الموت
يُقال إنه ليس بالإمكان شراء السعادة بالمال. لكن كرويسوس، آخر ملوك ليديا في العصور الغابرة، كان من الثراء بحيث ظنَّ نفسه أسعد رجل في العالم. وحين حاول الحصول على إقرار من السياسي الأثيني صولون بذلك، وكان وقتها يسافر مارًّا بأراضيه، تكدَّرَ حين قال له: «لا يمكن اعتبار أي إنسان سعيدًا حتى يموت.» فمن الذي يمكنه التنبؤ بما تخبئه له الأقدار؟ ثم حدث أن وقع كرويسوس، وهو يحارب وفق نصيحة كاهن غامض من كهنة دلفي، أسيرًا في يد قورش ملك الفرس، فأُحكم وثاقه فوق كومة حطب بهدف إحراقه حيًّا. ولكن بدلًا من أن يوبخ كرويسوس آلهته المزعومة بسبب نهايته المفزعة التي آل إليها، وجدوه يتمتم: «صولون». فتعجب قورش منه، واستفسر ممن معه عما يعنيه؛ فأخبروه بقصة صولون. فأدرك حينئذٍ أنه هو أيضًا لعبة بيد الأقدار؛ فأمر قورش بفك قيود كرويسوس وعيَّنَه مستشارًا له (وقد قال البعض إن أبوللو، أحد آلهة الإغريق، جاء لنَجْدته ومعه عاصفة رعدية).
كانت الميتة الحسنة تعني الكثير للإغريق القدماء وكانوا يعتبرون القَدَر والموت لعبتين بأيدٍ خفية، تعملان بأكثر الطرق مكرًا على جعل الرجال الأشداء يركعون في ضعف وهوان. والمسرح الإغريقي حافل بأدوات التعذيب، وبالموت الذي رسَمَتْه الأقدار، وأوردته نبوءات الكهنة المبهمة. وكما ورد في طقوس باخوس الجنونية وخرافات التحولات الجسدية، يبدو أن الإغريق كانوا يعزون شيئًا من مذهبهم القَدَري الحتمي إلى العالم الطبيعي. والعكس بالعكس؛ فمن منظور الثقافة الغربية، أحيانًا ما يبدو نُفُوق الحيوانات وقد اكتسب مسحة من المسرح الإغريقي.
فهناك ما هو أكثر من عنصر التراجيديا الإغريقية، على سبيل المثال، فيما يختص بذباب مايو، الذي يعيش شهورًا معدودة كيرقات، ثم يتحوَّل إلى حشرات بالغة محرومة من أجزاء الفم والقناة الهضمية. وحتى الأنواع القليلة التي تعيش يومها المعربد الوحيد، لا تلبث أن يكون مصيرها الموت جوعًا. وماذا عن سَمَك السالمون الذي يعيش في المحيط الهادئ ويهاجر بأعداد كبيرة لمئات الأميال، حتى يصل إلى الأنهار التي وُلِد فيها؛ حيث تنتهي رحلة تلك الأسماك المشحونة بالهرمونات والمفعمة بالنشاط الهائج بشكل مأسوي بالنفوق في غضون أيام قلائل؟ أو ملكة النحل، التي لا تظهر عليها أي علامات للسن لمدة ستة عشر عامًا، إلى أن يجف زادها من السائل المنوي، وحينئذٍ تهاجمها بناتها من النحل الشغالة وتقطعها إربًا إربًا حتى الموت؟ أو سعار الجماع الذي يصيب الفأر الجرابي الأسترالي لمدة اثنتي عشرة ساعة متواصلة؛ مما يؤدي إلى نفوقه بسبب الوهن والإرهاق الشديدين، وهو الأمر الذي يمكن منعه بإخصائه؟ وسواء وُصِفَ هذا الموقف بالمأساة أو الملهاة فلا شك أنه درامي. فتلك الحيوانات رهائن للقَدَر، مثل أوديب ذاته. وليس الموت أمرًا حتميًّا فحسب، بل إنه خاضع للأقدار ومبرمج في داخل نسيج الحياة ذاتها.
ومن بين القصص المنفِّرة للموت، لعل أكثرها مأسوية وشهرة لنا اليوم هي أسطورة تيثونوس الطروادي الخرافية، الذي طلبت حبيبته الإلهة من كبير الآلهة زيوس أن يمنحه الخلود، ولكنها نسيت أن تطلب له الشباب الدائم. وقال هوميروس في تلك القصة إن «الشيخوخة الكريهة جثمت بكل ثقلها على تيثونوس»، جاعلة إياه يخرف ويهذي كالأحمق بلا نهاية. وقد تخيله الشاعر الإنجليزي ألفريد تنيسون ناظرًا إلى أسفل إلى «الحقول المعتمة، حول بيوت الرجال السعداء الذين من الممكن أن يموتوا، وإلى المقابر المعشوشبة للموتى الأكثر سعادة.»
إن هناك تعارضًا بين هذه الصور من الموت، بين الموت العاجل المبرمج في حياة بعض الحيوانات، وبين الشعور بالوحدة والاستسلام للشيخوخة التي تواجه الإنسانية وحدها، ذلك الافتقاد للموت المبرمج وما يصاحبه من نهاية مريعة شأن نهاية تيثونوس. هذا تحديدًا ما نسببه لأنفسنا اليوم مع تقدُّم الطب، وإطالة أعمار البشر لكن دون تحسين صحتهم. فكل عام يُضاف إلى متوسط أعمار البشر، مع تقدُّم العلوم الطبية الحديثة، تقابله أشهر قليلة يقضيها المرء في صحة طيبة، أما باقي الوقت فيعاني الإنسان فيه تدهورًا مستمرًّا. ومثلما فعل تيثونوس في أسطورته، فإننا نتمنى في نهاية المطاف الموت. قد يبدو الموت لنا كمزحة كونية قاسية، ولكن الشيخوخة في الحقيقة حالة كئيبة.
لكن لا حاجة بنا إلى أن نقلِّد تيثونوس في سنوات شيخوختنا. بالتأكيد لا تسمح قوانين الفيزياء الراسخة بالشباب الدائم مثلما لا تسمح بالحركة المستمرة، ولكن التطوُّر مَرِنٌ على نحوٍ يثير الدهشة، ويظهر لنا أن الحياة الأطول تكون في العادة مصحوبة بشباب أطول، بما يُجنِّبنا بؤس تيثونوس. وهناك الكثير من أمثلة الحيوانات التي امتدت أعمارها دون آلام تُذكَر؛ أي بدون أمراض ذات بال، بمعدل يزيد عن طولها الأصلي بضعفين أو ثلاثة، وربما أربعة أضعاف؛ حينما تتغيَّر ظروف حياتها. ومن الأمثلة العجيبة على هذا سَمَك السالمون المرقط الذي يعيش في الجداول المائية، والذي نُقِل إلى المياه الباردة الفقيرة في المواد الغذائية لإحدى البحيرات في سييرا نيفادا بولاية كاليفورنيا الأمريكية. فقد طال عمر الأسماك بمعدل أربعة أضعاف — من ستة أعوام إلى أكثر من أربعة وعشرين عامًا — وكان «الثمن» الظاهري الوحيد لهذا التطور هو تأخير نضجها الجنسي. ولقد سُجِّلَت اكتشافات مشابهة بين الثدييات؛ مثل حيوانات الأبوسوم. فحينما عاشت في جزر منعزلة محمية من الافتراس على مدى بضعة آلاف من السنين، عاشت الأبوسومات لأكثر من ضِعْف عمرها الطبيعي، وكانت تشيخ بنصف المعدل الأصلي. ونحن البشر أيضًا تضاعفت أعمارنا القصوى على مدى ملايين السنين القليلة الأخيرة دون أي عواقب ضارة واضحة. ومن وجهة النظر التطورية، يجب أن نعتبر أسطورة تيثونوس محض خرافة.
