دي إن إيه
في العام ٢٠٠٣ عُلِّقَتْ لافتة زرقاء على حائط حانة إيجل في كامبريدج احتفالًا بالذكرى الخمسين لتحوُّلٍ غير معتاد في محادثات الحانات. ففي الثامن والعشرين من فبراير عام ١٩٥٣، وفي وقت الغداء، اندفع شابَّان عاديَّان — جيمس واطسون وفرانسيس كريك — إلى الحانة وأعلنا أنهما اكتشفا سر الحياة. ومع أن الأمريكي المنفعل والبريطاني الفصيح ذوَي الضحكة المثيرة للضيق لا بد أنهما بديا أحيانًا على شفا القيام بعرض كوميدي مشترك، فإنهما في تلك المرة كانا جادَّيْن، ونصف مُحِقَّيْن. فإذا كان بالإمكان القول إن للحياة سرًّا، فهو الدي إن إيه بالتأكيد. لكن واطسون وكريك، بالرغم من براعتهما، لم يدركا سوى نصف السر.
في ذلك الصباح، توصَّلَ واطسون وكريك إلى أن الدي إن إيه عبارة عن لولب مزدوج. كانت تلك وثبة عقلية مُلهَمة مبنية على خليط من العبقرية وبناء النماذج والتفكير الكيميائي وعدد قليل من صور انكسار الأشعة السينية المختلسة، وكان تصورهم، حسب كلمات واطسون، «جميلًا للغاية، لدرجة أنه لا بد أن يكون صحيحًا». وكلما تحدَّثا في وقت الغداء ذاك زادت معرفتهما بأنه كذلك. نُشِر حلهما في مجلة «نيتشر» في الخامس والعشرين من أبريل على هيئة خطاب من صفحة واحدة، لا يختلف كثيرًا عن إعلانات التهنئة بالمواليد في الجرائد المحلية. اختتم الخطاب المكتوب في لهجة متواضعة غير معتادة (اشتهر عن واطسون أنه كتب قائلًا: إنه لم يحدث قط أن قابل كريك وهو في مزاج متواضع، ولم يكن واطسون نفسه بأفضل حالًا هو الآخر)، بعبارة خجولة لا تفي الإنجاز حقه قالا فيها: «نعتقد أن نموذج الأزواج الذي افترضناه يمكن أن يكون آلية نسخ ممكنة للمادة الوراثية.»
الدي إن إيه، بالطبع، هو أساس الجينات؛ إنه المادة الوراثية. فهو يُحدِّد الشفرة الجينية للبشر والأميبا وعش الغراب والبكتيريا وكل ما على الأرض من كائنات، خلا قلة من الفيروسات. ولولبه المزدوج أيقونة علمية؛ إذ يلتف خَيْطاه أحدهما حول الآخر في مطاردة لا نهاية لها. أوضح واطسون وكريك كيف يُكمِل كلُّ خيطٍ الآخرَ على المستوى الجزيئي. وإذا فصلت بين الخيطين فسيعمل كلٌّ منهما كقالب بهدف إعادة تشكيل الخيط الثاني، ومن ثم يتكوَّن لدينا لولبان جديدان مما كان من قبل لولبًا واحدًا. وفي كل مرة يتناسل فيها كائن حي، فهو يمرر نسخة من الدي إن إيه الخاص به إلى ذريته. وكل ما يحتاجه الأمر هو الفصل بين خيطَي الدي إن إيه لإنتاج نسختين مطابقتين من الأصل.
يبدو تتابُعُ الأحرف في الدي إن إيه طويلًا كأنه بلا نهاية له؛ فهناك مثلًا قرابة ٣ مليارات حرف (زوج قاعدي) في الجينوم البشري، أو باللغة العلمية ٣ جيجا من القواعد. يعني هذا أن مجموعة الكروموسومات الواحدة في نواة الخلية تحتوي على قائمة قوامها ٣ مليارات حرف منفرد. وإذا طبعت محتوى الجينوم البشري فسيملأ نحو ٢٠٠ كتاب، كلٌّ منها بحجم دليل الهاتف. وليس الجينوم البشري هو الأكبر بين الجينومات على الإطلاق. ومن المثير للدهشة أن هذا العدد يُعَدُّ قليلًا للغاية مقارنةً بالأميبا من نوع «أميبا دوبيا»، التي يحوي جينومها ٦٧٠ مليار قاعدة؛ أي نحو ٢٢٠ مرة ضعف الجينوم البشري. ويبدو أن السواد الأعظم لهذا الجينوم «مهمل»؛ الذي لا يشفر أي شيء على الإطلاق.
في كل مرة تنقسم فيها خلية، فهي تضاعف كل محتوى الدي إن إيه الموجود بها، وهي عملية تتم في غضون ساعات. الجسم البشري يتألف من ١٥ مليون مليون خلية، وكل خلية منها تحتفظ بنسختها الأمينة من الدي إن إيه نفسه (نسختان في واقع الأمر). ولكي يتكوَّن الجسم البشري البالغ من خلية بويضة واحدة؛ تعيَّنَ على لوالب الدي إن إيه أن تنقسم كي تعمل كالقالب ١٥ مليون مليون مرة (وفي الواقع أكثر من هذا بكثير؛ لأن الخلايا التي تموت تحل محلها أخرى طوال الوقت). وكل حرف يُنسَخ بدقة تصل إلى حد المعجزة، بحيث يُعاد إنتاج النسخة الأصلية بنسبة خطأ قَدْرها نحو حرف واحد في كل ألف مليون. وعلى سبيل المقارنة، كي يعمل الناسخ بدقة مماثلة سيتعيَّن عليه أن ينسخ الإنجيل بالكامل ٢٨٠ مرة قبل أن يرتكب خطأ واحدًا. في الحقيقة، لم يُحقِّق الناسخون هذه النسبة من النجاح؛ إذ إنه تُوجَد ٢٤ ألف مخطوطة يدوية باقية من العهد الجديد، بَيْد أنه لا تُوجَد نسختان منها متطابقتان بالكامل.
وهكذا بالرغم من الدقة المذهلة التي يُنسَخ بها الدي إن إيه، تحدث تغييرات. فكل جيل مختلف عن سابقه، ليس فقط لأن الجينات تتمازج بفعل العملية الجنسية، بل أيضًا لأننا جميعًا نحمل طفرات جديدة. العديد من هذه الطفرات طفرات «موضعية» كالتي تحدَّثْنا عنها؛ مجرد تغيير في حرف وحيد بالدي إن إيه، بَيْدَ أن بعضها أكثر عنفًا. تتضاعف كروموسومات بأكملها أو تفشل في الانفصال، تُحذف رقع كاملة من الدي إن إيه، تُدخل فيروسات أجزاءً من الدي إن إيه الخاص بها، تعكس أجزاء من الكروموسومات نفسها، ومن ثم تعكس تتابع أحرفها. الاحتمالات لا نهاية لها، ومع ذلك فإن أغلب التغيرات نادرًا ما يكون لها علاقة بالبقاء على قيد الحياة. بالنظر إلى الجينوم على هذا النحو، يبدو وكأنه جحر هائج من الأفاعي، بينما كروموسوماته الأفعوانية تندمج وتنقسم على نحوٍ متواصلٍ دون كلل. والانتقاء الطبيعي، من خلال التخلص من كل هذه الوحوش عدا قلة قليلة منها، هو في الواقع قوة هادفة للاستقرار. فالدي إن إيه يتغير ويتحور، بينما الانتقاء الطبيعي يحافظ على استقامة الأمور. وأي تغيرات إيجابية يُحافظ عليها، فيما تُجهض أي أخطاء أو تغيرات خطيرة، حرفيًّا. أما عن الطفرات الأخرى، الأقل خطورة، فقد تكون مرتبطة بأمراض تظهر لاحقًا في مراحل متقدمة من الحياة.
إن التتابع المتغيِّر للأحرف داخل الدي إن إيه يقبع خلف كل ما نقرأ عنه تقريبًا في الصحف ويتعلق بجيناتنا. مثلًا البصمة الوراثية — المستخدمة في إثبات الأبوة أو اتهام الرؤساء أو إدانة المجرمين بعد عقود من ارتكابهم الجرائم — مبنية على الاختلافات في تتابعات الأحرف بين الأفراد. ولأن ثمة عددًا كبيرًا للغاية من الاختلافات في الدي إن إيه، يكون لدى كل شخص منا «بصمة» وراثية خاصة به. وبالمثل، تعتمد فُرَص إصابتنا بأمراض كثيرة على اختلافات طفيفة في تتابعات الدي إن إيه. وفي المتوسط، يتباين البشر بمعدل حرف واحد كل ألف حرف أو نحو ذلك، ما يَصِل مجموعُه من ٦ إلى ١٠ ملايين اختلاف في الحروف الفردية في الجينوم البشري، والمعروفة باسم «الاختلافات الفردية متعددة الأشكال للنيوكليوتيد» يعني وجود هذه الاختلافات الفردية أننا جميعًا نحمل نسخًا مختلفة اختلافًا طفيفًا من الجينات عَيْنِها. ومع أن أغلب هذه الاختلافات الفردية عديمة الأثر، فإن بعضها مرتبط إحصائيًّا بأمراض على غرار الداء السكري وألزهايمر، وإن كانت الكيفية المحددة التي تفرض بها تأثيراتها كثيرًا ما تكون غير مؤكدة.
