يصطادها الانتقاء الطبيعي ويُحوِّلها إلى نصوص ذات معنى.
مع هذا، تُعَدُّ فكرة الحساء البدائي فكرة خبيثة. ليست خبيثة لأنها خاطئة بالضرورة، فمن المحتمل أنه وُجِدَ حساء بدائي بالفعل في وقتٍ ما من الأوقات، وإن كان أخف بكثير مما زُعِم. بل هي خبيثة لأن فكرة الحساء حوَّلَتْ الانتباه بعيدًا عن الأسس الحقيقية للحياة لعقود. خُذْ وعاءً كبيرًا معقمًا من الحساء (أو من زبد الفول السوداني) واتركه لملايين السنين. هل ستظهر الحياة؟ كلا. لِمَ لا؟ لأن محتويات الوعاء إذا تُرِكَتْ لحالها فلن تفعل شيئًا سوى التحلل. وإذا عرضت المحتويات لشحنة كهربية على نحو متكرر، فلن يتحسن الوضع كثيرًا، بل إن الحساء سيتحلل بشكل أسرع. من شأن شحنات البرق الضخمة المتقطعة أن تتسبب في تجمع بعض الجزيئات معًا لتكوِّن كتلًا من الجزيئات، لكن الأكثر ترجيحًا أن تتسبب في تمزيقها إربًا مجددًا. هل بإمكانها تخليق مجموعة من المتضاعفات المعقدة داخل الحساء؟ أشك في هذا. فكما تقول كلمات أغنية «مسافر من أركنسو»: «لا يمكنك الوصول إلى هناك من هنا.» الأمر ليس منطقيًّا من منظور الديناميكا الحرارية وحسب، تمامًا مثلما يستحيل إعادة جثمان ميت إلى الحياة عن طريق تعريضه لشحنة كهربية على نحو متكرر.
إن مصطلح الديناميكا الحرارية هو أحد تلك المصطلحات التي من المحبذ لأي كتاب يزعم مخاطبة غير المتخصصين أن يتجنَّبها، لكنه سيصير أكثر قبولًا إذا نظرنا إليه على ما هو عليه بالفعل: علم «الرغبة». إن وجود الذرات والجسيمات تهيمن عليه أمور مثل «التجاذب» و«التنافر» و«الرغبات» و«تفريغ الشحنات» لدرجة أنه من المستحيل تقريبًا الكتابة عن الكيمياء دون منحها قدرًا ما من التجسيم الشهواني. فالجزيئات «ترغب» في فقدان الإلكترونات أو اكتسابها، وهي تجتذب الشحنات المعاكسة، وتنفر من الشحنات المشابهة، وتتعايش مع الجزيئات الأخرى ذات الطبيعة المشابهة. يحدث التفاعل الكيميائي على نحو تلقائي إذا رغب كل الشركاء من الجزيئات في المشاركة، أو يمكن إجبارها على التفاعل قهرًا بواسطة قوة أكبر. بالطبع بعض الجزيئات ترغب بالفعل في التفاعل لكنها تعجز عن التغلب على خجلها الفطري، وقد يتسبب قَدْرٌ يسيرٌ من المغازلة في إطلاق دفق هائل من الشهوة؛ تفريغًا للطاقة الصافية. لكن ربما من الأفضل أن أتوقَّف عند هذا الحد.
وهذه هي مشكلة الحساء البدائي؛ أنه فاتر من منظور الديناميكا الحرارية. فلا شيء في هذا الحساء تحديدًا يرغب في التفاعل، على الأقل ليس على النحو الذي يرغب الهيدروجين والأكسجين في التفاعل وفقه. لا وجود لاختلال التوازن، لا وجود لقوة محركة تدفع الحياة إلى أعلى وأعلى وأعلى نحو قمة تل الطاقة شديد الانحدار حتى نصل إلى نقطة تكون البوليمرات المعقدة بحق، على غرار البروتينات والدهنيات وعديدات السكاريد وعلى الأخص الدي إن إيه والآر إن إيه. إن فكرة أن تكون المتضاعفات على غرار الآر إن إيه هي أولى شظايا الحياة، وأنها تسبق أي قوة محركة ديناميكية حرارية، هي حسب كلمات مايك راسل «أشبه بنزع المحرك من السيارة ثم توقُّع أن يقوم الكمبيوتر المعني بالتنظيم بقيادة السيارة.» لكن إذا لم يأتِ المحرك من الحساء، فمن أين أتى إذن؟
•••
جاءنا أول دلائل الإجابة عن هذا السؤال في أوائل سبعينيات القرن العشرين، حين رُصِدَتْ تيارات صاعدة من الماء الدافئ على امتداد أخدود جالاباجوس، على مقربة من جزر جالاباجوس. وعلى نحو ملائم، فإن الجزر التي أوحى تنوُّع الكائنات بها إلى داروين بأصل الأنواع قدمت لنا الآن دليلًا مهمًّا على أصل الحياة نفسها.
لم يحدث الكثير لبضع سنوات. ثم في عام ١٩٧٧، بعد هبوط نيل أرمسترونج على القمر بثماني سنوات، هبطت الغواصة البحرية الأمريكية «ألفين» في الأخدود، باحثة عن الفوهات الحرمائية التي يُفترَض أن تيارات الماء الدافئ انبعثت منها، وبالفعل وجدت هذه الفوهات. لكن مع أن وجود هذه الفوهات لم يكن بالأمر المفاجئ، جاء تنوع الحياة الشديد في الأعماق المظلمة لهذا الأخدود بمنزلة صدمة حقيقية. فهناك كانت تُوجَد الديدان الأنبوبية العملاقة، التي يصل طول بعضها إلى ثماني أقدام، بجوار المحار الصدفي وبلح البحر الذي يصل في حجمه إلى أطباق الطعام. وإذا لم يكن وجود هذه الكائنات العملاقة في أعماق المحيط بالأمر غير المعتاد — فقط فكِّرْ في شكل الحبار العملاق — فإن وفرتها في حد ذاتها كانت أمرًا مذهلًا. كانت كثافة هذه الكائنات في الفوهات البحرية العميقة تضاهي كثافة الكائنات في الغابات المطيرة أو الشعاب المرجانية، مع أن مصدر طاقتها الوحيد هو انبعاثات الفوهات الحرمائية وليس الشمس.