إلا أن البشرية ظلَّتْ تلتمس الحياة السرمدية على مدى آلاف السنين، وأخفقت في الوصول إليها. صحيحٌ أنَّ أَوْجُهَ التقدُّم في مجالَي الصحة العامة والطب كانت سببًا لما حدث من زيادة في متوسط أعمار البشر، إلا أن العمر الأقصى — وهو حوالي ١٢٠ عامًا — ظلَّ ثابتًا دون تغيير بالرغم من جميع الجهود البشرية. وفي فجر التاريخ المدوَّن كان جلجامش ملك أورك يلتمس الحياة الأبدية في صورة نبات خرافي، وبعد سعيه البطولي الدءوب انسلَّ النبات الوهمي من بين أصابعه مثل خرافة. ومنذ ذلك الوقت لم يتغيَّر الحال. فقد ظهرت أوهام أخرى مثل إكسير الحياة والكأس المقدسة، وطحين قرن الحصان أحادي القرن الخرافي، وحجر الفلاسفة واللبن الزبادي، والميلاتونين، وكلها أشياء زُعِم أنها تطيل الأعمار، دون أن يحدث هذا فعلًا. ويمتلئ تاريخ أبحاث تجديد الشباب بالعديد من الدجالين والباحثين أيضًا. حتى إن العالم البيولوجي الفرنسي الشهير شارل براون سيكوار حقن نفسه بخلاصات من خصي الكلاب والخنازير الغينية، وزعم أنه بات يشعر بتحسن في نشاطه وقدرته العقلية، متقدِّمًا بزعمه هذا إلى الجمعية البيولوجية في باريس عام ١٨٨٩، بل إنه استعرض متفاخرًا تيَّار بَوْله المتدفِّق في شكل قوس أمام عدد من أعضاء الجمعية المذهولين مما يرونه. وفي نهاية ذلك العام كان ١٢ ألف طبيب يُقَدِّمون لمرضاهم هذا السائل الذي استعمله براون سيكوار ولم يلبث الجراحون في أصقاع الأرض أن بدءوا يزرعون في مرضاهم شرائح من الخصي المأخوذة من الماعز والقرود، بل والمساجين. ولعل أشهر أولئك الدجالين الأمريكيين على الإطلاق كان المدعو جون آر برينكلي؛ إذ صنع ثروة طائلة من زرع أجزاء من غدد الماعز في المرضى، قبل أن يموت رجلًا محطمًا، ضحيةً لألف من الدعاوي القضائية التي رُفِعَتْ ضده. ويبدو من المشكوك فيه أن تكون البشرية قد أضافت يومًا واحدًا لما قُدِّرَ لها من أعمار في هذه الدنيا، بالرغم من كل تلك المحاولات الإبداعية المتفاخرة.
إذن، هناك فجوة غريبة بين مرونة التطور — أي السهولة التي يبدو أن الأعمار تتشكَّل بها — وبين الجمود الصريح الذي يكتنف جهودنا حتى اليوم. فكيف يطيل التطور الأعمار بهذه السهولة؟ من الواضح ممَّا مَرَّ بنا من آلاف السنين من الفشل الذريع أننا لن نُحقِّق أي نجاح في هذا المضمار ما لم نفهم الأسباب الأكثر عمقًا للموت. من الظاهر، يبدو الموت «اختراعًا» محيِّرًا؛ إذ يعمل الانتقاء الطبيعي بصورة طبيعية على مستوى الكائنات المفردة، ومن الصعب أن أدرك فائدة الموت لي بوصفي فردًا، أو ما يجنيه سمك السالمون الباسيفيكي من تمزُّقه إلى أشلاء، أو ما تستفيده عناكب الأرملة السوداء من التهام بعضها بعضًا. ولكن من الواضح بنفس القَدْر أن الموت ليس أمرًا عرضيًّا، ولا شك أنه تطوَّرَ لمنفعة الأفراد (أو لمنفعة جيناتهم الأنانية، على حدِّ قول ريتشارد دوكينز الذي لا يُنسى) وذلك بعد بزوغ فجر الحياة نفسها مباشرةً. لذا، إذا أردنا أن نُحسِّن نهايتنا، وأن نتجنَّب آلام تيثونوس، فحريٌّ بنا أن نعود إلى البداية.
•••
تخيَّلْ أنك عُدْتَ بآلة الزمن ٣ مليارات سنة إلى الوراء في منطقة من المياه الساحلية الضحلة. أول ما ستلاحظه عندئذٍ هو أن السماء ليست زرقاء اللون، بل حمراء ضبابية غائمة، بما يذكرنا إلى حدٍّ ما بكوكب المريخ. تعكس البحار الساكنة درجات من اللون الأحمر. والجو دافئ باعتدال في هذه الغيوم، وإن كانت الضبابية الزائدة تمنع رؤية الشمس بوضوح. لا يُوجَد على اليابسة شيء يجذب العين. فالصخور عارية، مع رقع رطبة باهتة اللون هنا وهناك من البكتيريا التي تتعلق في ضعف بأي شيء تجده في الأرض. لا يُوجَد نجيل ولا نباتات من أي نوع. ولكن إذا خُضْتَ المياه الضحلة فستجد كميات لا حصر لها من قباب من صخور خضراء اللون، وهي تبدو حية في طبيعتها، ويصل أعلاها إلى ارتفاع متر تقريبًا. لا تزال تُوجَد بعض التراكيب النادرة المشابهة في أقصى الخلجان التي يتعذَّر الوصول إليها على كوكبنا الأرضي اليوم وتُسمَّى الصخور النسيجية (الستروماتوليتات). ولا شيء آخر يتقلَّب في المياه؛ لا أسماك هناك، ولا أعشاب بحرية، ولا سرطانات نشطة قوية، ولا شقائق نعمان متموجة. وإذا خلعت كمامة الأكسجين التي ترتديها، فسرعان ما ستدرك السبب؛ إذ ستختنق حينئذٍ في دقائق معدودة. فلا يكاد يكون ثمة أكسجين، ولا حتى بالقرب من الصخور النسيجية، إلا أن ما تحتوي عليه هذه الصخور من بكتيريا خضراء مزرقة يبدأ في إضفاء مسحات من ذلك الغاز الحيوي على الهواء. وفي غضون مليار سنة تكون انبعاثاتها في النهاية قد أضفَتْ على كوكبنا الألوان الخضراء والزرقاء المبهجة. وحينئذٍ فقط يمكننا أن نُسمِّي هذا المكان المقفر موطننا.
وإذا نظرنا إلى الأرض في تلك المرحلة المبكرة من الفضاء، واستطعنا اختراق حجب الضباب الأحمر الغائم، فلن نرى سوى مظهر واحد يُعتبَر بالتقريب هو نفس مظهرها اليوم؛ وهي المستعمرات الطحلبية التي تتكوَّن أيضًا من البكتيريا الزرقاء وثيقة الصلة بتلك التي تُوجَد في الصخور النسيجية، ولكنها تطفو في قطع شاسعة في البحار. وهي تبدو من الفضاء شبيهة إلى حد بعيد بالمستعمرات الطحلبية الحديثة، وتبدو تلك الحفريات العتيقة تحت المجهر مشابهة للبكتيريا الزرقاء الحديثة، مثل التريكودزميوم. وتستمر تلك المستعمرات مدة أسابيع، وينشط نموها السريع بفعل معادن يحملها البحر من الأنهار أو تُحمَل لأعلى من أعماق المحيطات بتأثير التيارات الصاعدة، ثم لا تلبث بين عشية وضحاها أن تندثر، وتذوب في الماء الذي لا يعكس مرة أخرى سوى صورة السماء الحمراء الخالية من مظاهر الحياة. وفي وقتنا هذا أيضًا تذوب المستعمرات الطحلبية في المحيطات الشاسعة بين عشية وضحاها دون سابق إنذار.