بالعودة أكثر إلى الأزمنة الغابرة، تتعاون هاتان السمتان — الزمن والانتقاء — لإنتاج أروع الصور وأكثرها تعقيدًا. فكل أشكال الحياة على كوكبنا مترابطة، ويبيِّن لنا السجل المقروء لأحرف الدي إن إيه كيف حدث هذا بالضبط. فمن خلال مقارنة تتابعات الدي إن إيه يمكننا أن نحسب إحصائيًّا مدى قربنا من أي نوع آخر، على غرار القردة أو الجرابيات أو الزواحف أو البرمائيات أو الأسماك أو الحشرات أو القشريات أو الديدان أو النباتات أو الأوليات أو البكتيريا، اختر ما شئت؛ فكل الأنواع تتحدد بواسطة تتابعات قابلة للمقارنة من الدي إن إيه، بل إننا نتشارك مجموعات من التتابعات في العموم؛ تلك الأجزاء التي حفظها الانتقاء العام، بينما تغيرت أجزاء أخرى على نحوٍ يستحيل معه التعرف عليها. فإذا قرأت تتابعات الدي إن إيه الخاصة بأرنب فستجد نفس التتابعات اللانهائية من القواعد، بعض القواعد مطابقة لتتابعاتنا، وبعضها مختلف، وكلها تتمازج على نحو دائم التغير كما المشكال. الأمر عينه ينطبق على نبات الشَّوْك؛ إذ تكون التتابعات متطابقة — أو متشابهة — في مواضع، لكن السواد الأعظم منها مختلف الآن، وهو ما يعكس الحقب الزمنية الشاسعة التي تفصلنا عن سلفنا المشترك معها، وطرق الحياة المختلفة تمامًا التي نعيشها. لكن لا تزال الكيمياء الحيوية واحدة؛ فكل الكائنات مبنية من خلايا تعمل على النحو ذاته تقريبًا، وهذه الخلايا لا تزال تتحدَّد بواسطة تتابعات متشابهة من الدي إن إيه.
في ظل أوجه الشبه الكيميائية الحيوية هذه، قد نتوقع أن نجد تتابعات مشتركة حتى مع أبعد صور الحياة عنا؛ كالبكتيريا، وهو ما يحدث بالفعل. لكن في الواقع لا يُوجَد مجال للحيرة هنا؛ لأن تشابه التتابعات لا يُحدَّد على مقياس يتراوح من ٠ إلى ١٠٠ بالمائة، كما قد نتوقع، بل على مقياس قَدْرُه من ٢٥ إلى ١٠٠ بالمائة. وهذا يعكس أربعة الأحرف المكوِّنة للدي إن إيه. فإذا حلَّ حرفٌ محلَّ آخَرَ على نحوٍ عشوائي، فثمة احتمالية قَدْرها ٢٥ بالمائة أن يكون الحرف الجديد هو نفسه القديم. وبالمثل، إذا تمَّ تكوين قطاع عشوائي من الدي إن إيه في المختبر، فمن المحتم وجود نسبة تشابه قَدْرها ٢٥ بالمائة على الأقل مع أحد جيناتنا المختارة عشوائيًّا؛ إذ إن احتمالية أن يتوافق كل حرف مع حرف مقابل في الدي إن إيه البشري هي الربع. ونتيجة لذلك؛ فإن فكرة أن الإنسان «نصف موزة» لأننا نتشارك ٥٠ بالمائة من تتابعات جينومنا مع الموز هي فكرة مضللة، وهذا على أقل تقدير. وبالمنطق نفسه، أي قطاع مولد عشوائيًّا من الدي إن إيه سيكون ربع بشري. وما لم نعرف ما تعنيه الأحرف بالفعل، فلن نستفيد أبدًا من مثل هذه المعلومات.
ولهذا السبب لم يتوصَّل واطسون وكريك إلا لنصف سر الحياة في صبيحة ذلك اليوم من عام ١٩٥٣. لقد عرفا بنية الدي إن إيه وفهما كيف يعمل كل خيط من خيوط الدي إن إيه كقالب لخيط آخر، وبهذا يُشكِّل الشفرة الوراثية لكل كائن حي. لكن ما لم يذكراه في ورقتهما البحثية الشهيرة، وما استغرق عشر سنوات أخرى من البحث البارع لاكتشافه، هو ما يحمله كل تتابع من الأحرف من شفرة وراثية. وبالرغم من افتقاره للرمزية الجليلة الخاصة باللولب المزدوج، ذلك اللولب الذي لا يكترث البتة لماهية الأحرف التي يُؤْوِيها في ثناياه؛ فإن فكَّ طلاسم شفرة الحياة ربما كان هو الإنجاز الأعظم والاكتشاف الذي شارك فيه كريك نفسه على نحوٍ بارز. والأهم من ذلك، من منظور فصلنا هذا، أن الشفرة التي فُكَّتْ طلاسمها — والتي مثلت في البداية أكثر الأمور المحبطة والمثيرة للحيرة في البيولوجيا الحديثة — تمنحنا أفكارًا شيقة حول الكيفية التي تطوَّرَ بها الدي إن إيه في المقام الأول، منذ نحو ٤ مليارات عام.
•••
بَيْدَ أن ما تعلمته في الجامعة، كله تقريبًا، كان مجهولًا لواطسون وكريك في عام ١٩٥٣. من المتعارف عليه اليوم أن «الجينات تحمل شفرة تصنيع البروتينات»، لكن في أوائل خمسينيات القرن الماضي لم يكن ثمة اتفاق كبير حول هذا الأمر. وحين وصل واطسون لأول مرة إلى كامبريدج في عام ١٩٥١ سرعان ما أثار حنقه التشكك المتفتح من جانب ماكس بيرتس وجون كندرو. فبالنسبة لهما، لم يُثبَت بعد بما لا يدع مجالًا للشك أن الجينات تتألف من الدي إن إيه وليس البروتينات. وبينما كانت البنية الجزيئية للدي إن إيه مجهولة، فإن تركيبها الكيميائي كان بسيطًا للغاية ونادرًا ما كان يتغير من نوع إلى آخر. فإذا كانت الجينات هي أساس الوراثة وتحمل شفرة الاختلافات العديدة بين الأفراد والأنواع؛ فكيف يمكن لمثل هذا المركب الرتيب، غير المتغير في تركيبته من الحيوان إلى النبات إلى البكتيريا، أن يُفسِّر ولو من بعيد ذلك الثراء والتنوع اللذين تتسم بهما الحياة؟ بدت البروتينات، بتنوعها اللانهائي، أكثر ملاءمة لمثل هذه المهمة الضخمة.
كان واطسون نفسه واحدًا من قلة من البيولوجيين الذين اقتنعوا بالتجارب شديدة التدقيق التي أجراها الكيميائي الحيوي الأمريكي أوزوالد إفري، والمنشورة عام ١٩٤٤، والتي تُظهِر أن الجينات تتكوَّن من الدي إن إيه. وحده حماس واطسون وإيمانه حفز كريك على القيام بالمهمة التي بين أيديهما؛ ألا وهي فكُّ طلاسم بنية الدي إن إيه. وبمجرد حل هذه القضية، صار التساؤل عن الشفرة ملحًّا. ومجددًا، تثير أعماقُ الجهل دهشةَ الجيل المعاصر؛ فالدي إن إيه ما هو إلا تتابع لانهائي من أربعة أحرف وحسب، في ترتيب يبدو وكأنه ترتيب عشوائي. كان من السهل، نظريًّا، رؤية أن ترتيب هذه الأحرف يمكن أن يُمثِّل شفرة من نوعٍ ما لتخليق البروتينات؛ فالبروتينات هي الأخرى مكوَّنة من تتابع من الوحدات البنائية المسماة الأحماض الأمينية. ومن المفترض أن يُمثِّل تتابُعُ الأحرف داخل الدي إن إيه شفرةً لتتابع الأحماض الأمينية داخل البروتينات، لكن إذا كانت هذه الشفرة واحدة، كما بدا بالفعل، فمن الحتميِّ أن تكون قائمة الأحماض الأمينية واحدة هي الأخرى. ولم يكن هذا مؤكدًا بأي حال من الأحوال. لم يتم التفكير في هذا الأمر إلى أن جلس واطسون وكريك في حانة إيجل لِيخطَّا القائمة الحصرية للأحماض الأمينية العشرين، والموجودة في المراجع الدراسية اليوم، وهما يتناولان الغداء. ومن المثير للدهشة أنه على الرغم من أن أيًّا منهما ليس بمتخصص في الكيمياء الحيوية، فإنهما حدَّداها على نحو صحيح من المرة الأولى.
