عملية البناء الضوئي
تخيَّلْ عالمًا لا تحدث فيه عملية البناء الضوئي. بادئ ذي بدء، لن يكون أخضر اللون. إن كوكبنا الزمردي يعكس روعة النباتات والطحالب وجمالها؛ بما تتميَّز به من أصباغ طبيعية خضراء تمتصُّ الضوء لإجراء عملية البناء الضوئي. وأول تلك الأصباغ هو محول الطاقة الرائع المسمَّى الكلوروفيل، الذي يمتص أشعة الضوء ويُحوِّلها إلى دفقة من الطاقة الكيميائية؛ مما يتيح الحياة لكلٍّ من النبات والحيوان.
من المُرجَّح أن العالم، بغير تلك العملية، لن يكون حتى أزرق اللون؛ إذ إن زرقة السماء والبحار والمحيطات تعتمد على صفاء السماء والمياه، التي تُنقَّى من الغيوم والغبار بفعل القدرة التطهيرية للأكسجين. ودون البناء الضوئي لن يكون لدينا أكسجين حر.
وفي واقع الأمر، قد لا يكون في حالتنا هذه ثمة محيطات كذلك؛ فبدون الأكسجين لا يُوجَد أوزون، وبدون الأوزون لن يكون هناك إلا القليل ليحدَّ من القوة اللافحة للأشعة فوق البنفسجية. هذه الأشعة نفسها تعمل على تحليل الماء إلى شقيه: الأكسجين، والهيدروجين. فأما الأكسجين فإنه يتكوَّن ببطء ولا يتراكم في الهواء، بل إنه يتفاعل مع الحديد في الصخور، مُحوِّلًا إياها إلى لون أحمر ضارب إلى اللون البني. وأما الهيدروجين — أخفُّ الغازات — فإنه يفلت من أَسْر الجاذبية، وينسلُّ إلى الفضاء. قد تكون العملية بطيئة، ولكنها أيضًا تتم باستمرار بلا هوادة وكأن المحيطات تنزف إلى الفضاء. إن الإشعاع فوق البنفسجي حَرَمَ كوكب الزهرة من محيطاته، وربما حَرَمَ كوكب المريخ منها أيضًا.
وهكذا فإننا لا نحتاج للكثير من الخيال لكي نتصوَّر عالمًا خاليًا من البناء الضوئي؛ إذ سيبدو إلى حدٍّ بعيد مثل المريخ: مكان مُتَرَّب أحمر اللون؛ بغير محيطات من المياه، وبدون أي آثار واضحة تنم عن الحياة. تُوجَد بالطبع صور من الحياة في غياب البناء الضوئي، ويبحث العديد من علماء البيولوجيا الفضائية عنها على كوكب المريخ. ولكن حتى إن وجدوا قليلًا من البكتيريا مختفية تحت سطحه، أو مدفونة في كتلة جليدية، فإن الكوكب نفسه يُعتبَر ميتًا. إنه في حالة من شبه التوازن — فلا حياة حقيقية ولا موت تامًّا — وهي علامة مؤكدة على الجمود.
إن الأكسجين هو مفتاح الحياة على الكواكب. ومع أن الأكسجين لا يزيد عن كونه منتجًا ثانويًّا مهملًا لعملية البناء الضوئي، فإنه حقًّا هو الجزيء الذي تكوَّن منه العالم بصورته الحالية. يتكوَّن الأكسجين سريعًا وبكثافة من عملية البناء الضوئي لدرجة أنه يتغلب على قدرة الكوكب على ابتلاعه. وفي نهاية الأمر يتأكسد كل التراب، وكل الحديد في الصخور، وكل الكبريت في البخار والميثان في الهواء، وأي شيء يمكن أَكْسَدَتُه، ويستمر الأكسجين الحر في التدفق في الهواء والمحيطات. علاوة على هذا، فإن الأكسجين يُوقِف ضياع الماء من كوكبنا؛ فحين ينطلق الهيدروجين من الماء، فإنه يُضطر إلى الاتحاد بالمزيد من الأكسجين قبل أن يجد طريقه إلى الفضاء؛ فهو يتفاعل سريعًا ليكوِّن الماء مجددًا، الذي يصبح مطرًا يسقط مرة أخرى من السماء، فيعوِّض ما يُفقَد بالبخر من مياه المحيطات. وحينما يتراكم الأكسجين في الهواء، يتكوَّن درع من غاز الأوزون، وذلك يحدُّ من الشدة اللافحة للأشعة فوق البنفسجية ويجعل العالم أكثر صلاحية للحياة.