لم نَصِلْ إلى إدراك لما يحدث بالضبط إلا حديثًا. فهذه الحشود الشاسعة من البكتيريا لا تموت تلقائيًّا، وإنما تقتل أنفسها عمدًا؛ إذ يحتوي كل نوع أزرق منها في داخله على آلية للموت في صورة جهاز عتيق من الإنزيمات — الشبيهة على نحوٍ ملحوظ بالإنزيمات الموجودة داخلنا — مخصص لتفكيك الخلية من الداخل. تبدو فكرة إذابة البكتيريا لنفسها مضادة للبديهة لدرجة أن الباحثين كانوا يميلون إلى إغفال الدلائل عليها، ولكنها صارت الآن أقوى من أن يُغَض الطرف عنها. والحقيقة هي أن البكتيريا تموت «عمدًا»، وتوحي الأدلة الجينية التي ساقها بول فالكوفسكي وكاي بيدل بجامعة روتجرز في ولاية نيوجرسي أنها ظلَّتْ تفعل هذا على مدى ثلاثة مليارات سنة. فلماذا؟
لأن الموت مفيد. فالتجمعات البكتيرية تتكون مما لا حصر له من تريليونات الخلايا المتشابهة جينيًّا، إن لم تكن متطابقة. إلا أن الخلايا المتطابقة جينيًّا لا تكون متماثلة دائمًا. وما عليك سوى أن تفكر في أجسام البشر؛ إذ تُوجَد بها مئات عدة من أنماط الخلايا المختلفة، وكلها متطابقة جينيًّا. إلا أن الخلايا تتطور بشكل مختلف أو تتمايز؛ استجابةً لمؤثرات كيميائية مختلفة بشكل طفيف آتية من البيئة، التي تعني في حالتنا هذه الخلايا المحيطة. وفي حالة المستعمرات البكتيرية، تتضمن البيئة الخلايا الأخرى، وبعضها يبعث بعوامل كيميائية، أو حتى بسموم مباشرة، فضلًا عن عوامل الضغط الفيزيائية مثل مستوى ضوء الشمس، وتوفر المواد الغذائية، والعدوى الفيروسية … إلخ. ومن ثم فإنها قد تكون متطابقة جينيًّا ولكن بيئتها تهاجمها بشراسة بطرق متفاوتة على طول المدى، وهذا هو أساس تمايز تلك الخلايا.
منذ ثلاثة مليارات عام شهدت الأرض أولى علامات التمايز؛ وهي أن بدأت الخلايا المتطابقة جينيًّا في اتخاذ مظاهر متفاوتة ومتشعبة، بما يوجهها نحو مصائر مختلفة، اعتمادًا على تاريخ حياتها. فبعضها يصير أبواغًا صلبة مقاومة للظروف السيئة، وبعضها الآخر يكوِّن أغشية رقيقة لزجة (أغشية حيوية) تلتصق بالأسطح المغمورة بالمياه مثل الصخور، والبعض الثالث يزدهر مستقلًّا وبعيدًا عن أصوله القبلية، وبعضها الأخير يموت ببساطة.
ولكن، لا يموت هذا البعض الأخير ببساطة، وإنما على نحوٍ مُعقَّد. ليس من المعروف لدينا بالتأكيد كيفية نشوء تلك الآلية المعقدة للموت في البداية. ولكن أكثر الاحتمالات ترجيحًا هي نشوءُها من خلال تفاعل البكتيريا مع ملتهمات البكتيريا؛ وهو نوع من الفيروسات التي تصيب البكتيريا بالعدوى فتقتلها وتلتهمها من الداخل. تُوجَد الدقائق الفيروسية في المحيطات الحديثة بوفرة صادمة؛ إذ يُوجَد منها مئات الملايين في كل مليلتر من مياه البحر، أي ما لا يقل عن ضعفَيْ مقدار البكتيريا. ونكاد نجزم بأنها كانت تُوجَد بكميات مقاربة لذلك في العصور الغابرة. وتعد الحرب المستمرة بلا توقف بين البكتيريا وملتهماتها الفيروسية إحدى القوى الأكثر أهمية، والأقل ذكرًا، في مجال التطور. ومن المرجح أن الموت المبرمج نبع بوصفه أحد الأسلحة المبكرة في هذه الحرب.
صحيح أن تلك المعارك بين البكتيريا والفيروسات تقع على الأرجح عند الجذور العميقة للموت، إلا أن ما يحدث من انتحار إنما يفيد البكتيريا بلا شك، حتى في غياب العدوى. تنطبق المبادئ نفسها؛ فأي تهديد مادي مصحوب بالقدرة على استئصال شأفة المستعمرة بكاملها (مثل الإشعاع فوق البنفسجي الشديد أو الحرمان من المواد الغذائية) يمكن أن يقدح زناد عملية الموت المبرمج لدى مستعمرات البكتيريا الزرقاء. تنجو أقوى الخلايا من هذا التهديد عن طريق التطور إلى أبواغ صلبة تشكِّل بذورًا للمستعمرة التالية، بينما تستجيب شقيقاتها الأضعف، إذا كانت متطابقة جينيًّا، لنفس التهديد بأن تشغِّل آلية الموت. لا يُحْدِث النَّظَرُ إلى هذه الممارسات باعتبارها قتلًا أو انتحارًا فارقًا كبيرًا. ولكن يمكننا القول في حيادية إن الناتج ببساطة هو إمكانية أن يعيش المزيد من نسخ الجينوم البكتيري على مدار الزمن التطوري إذا تَمَّ التخلص من الخلايا التالفة. إنها أبسط صورة للتمايز الخلوي، وهي اختيار ثنائي بين الحياة والموت، اعتمادًا على تاريخ حياة الخلايا المتطابقة.
هذا المنطق نفسه ينطبق بقوة أشد على الكائنات متعددة الخلايا. فهنا تكون الخلايا دائمًا متطابقة جينيًّا، وترتبط مصائرها معًا برباط أوثق مما يحدث في حالة مستعمرة مفككة أو تجمُّع طحلبي. وحتى إذا كان الكائن في صورة كرة بسيطة، فإن التمايز يكون أمرًا حتميًّا تمامًا؛ فهناك فرق بين ما بداخل تلك الكرة وما هو خارجها من حيث: توافر المواد الغذائية، والأكسجين، وثاني أكسيد الكربون، والتعرُّض للشمس، أو للتهديد من الأعداء. لا يمكن أن تكون الخلايا متماثلة تمامًا، حتى إذا «أرادت» هذا. وسرعان ما تبدأ أبسط عمليات التأقلم في أن تأتي أكلها. فكثير من الطحالب — مثل طحلب الفولفوكس كروي الشكل — في مراحل معينة من تطورها يكون لديها أهداب طويلة تشبه الأسواط، تستخدمها في الحركة. ومن المفيد أن يكون لدى مستعمرة كروية الشكل كتلك خلايا مزوَّدة بأسواط من الخارج؛ إذ إن حركتها المجمَّعة تُحرِّك المستعمرة بكاملها، بينما تبقى الأبواغ (وهي مرحلة تطورية مختلفة للخلايا المتطابقة جينيًّا) محمية بالداخل. وهذا التقسيم البسيط للعمل لا بد أنه مَنَحَ المستعمرات البدائية الأولى ميزة كبيرة فوق الخلايا المفردة. وميزة التمتع بتلك الأعداد الكبيرة وتخصصها يمكن تبيُّنها أيضًا في المجتمعات البشرية الزراعية الأولى، حيث كان الطعام، لأول مرة، وفيرًا بدرجة تكفي لدعم السكان كثيري العدد مما أتاح تكريسهم لمهام تخصصية؛ مثل: البستنة، وتصنيع المعادن، والاشتغال بالطب والقانون، والبناء، وخوض الحروب. ولا عجب أن حلَّت المجتمعات الزراعية سريعًا محل القبائل الصغيرة التي كانت تمارس الصيد وجمع الثمار؛ حيث كان التخصص المشابه مستحيلًا تمامًا.
وحتى أبسط المستعمرات تظهر بالفعل اختلافًا أساسيًّا بين نوعين من الخلايا؛ هما: الخلايا الجنسية (أو الأمشاج)، وخلايا الجسم (أو الخلايا الجسدية). كان أول من لاحظ هذا التمايز هو البيولوجي التطوري الألماني أوجست فايسمان (وقد صادفناه بالفعل في الفصل الخامس)، ولعله أكثر متبعي المذهب الدارويني في القرن التاسع عشر تأثيرًا وتعمُّقًا بعد داروين. ولقد افترض فايسمان أن الخلايا الجنسية هي وحدها الخالدة؛ إذ تمرر الجينات من جيل إلى الجيل الذي يليه، بينما تكون الخلايا الجسدية قابلة للهلاك، وأنها مجرد وسائل مساعدة للخلايا الجنسية الخالدة. تعرَّضَتْ هذه الفكرة للتكذيب على مدى نصف قرن مِنْ قِبَل العالم الفرنسي الشهير ألكسي كاريل الحائز على جائزة نوبل، الذي تعرَّض هو نفسه للتكذيب فيما بعد ولحق به العار؛ لأنه اختلق بياناته. لقد كان فايسمان محقًّا. وتمييزه هذا لنوعي الخلايا يُفسِّر في نهاية الأمر موت جميع الكائنات متعددة الخلايا. إن التخصص الخلوي يعني بطبيعته أن بعض الخلايا فقط في الجسم يمكن أن تكون خلايا جنسية، بينما يجب على الباقي أن يلعب دورًا داعمًا؛ إذ تكون الفائدة الوحيدة لتلك الخلايا الجسدية أن تتلقى الجينات الوراثية المشتركة التي تُمرَّر إليها من الخلايا الجنسية. وما إن تتقبَّل الخلايا الجسدية دورها التابع وتنجزه، حتى يصير توقيت موتها خاضعًا أيضًا لاحتياجات الخلايا الجنسية.