تحدَّد التحدي الآن وصار الأمر مجرد لعبة رياضية، لا يحكمها أيٌّ من التفاصيل الجزيئية التي تحفظها الأجيال التالية عن ظهر قلب. كان على أحرف الدي إن إيه الأربعة المختلفة أن تضع الشفرة الخاصة بالأحماض الأمينية العشرين. أسقط هذا إمكانية النسخ المباشر؛ إذ إنه من البديهي أن الحرف الواحد من أحرف الدي إن إيه لا يمكن أن يُمثِّل حمضًا أمينيًّا واحدًا. كما تم استبعاد فكرة الشفرة المزدوجة أيضًا، التي بموجبها لن يمكن تخليق أكثر من ١٦ حمضًا أمينيًّا (٤ × ٤). كانت هناك حاجة لما لا يقل عن ثلاثة أحرف؛ أي شفرة ثلاثية (أُثبِتَتْ لاحقًا على يد كريك وسيدني برينر)، تتشارك فيها ثلاثة أحرف من الدي إن إيه لعمل شفرة حمض أميني واحد، لكن بدا في هذا إهدار خطير؛ فالأحرف الأربعة يمكنها الاتحاد لتكوين ٦٤ شفرة ثلاثية (٤ × ٤ × ٤)؛ ومن ثم يمكنها عمل شفرة ٦٤ حمضًا أمينيًّا منفصلًا. لماذا إذن ٢٠ وحسب؟ كان من الضروري أن تتوافق الإجابة مع الأبجدية رباعية الأحرف، المرتَّبة في ٦٤ كلمة ثلاثية الأحرف، تحمل شفرة ٢٠ حمضًا أمينيًّا.
كانت هذه أول فكرة من العديد من الأفكار الذكية التي تم نسفها بفعل معطيات لا ترحم؛ فجميع الشفرات المتراكبة ثبت خطؤها بفعل المقيدات النابعة من داخلها. وبدايةً نقول إن النظرية تزعم أن أحماضًا أمينية معينة يجب أن تظهر دائمًا بعضها إلى جوار بعض في البروتينات، ولكن جاء فريد سانجر، ذلك العبقري الهادئ الذي فاز بجائزتَيْ نوبل — إحداهما عن تحديد تتابع البروتينات، والأخرى عن تحديد تتابع الدي إن إيه — وكان في نفس ذلك الوقت مشغولًا بتحديد تتابع الأنسولين. ولم يلبث أن تبيَّن أن أي حمض أميني يمكن أن يكون إلى جوار أي حمض أميني آخر؛ إذ إن التتابع البروتيني لا يتم تقييده على الإطلاق. وكان ثمة مشكلة كبيرة ثانية، وهي أن أي طفرة موضعية (حيث تتم إزاحة حرف واحد ليحل محله حرف آخر) يتحتم أن تؤثر على أكثر من حمض أميني واحد في الشفرة المتراكبة، ولكن أظهرت المعطيات التجريبية أنه غالبًا ما يكون حمض أميني واحد فقط هو الذي تغيَّرَ. وببساطة، نقول إن الشفرة الحقيقية لا يحدث بها تراكب. وقد ثبت فساد نظرية جاموف عن الشفرات المتراكبة قبل اكتشاف الشفرة الحقيقية بوقت طويل، وكان المُنْكَبُّون على فكِّ الشفرات الوراثية في سبيلهم بالفعل للشك في أن خللًا ما يصيب هذه الفكرة بشكل أو بآخر.
ثم جاء كريك نفسه بعد ذلك، فافترض فكرةً كانت من الجمال لدرجة أن تبناها الجميع، بالرغم من شكواه هو نفسه من نقص المعطيات المعضدة للفكرة. استفاد كريك من الرؤى الجديدة المنبثقة من عدد من المختبرات المتخصصة في البيولوجيا الجزيئية، ومن أبرزها المختبر الجديد الخاص بواطسون في هارفرد. كان واطسون قد صار مهووسًا بالآر إن إيه؛ وهو نسخة معدلة من الدي إن إيه ذات خيوط مفردة وأقصر من خيوط الدي إن إيه، ويُوجَد في سيتوبلازم الخلية كما يُوجَد في نواتها. والأفضل من هذا، كما يعتقد واطسون، أن الآر إن إيه يدخل في بنية تلك الآلات الخلوية الدقيقة التي تُعرَف الآن بالأجسام الريبية أو الريبوسومات، والتي يبدو أنها موقع تخليق البروتينات. ومن ثم؛ فإن الدي إن إيه يسكن في النواة، خاملًا لا يتحرك، فإذا احتاج الأمر إلى بروتين ما فإن قسمًا من الدي إن إيه يُستخدَم كقالب لصنع نسخة من الآر إن إيه، الذي ينتقل بعد ذلك إلى خارج النواة تجاه الريبوسومات المنتظرة في الخارج. وهذا الساعي المجنح سرعان ما أُطلِق عليه اسم الآر إن إيه المرسال. ومن ثم وضع واطسون فكرته في خطاب أرسله إلى كريك في وقت مبكر يرجع إلى عام ١٩٥٢ قائلًا فيه: «إن الدي إن إيه يصنع الآر إن إيه، وهذا الأخير يصنع البروتينات.» وكان السؤال الذي أثار اهتمام كريك هو: كيف تتم ترجمة التتابع المحدد للحروف في الآر إن إيه المرسال إلى تتابع من الأحماض الأمينية في بروتين ما؟
في هذا الموضع أخطأ كريك، وسوف أشرح هذا الأمر ببعض التفصيل الآن — مع أن الواقع أكثر جموحًا مما توقع كريك — لأن أفكاره قد يكون لها ارتباط بالكيفية التي بدأ بها الأمر ككلٍّ في المقام الأول. فقد تصوَّرَ كريك الآر إن إيه المرسال مستقرًّا في سيتوبلازم الخلية مع بروز الكودونات منه وكأنها حلمات أثداء خِنزيرة، وكلٌّ منها مستعد لأن يلتقمه الآر إن إيه الناقل مثل خنزير رضيع. وفي نهاية الأمر، تصطف جميع وحدات الآر إن إيه الناقل وتستقر جنبًا إلى جنب على طول جسم الآر إن إيه المرسال بالكامل، مع بروز الأحماض الأمينية للخارج مثل ذيول خنازير دقيقة، على استعداد للارتباط معًا سريعًا لتكوين أحد البروتينات!
وقد صرَّح كريك بأن تلك الشفرة الجديدة المخيبة للآمال هي «مصادفة مجمدة»، واكتفت الغالبية بالإيماء بالموافقة على هذا. وقد قال إنها «مجمدة» لأن أي تجاوزات أو أضرار — تحدث عند إزالة تجميدها — ستكون لها عواقب وخيمة؛ فأي طفرة واحدة تحدث عند نقطة معينة تغير أحد الأحماض الأمينية هنا أو هناك، وكذلك أي تغيير في الشفرة نفسها سيسبب تغييرًا كارثيًّا في كل شيء حوله. وهناك فرق بين حدوث خطأ مطبعي عَرَضي في كتابٍ ما، مما لا يغير المعنى كثيرًا، وبين تحويل الأبجدية كلها إلى خلط مشوَّه للحروف. ويستطرد كريك قائلًا إنه ما إن تُوضَع الشفرة في إطارها، فإن أي عبث آخر بتلك الشفرة قد تتم معاقبته بالموت؛ وهي وجهة نظر ما زالت ترن في آذان علماء الأحياء اليوم على نطاق واسع.