بدا هذا العالم العجيب المنعزل أشبه بالجحيم، وكان يمتلئ بالمداخن السوداء التي ينبعث منها الكبريت وغاز كبريتيد الهيدروجين ذو الرائحة الخبيثة. بالقطع لم يكن إلا لعقل مضطرب كعقل الرسام هيرونيموس بوش أن يتخيَّل وجود الديدان الأنبوبية العملاقة، التي تفتقر إلى الفم والشرج على حد سواء وأسراب الجمبري عديم الأعين، وهي تحتشد بأعداد لا حصر لها على الحواف الموجودة أسفل الفوهات، في مشهد مذهل غريب وكأنها جماعات من الجراد. ليس الأمر أن الحياة في تلك الفوهات تتحمل هذه الظروف القاسية وحسب، بل إنها لا يمكنها الوجود من الأساس بدونها؛ إذ إنها تزدهر بفضل هذه الظروف. لكن كيف؟
تكمن الإجابة في انعدام التوازن. بينما تتخلل مياه البحر الصهارة الموجودة أسفل المداخن السوداء، تسخن بشدة وتتشبع بالأملاح المعدنية والغازات — أبرزها كبريتيد الهيدروجين — تستطيع بكتيريا الكبريت استخلاص الهيدروجين من هذا الخليط وربطه بثاني أكسيد الكربون لتكوين المواد العضوية. هذا التفاعل هو أساس الحياة في الفوهات، وهو يسمح للبكتيريا بالازدهار دون وجود مصدر مباشر لضوء الشمس، بَيْدَ أنَّ تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مادة عضوية يحتاج إلى طاقة، وللحصول على هذه الطاقة تحتاج بكتيريا الكبريت إلى الأكسجين. إن تفاعل كبريتيد الهيدروجين مع الأكسجين يطلق الطاقة التي يقوم عليها عالم الفوهات، وهو مكافئ لتفاعل الهيدروجين مع الأكسجين الذي تقوم عليه حياتنا. تكون نواتج التفاعل هي الماء، شأن التفاعل الآخر، لكن يُضاف إليه عنصر الكبريت؛ الكبريت الخالص الذي يمنح بكتيريا الكبريت اسمها.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى لفتت ظروفُ عالم الفوهات انتباهَ العلماء المعنيين بدراسة أصل الحياة، وأولهم عالم المحيطات جون باروس، من جامعة واشنطن بسياتل. حلَّتِ الفوهاتُ على الفور العديدَ من مشكلات الحساء، وأبرزها مشكلة الديناميكا الحرارية؛ إذ إن المداخن السوداء أبعد ما تكون عن التوازن. مع هذا، كان التفاعل بين الفوهات والمحيط مختلفًا في الأرض المبكرة؛ إذ لم يكن هناك سوى القليل من الأكسجين في ذلك الوقت، أو كان منعدمًا تمامًا. ولم تكن القوة المحركة وقتها هي التفاعل بين كبريتيد الهيدروجين والأكسجين، كما هو الحال في عملية التنفس الحديثة. على أي حال، فإن التنفس على المستوى الخلوي عملية معقدة لا بد أنها استغرقت وقتًا طويلًا كي تتطور، ومن المستحيل أن تكون هي مصدر الطاقة البدائي. بدلًا من ذلك؛ وفقًا لجونتر فاختزهاوزر — الكيميائي الألماني المعارض دائمًا ومحامي براءات الاختراع — فإن المحرك الأوَّلي للحياة كان تفاعُلَ كبريتيد الهيدروجين مع الحديد لتكوين بيريت الحديد، وهو تفاعل يتم تلقائيًّا، ويطلق قدرًا يسيرًا من الطاقة يمكن اقتناصه، على الأقل من حيث المبدأ.
خرج فاختزهاوزر بمخطط كيميائي عن أصل الحياة لم يسبق أنْ فكَّرَ بمثله أَحَدٌ. إن الطاقة التي يُطلِقها تَكوُّن البيريت ليست كافيةً لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مادة عضوية؛ لذا لجأ فاختزهاوزر إلى أول أكسيد الكربون بوصفه وسيطًا أكثر تفاعلًا، وهذا الغاز بالفعل موجود في الفوهات الحمضية. وقد حفز تفاعلات أخرى بطيئة بالاستعانة بالعديد من أملاح الحديد-الكبريت المعدنية، التي بدا أن لها قوة غير عادية بوصفها عاملًا محفزًا. وتكرارًا لما حدث من قبل، تمكَّنَ فاختزهاوزر وزملاؤه من إثبات العديد من هذه التفاعلات النظرية في المختبر، وهو ما أثبت أنها أكثر من مجرد نظرية مقبولة. كان ذلك عملًا ألمعيًّا أطاح بعقود من الأفكار القديمة عن الكيفية التي ربما بدأت بها الحياة، وجعل الحياة تظهر في بيئة كالجحيم من أكثر المكونات غير المتوقعة، وتحديدًا كبريتيد الهيدروجين وأول أكسيد الكربون وبيريت الحديد؛ غازين سامين وذهب الحمقى. علَّقَ أحد العلماء، عند أول قراءة له لعمل فاختزهاوزر، قائلًا إن الأمر أشبه بالعثور مصادفةً على ورقة علمية سقطت عبر منحنى زمنيٍّ آتية من نهاية القرن الحادي والعشرين.
اقترح مايك راسل، الذي يعمل حاليًّا في مختبر الدفع النفَّاث في باسادينا، حلًّا لكل هذه المشكلات في أواسط ثمانينيات القرن العشرين. راسل أشبه بشاعر ذي رؤية علمية تنبئية، وهو يميل إلى استخدام «اللغة الجيولوجية الشعرية»، ونظرته للحياة مبنية على مبادئ الديناميكا الحرارية والكيمياء الجيولوجية التي تبدو غامضة بالنسبة لكثير من متخصصي الكيمياء الحيوية. لكن عَبْر العقود، جذبت أفكار راسل عددًا متزايدًا من المؤيدين، الذين يرون في رؤيته حلًّا عمليًّا فريدًا لمسألة أصل الحياة.
يتفق كلٌّ من فاختزهاوزر وراسل على أن الفوهات الحرمائية تلعب دورًا محوريًّا في نشأة الحياة، لكن فيما وراء ذلك هما يختلفان أشد الاختلاف؛ فبينما يعتمد أحدهما على النشاط البركاني يعتمد الآخر على نقيضه، وبينما يُفضِّل أحدُهما الأحماضَ يُفضِّل الآخرُ القلوياتِ. والعجيب بحق أن هاتين الفكرتين المتداخلتين لا يجمع بينهما إلا القليل من الأشياء المشتركة. اسمحوا لي بتوضيح ذلك.
•••
إن أخاديد المحيط، التي تأوي المداخن السوداء، هي مصدر القاع البحري الجديد الممتد. فمن مراكز النشاط البركاني هذه تُجْبِر الصهارةُ المرتفعةُ ببطء الصفائحَ التكتونية الملاصقة لها على التباعد؛ فتتباعد الصفائح بعضها عن بعض بسرعة تُماثِل سرعة نمو الأظافر. وبينما تتصادم هذه الصفائح المتحركة ببطء، تُجبَر إحداها على الانزلاق أسفل أخرى، بينما ترتفع الثانية في اضطراب عظيم. إن سلاسل جبال الهيمالايا والأنديز والألب كلها برزَتْ عن سطح الأرض بفعل تصادُم الصفائح التكتونية بهذه الطريقة، لكن الحركة البطيئة للقشرة الحديثة على امتداد قاع المحيط تكشف أيضًا الصخور الجديدة الآتية من طبقة الوشاح، الطبقة الموجودة أسفل القشرة الأرضية مباشرة؛ تلك الصخور تتسبب في وجود نوعٍ ثانٍ من الفوهات الحرمائية، نوع مختلف بشدة عن المداخن السوداء، وهذا النوع من الفوهات هو الذي يناصره راسل بنفسه.