ويتضح الفارق بين المستعمرة وبين الكائن متعدد الخلايا الحقيقي على الوجه الأمثل في ضوء الالتزام بالتمايز. فالطحالب البسيطة نسبيًّا، مثل الفولفوكس، تنتفع بالحياة المجمعة ولكنها أيضًا تختار العيش حرة وتعيش كخلايا منفردة. إن الاحتفاظ بإمكانية الاستقلالية يقلص درجة التخصص التي يمكن الحصول عليها. فمن الواضح أن الخلايا التي في درجة تخصص الخلايا العصبية مثلًا لا يمكنها العيش حرة. ولا يمكن تحقيق حياة متعددة الخلايا حقيقية إلا من قبل خلايا «جُهِّزَتْ» لإخضاع أنفسها بالكامل لسبب وجودها واستمرارها. يجب الحفاظ على التزامها هذا، وأي محاولات منها للنكوص والارتداد إلى حالة الاستقلالية تُعاقَب بالموت، ولا شيء آخر يصلح. ولنفكِّر فيما يحدث من دمار نتيجة لمرض السرطان، حتى في يومنا هذا، بعد مليار عام من الحياة متعددة الخلايا، لندرك استحالة تلك الحياة إذا أُصِيبَت الخلايا بالجنون واستقلت بذاتها على هواها. فالموت وحده هو الذي يجعل الحياة متعددة الخلايا ممكنة. وبطبيعة الحال، بدون الموت لن يكون ثمة تطور، وبدون البقاء التمايزي للخلايا لن يكون للانتقاء الطبيعي دور.
وحتى في أوائل الكائنات متعددة الخلايا لم يتطلَّب تهديدُ الخلايا بعقوبة الموت، بسبب انتهاكها للقوانين، إجراءَ قفزة تطورية كبيرة. وإذا رجعت إلى الفصل الرابع فستجد أن الخلايا «حقيقية النوى» المعقَّدة تكوَّنَتْ أصلًا من اندماج بين نوعين من الخلايا: خلية العائل، والبكتيريا التي تطوَّرَتْ فيما بعد إلى الميتوكوندريا. وتلك بدورها هي محطات لتوليد الطاقة التي صارت تُولِّد الطاقة للخلية. كانت أسلاف الميتوكوندريا مجموعة من البكتيريا حرة المعيشة التي احتوت (مثل البكتيريا الزرقاء) على إنزيمات الكاسباز المطلوبة لتمزيق الخلايا من الداخل وقتلها. ليس مهمًّا من أين حصلت على تلك الإنزيمات (فمن المحتمل أنها انتقلت إليها من البكتيريا الزرقاء، أو العكس بالعكس، أو أن كلتا المجموعتين ورثت إياها من سلف مشترك شديد القِدَم). الفكرة الرئيسية هنا أن الميتوكوندريا زودت الخلايا حقيقية النوى الأولى بآلة الموت، العاملة بفاعلية كاملة.
ولكنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين موت الخلايا وموت الكائنات نفسها. فالموت الخلوي يلعب دورًا مهمًّا في شيخوخة الكائنات متعددة الخلايا وموتها، إلا أنه لا يُوجَد قانون يفرض أن تموت «كل» الخلايا الجسدية، أو يمنع الخلايا الأخرى القابلة للتخلص منها بنفس الدرجة من أن تحل محلها. إن بعض الحيوانات مثل حيوان شقائق نعمان المياه العذبة الذي يُسمَّى «الهيدرا» تُعَدُّ خالدة بالأساس؛ صحيح أن خلاياه تموت ويتم استبدالها، ولكن الكائن ككلٍّ لا تبدو عليه أي دلائل على الشيخوخة؛ إذ يُوجَد توازن طويل الأمد بين حياة الخلايا وموتها. ويشبه هذا الأمر جدولًا مائيًّا متدفقًا. فلا يمكن أن يخوض المرء في نفس ذلك الجدول مرتين؛ لأن مياهه تتدفَّق وتتجدَّد بلا انقطاع ويتم استبدالها باستمرار، إلا أن حدود الجدول وحجمه وشكله تبقى كما هي بلا تغيير. وفي نظر أي شخص، باستثناء فلاسفة اليونان، سيبدو أنه نفس الجدول دون تغيُّر. وبالمثل، فإن خلايا الكائن الحي تتبدَّل مثل المياه، لكن الكائن ككلٍّ لا يتغيَّر. فأنا أبقى كما أنا، وإن تغيَّرت خلاياي.
لا يمكن أن يسري الأمر على نحو مختلف. فإذا اختل التوازن بين حياة الخلايا وموتها، فلن يكون الكائن أكثر استقرارًا من جدول مائي، سواء في حالة فيضان أو جفاف. فإذا استطعت ضبط إعدادات «الموت» بحيث تقلِّل احتمال موت الخلايا كثيرًا، فستكون النتيجة هي النمو السرطاني الخارج عن السيطرة. وإذا زدت احتمال موت الخلايا كثيرًا، فستكون النتيجة هي الشيخوخة السريعة. إن السرطان والتنكس الخلوي وجهان لعملة واحدة. وكلاهما يهلكان حياة الكائنات عديدة الخلايا. ولكن الهيدرا البسيطة يمكنها أن تحفظ توازنها لأمد طويل جدًّا، ويستطيع البشر الحفاظ على نفس الوزن والبنية عقودًا عدة بالرغم من استبدال مليارات الخلايا يوميًّا. ولا يُفقَد هذا التوازن إلا حينما يشيخ المرء، وحينئذٍ نتعجَّب حينما نعاني من وجهي العملة في وقت واحد. فالسرطان والأمراض التنكسية كلاهما يرتبط بالضرورة بالتقدُّم في السن. فلماذا إذن تشيخ الكائنات الحية وتموت؟
•••
إن أكثر الأفكار شيوعًا في هذا الصدد، التي طرحها فايسمان في عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر هي فكرة خطأ، ولقد أدرك هو نفسه هذا الخطأ سريعًا. فلقد افترض فايسمان أصلًا أن الشيخوخة والموت يخلصان المجتمعات البشرية من العجائز المصابين بالبلى والهرم، ويستبدلان بهم نماذج جديدة نشطة من صغار السن والشباب مزوَّدة بطاقم جديد من الجينات المختلطة بفضل التكاثر الجنسي. هذه الفكرة تضفي على الموت نوعًا من النبل والتناسق، وتجعله يحدث في سبيل هدف أسمى، حتى إن كان بالكاد هدفًا دينيًّا جليلًا. من هذا المنظور يكون موت الفرد مفيدًا للنوع، تمامًا مثلما يكون موت بعض الخلايا مفيدًا للكائن الحي. إلا أن هذا الافتراض يدور في دائرة مفرغة، كما قال منتقدو فايسمان؛ فالأشخاص المسنون لا يعانون البلى والهرم إلا إذا أُصِيبوا بالشيخوخة في المقام الأول، ومن ثم فإن فايسمان افترض مسبقًا وجود ما كان يحاول أن يُفَسِّره من الأساس. بقي السؤال كما هو: ما الذي يجعل الأشخاص يُصابون بالبلى مع التقدُّم في السن، حتى إذا كان الموت يفيد المجتمعات البشرية؟ ما الذي يجب فعله لمنع الغش المتمثل في الأشخاص الذين ينجون من الموت مثل الخلايا السرطانية، والذين ينجبون المزيد من الذرية، وكلٌّ منهم مُزوَّد بنفس الجينات الأنانية؟ وما الذي يجب فعله لإيقاف أي سرطان في المجتمعات البشرية؟
كان أول من قَدَّم الإجابة الداروينية هو بيتر مدوَّر في محاضرته الافتتاحية الشهيرة في كلية لندن الجامعية في عام ١٩٥٣. وكانت إجابته أن هناك احتمالية إحصائية لموت الفرد بغضِّ النظر عن التقدُّم في السن؛ إذ يمكن أن تصدمه حافلة أو قطار، أو يسقط على رأسه حجر من السماء أو يأكله نمر أو يُصاب بمرض قاتل. وحتى إذا لم يَمُت المرء على المدى الطويل، فلن يعيش إلى الأبد بلا نهاية. فالأشخاص الذين يركزون مواردهم التكاثرية في الجزء المبكر من حياتهم يكونون بهذا أكثر ترجيحًا من الناحية الإحصائية لأن يحظوا بذرية أكثر من الأشخاص الذين يتبعون أسلوب عدم التعجل والذين يتكاثرون، مثلًا، بمعدل مرة كل ٥٠٠ عام، ويندمون على فَقْدِهم لصوابهم بعد ٤٥٠ عامًا فقط. فمن يقرر التزاوج والإنجاب مبكرًا يكون لديه المزيد من الذرية التي ترث جيناته «التزاوجية المبكرة» أكثر من أقربائه المتأخرين في الإنجاب. وهنا تكمن المشكلة.