لا يقتصر دور الأكسجين على إنقاذ الحياة على كوكبنا وحسب، بل إنه ينشر الحياة على نطاق واسع. صحيحٌ أن البكتيريا تستطيع أن تحيا بشكل جيد تمامًا بغير الأكسجين؛ فلديها مهارة لا تُضاهى في الكيمياء الكهربية، وهي قادرة على أن تجعل جميع الجزيئات تقريبًا تتفاعل معًا لتجني القليل من الطاقة. إلا أن الناتج الإجمالي للطاقة الذي يمكن اشتقاقه من التخمر، أو عن طريق تفعيل جزيئين — مثل الميثان والكبريت — معًا، يُعتبَر كمًّا مهملًا إذا قُورِن بقوة التنفس الهوائي؛ أي بالتحديد: حرق الطعام بالأكسجين. بمعنى أكسدته بالكامل إلى ثاني أكسيد الكربون وبخار ماء. ولا شيء آخر يمكنه تقديم الطاقة المطلوبة كوقود للوفاء باحتياجات حياة الكائنات متعددة الخلايا. تعتمد الحيوانات والنباتات جميعها على الأكسجين لجزء على الأقل من دورة حياتها، والاستثناء الوحيد الذي أعرفه هو دودة خيطية ميكروسكوبية (متعددة الخلايا)، تعيش في الأعماق الراكدة الخالية من الأكسجين في البحر الأسود. ومن ثم أقول إن العالم الخالي من الأكسجين يكون ميكروسكوبيًّا، على الأقل على مستوى الكائنات المفردة.
ويسهم الأكسجين في كِبَر حجم الكائنات بصور أخرى أيضًا. فكِّر في السلسلة الغذائية؛ إذ تستقر المفترسات على قمتها، وهذه تأكل الحيوانات الأصغر حجمًا، التي بدورها قد تأكل الحشرات التي تأكل حشرات أصغر، والتي بدورها تعيش على أكل الفطريات أو أوراق النباتات. ليس من العجيب أن نجد في شبكة غذائية خمسة أو ستة مستويات من الكائنات. وفي كل خطوة يحدث إهدار لقدر من الطاقة، فلا تُوجَد صورة من صور التنفس تبلغ درجة كفاءتها مائة بالمائة. وفي الواقع، تبلغ نسبة كفاءة التنفُّس الهوائي حوالي ٤٠ بالمائة، بينما تقل كفاءة أغلب صور التنفس الأخرى (باستخدام الحديد أو الكبريت، على سبيل المثال، بدلًا من الأكسجين) عن ١٠ بالمائة. هذا يعني أنه عند عدم استخدام الأكسجين، تتضاءل الطاقة المتاحة إلى ١ بالمائة عن مستواها الابتدائي في غضون مستويين فقط، بينما تحتاج ستة مستويات عند استخدام الأكسجين حتى تصل إلى نفس النقطة. وهذا يعني بدوره أن السلاسل الغذائية الطويلة لا تكون ملائمة إلا بالتنفس الهوائي. وتعني اقتصادية السلسلة الغذائية أن المفترسات يمكن أن تقوم بدورها بالقدر المطلوب في عالم مؤكسج، غير أن عملية الافتراس بوصفها نمط حياة لن تؤتي ثمارها بغير الأكسجين.
إن عملية الافتراس تقتضي تصاعدًا في الحجم، بطبيعة الحال، ومن ثم تفرض سباق تسلح بين المفترس والفريسة. فالدروع والأغلفة الصلبة تصد الأنياب، والحيل التمويهية تخدع أبصار الأعداء، وحجم الحيوان يبثُّ الرهبة في قلب كلٍّ من الصياد والفريسة. ففي وجود الأكسجين، إذن، يكون للافتراس فائدة، وفي وجود الافتراس يكون لحجم الحيوان فائدة. ومن ثم فإن الأكسجين لا يجعل الحيوانات أكبر حجمًا فحسب، وإنما يجعل وجودها أكثر ترجيحًا منذ البداية.
الأكسجين يساعد أيضًا على بناء أجساد الحيوانات. يُسمَّى البروتين الذي يكسب الحيوان قُوَّتَه المرنة الكولاجين، وهو البروتين الرئيسي في جميع الأنسجة الضامة، سواء أكانت متكلسة في العظام والأسنان والدروع، أو غير مُغلَّفة بمواد صلبة في الأربطة والأوتار والغضاريف والجلد. ويُعَدُّ الكولاجين أكثر البروتينات وفرة في الثدييات، مُشكِّلًا نسبةً مدهشةً قَدْرُها حوالي ٢٥ بالمائة من البروتين الكلي للحيوان. وخارج نطاق الحيوانات الفقارية، يُعتبَر الكولاجين مُكوِّنًا مهمًّا في الأغلفة الصلبة للأجسام، والبشرة، ودروع الظهر والأنسجة الليفية من جميع الأنواع؛ فكأنه بمنزلة «الشريط الرابط والغراء» بالنسبة لعالم الحيوان بأكمله. ويتكوَّن الكولاجين من وحدات بنائية غير عادية، وهي تحتاج إلى أكسجين حر لتكون روابط متقاطعة بين الألياف البروتينية المتجاورة؛ مما يعطي البنية ككلٍّ قوةً توترية عالية. والاحتياج إلى الأكسجين الحر يعني أن الحيوانات الكبيرة، التي تحميها أغلفة صلبة أو هياكل قوية لم يكن بإمكانها أن تنشأ وتتطور إلا حينما كانت مستويات الأكسجين الهوائي عالية بدرجة تكفي لدعم إنتاج الكولاجين، وهو عامل ربما أدَّى إلى الظهور السريع المباغت للحيوانات الكبيرة في سجل الحفريات في بداية العصر الكمبري، الذي يرجع إلى حوالي ٥٥٠ مليون سنة خلَتْ، بعد ارتفاع نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي للأرض بوقت قصير.