لكنَّ تفاعُل مياه البحر مع الصخور الآتية من طبقة الوشاح يتسبب فيما هو أكثر من النشاط البركاني الدءوب لكوكبنا؛ فهو أيضًا يطلق الطاقة على صورة حرارة، إلى جانب كميات ضخمة من الغازات كغاز الهيدروجين. في الواقع، يُغَيِّر التفاعل شكل كل ما هو مذاب بمياه البحر كما لو كان مرآة سحرية مشوهة، تعكس صورًا منتفخة غريبة تكون فيها كل عناصر التفاعل محملة بالإلكترونات (من الناحية الفنية يُقال عنها إنها «مُختزلَة»). الغاز الأساسي المنبعث هو الهيدروجين، وهو ما يرجع إلى أن مياه البحر هي في الغالب مياه، لكن ثمة وجود لمقادير أقل من الغازات الأخرى التي تذكرنا بخليط ستانلي ميلر، والمفيدة للغاية في تكوين البنى السابقة على الجزيئات المعقدة كالبروتينات والدي إن إيه. وهكذا يتحوَّل ثاني أكسيد الكربون إلى ميثان، والنيتروجين إلى نشادر، والكبريتات إلى كبريتيد هيدروجين.
تشق الحرارة والغازات طريقها ثانية نحو السطح؛ حيث تبرز كنوعٍ ثانٍ من الفوهات الحرمائية. بَيْدَ أنَّ هذا النوع يختلف قلبًا وقالبًا عن المداخن السوداء؛ إذ إنها ليست حمضية بالمرة، بل تميل إلى القلوية الشديدة. تكون هذه الفوهات دافئة أو حارَّة، لكنها أقل حرارة بكثير من الأتون المتَّقِد للمداخن السوداء. عادةً ما تُوجَد هذه الفوهات بعيدًا قليلًا عن أخاديد منتصف المحيط؛ مصدر قاع البحر الحديث المتمدد. وبدلًا من أن تكوِّن مداخن عمودية سوداء ذات فتحة واحدة يتدفق منها الدخان الأسود، فإنها تميل إلى تكوين بنًى معقدة مليئة بالحصى الدقيقة والحجيرات، التي تترسَّب مع تخلُّل السوائل الحرمائية القلوية الدافئة مياه المحيط الباردة أعلاها. أشكُّ أن سبب عدم معرفة الناس، سوى قلة نادرة، بهذا النوع من الفوهات يرجع إلى ذلك المصطلح المنفر «التحوُّل السربنتيني» (والمشتق من اسم معدن السربنتين). لكن تسهيلًا للأمر لنطلق عليها «الفوهات القلوية» وحسب، حتى وإن بدا هذا المسمى ركيكًا مقارنةً بمصطلح «المداخن السوداء» القوي. وسنتعرف على المغزى الكامل من استخدام كلمة «قلوية» لاحقًا.
الحياة نشأَتْ من المجموع المتنامي لفقاعات كبريتيد الحديد التي تحتوي على محلول قلويٍّ حرمائيٍّ شديد الاختزال. تضخمت هذه الفقاعات هيدروستاتيكيًّا في ينابيع الكبريت الساخنة الواقعة تحت مياه المحيط على مبعدة من المراكز المحيطية المتمددة منذ ٤ مليارات عام مَضَتْ.
الحياة في المدينة المفقودة مبنية على تفاعل الهيدروجين مع ثاني أكسيد الكربون، الذي هو في الحقيقة أساس الحياة كلها على كوكبنا. ففي المدينة المفقودة، وعلى نحوٍ غير معتاد، يتم التفاعل على نحو مباشر، بينما في كل الحالات الأخرى يتم على نحو غير مباشر؛ فالهيدروجين الخام، المنبعث من الأرض على صورة غاز، هدية نادرة الوجود على كوكبنا، وعادة ما تكون الحياة مجبرة على البحث عن إمدادات خفية من ذرات هذا الغاز تكون مرتبطة في روابط جزيئية مُحكَمة بذرات أخرى؛ مثل الماء أو كبريتيد الهيدروجين. ونزع الهيدروجين من مثل هذه الجزيئات وربطه بثاني أكسيد الكربون يستهلك طاقة، طاقة تأتي في النهاية من الشمس على صورة بناءٍ ضوئيٍّ، أو من خلل التوازن الكيميائي في عالم الفوهات. فقط في حالة غاز الهيدروجين نفسه يحدث التفاعل على نحوٍ تلقائيٍّ، وإن كان بطيئًا للغاية. لكن من المنظور الديناميكي الحراري، هذا التفاعل بمنزلة غذاء مجاني يُدفَع لك مقابل تناوله (حسب تعبير إيفريت شوك البارز). بعبارة أخرى، يُولِّد التفاعلُ جزيئاتٍ عضويةً على نحوٍ غير مباشر، ويُطلِق على الفور كميةً غنيةً من الطاقة يمكن استخدامها، نظريًّا، في دعم التفاعلات العضوية الأخرى.
هكذا تستوفي فوهات راسل المقومات الضرورية لمنشأ الحياة؛ فهي جزء لا يتجزَّأ من نظام يقلب سطح الكرة الأرضية رأسًا على عقب، ويعزز النشاط البركاني المتواصل للكوكب. وهي تفتقر على نحوٍ متواصلٍ للتوازن مع المحيطات، وتنفث مخزونًا ثابتًا من الهيدروجين الذي يتفاعل مع ثاني أكسيد الكربون لتكوين الجزيئات العضوية. وهي تكوِّن متاهة من الحجيرات المسامية التي تحتفظ بأي جزيئات عضوية تتكون وتركزها، وهو ما يجعل عملية تجميع البوليمرات، كالآر إن إيه، أمرًا مرجحًا بشدة (كما سنرى في الفصل التالي). وهي طويلة العمر؛ ففوهات المدينة المفقودة تعمل منذ أربعين ألف عام، أي تبلغ من العمر ضعفَيْ عُمُر أغلب المداخن السوداء. كما أنها كانت وفيرة العدد في الأرض المبكرة، حين كانت طبقة الوشاح التي تَفْقِد حرارتها تتلامس بشكل مباشر مع المحيطات. في تلك الأيام أيضًا كانت المحيطات مُحَمَّلة بالحديد الذائب، وكانت الحجيرات المجهرية تملك جدرانًا محفِّزة مُكَوَّنة من أملاح الحديد-الكبريت المعدنية، على غرار حفريات الفوهات الموجودة في تينا بأيرلندا. في واقع الأمر كانت هذه الفوهات تعمل كمفاعلات تدفق طبيعية؛ حيث تعمل التدريجات الحرارية والكهروكيميائية على تدوير السوائل المتفاعلة عَبْر الحجيرات المحفِّزة.