ولكن الطبيعة «العرضية» سبَّبَتْ مشكلةً لكريك. فلماذا تحدث مصادفة واحدة؟ لِمَ لا تكون عدة مصادفات؟ فإذا كانت الشفرة اعتباطية؛ فلن يكون ثمة فضل معين لأي شفرة على شفرة أخرى، ولن يكون ثمة مبرر لوجود «عنق زجاجة» انتقائي يكون فيه، على حد قول كريك، لأي نسخة معدلة من الشفرة «ميزة انتقائية تفوق بها جميع منافسيها وتجعلها تصمد وحدها.» وإذا لم يكن هناك أي عنق زجاجة؛ فلماذا لم يُوجَد عدد من الشفرات معًا في كائنات حية مختلفة؟
الإجابة البديهية هي أن جميع الكائنات الحية على ظهر الأرض تنحدر من أصل مشترك كانت الشفرة فيه ثابتة بالفعل. وبأسلوب فلسفي أكثر نقول إن الحياة نشأت مرة واحدة على الأرض؛ مما يجعلها تبدو حدثًا متفردًا غير مرجح، بل ربما حدثًا غريبًا. وفي اعتقاد كريك، هذا يوحي أن الحياة أشبه بعدوى، أو لقاح واحد. وقد مضى كريك في أفكاره قائلًا إن الحياة «بُذِرَت» في الأرض مثل مستعمرة بكتيرية اشتُقَّتْ من كائن غير أرضي واحد. واستطرد ذاهبًا إلى أن البكتيريا قد تم بذرها بذكاء متفوق — من خارج الأرض — عمدًا من سفينة فضائية أُرسِلَتْ إلى الأرض، وهي فكرة أسماها «التبذُّر الشامل الموجَّه»، ووضع هذه الفكرة في كتاب بعنوان «طبيعة الحياة» نُشِرَ عام ١٩٨١. وقد علَّقَ مات ريدلي في كتابه الرائع عن سيرة كريك قائلًا: «إن موضوع فكرة كريك قد جعل عددًا غير قليل من الناس يُصابون بالدهشة والذهول؛ فإن ما كتبه كريك الرائع عن صور الحياة التي جاءت من الفضاء وبُذِرَتْ في العالم من مركبة فضائية لهو شيء عجيب! فهل أدار النجاح رأسه إلى هذا الحد؟!»
تتباين الآراء حول ما إذا كانت فكرة الشفرة العَرَضية تُبرِّر بالفعل هذا القَدْر الكبير من الجدل الفلسفي أم لا. لم تكن الشفرة نفسها بحاجة إلى أن تُقَدِّم أي مزايا، أو عيوب، معينة لكي تَعْبُر عنق زجاجة؛ فمن شأن أي عملية انتقاء قوية، بل من شأن أي حادث عَرَضي — كارتطام مذنب فضائي — أن يكون قد أهلك كل صور الحياة على الأرض وأبقى على نسخة وحيدة منها، تلك الشفرة التي صارت — بالتبعية — الشفرة الوحيدة الموجودة على الأرض. لكن حتى إذا كان هذا الاحتمال قائمًا، فقد كان توقيت كريك غير موفق. فمنذ بدايات ثمانينيات القرن العشرين، حينما كان كريك يؤلف كتابه، بدأنا ندرك أن شفرة الحياة ليست مجمدة وليست أيضًا حدثًا عشوائيًّا وقع مصادفة. فهناك أنماط خفية داخل الشفرة، ما يمكن أن نقول إنها «شفرة داخل الكودونات»، تعطي أمارة على أصولها التي ترجع إلى حوالي ٤ مليارات سنة مضت! ونحن الآن نعرف أن هذه الشفرة تختلف كثيرًا عن تلك التي رفضها المُنْكَبُّون على فكِّ الشفرات الوراثية، وأنها شفرة واحدة من بين مليون تستطيع أن تقاوم التغيير وأن تسرع وتيرة التطور في الآن ذاته.
•••
إنها شفرة داخل الكودونات! تم تمييز أنماط مختلفة من الشفرة منذ عقد الستينيات حتى اليوم، ولكن أغلبها كان من السهل التجاوز عنه بوصفه محض شذوذ عجيب أو تذبذب إحصائي، وهو ما فعله كريك نفسه. وحتى حينما تجمع تلك الأنماط معًا، فإن النمط المجمَّع لا يبدو معقولًا بالقدر الكافي. لماذا؟ هذا سؤال جيد، ناقشه عالم في الكيمياء الحيوية من ولاية كاليفورنيا الأمريكية يُدعى بريان كيه ديفيز، الذي كان لديه اهتمام طويل الأمد بجذور الشفرة الجينية. يرى ديفيز أن فكرة «المصادفة المجمدة» ذاتها تجعلنا نتغاضى عن الاهتمام بأصول الشفرة؛ فلماذا ندرس تلك المصادفة أو نبحث فيها؟ إن المصادفات تحدث وكفى. وفيما وراء ذلك، يعتقد ديفيز أن حفنة الباحثين الذين يحتفظون باهتمام خاص بهذا الأمر قد انخدعوا بتلك الفكرة السائدة عن وجود ما يمكن تسميته «الحساء البدائي». فإذا كانت الشفرة قد نشأت في «حساء» بدائي، فلا بد أن تكون أعمق جذورها متغلغلة في الجزيئات المرجح تولُّدها عن العمليات الفيزيائية والكيميائية الجارية داخل «الحساء». وهذا أوحى بوجود مجموعة أساسية من الأحماض الأمينية كأساس للشفرة، ثم أُضِيفَتْ أحماض أخرى فيما بعد. وقد كان في هذه الفكرة ما يكفي من الحقيقة لجعل الدليل عليها مثيرًا للاهتمام ومُحيِّرًا في الوقت نفسه. لكن فقط حين ننظر إلى الشفرة كنتاج لما يُسمَّى عملية «التخليق الحيوي» — التي تكون الخلايا بمقتضاها قادرة على صنع وحداتها البنائية من الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون — يكون لتلك الأنماط التي تحدَّثْنا عنها سابقًا معنى.
لانحلالية الشفرة في الموضع الثالث دلالات عدة مثيرة للاهتمام؛ فقد أوردنا سابقًا أن الشفرة المزدوجة يمكنها أن تشفر ما يصل إلى ١٦ من بين الأحماض الأمينية العشرين المختلفة. فإذا حذفنا منها الأحماض الأمينية الخمسة الأكثر تعقيدًا (تاركين ١٥ بالإضافة إلى كودون توقيفي واحد) فإن الأنماط التي في الحرفين الأولين من الشفرة تصير أكثر قوة. ولهذا نقول: لعل الشفرة البدائية الأصلية كانت مزدوجة، ثم بعد ذلك فقط تمددت فصارت شفرة ثلاثية، وذلك عن طريق «اقتناص الكودون»؛ إذ تنافست الأحماض الأمينية فيما بينها على الموضع الثالث. وإذا كان الأمر كذلك، فربما كان لأقدم الأحماض الأمينية ميزة «غير عادلة» في «الاستيلاء» على الكودونات الثلاثية، وهذا يبدو صحيحًا. فعلى سبيل المثال، فإن اﻟ ١٥ حمضًا أمينيًّا الأكثر احتمالًا أن يكون قد تمَّ تشفيرها بالشفرة المزدوجة القديمة استولت فيما بينها على ٥٣ من بين الكودونات الثلاثية الأربعة والستين المحتملة؛ أي بمعدل ٣٫٥ كودونات لكل حمض أميني. وعلى النقيض من هذا، فإن الأحماض الخمسة اللاحقة تَعيَّن عليها توزيع الكودونات الثمانية المتبقية فيما بينها، بمعدل ١٫٦ كودون فقط. وهذا يشابه ما يحدث حينما تقتنص الطيور المبكرة غذاءها من الديدان.
لذا فلنتفكَّرْ قليلًا في احتمال أن الشفرة كانت في بداية الأمر مزدوجة، وليست ثلاثية، شفرة لعدد إجمالي مقداره ١٥ حمضًا أمينيًّا (زائد كودون «توقيفي» واحد). هذه الشفرة القديمة يبدو أنها كانت حتمية بالكامل تقريبًا، بمعنى أنها يتم إملاؤها من قبل عوامل فيزيائية وكيميائية، وثمة استثناءات قليلة لهذه القواعد بأن يكون الحرف الأول متحالفًا مع المادة السابقة (الطليعية)، بينما يكون الحرف الثاني مرتبطًا بدرجة تقبُّل الحمض الأميني للماء. وثمة مجال قليل هنا لدور المصادفة؛ فلا تحرر من القواعد الفيزيائية.