يقول مدوَّر إن كل نوع من الكائنات يتمتع بمدى عمريٍّ إحصائيٍّ محتمل، وهو يعتمد على حجم الأفراد، ومعدل أيضهم، وأعدائهم الطبيعيين من المفترسات، وما يتمتَّعون به من خصائص بدنية كالأجنحة، وغير ذلك. فإذا كان المدى العمري الإحصائي ذلك عشرين عامًا مثلًا، فإن الأفراد الذين يكملون دورتهم التكاثرية خلال هذه المدة سيخلِّفون وراءهم المزيد من الذرية أكثر من الذين لا يفعلون ذلك. والجينات التي «تُقْدِم على المخاطرة» ستبلي بلاءً أفضل من تلك التي لا تفعل ذلك. ومن ثم خلص مدوَّر إلى أنه في نهاية الأمر الجينات التي يمكن أن تُسبِّب مرض القلب في الوقت الذي يُفترَض إحصائيًّا أن يكون الفرد في عداد الأموات، تتراكم في الجينوم. ففي البشر، لا يمكن أن يتخلص الانتقاء الطبيعي من جين يُسبِّب مرض ألزهايمر في سن ١٥٠ عامًا إذا لم يَعِشْ أحدٌ إلى هذه السن. وفي الأزمنة الماضية نجت الجينات التي تسبب مرض ألزهايمر عند سن السبعين لأنه لم يكن أحد يتجاوز سن السبعين إلا القليل. ومن ثم ينظر مدوَّر إلى سن الشيخوخة باعتبارها التدهور الناتج عن الجينات التي تستمر في أداء وظائفها في إنسان لا يزال على قيد الحياة وكان ينبغي أن يكون في قبره منذ زمن؛ فهي نتاج عمل جينات تُعَدُّ بالمئات، إن لم تكن بالآلاف، تُعتبَر ميتة من الناحية الفعلية، ومن ثم فهي خارج إطار الانتقاء الطبيعي. والبشر هم وحدهم الذين يعانون على طريقة أسطورة تيثونوس؛ لأنهم وحدهم الذين نجحوا بطرق اصطناعية في إطالة متوسط أعمارهم بتخلصهم من كثير من الأسباب الإحصائية للموت، مثل الحيوانات المفترسة وكثير من الأمراض المعدية الخطرة. لقد أخرجنا من القبور جينات ميتة، وها هي تتعقبنا حتى قبورنا.
نُقِّحَتْ أفكار مدوَّر على نحوٍ مستقل مِنْ قِبَل البيولوجي التطوري الأمريكي جورج سي ويليامز الذي اقترح فكرة أعطاها واحدة من أسوأ التسميات العلمية بالتأكيد؛ وهي: تعدد النمط الظاهر المتضاد. في رأيي، هذا المصطلح الغريب مستفز وسخيف. وفي الواقع هو يشير إلى أن الجينات لها تأثيرات عدة، بعضها أفضل من البعض الآخر، بل إن بعضها ضار بالفعل. ونذكر كمثال تقليدي ومؤسف على ذلك: داء هنتنجتون؛ وهو مرض تنكسي بدني وعقلي قاسٍ لا يرحم، ويبدأ باختلاجات عضلية طفيفة وتعثُّر عند المشي في فترة مبكرة من منتصف العمر، ولا يلبث أن يُجرِّد المريض من قدرته على المشي والكلام والتفكير والتعقُّل. تنتج هذه الحالة المرضية من «الجنون الترنحي» عن خلل في أحد الجينات، ولا يكشف هذا الخلل عن نفسه إلا بعد النضج الجنسي. وتقترح بعض الأدلة غير الحاسمة أن الأشخاص الذين يُصابون بداء هنتنجتون يتمتعون بكفاءة أكثر من الناحية الجنسية في مرحلة مبكرة من حياتهم، وإن كان سبب هذا غير معروف، ويُعَدُّ مبلغ هذا التأثير ضئيلًا للغاية. ولكن الفكرة هي أن الجين الذي يُحدث ولو قدرًا ضئيلًا من الكفاءة الجنسية يتم انتقاؤه ويبقى في الجينوم، وإن كان سيُسبِّب فيما بعد أشد الانحلالات العصبية فظاعة.
وبصفة عامة، إذن، المفهوم الطبي الحديث للأمراض المرتبطة بكبر السن يتوافق بشكل وثيق مع التصور التطوري لمدوَّر للجينات متأخرة التأثير. تسهم مئات عديدة من الجينات في زيادة استعدادنا للإصابة بالأمراض، ولدى كلٍّ منا طيف خاص به للإصابة بالأمراض، أي مقبرتنا المميزة من الجينات، التي يمكن أن تزداد تأثيراتها الضارة شدة أو تقل عن طريق نمط الحياة الخاص بكلٍّ منا، أو عن طريق الجينات الأخرى. ولكنَّ هناك مشكلتين خطيرتين فيما يختص بوجهة النظر هذه عن الشيخوخة.
تكمن أولاهما في انتقائي للألفاظ في هذا الصدد؛ فأنا أتحدَّث عن الأمراض، وتحديدًا عن «أعراض» الشيخوخة، وليس عن «السبب» الكامن وراء الشيخوخة. فتلك الجينات ترتبط بأمراض مُعيَّنة ولكن القليل منها فقط على ما يبدو هو الذي يُسبِّب الشيخوخة ذاتها. من الممكن أن يعيش الإنسان حتى عمر ١٢٠ عامًا، دون أن يعاني مرضًا ذا بال. ولكنه في النهاية يهرم ويقضي نَحْبَه. وبالنسبة لبقيتنا، فإن التأثيرات السلبية للجينات المعيبة يكشفها التقدُّم في السن؛ فلم تكن تزعجنا حينما كنا شبابًا، ولم تفعل هذا إلا حينما هرمنا. وهناك مَيْل في الطب للنظر إلى الأمراض المتعلقة بكبر السن باعتبارها أمراضًا باثولوجية عضوية (ومن ثم فهي «قابلة للعلاج»)، والنظر إلى كبر السن ذاته باعتباره «حالة» وليس مرضًا، ومن ثم فهو بطبيعته «غير قابل للعلاج». إن هناك رفضًا يمكن تفهمه لِوَصْم المسن باعتباره مريضًا. ومع أن وجهة النظر هذه ليست مفيدة، من حيث إنها تحاول فكَّ الاشتباك بين الشيخوخة والأمراض المتعلقة بها، فإن هذا التمييز يبلور فكرتي عن مدوَّر بشكل واضح. فقد فسَّرَ مدوَّر دور الجينات في الأمراض المتعلقة بالشيخوخة، ولكنه لم يُفَسِّر السبب من وراء الشيخوخة ذاتها.
لم تأتِ الرابطة بين المرض والعمر كمفاجأة. فعلى أي حال، جميع الثدييات تقريبًا تعاني طيفًا مشابهًا من الأمراض المتعلقة بكبر السن، بما فيها الداء السكري والسكتة الدماغية والأمراض القلبية الوعائية والعمى وعته الشيخوخة … إلخ. ومع ذلك، فإن الجرذ يقع فريسة للسرطان في عمر ثلاث سنوات تقريبًا حينما يشيخ، بينما يبدأ البشر في معاناة نفس الأمراض في سن الستين أو السبعين. ببساطة، حتى الأمراض الجينية ترتبط بالشيخوخة، وليس بالتوقيت الزمني نفسه. وإن ما جاء كمفاجأة حقيقية في مجال الطفرات الجينية المتعلقة بالعمر كانت مرونة المنظومة ككلٍّ؛ إذ يمكن أن تسبب طفرة واحدة في جين واحد فقط مضاعفة المدى العمري وفي الوقت ذاته «تعطِّل» أمراض الشيخوخة.