كل هذا لا بأس به، لكن من النادر أن يتمكَّن مفاعل وحيد، مهما كان ذا قيمة، من أن يؤلف الحياة بأسرها. كيف تقدمت الحياة من مثل هذه المفاعلات الطبيعية إلى ذلك النسيج المعقد البديع من الابتكار والبراعة الذي يحيط بنا؟ الإجابة — بالطبع — مجهولة، لكن ثمة دلائل تأتينا من خصائص الحياة نفسها، وعلى الأخص من لُبٍّ داخليٍّ من التفاعلات المحفوظة بعمق تتشاركه كل أشكال الحياة على الأرض اليوم. لب الأيض هذا، الحفرية الداخلية الحية، يحتفظ بأصداء آتية من الماضي البعيد، أصداء تتناغم مع الأصول البدائية للحياة داخل الفوهات الحرمائية القلوية.
•••
ثمة سبيلان لدراسة أصل الحياة: «من الأسفل إلى الأعلى» و«من الأعلى إلى الأسفل». حتى الآن في هذا الفصل تناولنا أصل الحياة «من الأسفل إلى الأعلى»؛ إذ تدبرنا الظروف الجيوكيميائية وتدرجات الديناميكا الحرارية التي من المرجح أنها وُجِدَتْ في الأرض المبكرة. وقد توصَّلْنا إلى أن الفوهات الحرمائية الدافئة الموجودة في أعماق المحيطات، والتي تغلي بفقاعات الهيدروجين وتنفثه في مياه المحيط المشبعة بثاني أكسيد الكربون، هي أكثر البيئات ترجيحًا لظهور الحياة. كان من شأن هذه المفاعلات الكهروكيميائية الطبيعية أن تستطيع توليد كلٍّ من الجزيئات العضوية والطاقة، لكننا لم نتدبر بَعْدُ أي التفاعلات تحديدًا وقعت، أو كيف أدت إلى الحياة التي نعرفها.
الدليل الوحيد الحقيقي لمعرفة ما صارت عليه الحياة هو الحياة كما نعرفها اليوم، بمعنى دراسة أصل الحياة «من الأعلى إلى الأسفل». يمكننا تصنيف كل السمات التي تتقاسمها الكائنات الحية كي نعيد بناء السمات الافتراضية التي اتَّصَفَ بها «آخر سلف مشترك عام». وهكذا، مثلًا، يمكن أن نستنتج من حقيقة أن مجموعة فرعية صغيرة فقط من البكتيريا قادرة على القيام بالبناء الضوئي أنه من غير المرجح أن يكون هذا السلف المشترك نفسه قد اتسم بهذه السمة. فلو كان كذلك لتعيَّنَ على قطاع كبير من ذريته أن يتخلَّى عن مهارة قيمة، وهو ما يبدو أمرًا بعيد الاحتمال وإن تعذَّرَ إقصاؤه كلية على نحوٍ مؤكَّد. وعلى العكس، تتقاسم كل أشكال الحياة على الأرض سمات مشتركة: فكل الكائنات الحية مكونة من خلايا (خلا الفيروسات، التي يمكنها العمل فقط داخل الخلايا)، وكلها تملك جينات مكونة من الدي إن إيه، وكلها تشفر البروتينات بواسطة شفرة عامة من أجل تكوين أحماض أمينية بعينها. كل الكائنات الحية تتشارك في عملة طاقة واحدة، تُعرَف بثلاثي فوسفات الأدينوسين الذي يعمل على نحوٍ أشبه بالورقة النقدية فئة عشرة جنيهات استرلينية، بحيث يمكنه أن «يسدد ثمن» كل أنواع العمل الخاص بالخلية (المزيد عن هذا لاحقًا). وهكذا يمكننا أن نستنتج منطقيًّا أن كل الكائنات الحية ورثت سماتها المشتركة من ذلك السلف البعيد المشترك.
كل أشكال الحياة اليوم تتقاسم أيضًا جوهرًا مشتركًا من تفاعلات الأيض، التي تقبع في قلبها دورة صغيرة من التفاعلات معروفة باسم دورة حمض الستريك، أو دورة كربس على اسم السير هانز كربس، العالم الألماني الحائز جائزة نوبل وأول مَنْ فَسَّرَ عمل الدورة في شيفيلد في ثلاثينيات القرن العشرين، بعد أن فَرَّ من النازيين. لدورة كربس مكانة جليلة في الكيمياء الحيوية، لكن لأجيال من الدارسين بَدَتْ هذه الدورة كأسوأ نوع من التاريخ العتيق المبهم؛ فكانوا يستظهرونها دون فهم في أوقات الاختبارات ثم ينسونها بعد ذلك.
لكِنْ ثمة شيء مميز في دورة كربس؛ فعلى جدران حجرات أقسام الكيمياء الحيوية التي يعوزها التنظيم — تلك الحجرات التي تجد فيها أكوامًا من الكتب والأوراق مكدَّسة على المكاتب وتكاد تقع على الأرض وعلى سلة المهملات التي لم تُفرَغ منذ سنوات — عادة ما ستجد رسمًا تخطيطيًّا باهتًا مجعدًا باليًا لعملية الأيض، وحين تنظر إلى مثل هذه المخططات بمزيد من الانبهار والرعب أثناء انتظارك عودة أستاذك، ستجد أنها ذات درجة تعقيد صادمة، وكأنها خريطة وضعها مجنون لمترو الأنفاق؛ فهي مليئة بالأسهم الصغيرة التي تشير في كل اتجاه، ويلتف بعضها حول بعض. ومع أنها باهتة، فإنك ستتبيَّن أن هذه الأسهم كلها تحمل ألوانًا رمزيةً تشير إلى مسارات مختلفة، حيث البروتينات باللون الأحمر والشحوم بالأخضر وهكذا. قرب الجزء السفلي للمخطط ستجد دائرة ضيقة صغيرة تعطي الانطباع بأنها مركز ثورة الأسهم تلك، ربما تكون هي الدائرة الوحيدة على الخريطة كلها، وهي بالتأكيد الجزء الوحيد المرتب فيها. هذه هي دورة كربس. وبينما تنظر إليها مجددًا ستبدأ في إدراك أن كل الأسهم الملوَّنة على المخطط تخرج من دورة كربس، وكأنها برامق عجلة مشوهة. إنها مركز كل شيء، جوهر عملية الأيض بالخلية.