إلا أن الحرف الثالث يُعَدُّ شيئًا مختلفًا؛ إذ يُوجَد قَدْرٌ كبير من المرونة المتعلقة بهذا الحرف، وثمة دور للمصادفة يمكن أن تلعبه، ومن ثم صار ممكنًا أن يعمل الانتقاء على تحسين الشفرة. هذا، على أي حال، كان الافتراض المتطرف الذي تقدَّمَ به اثنان من علماء الأحياء الجزيئية الإنجليز؛ وهما لورنس هيرست وستيفن فريلاند، في أواخر تسعينيات القرن العشرين. لقد صار الاثنان في بؤرة الاهتمام العلمي حين قارنا الشفرة الجينية بملايين من الشفرات العشوائية المنتجة بالكمبيوتر. وفكَّرا في مقدار الضرر الذي يمكن أن ينجم عن الطفرات الموضعية؛ إذ يزول أحد الحروف من مكانه ليحل محله حرف آخر. وتساءلا: أي شفرة يمكنها أن تقاوم هذه الطفرات بشكل أفضل، إما بالاحتفاظ بنفس الحمض الأميني بالضبط، وإما بإبداله بآخر مماثل؟ ووجدا أن الشفرة الجينية الحقيقية مقاومة للتغيير بشكل مذهل؛ فغالبًا ما تحافظ الطفرات الموضعية على تتابع الأحماض الأمينية، وإذا ما حدث تغيير ما فإنه يكون هناك مَيْل لأن يجيء حمض أميني ذو صلة فيزيائيًّا ليحل محل الحمض الأميني المتغير. وفي الواقع، أعلن هيرست وفريلاند أن الشفرة الجينية الطبيعية أفضل من مليون شفرة بديلة مولدة عشوائيًّا. ليس الأمر محض تعصب من طرف المهتمين بالشفرة الطبيعية، ولكن شفرتنا الجينية فريدة بحق. فلا يقتصر الأمر على أن الشفرة تقاوم التغيير، بل إنها أيضًا تعمل عن طريق تقييد العواقب الكارثية الناجمة عن التغيرات التي تحدث على تسريع عملية التطور؛ فمن الواضح أن الطفرات، إن لم تكن كارثية، فهي مفيدة على الأرجح.
وإذا نحَّيْنا فكرة التصميم غير الأرضي للشفرات جانبًا، فإن الطريقة الوحيدة التي قد يفكر فيها أحدنا لتفسير تحسين الشفرة هي عن طريق عمليات الانتقاء. وإذا كان الأمر كذلك فإن شفرة الحياة لا بد أن تكون قد تطورت. بالتأكيد، يظهر عدد الاختلافات الطفيفة في الشفرة «العامة» فيما بين البكتيريا، بعضها والبعض، والميتوكوندريا الخلوية أن الشفرة يمكن أن تتطور، على الأقل تحت ظروف استثنائية، ولكنك قد تتساءل: كيف تتغير الشفرة دون التسبب في إزعاج كريك؟ والإجابة: إن هذا يحدث بشكل غير مترابط؛ أي في صورة حالات فردية. فإذا تم تشفير حمض أميني ما من قِبَل أربعة أو حتى ستة كودونات مختلفة، فإن بعضها يميل لأن يُستخدَم أكثر من غيره. والكودونات نادرة الاستخدام يمكن عمليًّا أن يُعاد تخصيصها لحمض أميني مختلف (وإن كان يُرجَّح أن يكون ذا صلة) دون عواقب وخيمة، وبذلك تتطور الشفرة.
•••
إذن، بشكل إجمالي، تتحدث عبارة «شفرة داخل الكودونات» عن عملية فيزيائية، تكون في البداية مرتبطة بالتركيب الحيوي ومدى قابلية الأحماض الأمينية للذوبان، ثم فيما بعد ذلك بتمددها وتحسينها. والسؤال الآن هو: ما نوع العملية الفيزيائية التي بدأ الانتقاء يعمل على أساسها؟
الإجابة غير معروفة بشكل مؤكد، وتُوجَد إزاءها عوائق كئود. ومن أقدم تلك العوائق المعضلة العويصة الخاصة بالدي إن إيه والبروتينات. كانت المشكلة تتمثَّل في أن الدي إن إيه خامل تقريبًا بطبعه، ويحتاج إلى بروتينات محددة ليضاعف نفسه، فضلًا عن أمور أخرى. ومن الناحية الأخرى، لا تتحدد البروتينات بفعل الصدفة، بل تتطور بالانتقاء الطبيعي، ولكي يحدث ذلك لا بد أن يكون تركيبها متوارثًا ومتغيرًا. ولا تعمل البروتينات مثل قالبها المتوارَث، بل يتم تشفيرها مِنْ قِبَل الدي إن إيه؛ ومن ثم لا يمكن أن تتطور البروتينات بدون الدي إن إيه، وأيضًا لا يمكن أن يتطور الدي إن إيه بدون البروتينات. فإذا لم يكن ممكنًا لأيٍّ منهما أن يتطوَّر دون الآخر، فلا يمكن أن تبدأ عملية الانتقاء حينئذ.
ثم حدث في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي ذلك الاكتشاف المذهل الذي يتمثَّل في أن الآر إن إيه يعمل كعامل مساعد محفز. نادرًا ما يأخذ الآر إن إيه شكل اللولب المزدوج، ولكنه بدلًا من ذلك يأخذ شكل جزيئات أصغر حجمًا بأشكال معقدة تجعلها مناسبة للعمل كمواد محفزة. ومن ثم يكسر الآر إن إيه حلقة الدي إن إيه والبروتينات المفرغة. وفي «عالم الآر إن إيه» الافتراضي يقوم الآر إن إيه بدور كلٍّ من البروتينات والدي إن إيه، عاملًا كمادة محفزة لعملية تخليقه هو لنفسه، فضلًا عن تفاعلات أخرى كثيرة. وهكذا وجدنا فجأة أن لا حاجة لأن يكون تفسير الشفرة كله معتمدًا على الدي إن إيه، بل يمكن أن تكون الشفرة قد نتجت عن التفاعلات المباشرة للآر إن إيه مع البروتينات.
بدا هذا معقولًا بشكل جيد فيما يختص بكيفية أداء الخلايا الحديثة لعملها. ففي الخلايا في عصرنا هذا، لا تُوجَد تفاعلات مباشرة بين الدي إن إيه والأحماض الأمينية، ولكن أثناء عملية تخليق البروتين، يتم تحفيز الكثير من التفاعلات الأساسية بإنزيمات الآر إن إيه التي تُعرَف بالريبوزيمات (الإنزيمات الريبية). أما لفظ «عالم الآر إن إيه» فقد صاغه زميل لواطسون في جامعة هارفرد يُدعى والتر جلبرت ونُشِر في واحد من أكثر مقالات مجلة «نيتشر» اطلاعًا حتى الآن. وكان لهذه الفكرة تأثير رائع في هذا المجال، بينما أُعِيدَتْ صياغة التساؤل المتعلق بشفرة الحياة من عبارة «كيف يعمل الدي إن إيه على تشفير البروتينات؟» إلى «ما أنواع التفاعلات التي يجب أن تكون قد حدثت بين الآر إن إيه والأحماض الأمينية؟» إلا أن الإجابة كانت بعيدة عن الوضوح المطلوب.
وفي خضم الاهتمام المركَّز بعالم الآر إن إيه، ربما كان من العجيب أنْ حَدَثَ تجاهل كبير للخصائص المحفِّزة لقِطَع الآر إن إيه الأصغر حجمًا. فإذا كانت جزيئات الآر إن إيه الكبيرة يمكنها أن تحفِّز التفاعلات، فمن المرجَّح أن الفتات الأصغر حجمًا منها — أي «الحروف» المفردة أو أزواج «الحروف» — يمكنها أيضًا أن تحفز التفاعلات، وإن كان هذا يتم بشكل أقل شدة. وتوحي أبحاث حديثة أجراها عالم الكيمياء الحيوية الأمريكي الرائع هارولد موروفيتس، ومعه عالمة البيولوجيا الجزيئية شيلي كوبلي وعالم الفيزياء إريك سميث، بهذا الاحتمال بالضبط. قد لا تكون أفكارهم صحيحة، ولكني أعتقد أن هذا هو نوع النظرية الذي ينبغي أن نبحث فيه لتفسير أصل شفرة الحياة.
وتعمل الخطوة النهائية على تحويل الشفرة ذات الحرفين إلى شفرة ثلاثية الأحرف، ويمكنها مرة أخرى ألا تعتمد على أكثر من القواعد القياسية للتزاوج بين جزيئات الآر إن إيه. فإذا كانت تلك التفاعلات تعمل بثلاثة أحرف أفضل مما تعمل بحرفين (ربما لأن التباعد حينئذٍ يكون أفضل، أو الارتباط أقوى)، فإننا حينئذٍ ننتقل بسهولة إلى الشفرة الثلاثية، وفيها يتحدد الحرفان الأولان بفعل قيود عملية التخليق، بينما يمكن أن يختلف الحرف الثالث في حدود ما، مُتِيحًا الفرصة لتحسين الشفرة في مرحلة تالية. وهنا أشك في أن مفهوم كريك الأصلي عن جزيئات الآر إن إيه، التي تستقر مثل خنازير دقيقة رضيعة ترضع من أثداء الخنزيرة الأم، قد يكون صحيحًا؛ إذ يمكن أن تدفع القيود المكانية جزيئات الآر إن إيه المتاخمة إلى تحديد معدل ثلاثة حروف في المتوسط. لاحظ أنه حتى الآن لا يُوجَد إطار للقراءة، ولا بروتينات، بل مجرد أحماض أمينية تتفاعل مع جزيئات الآر إن إيه. ولكن أساس الشفرة صار بالفعل في مكانه الصحيح، ويمكن إضافة أحماض أمينية إضافية في مرحلة تالية عن طريق قنص كودونات ثلاثية شاغرة.