ولا حاجة بنا للتأكيد على أهمية هذه الاكتشافات للبشر. فكل أمراض الشيخوخة، من السرطان إلى أمراض القلب إلى مرض ألزهايمر، يمكن نظريًّا تأخيرها، بل وتجنُّبها بإجراء تعديلات بسيطة في مسار واحد. إنه استنتاج صادم، ومع هذا فهو ماثل أمام وجوهنا؛ إذ ينبغي أن يكون من الأسهل أن «نعالج» الشيخوخة وجميع الأمراض المتعلقة بها بعلاج طبي واحد شامل من أن نعالج أي واحد من تلك الأمراض، مثل ألزهايمر، في أناس توغَّلوا في الشيخوخة بالفعل. وهذا هو السبب الثاني في اعتقادي أن تفسير مدوَّر للشيخوخة خطأ. فنحن لسنا خاضعين تمامًا لمقبرة الجينات الخاصة بنا، بل يمكننا أن نتخطَّى جبانة الجينات تمامًا إذا تجنَّبنا الشيخوخة في المقام الأول. إن أمراض الشيخوخة تعتمد على «العمر البيولوجي» وليس الزمن المنقضي وحسب. فإذا عالجنا الشيخوخة نكون قد عالجنا أمراض الشيخوخة، كلها. والدرس الدامغ المستفاد من كل هذه الدراسات الجينية هو أن الشيخوخة قابلة للعلاج.
•••
إن وجود مسار كيميائي حيوي يتحكم في المدى العمري يثير بضعة أسئلة في مجال التطور. أولى تبعات الأمر، وهو الأمر غير الصحيح، هو أن العمر مكتوب مباشرةً في الجينات؛ بمعنى أن الشيخوخة والموت مبرمجان، ويُفترَض أن هذا لصالح نوع الكائن ككلٍّ؛ وهو الافتراض الذي كان فايسمان أول من وضعه. ولكن إذا استطاعت طفرة جينية واحدة أن تضاعف المدى العمري، فلماذا لا نرى المزيد من «حالات الغش»، والمزيد من الحيوانات التي تخرج عن إطار النظام لمصلحتها؟ إن الأمر بسيط. فإذا كانت الحيوانات لا تغش، فلا بد أن هناك عقوبة للغش، عقوبة عنيفة بدرجة تكفي للتغلب على مزايا الحياة الأطول. وإذا كان هذا صحيحًا، فربما نفضِّل أن نحتفظ بأمراضنا.
هناك عيب بالفعل؛ وهو التكاثر الجنسي مجددًا. فإذا شئنا أن نطيل أعمارنا وأن نتجنَّب الأمراض، فمن الحكمة أن نقرأ الكلمات صغيرة الحروف في عقدنا المكتوب مع الموت. فمن العجيب أن الطفرات في جميع الجينات المتعلقة بطول العمر، التي تُسمَّى «جينات العمر»، تعمل على إطالة المدى العمري، وليس تقصيره. فالوضع الأساسي دائمًا هو أن يكون العمر قصيرًا. وهذا يكون منطقيًّا حينما نضع في اعتبارنا طبيعة المسار الكيميائي الحيوي الذي تتحكم فيه جينات العمر. إن الأمر لا يتعلَّق بالتقدُّم في العمر ذاته، ولكن بالنضج الجنسي. إن نمو حيوانٍ ما وصولًا إلى النضج الجنسي يتطلَّب وفرة في الموارد والطاقة، وإذا لم تكن هذه الموارد متاحة فمن الأفضل تأخير النمو الجنسي والتريث إلى حين توافر تلك المتطلبات. وهذا يعني أن الوفرة البيئية في حال وجودها، ينبغي ضبطها وتحويلها إلى عملة كيميائية حيوية تخاطب الخلايا مباشرةً قائلة لها: «هناك وفرة من الطعام، والوقت الحالي وقت مناسب لتستعدِّي للتكاثر. فلتتهيَّئي للتزاوج!»
إن الإشارة الكيميائية الحيوية التي تدل على الوفرة هي هرمون الأنسولين، فضلًا عن عائلة كبيرة من الهرمونات ذات الصلة التي تعمل على فترات أطول (لأسابيع أو شهور)، وأكثرها وضوحًا هو عامل النمو ذو الصلة بالأنسولين. لا تعنينا هنا أسماء هذه الهرمونات، وفي ديدان النيماتودا وحدها يُوجَد تسعة وثلاثون هرمونًا ذات صلة بالأنسولين. المهم أن الطعام حينما يكون وفيرًا، تنبري هرمونات الأنسولين لأداء مهامها، وتنظيم تشكيلة من التغيرات التطورية التي تهيئ الحيوان للتزاوج. وإذا لم يكن الطعام متاحًا تسكن أصوات هذه المسارات، ويتم إرجاء النمو الجنسي. إلا أن السكون لا يعني عدم حدوث شيء مطلقًا، بل على العكس، فإن غياب إشارة ما تكتشفه مستشعرات أخرى، وهذه بالتبعية تفرض قيودًا على أنشطة الحياة، وكأنها تقول للكائن الحي: انتظر واصبر حتى تتحسن الأحوال، ثم حاوِلْ مجددًا أن تتزاوج. وفي نفس الوقت يُحفَظ الجسم في حالة كمون أطول مدة ممكنة.
تعمل طفرات جينات العمر على إسكات هذه الجينات؛ إذ تعطل الإشارة الدالة على الوفرة، وبدلًا منها تستثير الجينات المختصة بالصيانة الجسدية. وحتى حينما يكون الطعام وفيرًا، تخفق جينات العمر الطافرة في الاستجابة. أولى المفارقات العديدة التي يتسبَّب فيها هذا الأمر هو أن هذه الطفرات تقاوم الإشارة القوية الدالة على وجود الإنسولين. ومكمن المفارقة هنا هو أن مقاومة الجسم للإنسولين في البشر لا تُسبِّب طول العمر وإنما تُسبِّب الداء السكري من النوع الثاني الذي يُصِيب الكبار. والمشكلة أن الإفراط في الأكل، إذا أُضِيفَ إليه وجود عزم فسيولوجي على اختزان الموارد الشحيحة لأوقات أفضل، يؤدي إلى زيادة الوزن والداء السكري والوفاة المبكرة. ثاني المفارقات أن العقوبة المفروضة مقابل إطالة الحياة، وهي تأجيل إمكانية التزاوج، تبقى مستمرة بإصرار. وهي تتجسَّد في صورة انعدام في الخصوبة. ومن ثم فليس مِنْ قَبِيل المصادفة أن ارتبط الداء السكري بانعدام الخصوبة. فالداء السكري وانعدام الخصوبة ينتجان عن التقلُّب الهرموني ذاته. ويمكن أن تؤدِّي إعاقة الإنسولين إلى إطالة الحياة فقط إذا بقينا جائعين معظم الوقت، على أن يكون ثمن ذلك عدم إنجاب أطفال مطلقًا.
بالطبع نعلم هذا لعقود من الزمان، وهذه هي المفارقة الثالثة. ربما لا تعجبنا هذه الحقيقة كثيرًا، ولكننا اكتشفنا منذ عشرينيات القرن العشرين أن الاعتدال في الأكل والجوع المعتدل لفترات معتدلة يساعد على إطالة العمر. وهذا ما يُسمَّى تقييد السعرات. فلقد تبيَّنَ أن الفئران إذا تمَّتْ تغذيتها بغذاء متوازن، ولكنه يقل في سعراته بنسبة ٤٠ بالمائة عن المعتاد، تعيش مدة أطول بمقدار النصف من أقربائها التي تغذَّتْ جيدًا، كما تقل معاناتها من أمراض الشيخوخة. وهكذا، فإن الأمراض المتعلقة بالشيخوخة تتأجل إلى أجلٍ غير مسمى، كما يقل احتمال الإصابة بها. ليس مؤكدًا إن كان تقليل السعرات في البشر له نفس التأثيرات كما الحال في الفئران، ولكن هناك من العلامات ما يفيد بهذا، وإن كان بدرجة أقل قليلًا؛ إذ تشير دراسات كيميائية حيوية إلى احتمال حدوث تغيُّرات مماثلة في البشر أيضًا إلى حدٍّ بعيد. ولكن بالرغم من الحقيقة القائلة إننا نعرف تأثيرات تقييد السعرات على مدى عقود، فإننا لا نعرف إلا القليل عن كيفية حدوث هذا وسببه، أو حتى ما إذا كان هذا ينطبق على البشر بشكل مؤكد.