قد لا تبدو الحاجة للأكسجين لصنع الكولاجين أكثر من مجرد حادثة عَرَضية، فإن لم يكن الكولاجين فلماذا لم يكن شيء آخر لا يحتاج إلى أكسجين حر؟ فهل الأكسجين ضروري لإكساب القوة أم أنه مجرد مكوِّن عشوائي تصادَفَ دخوله في تلك العملية ثم بقي للأبد جزءًا منها؟ لا نعرف على وجه التحقيق، ولكن من المدهش أن النباتات الراقية أيضًا تحتاج إلى الأكسجين الحر لتتكون مادتها البنائية الداعمة، في شكل مادة بوليمرية شديدة القوة تُسمَّى اللجنين، التي تُكسِب الخشب قوته المرنة القابلة للانثناء. تتكوَّن مادة اللجنين بطريقة تبدو كالمصادفة كيميائيًّا، مستخدمة الأكسجين الحر في تكوين روابط متقاطعة قوية بين سلاسل من تلك المادة؛ مما يجعل من الصعب جدًّا كسرها، ولهذا نجد الخشب قويًّا جدًّا ولا يتعطَّن إلا بعد وقت طويل جدًّا. ولو أزلت اللجنين من الأشجار — وهي فكرة جرَّبَها بعض القائمين على صناعة الورق؛ إذ احتاجوا أن يزيلوه بصعوبة من لب الخشب لصنع الورق — فستسقط الأشجار على الأرض، غير قادرة على الحفاظ على كيانها كأشجار ولا تحتمل حتى أخف الأنسام.
وهكذا، بغير الأكسجين لم تكن تُوجَد حيوانات ولا نباتات كبيرة، ولا افتراس، ولا سماء زرقاء، وربما لم تكن تُوجَد محيطات أيضًا، ومن المرجح ألا يكون على الأرض إلا التراب والبكتيريا. لا ريب أن الأكسجين هو أثمن منتج ثانوي مهمل يمكن تخيُّله في العالم، إلا أنه ليس مجرد منتج ثانوي وحسب، ولكنه أيضًا يُعتبَر غير مرجح النشوء. فمن المتصوَّر أن عملية البناء الضوئي كان من الممكن أن تنشأ هنا على الأرض، أو على كوكب المريخ أو أي مكان آخر في الكون دون إنتاج أي أكسجين حر على الإطلاق. وفي هذه الحالة، كانت الحياة — بصفة مؤكدة تقريبًا — ستنحصر في درجة تعقيدها عند مستوى البكتيريا، ولم يكن الإنسان ليعيش على ظهر الأرض، وكانت الأرض ستظل عالمًا يعج بالبكتيريا.
•••
هناك سبب يمنع الأكسجين من أن يتراكم في الهواء، وهو التنفس. فالبناء الضوئي والتنفس عمليتان متعادلتان ومتضادتان في الاتجاه. ففي النبات تقوم عملية البناء الضوئي بصنع جزيئات عضوية من جزيئين بسيطين هما ثاني أكسيد الكربون والماء، مستخدمة ضوء الشمس للإمداد بالطاقة المطلوبة. أما التنفس فيفعل العكس تمامًا؛ فحينما نحرق جزيئات عضوية (في الطعام) فإننا نُطلِق ثاني أكسيد الكربون والماء اللذين يَعُودان إلى الهواء، وتنطلق في هذه العملية طاقة، وهي التي تبثُّ القوة في حياتنا. فكل طاقتنا تعود إلى حزمة من ضوء الشمس وصلت إلى طعامنا واختُزِنَتْ فيه.
تسير عمليتا البناء الضوئي والتنفس في اتجاهين متضادين، ولا يقتصر هذا على التفاصيل الكيميائية لكلٍّ من العمليتين، بل أيضًا في تأثير كلٍّ منهما عالميًّا. فلو لم يكن ثمة تنفس — أي لم يكن هناك حيوانات وفطريات وبكتيريا تحرق طعامها النباتي — لكان غاز ثاني أكسيد الكربون كله قد تم شفطه من الهواء منذ زمن بعيد، متحولًا إلى كتلة حيوية. وبذلك تتوقف مسيرة الحياة، إلا إذا تسرب قَدْر محدود من ثاني أكسيد الكربون بفعل التحلل البطيء أو من فوهات البراكين. ولكن هذا بعيد تمامًا عما يحدث حقًّا. فما يحدث حقًّا هو أن التنفس يحرق كل الجزيئات العضوية التي تكوِّنها النباتات؛ وفي نطاق زمني جيولوجي، سرعان ما ستختفي النباتات. لهذا الأمر عاقبة واضحة؛ وهي أن كل الأكسجين الذي يتم دفعه إلى الهواء بعملية البناء الضوئي يتم أخذه مجددًا بعملية التنفس. هذا توازن طويل الأمد لا يتغيَّر ولا تبدو له نهاية، وهو بمنزلة قبلة الموت لأي كوكب. والطريقة الوحيدة التي يمكن بمقتضاها أن يمتلك الكوكب غلافًا جويًّا مليئًا بالأكسجين — ومن ثمَّ يتجنَّب مصيرًا كمصير كوكب المريخ — هو أن يتبقَّى قَدْر من المادة النباتية ويتم حفظه سليمًا، منيعًا ضد عناصر البيئة وضد محاولات الحياة البارعة للعثور على طرق لتحليل تلك النباتات للحصول على الطاقة. يجب أن يكون هذا المقدار مدفونًا في باطن الأرض.