يُعتبَر هذا السيناريو بكامله افتراضيًّا ومن المؤكد أنه حتى الآن لا تُوجَد سوى أدلة قليلة تدعمه. وأكبر ميزة له أنه يلقي الضوء على أصل الشفرة، آخذًا إيَّانا من مجرد التفكير في ارتباطات كيميائية بسيطة إلى وجود كودون ثلاثي بطريقة مقبولة ويمكن اختبارها. وحتى في هذه الحالة ربما تشعر أن هذا الأمر مقبول، لكن المشكلة أنه يعتمد بشدة على جزيئات الآر إن إيه، وكأنها شيء سهل المنال ينمو على الأشجار. ولهذا الأمر أتساءل: كيف ننتقل من مجرد ارتباطات كيميائية بسيطة إلى عملية الانتقاء للبروتينات؟ وكيف ننتقل من الآر إن إيه إلى الدي إن إيه؟ في هذا الصدد، ثمة إجابات قوية تدعمها اكتشافات مدهشة ظهرت في السنوات القليلة الماضية. ومما يثير الشعور بالرضا أن الاكتشافات الجديدة تتوافق بشكل رائع مع فكرة أن الحياة تطورت داخل الفوهات الحرمائية، وهو ما ورد ذكره في الفصل الأول.
•••
السؤال الأول هو: من أين تأتي جميع جزيئات الآر إن إيه؟ فبالرغم من مرور عقدين من الأبحاث المكثفة في عالم الآر إن إيه، فإنه ندر أن وجه هذا السؤال بطريقة جادَّة. بل كان ثمة افتراض فكري غير معقول ولم يَقُلْه أحد، أن الآر إن إيه كان «يُوجَد على الدوام» داخل حساء بدائي وحسب.
لا أقصد الخداع هنا، ولكن هناك مشكلات معينة كثيرة في العلوم، ولا يمكن الإجابة عنها جميعًا دفعة واحدة. وتعتمد القدرة التفسيرية العجيبة لعالم الآر إن إيه على أمر محدد؛ ألا وهو الوجود الأصلي السابق للآر إن إيه. وبالنسبة لرواد عالم الآر إن إيه لم يكن من المهم أن يسألوا من أين جاء الآر إن إيه؛ بل كان السؤال الذي يوجه أبحاثهم هو: ما الذي يمكن أن يفعله؟ بالتأكيد، كان هناك آخرون مهتمون بعملية تخليق الآر إن إيه، ولكنهم كانوا منقسمين إلى فئات متجادلة على طول المدى، ومتناحرة فيما بينها حول افتراضاتهم المفضَّلة. فبعضهم يذهب إلى أنه ربما تمَّ تخليق الآر إن إيه في الفضاء الخارجي من مادة السيانيد، أو أنه ربما صُنِع هنا على ظهر الأرض حينما ضرب البرق غازات الميثان والنشادر، أو ربما تشكل على ذهب الحمقى في أحد البراكين. ولم تُقدِّم كل تلك السيناريوهات إلا القليل من النفع، بل عانت جميعًا نفس المشكلة الأساسية، وهي «مشكلة التركيز».
من الصعوبة بمكان صنع حروف الآر إن إيه المفردة (النيوكليوتيدات)، ولكنها ترتبط معًا في شكل بوليمر (جزيء آر إن إيه عادي) إذا كانت النيوكليوتيدات موجودة بتركيز عالٍ. فإذا كانت موجودة بكمية كبيرة فإنها، أي النيوكليوتيدات، تتكثف تلقائيًّا إلى سلاسل طويلة. ولكن إذا كان التركيز منخفضًا يحدث العكس؛ بمعنى أن يتكسر بوليمر الآر إن إيه إلى مُكوِّناته من النيوكليوتيدات. والمشكلة أن كل مرة يعمل فيها الآر إن إيه على تكرار نفسه، فإنه يستهلك المزيد من النيوكليوتيدات؛ مما يؤدي إلى خفض تركيزها. فإذا لم يتم تعويض كمية النيوكليوتيدات باستمرار وبمعدل أسرع من استهلاكها، فلن يستمر عالم الآر إن إيه في عمله بكل قدرته التفسيرية. لن يستمر أبدًا وفق هذا السيناريو. ومن ثم، فإن من كانوا يريدون إحراز بعض النتائج العلمية النافعة يتقبَّلون وجود الآر إن إيه كما هو دون تفسير.
وقد أحسنوا صنعًا؛ لأن الجواب الذي يحتاجونه لم يأتِ إلا بعد وقت طويل، وعلى نحوٍ دراميٍّ. من المؤكد أن الآر إن إيه لا ينمو على الأشجار، ولكنه يتكوَّن في الفوهات الحرمائية الطبيعية، أو الاصطناعية على الأقل. ففي بحثٍ نظريٍّ مهم في عام ٢٠٠٧، أورد عالم جيوكيميائي نَشِطٌ يُدعى مايك راسل (ذكرناه في الفصل الأول) بالتعاون مع ديتر براون وزملائه في ألمانيا، أن النيوكليوتيدات يجب أن تتراكم حتى مستويات قصوى في تلك الفوهات. ويرتبط سبب ذلك بالتدرجات الحرارية القوية التي تنشأ هنالك. ارجع إلى الفصل الأول لتتذكَّر أن الفوهات الحرمائية القلوية مليئة بثقوب متصلة فيما بينها. وتُسبِّب التدرجات الحرارية نوعين من التيارات يدوران عَبْر تلك الثقوب؛ وهما: تيارات الحِمْل الحراري (كما يحدث في غلاية الشاي)، والانتشار الحراري (وهو انتقال الحرارة إلى مياه أكثر برودة). وهذان النوعان من التيارات الحرارية يعملان تدريجيًّا على ملء الثقوب السفلية بالكثير من الجزيئات الصغيرة، ومنها النيوكليوتيدات. وقد صنع أولئك الباحثون نظامًا حراريًّا مائيًّا اصطناعيًّا، وصل فيه تركيز النيوكليوتيدات إلى مستوى يزيد بمقدار آلاف، بل ملايين الأضعاف، عن مستواه الابتدائي. وهذه المستويات العالية يجب أن تؤدِّي بشكل كافٍ إلى تكثيف النيوكليوتيدات إلى سلاسل من الآر إن إيه أو الدي إن إيه. وكما استنتج الباحثون، فإن هذه الأحوال أو الشروط تُوفِّر «نقطة بدء من التركيز المرتفع تدفع عملية التطور الجزيئي للحياة».
وإذا أخذنا الأمرين معًا، فإن التدرجات الحرارية يجب أن تركز النيوكليوتيدات المفردة إلى مستويات قصوى في الفوهات؛ مما يعزز تكوُّن الآر إن إيه. ثم يجب على نفس هذه التدرجات أن تركز الآر إن إيه؛ مما يعزز التفاعلات الفيزيائية بين الجزيئات، وفي النهاية يجب على درجات الحرارة المتذبذبة أن تعزز تضاعف الآر إن إيه. ومن الصعب أن تتخيَّل وضعًا أفضل من هذا لعالم الآر إن إيه البدائي.
والآن، ماذا عن سؤالنا الثاني: كيف ننتقل من عملية التضاعف لجزيئات الآر إن إيه، التي تتنافس فيما بينها، إلى منظومة أكثر دقة وتعقيدًا وفيها يبدأ الآر إن إيه في تشفير البروتينات؟ ونقول مجددًا إن الفوهات قد تحمل الإجابة عن هذا السؤال.