لم نتوصل إلى الإجابة عن هذه التساؤلات بصفة مؤكدة حتى الآن، وكما يحدث غالبًا، فيبدو أنه يُوجَد عدد من الإجابات يضاهي عدد الباحثين. بعض أولئك الباحثين يركز على أهمية وجود «استجابة توترية» واقية، بينما يركز البعض الآخر على التنظيم الفعال للإنزيمات المزيلة للسموم، ويركز البعض الثالث على أهمية تعزيز منظومة التخلص من نفايات الجسم. وقد تكون كل وجهات النظر تلك مهمة في بعض الظروف، ولكن يبدو أن أهميتها تتفاوت بين أنواع الكائنات المختلفة. والتغير الوحيد الذي يبدو أنه راسخ ومستقر بين الكائنات من الفطريات إلى الحيوانات، ومن بينها الإنسان، يتعلق بمحطات توليد الطاقة داخل الخلية: الميتوكوندريا. فتقييد السعرات يستحث في جميع الحالات تقريبًا المزيد من الميتوكوندريا، التي تتميز أغشيتها بمقاومة التلف، والتي يقل ما يتسرب منها من نواتج أيضية من «الجذور الحرة» المتفاعلة أثناء عملية التنفس. ولا تتميَّز هذه التغيرات بالثبات والرسوخ فحسب، بل إنها تنسجم أيضًا مع الأبحاث التي أُجْرِيَتْ على مدى نصف قرن عن العلاقة بين الجذور الحرة والشيخوخة.
•••
تعود الفكرة القائلة إن الجذور الحرة قد تُسبِّب الشيخوخة إلى خمسينيات القرن العشرين؛ حيث افترض دنهام هارمان، الذي كانت لديه خلفية عن كيمياء الجذور الحرة في صناعة الزيوت، أن دقائق الأكسجين أو النيتروجين المتفاعلة تلك (التي فقدت إلكترونًا أو اكتسبته) قد تهاجم أيضًا جزيئات بيولوجية مهمة مثل الدي إن إيه والبروتينات. كما افترض هارمان أنها قد تؤدي في نهاية الأمر إلى تراكم النفايات في الخلايا ودفع عملية الشيخوخة قدمًا.
تغيرت أمور كثيرة خلال نصف القرن الذي تلى تقديم هارمان لفكرته الأصلية، ومن العدل الآن أن نقول إن هذه النظرية، على النحو الذي صِيغَتْ به في البداية، خطأ. وإن كان يمكن لنسخة مُعدَّلة منها أن تكون صوابًا.
أما العامل الثاني الذي لم يعرفه هارمان (لأنه لم يتم اكتشافه إلا بعد زمن هارمان بخمس وعشرين عامًا) فهو الموت المبرمج للخلايا. ففي معظم الخلايا لا يزال الموت المبرمج يتم تنسيقه مِنْ قِبَل الميتوكوندريا، التي نقلت المنظومة كلها إلى الخلايا حقيقية النوى منذ مليارَيْ عام. ومن الإشارات الرئيسية التي توجِّه الخلايا للموت زيادة تسرب الجذور الحرة من الميتوكوندريا. واستجابة لإشارة الجذور الحرة هذه، تشغِّل الخلية جهاز الموت الذي لديها وتنسحب في صمت من إطار الحياة، وتختفي جميع الآثار الدالة على وجودها في السابق. فبدلًا من التراكم المميز لحطام الجزيئات الذي تُصوِّره هارمان، فإن آلة الموت الصامتة تعمل باستمرار على التخلص من الأدلة، بدرجة من الكفاءة تماثل جهاز الاستخبارات السوفييتي. وبهذا فإن اثنين من التوقعات الأساسية لنظرية هارمان — أن التلف الجزيئي يتراكم حتى مستويات كارثية مع التقدم في السن، وأن مضادات الأكسدة لا بد أنها تبطئ هذا التراكم ومن ثم تعمل على إطالة العمر — قد تبيَّن خطؤهما ببساطة.
والاستثناءات هنا تثبت القاعدة بالفعل. فكثير من الطيور، على سبيل المثال، تعيش أطول بكثير مما يُتوقَّع لها على أساس معدلات أيضها. فالحمامة مثلًا تعيش حوالي خمس وثلاثين سنة؛ أي أطول مما يعيشه الجرذ بعشرة أضعاف، بالرغم من حقيقة أن الحمام والجرذان متماثلان في الحجم، ومتماثلان في معدل الأيض. وقد أجرى العالم الفسيولوجي الإسباني جوستافو بارخا في جامعة كمبلوتنسي بمدريد سلسلة رائعة من التجارب خلال تسعينيات القرن العشرين، أظهرت أن هذه الفروق يمكن أن تُعزى بدرجة كبيرة إلى تسرُّب الجذور الحرة. فتسرُّب الجذور الحرة لدى الطيور يقل بمقدار عشرة أضعاف تقريبًا عن نظائرها من الثدييات عند مقارنة ذلك بمعدل استهلاكها للأكسجين. وينطبق الأمر عينه على الخفافيش، التي تطول أعمارها أيضًا بدرجة لا تتناسب مع أحجامها. فالخفافيش تشبه الطيور في أن تسرب الجذور الحرة من الميتوكوندريا لديها يكون أقل بكثير. والسبب في هذا غير معروف على وجه اليقين، وإن كنت افترضت في كتب سابقة أن السبب يتعلَّق بالقدرة على الطيران. ولكن أيًّا كان السبب فإن الحقيقة التي لا مراء فيها أن انخفاض تسرُّب الجذور الحرة يعني طول العمر، أيًّا كان معدل الأيض.
وليس المدى العمري وحده هو الذي يتفاوت حسب تسرب الجذور الحرة، بل المدى الصحي كذلك. أوردنا سابقًا أن حدوث أمراض الشيخوخة لا يعتمد على الزمن المنقضي في حدِّ ذاته، وإنما على العمر البيولوجي. فالجرذان والبشر يعانيان نفس الأمراض، ولكنها تبدأ لدى الجرذان خلال سنتين فقط، بينما تستغرق لدى البشر عقودًا عديدة. وتنتج بعض الأمراض التنكسية عن نفس الطفرات الجينية تمامًا في كلٍّ من الجرذان والبشر، ولكننا نجد دائمًا نفس الفروق الزمنية؛ إذ يسقط القناع عن الجينات المعيبة، التي اعتبرها مدوَّر مرتبطة بالشيخوخة والتي تقع في قلب البحوث الطبية، في الحيوانات المسنة نتيجةً لأمرٍ ما يتعلَّق بحالة خلاياها المسنة. ولقد أظهر آلان رايت وزملاؤه بجامعة إدنبرة أن هذا الأمر يرتبط بمعدل تسرُّب الجذور الحرة. فإذا كان هذا التسرُّب سريعًا فإن الأمراض التنكسية تنشب أظفارها سريعًا، وإذا كان بطيئًا فإن تلك الأمراض تتأجل، وقد تختفي تمامًا. فالطيور، على سبيل المثال، تعاني القليل من أمراض الشيخوخة الشائعة في معظم الثدييات (باستثناء الخفافيش كما ذكرنا). وهناك فرضية معقولة تقول إن تسرُّب الجذور الحرة في نهاية الأمر يُغَيِّر حالة الخلايا فيجعلها «تشيخ»، وإن هذه الحالة المتغيرة تميط اللثام عن الآثار السلبية للجينات متأخرة النشاط.