لم تَعُدْ دورة كربس مبهمة الآن. فقد بيَّنَتْ أَحْدَثُ الأبحاث الطبية أنها تقع في قلب جميع العمليات البيولوجية للخلية إلى جانب عملياتها الكيميائية أيضًا. ومن شأن التغير في سرعة دوران هذه الدائرة التأثير على كل شيء من الشيخوخة إلى السرطان إلى حالة الطاقة. لكن ما مَثَّلَ مفاجأةً أكبرَ هو أن دورة كربس يمكنها الدوران إلى الخلف. في المعتاد تستهلك الدورة الجزيئات العضوية (من الغذاء) وتطلق الهيدروجين (المُقدَّر له أن يحترق برفقة الأكسجين في عملية التنفس) وثاني أكسيد الكربون. وبهذا لا توفر الدورة المتطلبات الأساسية للمسارات الأيضية وحسب، بل إنها تنتج أيضًا حزمًا صغيرة من الهيدروجين المطلوب من أجل توليد الطاقة كثلاثي فوسفات الأدينوسين. حين تسير الدورة على نحوٍ معاكس ينقلب الأمر؛ إذ تمتصُّ ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين كي تكوِّن نوعًا جديدًا من الجزيئات العضوية، وكلها الوحدات البنائية الأساسية للحياة. لكن بدلًا من إطلاق الطاقة مع دورانها، تستهلك الدورة العكسية ثلاثي فوسفات الأدينوسين. فإذا وفرت لها ثلاثي فوسفات الأدينوسين وثاني أكسيد الكربون والهيدروجين، تخرج الدورة الوحدات البنائية الأساسية للحياة، كما لو كان بفعل السحر.
هذا الدوران المعاكس لدورة كربس ليس شائعًا حتى في البكتيريا، لكنه شائع نسبيًّا في البكتيريا التي تعيش في الفوهات الحرمائية. إنها وسيلة مهمة، وإن كانت بدائية، لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى الوحدات البنائية للحياة. وقد عكف الكيميائي الحيوي البارز بجامعة ييل هارولد موروفيتس، الذي يعمل حاليًّا بمعهد كراسنو للدراسات المتقدمة بفيرفاكس، فيرجينيا، على رصد خصائص دورة كربس العكسية عدة سنوات. وبصورة عامة تقضي النتيجة التي توصَّلَ إليها بأنه في ظل تركيزات كافية من كل المكونات، ستدور الدورة من تلقاء نفسها. إنها عملية كيميائية بسيطة: إذا زاد تركيز أي وسيط؛ فسيميل إلى التحول إلى الوسيط التالي بالتبعية. والجزيئات العضوية الموجودة بدورة كربس هي أكثر الجزيئات العضوية الممكنة ثباتًا؛ ومن ثم هي الأكثر ترجيحًا في التكوُّن. بعبارة أخرى، لم «تُخترع» دورة كربس بواسطة الجينات، بل هي مسألة كيمياء احتمالات وديناميكا حرارية. وحين تطورت الجينات، لاحقًا، أدارت هذه العملية الكيميائية التي كانت موجودة بالفعل، تمامًا مثلما يكون مايسترو الفرقة الموسيقية مسئولًا عن عملية تفسير القطعة الموسيقية — من حيث سرعة الإيقاع والوقفات الفرعية — لكن ليس الموسيقى نفسها. فالموسيقى موجودة طوال الوقت؛ موسيقى كونية.
بمجرد البدء في دورة كربس وتزويدها بمصدر للطاقة، تصير التفاعلات الجانبية أمرًا محتومًا، وتؤدي إلى ظهور متطلبات الحياة الأكثر تعقيدًا على غرار الأحماض الأمينية والنيوكليوتيدات. إن مسألة تحديد أي مقدار من عملية الأيض الجوهرية للحياة على الأرض جاء بصورة طبيعية، وأي مقدار أتى لاحقًا نتاجًا للجينات والبروتينات قضيةٌ مثيرةٌ للاهتمام، بَيْدَ أنَّها خارج نطاق كتابنا هذا، لكني أود أن أوضح نقطة عامة؛ وهي أن الغالبية العظمى من محاولات تخليق وحدات الحياة البنائية كانت تقليدية أكثر مما ينبغي. فهي تبدأ بجزيئات بسيطة كالسيانيد، التي ليس لها أدنى علاقة بكيمياء الحياة كما نعرفها (في الواقع هي بمنزلة اللعنة لها)، ثم تَعْمد إلى تخليق وحدات الحياة البنائية من خلال معالجة عوامل مثل الضغط أو درجة الحرارة أو التفريغ الكهربي، وهي عوامل جميعها غير بيولوجية بالمرة. لكن ماذا سيحدث حين تبدأ بجزيئات لدورة كربس وبعض ثلاثي فوسفات الأدينوسين في الأحوال المثالية داخل مفاعل كهروكيميائي كالذي اقترحه مايك راسل؟ كم عدد المخططات الأيضية البالية التي تظهر على نحوٍ تلقائيٍّ من هذه المكونات فيما يشبه تجسيدًا أثيريًّا يمتلئ تدريجيًّا من الأسفل بأكثر الجزيئات ترجيحًا من منظور الديناميكا الحرارية؟ لست الوحيد الذي يشك في ظهور العديد منها، ربما وصولًا لمستوى البروتينات (وتحديدًا عديدات الببتيد) والآر إن إيه، وعند هذه النقطة يبدأ الانتقاء الطبيعي في تولِّي الأمر برمته.
كل هذا خاضع للتجريب، وأغلب هذه التجارب لم يتم حتى الآن. ولكي يكون أيٌّ من هذا واقعيًّا؛ سنحتاج لعملية إنتاج أنيقة ثابتة لذلك المكوِّن السحري، ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وفي هذا الصدد ربما تشعر أننا نستبق الأمور قليلًا؛ إذ نحاول الجري قبل أن نتعلم المشي. كيف يمكننا توليد ثلاثي فوسفات الأدينوسين؟ الإجابة الأكثر إقناعًا في نظري تأتي من بيل مارتن، الكيميائي الحيوي الأمريكي اللامع والصريح دائمًا، الذي هجر الولايات المتحدة للعمل في وظيفة أستاذ لعلم النبات في جامعة دوسلدورف. ومن هنا، كان مارتن مصدرًا لدفق ثابت من الأفكار المخالفة للسائد بشأن أصل كل شيء تقريبًا له أهمية في علم الأحياء. قد تكون بعضُ هذه الأفكار خاطئةً، لكنها دائمًا ما تكون شيقة وغالبًا ما تجعل المرء يرى البيولوجيا من منظور مختلف. منذ بضع سنوات جلس مارتن مع مايك راسل، وتدارس الاثنان عملية الانتقال من الكيمياء الجيولوجية إلى الكيمياء الحيوية، ومنذ ذلك الوقت والأفكار تتدفق في حرية. لِنُلْقِ نظرةً على هذه الأفكار.