ضَعْ جزيئات الآر إن إيه في أنبوبة اختبار، مع المواد الخام والطاقة (ثلاثي فوسفات الأدينوسين) التي تحتاجها، وسوف تتضاعف. في الواقع، إنها لن تفعل هذا فحسب، بل لقد اكتشف عالم البيولوجيا الجزيئية سول سبيجلمان وآخرون في عقد الستينيات من القرن الماضي أن جزيئات الآر إن إيه سوف تتطوَّر. وعلى مدى أجيال من تجارب أنابيب الاختبار تزداد سرعة جزيئات الآر إن إيه في التضاعف؛ مما يجعلها في نهاية الأمر عالية الكفاءة بشدة، أي إنها «تتوحش» في كفاءتها. ووحش سبيجلمان هذا عبارة عن خيط متضاعف من الآر إن إيه عالي الخصوبة، يعمل على نحوٍ نَشِطٍ محموم في بيئة اصطناعية. ومما يثير العجب، أنه لا يهم من أين تبدأ؛ إذ يمكنك أن تبدأ بفيروس كامل أو بقطعة اصطناعية من الآر إن إيه. بل يمكنك أن تبدأ بخليط من النيوكليوتيدات مع إنزيم البوليميراز لربط ذلك الخليط معًا. وأيًّا كان ما تبدأ به ينتهي بك المآل إلى نفس «الوحش»، أي نفس خيط الآر إن إيه الذي يتضاعف بسعار وجنون، والذي بالكاد يصل طوله إلى خمسين حرفًا؛ وحش سبيجلمان. ويتكرر الأمر مرة تلو الأخرى بلا نهاية.
المهم في الأمر أن وحش سبيجلمان لا يصير أكثر تعقيدًا. ويرجع السبب في ضرورة ألا يزيد طوله عن خمسين حرفًا إلى أن هذا هو التتابع الارتباطي المناسب لإنزيم التضاعف، الذي بدونه لا يمكن أن يحقِّق خيطُ الآر إن إيه تضاعُفَه المطلوب. في واقع الأمر، يهتم الآر إن إيه بنفسه فقط ولا يستطيع أن يُحقِّق درجة التعقيد المطلوبة في حالة المحلول؛ فكيف إذن ولماذا يبدأ الآر إن إيه في تشفير البروتينات، على حساب سرعة تضاعفه الذاتي؟ إن الطريق الوحيد لكسر هذه الحلقة المفرغة هو أن يحدث الانتقاء عند «مستوى أعلى»؛ حتى يصير الآر إن إيه جزءًا من كيان أكبر، الذي يُعَدُّ الآن وحدة الانتقاء، وهي الخلية على سبيل المثال. المشكلة أن جميع الخلايا العضوية شديدة التعقيد لدرجة أنها لا يمكنها أن تنبثق إلى الوجود فجأة دون أن تتطوَّر، بمعنى أنه يجب أن يحدث انتقاء للسلالات التي تكوِّن الخلية، وليس انتقاء لسرعة تضاعف الآر إن إيه. هذه معضلة عويصة، يتعذَّر تجنُّبها تمامًا مثل حلقة الدي إن إيه والبروتينات المفرغة، وإن كانت أقل شهرة.
رأينا أن الآر إن إيه يكسر حلقة الدي إن إيه والبروتينات المفرغة بشكل رائع، ولكن ما الذي يكسر حلقة الانتقاء المفرغة؟ تتمثل الإجابة الظاهرة أمام أعيننا في الخلايا غير العضوية الجاهزة المتكونة في الفوهات الحرمائية؛ فهذه الخلايا تكون في نفس حجم الخلايا العضوية تقريبًا وتتكوَّن طوال الوقت في الفوهات النشطة. ومن ثم، إذا كانت مكونات خليةٍ ما صالحة لتجديد المواد الخام اللازمة لمضاعفة أنفسها، فإن الخلية تبدأ في مضاعفة نفسها، فتتبرعم لتكوِّن خلايا غير عضوية جديدة. وعلى النقيض من هذا، فإن جزيئات الآر إن إيه «الأنانية» التي تضاعف أنفسها بأسرع ما يمكن تبدأ في التدهور؛ إذ تكون عاجزة عن تجديد المواد الخام اللازمة لاستمرار تضاعفها ذاتيًّا.
بعبارة أخرى، في بيئة الفوهات المذكورة ينتقل الانتقاء تدريجيًّا من مسألة السرعة التضاعفية لجزيئات الآر إن إيه المفردة إلى مسألة «الأيض» الكلي للخلايا، التي تعمل كوحدات مفردة. وتُعتبَر البروتينات، دون سواها، هي المتحكمة في الأيض. ومما لا مفر منه أنها في نهاية الأمر تحل محل الآر إن إيه. ولكن بطبيعة الحال، فإن البروتينات لا تأتي إلى الوجود في الحال، بل من المرجح أن المعادن والنيوكليوتيدات، وجزيئات الآر إن إيه، والأحماض الأمينية والمركبات الجزيئية (الأحماض الأمينية التي ترتبط بالآر إن إيه على سبيل المثال) كلها تسهم في إنتاج نموذج أصلي من الأيض. والفكرة هنا هي أن ما بدأ على صورة ارتباطات بسيطة بين الجزيئات، صار في عالم الخلايا المتكاثرة طبيعيًّا هذا انتقاءً للقدرة على إعادة إنتاج محتويات الخلايا ككلٍّ. لقد صار الأمر حينئذٍ انتقاءً للكفاءة الذاتية، وفي نهاية الأمر، للوجود المستقل نفسه. ومما يثير التعجب أننا نجد في الوجود المستقل للخلايا اليوم مفتاحنا النهائي لِلُغْز أصلِ الدي إن إيه ذاته.
•••
يُوجَد فيما بين البكتيريا شق عميق. وسوف ندرك أهمية هذا الشق الكبيرة لتطورنا نحن أنفسنا في الفصل الرابع. أما الآن، فسوف نكتفي بتدبر تبعات ذلك على أصل الدي إن إيه؛ تلك التبعات العميقة في حد ذاتها بما يكفي. يُوجَد هذا الشق بين ما يُسمَّى البكتيريا الحقيقية وبين مجموعة ثانية تبدو مماثلة تقريبًا للمجموعة الأولى. تُعرَف هذه المجموعة الثانية باسم البكتيريا العتيقة، أو «العتائق» اختصارًا. واسمها مشتق من الفكرة القائلة إنها قديمة بدائية عتيقة، وإن كان يندر أن يعتقد أحد من الناس اليوم أنَّ تلك العتائق أقدم من البكتيريا الحقيقية.
في الواقع، ساهم الحظُّ في اكتشاف أن كلتا المجموعتين من البكتيريا، الحقيقية والعتائق، قد نشأتا من نفس المنشأ الحراري المائي. فلا يُوجَد شيء آخر تقريبًا يمكنه أن يُفسِّر حقيقة أنهما تشتركان في نفس الشفرة الجينية، فضلًا عن تفاصيل كثيرة في تخليق البروتينات. ولكن يبدو أنهما لم تتعلما أن تُضاعِفا الدي إن إيه الذي لديهما إلا في وقت لاحِقٍ، وبشكل مستقل تمامًا. فمع أن الدي إن إيه والشفرة الجينية قد تطوَّرا مرة واحدة، فإن عملية تضاعف الدي إن إيه — وهي الآلية الفيزيائية للوراثة في جميع الخلايا الحية — يبدو أنها تطورت مرتين.
لا بد أن مثل هذا الزعم بدا خياليًّا للكثيرين، ولكن بالنسبة لرجل ألمعي عنيد، ولكن بلطف، من تكساس ويعمل في ألمانيا، كان هذا هو المطلوب تمامًا. ذلك الرجل هو الكيميائي الحيوي بيل مارتن، الذي مَرَّ بنا في الفصل الأول، وكان قد شكَّل فريقًا مع مايك راسل لاستكشاف أصول الكيمياء الحيوية في الفوهات الحرمائية. واجه الرجلان الآراء التقليدية في عام ٢٠٠٣، وكتبا افتراضهما الشخصي قائلين إن السلف المشترك للبكتيريا والعتائق لم يكن كائنًا حُرَّ المعيشة إطلاقًا، ولكنه كان كائنًا متضاعفًا رديء النوع، حبيسًا في الصخر المسامي، لم يخرج عن نطاق الخلايا المعدنية التي تملأ الفوهات الحرمائية. ولكي يدعم مارتن وراسل آراءهما أصدرا قائمة بالفروق الشديدة التي بين البكتيريا والعتائق. وبوجه خاص، فإن الأغشية والجُدُر الخلوية تختلف تمامًا فيما بينهما؛ بما يوحي بأن المجموعتين قد انبثقتا بشكل مستقل من نفس المناطق الصخرية. كان افتراضهما هذا ثوريًّا في نظر الكثيرين، ولكن كونين اعتبره متوافقًا مع ملاحظاته كما يناسب القفاز اليدين.