ثمة دليل مثير للاهتمام يؤكِّد أن هذه هي الكيفية التي يسير بها الأمر. ففي عام ١٩٩٨ فحص ماساشي تاناكا وزملاؤه، الذين كانوا حينها بمعهد جيفو الدولي للتكنولوجيا الحيوية في اليابان، مصير أشخاص يتميزون بوجود نسخة متغيرة شائعة من الدي إن إيه الخاص بالميتوكوندريا (وهذا أمر شائع في اليابان على الأقل لكنه ليس شائعًا، لسوء الحظ، في الأماكن الأخرى من العالم). وهذه النسخة تُغيِّر حرفًا واحدًا فقط من الدي إن إيه. ويتمثَّل تأثير هذا التغيير في حدوث خفض ضئيل في تسرب الجذور الحرة، يتعذَّر رصده في أي لحظة منفردة بعينها، ولكنه يستمر طوال العمر. ولهذا الأمر تبعات هائلة. حدَّد تاناكا وزملاؤه حينئذٍ تسلسلات الدي إن إيه الميتوكوندري لدى مئات عدة من المرضى الذين وصلوا متتابعين إلى المستشفى، ووجدوا أنه تحت سن الخمسين عامًا تقريبًا لم يكن ثمة فارق في النسبة بين مجموعتَي الأفراد الذين لديهم نسخة الدي إن إيه المتغيرة محل الدراسة ومن يملكون النسخة «العادية». ولكن بعد سن الخمسين بدأت تنفتح فجوة بين المجموعتين من المرضى وتتسع. وعند سن الثمانين، كان لدى المرضى المتمتعين بوجود تلك النسخة نصف قابلية الإصابة بحالة من أي نوع تستدعي إدخالهم المستشفى. ولم يكن السبب في عدم إدخالهم المستشفى هو أنهم يكونون موتى بحلول هذا السن، وإنما وجد تاناكا أن اليابانيين الذين لديهم تلك النسخة تكون لديهم قابلية بمقدار الضعف للعيش حتى سن المائة عام. وهذا يفترض أن أولئك الأشخاص تقل — بمقدار النصف — قابلية معاناتهم لأي مرض من أمراض الشيخوخة. دَعْني أكرِّر قولي هذا؛ لأنني لا أعرف أي حقيقة أخرى تثير الدهشة في عالم الطب كله أكثر من هذه الحقيقة: إن مجرد تغيُّر ضئيل في الميتوكوندريا يقلِّل احتمال اضطرار المرء لدخول المستشفى لعلاجه من أي مرض من أمراض الشيخوخة إلى النصف، كما يضاعف احتمالات العيش حتى سن المائة. فإذا كنا جادِّين بشأن مواجهة المشكلات الصحية المزعجة والمعوقة للإنسان في مرحلة الشيخوخة على كوكبنا الأرضي المسن، فهذه بالتأكيد هي النقطة التي يجب أن نبدأ منها. ولنرفع عقيرتنا بهذا!
•••
لا أريد أن أهوِّن من شأن التحديات العلمية التي تنتظرنا أو أقلِّل من قيمة جهود الباحثين الذين كرَّسوا حياتهم كلها في دراسة دقائق أمراض محددة من أمراض الشيخوخة. فبغير نجاحهم البطولي في توضيح علم الوراثة والجينات الوراثية والآليات الكيميائية الحيوية للأمراض لم يكن البناء على هذا الأساس بالأمر الممكن. ومع ذلك، فهناك خطر أن يكون الباحثون الطبيون إما غير مدركين لأهمية التفكير التطوري، أو غير مهتمين بذلك. فإذا كان كل شيء في علم الأحياء لا يحمل معنى إلا في ضوء التطور، على حد قول المفكر التطوري ثيودور دوبجانسكي، فإن الطب بغير هذا العلم سيكون في حال أسوأ؛ ولن يكون للنظرة الحديثة إلى الأمراض أي معنى مطلقًا. فنحن نعرف ثمن كل شيء، لكننا لا نعرف قيمة أي شيء. وقد اعتاد جيل أجدادي أن يعزُّوا أنفسهم قائلين إن هذه الأمور أُنْزِلَتْ علينا لاختبارنا، ولكن مع اختفاء هذه النظرة الحتمية، صار المرض الآن يحدث بفعل الصدفة وحسب، ويحصد الأرواح بدرجة مأسوية كارثية. إننا الآن في «معركة» ضد السرطان وضد ألزهايمر، معركة نعرف أننا سنخسرها يومًا ما.
ولكن الموت والمرض ليسا شيئين عشوائيين، بل إن لهما معنى. وبإمكاننا أن نستغل هذا المعنى في علاج أنفسنا. لقد نشأ الموت وتطوَّرَ، وكذلك الشيخوخة. ولقد نشآ وتطوَّرا لأسباب نفعية. وبصفة عامة يمكن القول إن الشيخوخة شيء مَرِن، وإنها متغيَّر تطوريٌّ وُضِعَ لِيُضاد عوامل أخرى مختلفة — مثل النضج الجنسي — في الكتاب الأساسي للحياة. وهناك عقوبات ضد العبث بهذه المعايير، ولكن تلك العقوبات تتفاوت ويمكن في حالات قليلة أن تكون طفيفة على أقل تقدير. ونظريًّا، يمكن لعمليات ضبط صغيرة لمسارات مُعيَّنة أن تمكننا من أن نعيش فترات أطول وأكثر صحة. ودَعْني أضع هذا المفهوم في صيغة أقوى: تفترض نظرية التطور أن بإمكاننا أن نستأصل أمراض الشيخوخة بدواء واحد عام محكم وفعَّال. إن الحبة المضادة للشيخوخة ليست خرافة.
ولكنني أظن أن «علاج» مرض ألزهايمر خرافة. في واقع الأمر، إن الباحثين الطبيِّين لا يَمِيلون كثيرًا لكلمة «يعالج»، ويُفضِّلون بدلًا منها ألفاظًا أكثر حذرًا، مثل «يخفِّف» أو «يلطِّف» أو «يؤخِّر». وأشك في أننا سنتمكن يومًا من علاج مرض ألزهايمر لدى أناس قد صاروا مسنين؛ لأننا بهذا نتجاهل شروط الصفقة التطورية. إن الأمر يشبه محاولة ترقيع بعض الشقوق في سدٍّ يتسرَّب منه الماء بقليل من الملاط آملين في إيقاف تدفُّق المياه. وينطبق هذا أيضًا على أمراض؛ مثل: السكتة الدماغية، وأمراض القلب، وصور كثيرة من السرطان … وغيرها. لقد أَمَطْنا اللثام عن قَدْر كبير للغاية من التفاصيل. فنحن نعرف ما يحدث في كل بروتين، وفي كل جين، إلا أننا نجهل الصورة الكاملة. فالأمراض المذكورة تُصِيب أجساد العجائز، وهي نتاج لبيئة داخلية مسنة. وإذا تدخلنا في مرحلة مبكرة من الحياة؛ فبإمكاننا أن نُعِيد ضبط تلك البيئة المسنة لتصير «شابة» أو على الأقل «أكثر شبابًا». لن يسير الأمر على هذا النحو المباشر، فهناك الكثير جدًّا من التفاصيل المتعلقة بهذا الشأن، والكثير جدًّا من المساومات. ولكن إذا قضينا جزءًا من الوقت والجهد المخصَّصين للأبحاث الطبية الهادفة لدراسة الآليات المسببة للشيخوخة، فسأُصاب بالدهشة إذا لم نتوصَّل إلى حل لمشكلة الشيخوخة خلال العقدين القادمين، حل يشفي جميع أمراض الشيخوخة على الفور.
الأرجح أن البشر لن يستطيعوا العيش إلى الأبد، كما لا يرغب الكثيرون في هذا من الأساس. وتكمن المشكلة في بنية المستعمرات الأولى، وهي التمييز بين الخلايا الجنسية والخلايا الجسدية. فما إن تبدأ الخلايا في التمايز، حتى يصير الجسم بخلاياه الجسدية القابلة للفناء تابعًا للخلايا الجنسية. وكلما زادت درجة تخصص تلك الخلايا الجسدية، عظمت منافعها للجسم ككلٍّ، وللخلايا الجنسية بصفة خاصة. وأكثر خلايا الجسم تخصصًا على الإطلاق هي الخلايا العصبية للمخ البشري. والخلايا العصبية تختلف عن غيرها من الخلايا العادية في أنه لا يمكن تعويضها، وكلٌّ منها يتصل بما يصل إلى عشرة آلاف تشابك عصبي، وكل تشابك عصبي تستقر به خبراتنا وتجربتنا الإنسانية الفريدة. إن مخاخنا غير قابلة للتعويض. فإذا ماتت خلايانا العصبية، لا يُوجَد مخزون من الخلايا الجذعية لتعويضها، وإذا نجحنا يومًا ما في هندسة مثل ذلك المخزون من الخلايا الجذعية العصبية، فسيتعيَّن علينا الاستغناء عن خبراتنا المختزنة في الخلايا الأصلية؛ ومن ثمَّ سيكون ثمن خلودنا هو إنسانيتنا.