والسؤال الآن: ما الذي كان وراء المعدل غير المسبوق لدفن الكربون في العصر الفحمي؟ هناك تشكيلة من العوامل العرضية؛ وهي: اصطفاف القارات، والمناخ الرطب، ووجود السهول الشاسعة التي تغطيها الفيضانات. ولكن ربما كان أهمها نشوء مادة اللجنين؛ مما أدَّى إلى تكوُّن الأشجار الضخمة والنباتات القوية القادرة على استيطان مساحات شاسعة من الأرض. واللجنين مادة يصعب على البكتيريا والفطريات أن تحللها، ويبدو أنها بدأت تُمثِّل تحدِّيًا لا يُبارى في هذا الشأن بعد نشوئها بقليل، ولا تزال كذلك حتى اليوم. فبدلًا من أن تتحلل لإنتاج الطاقة، فإنها دُفِنَتْ سليمة على نطاق شاسع، وبقي الأكسجين، الذي يُعتبَر مقابلًا لها، بنسب كبيرة في الهواء.
وقعت حوادث جيولوجية في زمنين آخرين جعلت مستويات الأكسجين ترتفع، وربما كانت الحالتان نتاجًا لما حدث من طغيان متكرِّر للجليد على الأرض، وهو ما سُمِّي «الكرة الأرضية الثلجية». حدث الارتفاع الكبير الأول في مستويات الأكسجين منذ حوالي ٢٢٠٠ مليون سنة، وقد تبع فترة صعبة من التقلبات الجيولوجية والتجلد العالمي في أنحاء العالم في ذلك الزمن. وحدثت الفترة الأخرى من التجلد العالمي منذ حوالي ٨٠٠ إلى ٦٠٠ مليون سنة مضت، ويبدو أيضًا أنها أدَّتْ إلى رفع مستويات الأكسجين. ومن المرجح أن تلك الأحداث العالمية الكارثية قد غيَّرَت التوازن بين البناء الضوئي والتنفس، وبين دفن المواد الكربونية وتآكلها. فمع انصهار الكُتَل الجليدية الضخمة وسقوط الأمطار، تسربت المعادن والعناصر الغذائية (كالحديد والنترات والفوسفات)، التي كانت قد انحلَّتْ من الصخور بفعل الثلج، إلى مياه المحيطات، مسببة زيادة كبيرة في نمو البكتيريا والطحالب الناتجة عن البناء الضوئي، وهو أمر يشبه تأثير الأسمدة الكيميائية في الوقت الحاضر، ولكن بقدر أكبر بكثير. ولم يقتصر تأثير الثلج الذائب على إحداث ذلك الازدهار والنمو، ولكن كان هناك ميل أيضًا لدفنه؛ إذ اختلط التراب والثلج المتسخ وفتات الصخور التي انجرفت إلى مياه المحيطات بالبكتيريا النامية، وترسب الخليط تدريجيًّا، دافنًا الكربون بدرجة غير مسبوقة. وحدث مع هذه الوقائع ارتفاع عالمي طويل الأمد في الأكسجين.
وهكذا يُوجَد انطباع بالتصادف العرضي يتعلَّق بأكسجة كوكبنا الأرضي. ويتعزز هذا الانطباع بفعل غياب أي تغيُّر على مدى فترات طويلة فيما عدا الذي ذكرناه. ففي الحقبة الطويلة من ٢٠٠٠ مليون سنة مضت إلى حوالي ١٠٠٠ مليون سنة مضت — وهي حقبة يُسمِّيها علماء الجيولوجيا «المليار الممل» — يبدو على وجه التقريب أنه لم يحدث شيء يستحق الذكر؛ إذ بقيت مستويات الأكسجين ثابتة ومنخفضة طوال تلك الحقبة الموغلة في القدم، كما حدث في أزمان أخرى على مدى مئات الملايين من السنين. إن الركود المطبق هو الأساس، بينما تتسبب نوبات عدم الاستقرار الجيولوجي في تغيرات طويلة الأمد، ربما تقع عوامل جيولوجية مشابهة على كواكب أخرى أيضًا. ولكن يبدو أن حدوث الحركات التكتونية والنشاط البركاني أمر ضروري لإحداث التفاعلات العرضية اللازمة لكي يتراكم الأكسجين. وليس من المستحيلات أن تكون عملية البناء الضوئي قد ظهرت على كوكب المريخ منذ زمن بعيد، ولكن هذا الكوكب الصغير بما فيه من لب بركاني منكمش لم يستطع الحفاظ على مستوى التدفق الجيولوجي المطلوب حتى يتراكم الأكسجين، ثم لاحقًا فَقَدَ هذه القدرة.