•••
عاد مارتن وراسل إلى الأساسيات؛ تدفُّق الكربون إلى العالم العضوي. فقد ذَكَرا أنه تُوجَد اليوم خمسة سبل أيضية فقط يمكن بها للنباتات والبكتيريا أن تُدْخِل الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون إلى عوالمها الحية؛ من أجل توليد المادة العضوية، وأحد هذه السُّبُل هو دورة كربس العكسية كما رأينا. أربعة من السبل الخمسة تستهلك ثلاثي فوسفات الأدينوسين (مثلما تفعل دورة كربس)؛ وبهذا لا يمكن أن تحدث إلا في وجود مدخل من الطاقة. لكن السبيل الخامس، التفاعل المباشر للهيدروجين مع ثاني أكسيد الكربون، لا يُنْتِج جزيئات عضوية وحسب، بل ويُطْلِق طاقة أيضًا. ثمة مجموعتان من الكائنات القديمة تفعل هذا تحديدًا، عن طريق سلسلة من الخطوات المشابهة بصورة عامة. قابلنا بالفعل إحدى هاتين المجموعتين؛ العتائق التي تعيش في حقل فوهات المدينة المفقودة.
إذا صحَّ رأي مارتن وراسل، فإن الأسلاف البعيدة لهذه العتائق كانت تؤدي مجموعة التفاعلات نفسها في بيئة مطابقة تقريبًا، وذلك منذ ٤ مليارات عام، أي في فجر الحياة. لكن تفاعل الهيدروجين مع ثاني أكسيد الكربون ليس مباشرًا كما يبدو؛ لأن الجزيئين لا يتفاعلان على نحو تلقائي. إنهما «خجولان» إلى حدٍّ ما، ويحتاجان إلى عامل مساعد يقنعهما بالتفاعل، كما أنهما يحتاجان مدخلًا صغيرًا من الطاقة لبدء التفاعل. وعندئذٍ فقط يتَّحِد الجزيئان، ويطلقان المزيد من الطاقة مع اتحادهما. العامل المساعد بسيطٌ للغاية؛ فالإنزيمات التي تحفز على التفاعل اليوم تحوي عناقيد صغيرة من الحديد والنيكل والكبريت في ألبابها لها تركيب مشابه للغاية لتركيب الأملاح المعدنية الموجودة في الفوهات. يُرجِّح هذا أن الخلايا البدائية ضمَّتْ عاملًا مساعدًا جاهزًا بالفعل، وهو الملمح الذي يشير إلى قِدَم هذا السبيل؛ إذ إنه لا يتطلب تطوير بروتينات مُعقَّدة. وكما يُعَبِّر مارتن وراسل عن الأمر فإن لهذا السبيل جذورًا صخرية.
لجزيئات الأسيتيل ثيوإستر أهمية كبيرة لأنها تُوجَد في نقطة تفرع قديمة في عملية الأيض، والتي لا تزال موجودة في كائنات اليوم. فحين يتفاعل ثاني أكسيد الكربون مع الأسيتيل ثيوإستر نكون بهذا على طريق تكوُّن الجزيئات العضوية الأكثر تعقيدًا. يحدث التفاعل على نحوٍ تلقائيٍّ ويطلق طاقة؛ كي ينتج جزيئًا ذا ثلاث ذرات من الكربون يُسمَّى البيروفات؛ وهو الاسم الذي من شأنه أن يثير اهتمام الكيميائيين الحيويين؛ لأنه أحد نقاط الدخول إلى دورة كربس. بعبارة أخرى، ينقلنا عدد قليل من التفاعلات — كلها مواتية من المنظور الديناميكي الحراري، وعدد منها يُحفَّز بواسطة إنزيمات ذات عناقيد أشبه بالأملاح المعدنية في ألبابها، ما يمنحها «جذورًا صخرية» — مباشرة إلى القلب الأيضي للحياة؛ دورة كربس، دون أي جلبة إضافية. وبمجرد الدخول إلى دورة كربس، كل ما ستحتاج إليه هو إمداد ثابت من ثلاثي فوسفات الأدينوسين لبدء عملها، من أجل توليد الوحدات البنائية للحياة.
الطاقة تحديدًا هي ما ينتج عن الطرف الآخر لهذا التفاعل، حين يتفاعل الفوسفات مع جزيء أسيتيل ثيوإستر آخر. يجب الإقرار بأن هذا التفاعل لا ينتج ثلاثي فوسفات الأدينوسين، بل صورة أبسط منه تُسمَّى أسيتيل الفوسفات. ومع هذا يؤدي الناتج نفس الغرض ويُستخدَم هو الآخر إلى جوار ثلاثي فوسفات الأدينوسين من جانب بعض أنواع البكتيريا اليوم. وهو يفعل نفس ما يفعله ثلاثي فوسفات الأدينوسين؛ إذ ينقل مجموعة الفوسفات المتفاعلة الخاصة به إلى جزيئات أخرى، مانحًا إياها دفعة الطاقة التي تنشطها بدورها. هذه العملية تشبه لعبة المطاردة التي يلعبها الأطفال، والتي فيها يتعيَّن على الطفل «المطارِد» أن يلمس طفلًا آخر حتى يصير الطفل الثاني هو «المطارِد» بدلًا منه. وعلى الطفل «المطارِد» أن ينشط كي ينقل الدور إلى طفل آخر غيره. تتم عملية نقل الفوسفات من جزيء إلى آخر بالطريقة عينها تقريبًا؛ إذ تنشِّط عملية النقل الجزيء المتلقي الذي لولاها لظل خاملًا. هذه هي الصورة التي يستطيع بها ثلاثي فوسفات الأدينوسين تحريك دورة كربس بشكل عكسي، ويفعل أسيتيل فوسفات الأمر عينه. وبمجرد نقل الفوسفات النشط، يتبقى لدينا الخل؛ وهو منتج شائع للبكتيريا اليوم. في المرة التالية التي تفتح فيها زجاجة نبيذ فاسد (أي تحوَّلَ النبيذ بها إلى خل) فكِّر قليلًا في البكتيريا التي تعمل داخل الزجاجة، وتولد منتجًا مهملًا قديمًا قِدَم الحياة ذاتها، لكن هذا المنتج المهمل أعلى مكانة من أفخر أنواع النبيذ.
بوضع كل هذا معًا، تعمل الفوهات الحرمائية القلوية على توليد جزيئات أسيتيل ثيوإستر على نحوٍ متواصل، وتوفر كلًّا من نقطة بدء تكوُّن الجزيئات العضوية الأكثر تعقيدًا والطاقة المطلوبة لتصنيعها، وذلك في صيغة مماثلة في جوهرها لتلك المستخدمة في الخلايا اليوم. توفر خلايا الأملاح المعدنية التي تتخلل الفوهات في الوقت عينه وسيلة لتركيز المنتجات، وتعزيز هذه التفاعلات، وكعامل مساعد لتسريع العملية، وذلك دون احتياج لأي بروتينات معقدة في هذه المرحلة. وأخيرًا، يعني انبعاث الهيدروجين وغيره من الغازات الأخرى داخل متاهة خلايا الأملاح المعدنية أن كل المواد الخام تتجدد على نحوٍ متواصل وتختلط على نحوٍ تام. إنها ينبوع الحياة بحق، خلا تفصيلة واحدة تافهة لها تبعات عميقة للغاية.