ولم يلبث مارتن وكونين أن انضمَّا معًا؛ ليفكرا معًا ويدرسا أصل الجينات والجينومات للكائنات الدقيقة في الفوهات الحرمائية، وتمَّ نشر أفكارهما المثيرة عن هذا الموضوع في عام ٢٠٠٥. وقد افترض الاثنان أن «دورة حياة» الخلايا المعدنية ربما كانت تشابه الفيروسات القهقرية الحديثة مثل فيروس نقص المناعة البشري؛ إذ إن لدى الفيروسات القهقرية جينومًا دقيقًا، ويتم تشفيره بالآر إن إيه وليس الدي إن إيه. وحينما تغزو تلك الفيروساتُ خليةً ما فإنها تنسخ الآر إن إيه الذي لديها إلى دي إن إيه مستخدمةً إنزيمًا يُسمَّى «إنزيم النسخ العكسي». يتم إدخال الدي إن إيه الجديد أولًا إلى جينوم العائل، ثم تتم قراءته مع الجينات الخاصة بخلية العائل. ومن ثم، حين يعمل الفيروس على صنع نسخ متعددة من نفسه، فإنه يعمل من منطلق الدي إن إيه؛ ولكن بينما يقوم بتجميع نفسه استعدادًا للجيل التالي فإنه يعتمد على الآر إن إيه لينقل المعلومات الوراثية. والملاحظ أن ما ينقصه هو قدرته على تضاعف الدي إن إيه، الذي يُعتبَر عملية مرهقة تحتاج إلى عدد من الإنزيمات.
هناك ميزات وعيوب في دورة الحياة تلك. الميزة الكبرى هي السرعة؛ فبسيطرة الفيروسات القهقرية على آليات خلية العائل لتحويل الدي إن إيه إلى آر إن إيه، وترجمة الآر إن إيه إلى بروتينات، تُخلِّص تلك الفيروساتُ أنفسَها من الحاجة إلى وجود عدد كبير من الجينات؛ ومن ثم تُوفِّر على أنفسها قدرًا كبيرًا من الوقت والمشقة. والعيب الأكبر هو أنها تعتمد بالكامل على الخلايا المناسبة لبقائها. وثمة عيب آخر أقل وضوحًا، وهو أن الآر إن إيه فقير في تخزين المعلومات بالمقارنة بالدي إن إيه وهو أقل استقرارًا من الناحية الكيميائية، بمعنى أنه أكثر قابلية للتفاعل من الدي إن إيه. وتلك، على أي حال، الكيفية التي يحفز بها الآر إن إيه التفاعلات الكيميائية الحيوية. ولكن هذه التفاعلية تعني أن جينومات الآر إن إيه الكبيرة تكون غير مستقرة ومُعرَّضة للتحلل؛ مما يفرض عليها حدًّا أقصى للحجم أقل مما تحتاجه لوجودها المستقل. وفي الواقع يُعتبَر الفيروس القهقري مساويًا — تقريبًا — في درجة تعقُّده بالفعل لأي كيان يتم تشفيره بالآر إن إيه.
ولكن هذا لا ينطبق على الخلايا المعدنية، فإن لديها ميزتين؛ مما يتيح الفرصة لنشوء صور من الحياة أكثر تعقيدًا. الميزة الأولى هي أن الكثير من الخصائص المطلوبة للوجود المستقل يتم تقديمه مجانًا في الفوهات الحرمائية؛ مما يعطي الخلايا دفعة قوية منذ البداية؛ إذ تُقدِّم الخلايا المعدنية المتكاثرة بالفعل الأغشية التي تحيط بها، والطاقة، وهكذا. ومن ثم؛ فمن المنطقي أن يكون للآر إن إيه ذاتي التضاعف الذي يستوطن تلك الفوهات سمات فيروسية بالفعل. الميزة الأخرى هي أن «جحافل» الآر إن إيه تختلط وتتوافق معًا من خلال الخلايا المترابطة؛ وهكذا فإن المجموعات التي «تتعاون» فيما بينها جيدًا يمكن انتقاؤها معًا إذا كانت تنتشر في انسجام لكي تستوطن خلايا حديثة التكوين.
ومن ثم تخيَّلَ مارتن وكونين جحافل من جزيئات الآر إن إيه وهي تنبثق في الخلايا المعدنية، وكل واحد من الآر إن إيه يُشفِّر عددًا من الجينات ذات الصلة. عيب هذا النسق، بالطبع، هو أن جحافل الآر إن إيه ستكون مُعرَّضة لأن تختلط مجددًا في مجموعات مختلفة وقد تكون غير مناسبة. والخلية التي يتقرر لها أن تضم «الجينوم» الخاص بها معًا عن طريق تحويل مجموعة من جزيئات الآر إن إيه المتعاونة إلى جزيء دي إن إيه واحد، يُتوقَّع منها أن تحتفظ بجميع ميزاتها. وحينئذ يكون تضاعفها مماثلًا للفيروس القهقري، ويتم تحويل الدي إن إيه الخاص بها إلى حشد من جزيئات الآر إن إيه، التي تغزو الخلايا المجاورة، مُكسِبةً إياها نفس القدرة على تخزين المعلومات في بنك الدي إن إيه. وتكون كل «دفعة» من جزيئات الآر إن إيه قد خرجت توًّا، من البنك، ومن ثم تكون أقل قابلية للتشوه بالأخطاء.
وهكذا، فإنَّ صُنْع الدي إن إيه يُعتبَر سهلًا نسبيًّا؛ فهو يتكوَّن تلقائيًّا في الفوهات الحرمائية مثل الآر إن إيه (وأقصد تكوُّنه من مواد سابقة بسيطة، وهي عملية يتم تحفيزها بفعل بعض المعادن والنيوكليوتيدات والأحماض الأمينية، وهكذا). ولكن ثمة عمل بارع أكثر صعوبة قليلًا، وهو الاحتفاظ بالرسالة التي تمَّ تشفيرها؛ بمعنى صنع نسخة مطابقة تمامًا من تتابع الحروف في الآر إن إيه في شكل دي إن إيه. هذه أيضًا ليست عملية شديدة الصعوبة؛ فتحوُّل الآر إن إيه إلى الدي إن إيه يتطلَّب إنزيمًا واحدًا؛ وهو إنزيم النسخ العكسي الذي تستخدمه الفيروسات القهقرية اليوم، مثل فيروس نقص المناعة البشري. فكم هو عجيب أن ذلك الإنزيم الوحيد الذي «يحطم» الركيزة الأساسية للبيولوجيا الجزيئية — وهي عملية تحوُّل الدي إن إيه إلى الآر إن إيه ومنها إلى بروتين — هو نفسه الإنزيم الذي حوَّل صخرًا مساميًّا مليئًا بالآر إن إيه الفيروسي إلى صورة الحياة التي نعرفها اليوم! ربما نحن مدينون بنشوء الخلايا الحية لتلك الفيروسات القهقرية المتواضعة.
لا يزال هناك الكثير في هذه القصة لم أَقُلْه بعد، وكثير من الأحاجي والألغاز التي أغفلتُها في محاولتي لإعادة بناء قصة تكون منطقية، بالنسبة لي على الأقل. ولا يمكنني أن أدَّعي أن جميع الأدلة التي ناقشناها قطعية، أو أنها أكثر من مجرد دلالات على الماضي السحيق. إلا أنها دلالات أصيلة، يتعيَّن على أي نظرية تثبت صحتها أن تُفسِّرها. هناك أنماط بالفعل في شفرة الحياة، وهي أنماط تفرض إعمال كلٍّ من علم الكيمياء وعملية الانتقاء الطبيعي. تعمل التيارات الحرارية في الفوهات الموجودة في عمق المحيط حقًّا على تركيز النيوكليوتيدات والآر إن إيه والدي إن إيه، مُحوِّلة الخلايا المعدنية التي تموج بها إلى عالم مثالي من الآر إن إيه. وهناك حقًّا فروق عميقة بين العتائق والبكتيريا، وهي فروق لا يمكن تفسيرها بشكل اعتباطي، وهي فروق توضِّح بالتأكيد أن الحياة بدأت بدورة حياة فيروسية قهقرية.
إنني أشعر بالإثارة الحقيقية حينما أفكر أن القصة التي حللنا خيوطها هنا يُرجَّح أن تكون صحيحة، ولكن هناك شيء واحد يجعل الشك يعتمل في عقلي؛ وهو النتيجة التي توصلنا إليها وتقضي بأن الحياة الخلوية انبثقت مرتين من تلك الفوهات في عمق المحيط. فهل أصابت جزيئات الآر إن إيه الفوهات المجاورة لها بالعدوى، ثم سيطرت في نهاية الأمر على أجزاء كبيرة من المحيط، متيحة الفرصة لتفعيل عملية الانتقاء على نطاق عالمي؟ أم هل كان ثمة شيء متفرد ما فيما يتعلق بمنظومة معينة من تلك الفوهات، التي أدت ظروفها غير النمطية إلى نشوء كلٍّ من العتائق والبكتيريا؟ قد لا نعرف الجواب طوال حياتنا؛ ولكن الدور الذي تلعبه الصدفة والضرورة يجب أن يجعل كل إنسان منا يتوقف برهة من أجل التفكير.