•••
ولكن ثمة سبب آخر أكثر أهمية جَعَلَ عملية البناء الضوئي لا تؤدي بالضرورة إلى وجود غلاف جوي من الأكسجين على كوكبٍ ما؛ فعملية البناء الضوئي في حد ذاتها قد لا تعتمد على الماء كمادة خام مطلقًا. كلنا نعرف تلك الصورة من البناء الضوئي التي نراها حولنا؛ فالنخيل والأشجار والأعشاب البحرية كلها تعمل أساسًا بنفس الطريقة لإطلاق الأكسجين — وهي عملية تُعرَف بالبناء الضوئي الأكسجيني — ولكن إذا رجعنا عدة خطوات إلى الوراء وتأمَّلْنا البكتيريا فسنجد أن لديها خيارات أخرى كثيرة؛ فبعض البكتيريا البدائية نسبيًّا تستخدم الحديد المذاب أو كبريتيد الهيدروجين بدلًا من الماء. وإذا كانت تلك المواد تبدو كمواد خام غير معقولة بالنسبة لنا، فهذا فقط لأننا اعتدنا تمامًا على عالمنا المؤكسج — الذي هو نتاج البناء الضوئي «الأكسجيني» — لدرجة تجعل من الصعب علينا أن نتخيَّل حالات كانت تحدث في فترة مبكرة من حياة كوكب الأرض حينما نشأت عملية البناء الضوئي لأول مرة.
تدخل ذرة من الكربون ورقة النبات، فتصطدم بجزيئات أخرى لا حصر لها (وإن كانت هنا بلا فائدة) من النيتروجين والأكسجين. وهي تلتصق بجزيء كبير ومعقد ينشطها، وفي نفس الوقت تتلقى الرسالة الحاسمة من السماء، في صورة حزمة وامضة من الضوء الشمسي، وفي لحظة، مثلما يقتنص العنكبوت الحشرة ينفصل الكربون عن الأكسجين الذي ارتبط به، ويتحد مع الهيدروجين (وأظن) مع الفسفور أيضًا. وفي النهاية ينعقد في سلسلة، لا يهم إن كانت طويلة أو قصيرة، ولكنها سلسلة الحياة.
هل لاحظت الخطأ؟ في الحقيقة هناك خطآن، ومن المؤسف أن ليفي تغاضى عنهما؛ إذ إن الكيمياء الحقيقية للبناء الضوئي جرى توضيحها قبل تاريخ هذا الكتاب بأربعين عامًا؛ فليس ما يحدث أن حزمة وامضة من الضوء الشمسي تقوم بتنشيط ثاني أكسيد الكربون، بل إنه يمكن تنشيطه بنفس الدرجة أيضًا في الليل، وهو حقًّا لا يتم تنشيطه بالضوء، أيًّا كان، حتى في أشد أشعة الشمس سطوعًا. كما لا ينفصل الكربون في لحظة عن الأكسجين، بل يبقى الأكسجين مرتبطًا بالكربون بشدة. وأما افتراض ليفي بأن الأكسجين المنطلق من عملية البناء الضوئي يأتي من ثاني أكسيد الكربون — وهو افتراض شائع — فإنه خطأ مؤكد. فهذا لا يحدث، بل يأتي الأكسجين من الماء، وهذا يصنع كل الفارق في عالمنا. وإنها الخطوة الأولى لكي نفهم كيف نشأ البناء الضوئي، كما أنها الخطوة الأولى لحل أزمات الطاقة والبيئة في كوكبنا.