تتعلق المشكلة بدفعة الطاقة الصغيرة المطلوبة مقدمًا لتدفئة العلاقات بين الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون. ذكرت أن هذه ليست مشكلة في الفوهات نفسها؛ لأن الظروف الحرمائية تعمل على تكوين جذور حرة متفاعلة تبدأ العملية، بَيْدَ أنَّها مشكلة حقيقية للخلايا المستقلة التي لا تعيش داخل الفوهات؛ فهي تحتاج عوضًا عن ذلك إلى استهلاك ثلاثي فوسفات الأدينوسين لبدء التفاعل، ما يشبه شراء المشروب من أجل إذابة الجمود في الموعد الغرامي الأول. ما مشكلة ذلك الأمر؟ المشكلة حسابية بالأساس؛ فتفاعل الهيدروجين مع ثاني أكسيد الكربون يُطلِق طاقةً تكفي لتوليد جزيء واحد من ثلاثي فوسفات الأدينوسين. لكنك إذا استهلكت جزيئًا واحدًا من ثلاثي فوسفات الأدينوسين لتوليد جزيء واحد من ثلاثي فوسفات الأدينوسين، فلن يصير لديك مكسب صافٍ. وإذا لم يكن لديك أي مكسب صافٍ فلن تستطيع بدء دورة كربس، ولن تنتج أي جزيئات عضوية معقدة. قد تستطيع الحياة الاستمرار داخل الفوهات، لكن سيُكتَب عليها الارتباط بالفوهات إلى الأبد بواسطة حبل سُرِّي ديناميكي حراري لا يمكن قطعه مطلقًا.
من الواضح أن الحياة ليست مقصورة على الفوهات. إذا لم يكن كل هذا تصورًا زائفًا بالكامل، فما المخرج؟ كانت الإجابة التي اقترحها مارتن وراسل مدهشةً؛ لأنها تُفَسِّر لنا لماذا تستفيد الحياة اليوم من وسيلة تنفُّس غريبة بالكامل لتوليد الطاقة، ربما تُعَدُّ أكثر آلية محيرة منافية للمنطق في علم الأحياء بأسره.
•••
في رواية «دليل المسافر إلى المجرة» يهبط أسلاف البشر المعاصرين الحمقى بالكامل على كوكب الأرض ويحلون محل الرجال القرود. بعد ذلك يشكلون لجنة فرعية لإعادة اختراع العجلة ويعتمدون أوراق الأشجار عُملاتٍ قانونية، وهو ما يجعل الجميع أثرياء ثراء فاحشًا. بَيْدَ أنهم يصادفون مشكلة عويصة مع التضخم؛ إذ باتت حمولة سفينة واحدة من الفول السوداني تعادل أوراق ثلاث غابات متساقطة الأوراق. من ثم؛ عمد أسلافنا إلى برنامج ضخم لتقليل التضخم وحرقوا جميع الغابات. كل هذا يبدو مقبولًا، وإن كان على نحوٍ بغيض.
إذا تجاوزنا العبث الذي يتسم به الأمر برمته، فسنجد أنه يثير نقطةً جادَّةً بشأن طبيعة العُمْلة النقدية؛ وهي أنه لا يُوجَد إطلاقًا ما يثبِّت القيمة. يمكن أن تساوي حبة الفول السوداني قيمة سبيكة ذهبية، أو مليم واحد، أو ثلاث غابات متساقطة الأوراق؛ كل هذا يعتمد على التقييم النسبي والندرة وغيرها من العوامل. ويمكن للورقة النقدية فئة عشرة جنيهات استرلينية أن تساوي أي قيمة، لكن ليس هذا هو الحال في الكيمياء. منذ قليل، شبهت ثلاثي فوسفات الأدينوسين بالورقة النقدية فئة عشرة جنيهات، وكنت حريصًا عند انتقائي هذه القيمة. إن روابط الطاقة داخل ثلاثي فوسفات الأدينوسين تُحتِّم عليك إنفاق عشرة جنيهات حتى يتم تصنيع جزيء واحد من ثلاثي فوسفات الأدينوسين، على أن تتلقى عشرة جنيهات بالضبط حين تنفق هذا الجزيء. ليست القيمة نسبية مثلما هو الحال مع العملة النقدية البشرية، وهذا هو أساس المشكلة التي تواجهها أي بكتيريا تحاول الخروج من الفوهات. ليس ثلاثي فوسفات الأدينوسين بالعملة العالمية مثل الورقة النقدية فئة عشرة جنيهات استرلينية؛ فهو غير مَرِن في قيمته، ولا يمكن تقسيمه إلى وحدات أصغر، أو فكَّة. فإذا أردت شراء مشروب رخيص من أجل إذابة الجمود في الموعد الغرامي الأول، فعليك دفع الورقة النقدية فئة عشرة جنيهات، وحتى إن كان المشروب يتكلَّف جنيهين فقط فلن تحصل على المبلغ المتبقي؛ إذ لا يُوجَد ما يُسمَّى بخُمس جزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وحين تقتنص الطاقة التي يطلقها تفاعُل الهيدروجين مع ثاني أكسيد الكربون، يمكنك فقط استعادتها على صورة عملات نقدية فئة عشرة جنيهات. لِنَقُلْ إنك تستطيع، نظريًّا، أن تكسب ثمانية عشر جنيهًا من التفاعل، لن يكون هذا كافيًا لتصنيع جزيئين من ثلاثي فوسفات الأدينوسين؛ لذا ستكتفي بتصنيع جزيء واحد فقط. ستخسر ثمانية جنيهات؛ لأنه لا يمكن تقسيم الجزيء إلى وحدات أصغر. أغلبنا يواجه هذه المشكلة مع مكاتب الصرافة التي لا تتعامل إلا بالمبالغ الكبيرة.
بشكل عام، التناضح الكيميائي هو حركة البروتونات عبر غشاء (ومن هنا جاء التشابه في الاسم مع عملية التناضح، التي تعني حركة الماء عبر غشاء). في عملية التنفس، يحدث الآتي: تُنتزَع الإلكترونات من الغذاء وتُمرَّر على امتداد سلسلة من النواقل إلى الأكسجين، وتُستخدَم الطاقة المحررة عند نقاط متعددة في دفع البروتونات عبر غشاء، وتكون النتيجة تدرج البروتونات عبر الغشاء. يعمل الغشاء كسَدٍّ كهرومائي. ومثلما تُحرِّك المياهُ المندفعةُ من أعلى المخزون التوربيناتِ لتوليد الكهرباء، داخل الخلايا يتسبب تدفُّق البروتونات عَبْر توربينات البروتينات الموجودة في الغشاء في بدء عملية تخليق ثلاثي فوسفات الأدينوسين. لم تكن هذه الآلية متوقعة بالمرة؛ فبدلًا من وجود تفاعل أنيق مباشر بين جزيئين، أُقْحِمَ تدرج غريب للبروتونات في المنتصف.