تشق حزم الطاقة الشمسية التي تُستخدَم في عملية البناء الضوئي جزيء الماء إلى عنصريه: الهيدروجين والأكسجين. وهو نفس التفاعل الذي يحدث على مستوى كوكبنا ككلٍّ حينما «تنزف» المحيطات إلى الفضاء، مدفوعة بقوة تأثير الإشعاع فوق البنفسجي. وما تُحقِّقه عملية البناء الضوئي — وما فشلنا نحن في تحقيقه حتى الآن — هو أن يكون لديها عامل محفز يمكنه العمل على فصل الهيدروجين عن الماء بأقل مأخذ من الطاقة، باستخدام ضوء الشمس اللطيف وليست الأشعة اللافحة فوق البنفسجية أو الكونية. وحتى يومنا هذا انتهت كل جهودنا الإبداعية البشرية إلى استهلاك المزيد من الطاقة في تحليل الماء إلى شِقَّيْه بأكثر مما يتم الحصول عليه بهذه العملية. وحينما ننجح في محاكاة البناء الضوئي، باستخدام عامل محفز بسيط يمكنه فصل ذرات الهيدروجين ببساطة عن الماء سنكون قد حللنا أزمة الطاقة العالمية؛ إذ يمكن بحرق ذلك الهيدروجين الوفاء باحتياجات الطاقة العالمية دون عناء، مع استعادة الماء مجددًا كناتج ثانوي وحيد؛ فلا تلوُّث ولا آثار كربونية، ولا احترار عالمي. إلا أنها ليست بالمهمة السهلة؛ إذ يُعتبَر الماء تركيبة من الذرات شديدة الثبات بشكل مذهل، وتشهد المحيطات على هذا؛ فحتى أقسى العواصف وأهوجها، التي تضرب الصخور وتكاد تسحقها، تعجز عن تفكيك الماء إلى مُكوِّنَيْه من الذرات. إن الماء في الحقيقة هو أكثر المواد الخام انتشارًا في كوكبنا وأكثرها صعوبة في التكوين. وكم سيحب البحَّارُ الحديثُ أن يُزوِّد سفينته بالماء كوقود مستعينًا بالقليل من أشعة الشمس. ولعله يسأل الطفاوة الخضراء العائمة على أمواج البحر عن كيفية عمل ذلك.
ولقد واجهت نفس المشكلة الأسلاف البعيدة لتلك الطفاوة، أي أسلاف البكتيريا الزرقاء التي تعيش اليوم، والتي هي الصورة الوحيدة للحياة على كوكبنا التي جرَّبَتْ حيلة تحليل الماء إلى شِقَّيْه. والأمر الغريب أن البكتيريا الزرقاء تُحلِّل الماء لنفس السبب الذي جعل أقرباءها من البكتيريا تُحلِّل كبريتيد الهيدروجين أو تُؤكسِد الحديد؛ فهي تحتاج إلى الإلكترونات. وظاهريًّا، يبدو الماء آخر مكان يمكن العثور فيه على تلك الإلكترونات.
وهكذا إذا تأمَّلْنا عملية البناء الضوئي فسنجدها بسيطة؛ إذ إنها كلها تتعلق بالإلكترونات. أضِفْ قليلًا من الإلكترونات إلى ثاني أكسيد الكربون، وأضِفْ معها قليلًا من البروتونات لموازنة الشحنات الكهربية، وهكذا نحصل على السكر. والسكريات جزيئات عضوية؛ فهي سلسلة الحياة التي تحدَّثَ عنها بريمو ليفي والمصدر الأساسي لطعامنا كله. ولكن من أين تأتي الإلكترونات؟ يمكن بقليل من الطاقة الشمسية أن تأتي الإلكترونات من أي مكان تقريبًا. في حالة الصورة «الأكسجينية» المألوفة من البناء الضوئي تأتي الإلكترونات من الماء، ولكن في واقع الأمر من الأسهل بكثير أن تنزعها من مركبات أخرى أقل ثباتًا من الماء. فخُذِ الإلكترونات من كبريتيد الهيدروجين وبدلًا من أن تُطلِق الأكسجين إلى الهواء، فإنك ترسب عنصر الكبريت، أو خذ الإلكترونات من الحديد الذائب في المحيطات (في صورة حديدوز) فتحصل على حديد أحمر ضارب إلى اللون البني (في صورة حديديك)، والذي يستقر كصخور جديدة، وهي عملية ربما كانت مسئولة منذ القدم عما تُسمَّى «ترسبات الحديد الشريطي» الشاسعة التي تُوجَد في أنحاء العالم، وتشكل في يومنا هذا أكبر الاحتياطيات المتبقية من خام الحديد منخفض الجودة.
يُعتبَر هذان الشكلان من البناء الضوئي هامشيين في عالمنا اليوم الغني بالأكسجين، والسبب ببساطة أن المادتين الخام — كبريتيد الهيدروجين أو الحديد المذاب — نادرًا ما تجد أيًّا منهما في المياه جيدة التهوية. ولكن في العصور السحيقة حينما كانت الأرض في مقتبل عمرها، وقبل ظهور الأكسجين الحر، كانتا إلى أبعد حدٍّ هما أسهل مصدر للإلكترونات، وكانت المحيطات مشبعة بهما. وهذا الأمر يثير تساؤلًا فيه تناقض ظاهري، ويُعتبَر حله أساسيًّا في فهم كيفية نشوء البناء الضوئي لأول مرة: لماذا تحوَّلَت العملية عن مصدر ثري ومريح للإلكترونات إلى مصدر أكثر إثارة للمشاكل وهو الماء؛ الذي يُعَدُّ ناتجه الثانوي أو «نفايته» — وهو الأكسجين — غازًا سامًّا بالنسبة للبكتيريا ويمكن أن يُسبِّب أضرارًا مادية جسيمة لجميع أنواع البكتيريا التي تنتجه؟ إن حقيقة أنه في ضوء توافر قوة الشمس، وعامل محفز ماهر، يكون الماء أكثر وفرة من كلتا المادتين الخام سالفتَيِ الذِّكْر ليست لها أهمية؛ إذ لا يتمتَّع التطور بنظرة مستقبلية. الأمر عينه ينطبق على حقيقة أن البناء الضوئي الأكسجيني قد غيَّر وجه العالم؛ إذ إن هذا لا يُشكِّل أي فارق من منظور العالم. فما نوع الضغوط أو الطفرات البيئية التي يمكن أن تكون قد دفعَتْ إلى حدوث هذا التحوُّل نحو الماء؟
الإجابة السهلة التي ستجدها في كثير من الكتب الدراسية هي أن المادتين الخام السابقتين كانتا قد بدأتا في النضوب؛ فتحوَّلَت الحياة نحو الماء؛ نظرًا لعدم وجود بدائل سهلة متاحة، تمامًا كما يُتوقَّع لنا أن نتحوَّل إلى استخدام الماء كوقود بعد أن تنضب أنواع الوقود الحفري. ولكن هذه الإجابة لا يمكن أن تكون صحيحة؛ فالسِّجل الجيولوجي يوضِّح أن البناء الضوئي «الأكسجيني» كان قد نشأ قبل أن تنضب جميع تلك المواد الخام السابقة، بأكثر من مليار سنة. فالحياة لم تكن مجبرة على هذا التحوُّل قسرًا.