الكيميائيون معتادون على التعامل مع الأرقام الصحيحة؛ فليس من الممكن للجزيء أن يتفاعل مع نصف جزيء آخر. ربما يكون أغرب ملامح التناضح الكيميائي هو توافر العديد من أجزاء الأرقام الصحيحة. كم إلكترونًا نحتاج أن ننقله لإنتاج جزيء واحد من ثلاثي فوسفات الأدينوسين؟ ما بين ٨ إلى ٩ إلكترونات. وكم بروتونًا؟ أدق التقديرات الحالية هو ٤٫٣٣ بروتونًا. لم يكن لهذه الأرقام معنى على الإطلاق، إلى أن تَمَّ إدراك قدرة التدريج على التوسط. إن التدريج، في نهاية المطاف، مُكَوَّن من الملايين من عمليات التدرج؛ أي لا ينقسم إلى أرقام صحيحة. والمزية الكبرى للتدريج هي أن بإمكان تفاعل واحد أن يتكرر مرارًا وتكرارًا فقط من أجل توليد جزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين واحد. فإذا أطلق تفاعلٌ واحد بعينه جزءًا من مائة من الطاقة المطلوبة لتوليد جزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين واحد، تكرَّرَ هذا التفاعل مائة مرة، بانيًا التدرج خطوة بخطوة إلى أن يصير مخزون البروتونات كبيرًا بما يكفي لتوليد جزيء ثلاثي فوسفات أدينوسين واحد. فجأة صارت الخلية قادرة على الادخار، وصار لديها جيب مليء بالعملات النقدية صغيرة القيمة.
ما الذي يعنيه كل هذا؟ لِنَعُدْ إلى تفاعل الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون. لا تزال البكتيريا تتكلف جزيئًا واحدًا من ثلاثي فوسفات الأدينوسين لبدء التفاعل، لكنها الآن صارت قادرة على توليد أكثر من جزيء ثلاثي فوسفات الأدينوسين واحد؛ لأنها قادرة على الادخار حتى تتمكن من تصنيع جزيء ثلاثي فوسفات أدينوسين ثانٍ. ربما لا تكون عيشة مترفة لكنها نزيهة. وأهم ما في الأمر أنها تصنع الفارق بين القدرة على النمو وعدم القدرة على النمو. إذا صحَّ رأي مارتن وراسل، وصحَّ أيضًا أن أول أشكال الحياة نما من هذا التفاعل، فلا بد أن السبيل الوحيد الذي تركت به الحياة الفوهات البحرية العميقة كان التناضح الكيميائي. ومن الصحيح والمؤكد أن أشكال الحياة الوحيدة القادرة على العيش من هذا التفاعل اليوم إنما تعتمد على التناضح الكيميائي وأيضًا لا تستطيع النمو دونه. ومن الصحيح بالمثل أن كل أشكال الحياة على الأرض تقريبًا تتقاسم نفس الآلية العجيبة، مع أنه لم تكن هناك حاجة لها على الدوام. لماذا؟ أعتقد أن السبب ببساطة هو أنها ورثتها عن سلف مشترك لم يستطع الحياة دونها.
لكن هنا يكمن السبب الرئيسي وراء صحة آراء مارتن وراسل؛ استخدام البروتونات. لماذا مثلًا لا تُستخدَم ذرات الصوديوم أو البوتاسيوم أو الكالسيوم المشحونة والمستخدمة من جانب أنظمتنا العصبية؟ لا يُوجَد سبب جليٌّ يُفسِّر تفضيل البروتونات عن أي تدريج من نوع آخر من الجسيمات المشحونة، وهناك بالفعل بعض البكتيريا التي تولد تدريجًا للصوديوم بدلًا من تدريج البروتون، بالرغم من ندرة الأمر. أظن أن السبب الرئيسي يعود إلى سمات فوهات راسل. تذكَّرْ أن الفوهات تنفث السوائل القلوية في المحيط الحمضي بفعل ثاني أكسيد الكربون الذائب فيه. تتحدد الأحماض من خلال البروتونات؛ فالحمض غني بالبروتونات بينما السائل القلوي يفتقر إليها. وبهذا يتسبب نفث السوائل القلوية في المحيطات الحمضية في إنتاج تدريج طبيعي للبروتونات. بعبارة أخرى تتسم خلايا الأملاح المعدنية الموجودة في فوهات راسل القلوية بالتناضح الكيميائي بصورة طبيعية. وقد أوضح راسل نفسه هذا الأمر منذ عدة سنوات، لكن إدراك أنه ليس بوسع البكتيريا أن تترك الفوهات دون تناضح كيميائي كان أحد ثمار تعاونه مع مارتن، الذي كان يدرس علم طاقة الميكروبات. وهكذا لا تُولِّد هذه المفاعلات الكهروكيميائية جزيئات عضوية وثلاثي فوسفات الأدينوسين وحسب، بل وفرت أيضًا خطة هروب؛ طريقة التغلب على مشكلة الورقة النقدية فئة عشرة جنيهات غير القابلة للتجزؤ.
بالطبع لن يكون لتدريج البروتونات الطبيعي فائدة إلا إذا استطاعت الحياة تسخيره، وبعد ذلك توليد تدريجها الخاص. ومع أنه من الأسهل بالتأكيد تسخير التدريج الموجود بالفعل عن توليد شيء جديد من نقطة الصفر، فإن كلتا الطريقتين ليست مباشرة. لقد تطوَّرَتْ هذه الآليات بواسطة الانتقاء الطبيعي بلا شك، واليوم هي تحتاج إلى بروتينات عديدة تُحدِّدها جينات، ولا يُوجَد سبب يدعونا للافتراض أن مثل هذا النظام المعقد يمكن أن يكون قد تطوَّر في المقام الأول دون بروتينات أو جينات؛ جينات مكونة من الدي إن إيه. وهكذا لدينا حلقة مفرغة مثيرة للاهتمام. فلم يكن بمقدور الحياة أن تغادر الفوهات حتى تتعلم تسخير تدريجها الخاص للتناضح الكيميائي، لكن لم يكن بمقدورها تسخير تدريجها الخاص إلا باستخدام الجينات والدي إن إيه. يبدو أنه لا مفر من الأمر؛ فمن المؤكد أن الحياة طورت درجة مدهشة من التعقيد وهي في حضَّاناتها الصخرية.
يرسم لنا هذا صورةً غير عادية لآخر سلف مشترك عام للحياة على الأرض. وإذا صحَّ رأي مارتن وراسل — وأعتقد أنه صحيح — فلن يكون هذا السلف خلية حية مستقلة، بل متاهة صخرية من خلايا الأملاح المعدنية، تتخللها جدران محفِّزة مؤلفة من الحديد والكبريت والنيكل، وتستمد الطاقة من تدريجات البروتونات الطبيعية. كانت أولى صور الحياة صخرة مسامية ولَّدَتْ جزيئات معقدة وطاقة، وصولًا إلى تكوين البروتينات والدي إن إيه نفسه. وذلك يعني أننا تتبعنا نصف القصة فقط في هذا الفصل. وفي الفصل التالي، سنتدبر النصف الثاني؛ اختراع أهم وأشهر الجزيئات قاطبة: المادة الوراثية (الدي إن إيه).