ثمة إجابة أخرى، بدأت تنبثق الآن، وتكمن مختفية في آلية البناء الضوئي ذاتها، وهي إجابة أجمل حقًّا. إنها إجابة تجمع بين المصادفة والحتمية؛ إجابة تلقي الضوء وتضفي البساطة على واحدة من أكثر عمليات الاستخراج تعقيدًا والتفافًا في العالم.
•••
في النباتات، تجري عملية استخراج الإلكترونات فيما تُسمَّى حبيبات (أو بلاستيدات) الكلوروفيل، وهي تراكيب دقيقة خضراء تُوجَد في خلايا جميع أوراق النباتات، وجميع أوراق الحشائش، وتُضْفي لونها الأخضر على أوراق النباتات ككلٍّ. وسُمِّيَتْ هكذا تبعًا للصبغ النباتي الذي أسبغ عليها لونها. ذلك الصبغ هو الكلوروفيل، الذي يُعتبَر مسئولًا عن امتصاص طاقة الشمس في عملية البناء الضوئي. ويُوجَد الكلوروفيل مدفونًا في نظام غشائي غير عادي يكوِّن الجانب الداخلي لحبيبات الكلوروفيل. تأخذ تلك الحبيبات شكل أقراص مسطحة تتكدَّس في الخلايا النباتية، وتبدو لمن يتأملها مثل محطة طاقة فضائية في فيلم من أفلام الخيال العلمي، ويرتبط بعضها ببعض عن طريق أنابيب سريعة النقل، تتقاطع عَبْر سيتوبلازم الخلية بجميع الزوايا والارتفاعات. وداخل هذه الأقراص الخضراء نفسها يجري العمل الأهم لعملية البناء الضوئي: استخراج الإلكترونات من الماء.
تعمل هذه الأنظمة الخمسة في تتابع لانتزاع الإلكترونات من الماء ودفعها مجددًا إلى ثاني أكسيد الكربون. إنها طريقة شديدة التعقيد لكسر بندقة، ولكنها على ما يبدو تكاد تكون الطريقة الوحيدة لكسر تلك البندقة تحديدًا. والسؤال التطوري الكبير هنا هو: كيف ظهرت تلك الأنظمة المعقدة المترابطة فيما بينها إلى حيِّز الوجود، وكيف تم تنظيمها بهذه الطريقة الصحيحة، تلك الطريقة التي قد تكون الطريقة الوحيدة لجعل البناء الضوئي الأكسجيني يؤدي مهمته؟
•••
والبكتيريا الزرقاء، التي كانت تُسمَّى سابقًا خطأً بالطحالب الزرقاء المخضرة، تُعتبَر المجموعة الوحيدة المعروفة من البكتيريا التي يمكنها أن تُحلِّل الماء من خلال الشكل «الأكسجيني» من عملية البناء الضوئي. ولكن لا تزال كيفية وصول بعضٍ من أعداد تلك البكتيريا لتعيش داخل خلية عائل أكبر حجمًا لغزًا مختفيًا في غياهب أحقاب جيولوجية موغلة في القدم. لا شكَّ أن ذلك حدث منذ أكثر من ١٠٠٠ مليون سنة خلَتْ، ولكن يُفترَض أنها ابتُلعت ببساطة في وقت ما، ولم تُهضَم (وهو أمر شائع)، ثم ظهرت فائدتها لخلية العائل الخاصة بها في نهاية الأمر. والعائل الذي تمَّ تلقيحه وتلقيمه بالبكتيريا الزرقاء، استمرَّ تطوُّره حتى تكوَّنَتْ منه مجموعتان نباتيتان كبيرتان هما: الطحالب والنباتات؛ لأنها جميعًا اليوم تتميَّز بقدرتها على أن تعيش على الشمس والماء، عن طريق ذلك الجهاز المختص بالبناء الضوئي الذي توارثته عن أسلافها من البكتيريا.
ومن ثمَّ يصبح التساؤل عن أصل البناء الضوئي تساؤلًا عن أصل البكتيريا الزرقاء، وهي النوع الوحيد من البكتيريا الذي حلَّ مشكلة تحلُّل الماء. هذه واحدة من أكثر روايات علم الأحياء الحديث إثارة للجدل، جدل لم يُحسَم أمره إلى اليوم.
ثم جاء مارتن برايسير أستاذ علم الأحياء الحفرية بجامعة أكسفورد، وخطا إلى الحلبة، فتحوَّل الأمر إلى واحدة من أحمى المعارك في علم الحفريات في العصر الحديث، وهو علم عُرِف عامة بالطباع الانفعالية لكبار رجاله، مع مرونة ومطاطية الكثير من أدلته. اتَّكَل معظم الباحثين المهتمين بالحفريات الشديدة القِدَم على العينات القابعة في متحف التاريخ الطبيعي بلندن، ولكن برايسير رجع إلى المكان الجيولوجي الذي استخرج منه شوبف حفرياته أصلًا، فشعر بالصدمة؛ إذ وجد المكان بعيدًا عن أن يكون ذلك المسطح البحري الضحل الهادئ الذي افترض شوبف وجوده، بل كانت المنطقة كلها تتخللها العروق الحرارية الأرضية، وهو دليل على وجود ماضٍ جيولوجي عنيف، على حد قول برايسير الذي أردف قائلًا إن شوبف انتقى عينات بعينها ليبرز أفكاره، وأخفى عينات أخرى كانت تبدو مماثلة سطحيًّا، ولكنها رسميًّا غير بيولوجية، ويرجح أنها كلها تكوَّنَتْ بتأثير الماء الشديد السخونة على الرواسب المعدنية. وتابع كلامه قائلًا إن الستروماتوليتات أيضًا تكوَّنَتْ بعمليات جيولوجية وليست بكتيرية، ولم يكن أمرها أكثر غموضًا من ظهور تموُّجات في الرمال. لم يكن للكربون العضوي بنية ميكروسكوبية على الإطلاق؛ مما جعله لا يختلف عن الجرافيت غير العضوي الذي نجده في كثير من الأماكن الحرارية الأرضية. وفي النهاية، وهو ما عُدَّ بمنزلة دقِّ المسمار الأخير في نعش عالم كان يُعتبَر عظيمًا في وقتٍ ما، قال طالبٌ سابقٌ لدى شوبف إنه يتذكَّر أنه حين كان طالبًا بالجامعة أجبره شوبف على إصدار تأويلات مشكوك فيها. بدا الأمر وكأن شوبف قد تحطَّمَ تمامًا.
لكن شوبف لم يكن من طراز الرجال الذين ينهزمون بسهولة، فبرز للمعركة، ورتَّبَ بعض المعطيات ليدلل على آرائه. ثم تقابل مع برايسير على المسرح في مناظرة ربيعية نارية أجرَتْها وكالة ناسا الفضائية في أبريل ٢٠٠٢، ودافع كلٌّ منهما عن قضيته. فبدأ برايسير الأستاذ بجامعة أكسفورد بعجرفته المعهودة، فشجب قضية شوبف قائلًا: «إنها حقًّا تمثيلية حرارية مائية؛ فكلها حرارة وليس فيها الكثير من الضوء.» ومع ذلك، لم يقتنع المحلفون في هذه المناظرة حقًّا بآراء أيٍّ من الطرفين المتنازعين. فبالرغم من وجود شكوك حقيقية بشأن الأصل البيولوجي لأوائل الحفريات الدقيقة، فإن هناك حفريات أخرى — يعود تاريخها إلى مائة مليون سنة فقط بعدها — لم تتعرض إلا لقليل من الدحض؛ بل إن برايسير نفسه كان قد تقدَّم بحفريات رشَّحَها للعرض من نفس ذلك الزمن. إن معظم العلماء، وفيهم شوبف، يُطبِّقون الآن معايير أكثر تشددًا لإثبات صحة المصادر البيولوجية التي لديهم. لكن لا تزال هناك جزئية من العشوائية؛ وهي المتعلقة بالبكتيريا الزرقاء، التي كانت حجر الأساس لشهرة شوبف. وحتى شوبف يعترف بأن الحفريات الدقيقة التي عرضها يرجح أنها ليست من البكتيريا الزرقاء، أو على الأقل ليست أكثر ترجيحًا لأن تكون من البكتيريا الزرقاء عن أي نوع آخر من البكتيريا الخيطية. وهكذا عادت قضية البكتيريا الزرقاء إلى المربع صفر، وهدأت حدة الجدل، مع عدم وجود فكرة أفضل عن نشوء تلك البكتيريا مما كان في البداية.
•••
ذكرت تلك القصة لإظهار مدى صعوبة أن يغوص المرء في أعماق الزمن الجيولوجي، مستخدمًا سجل الحفريات وحده. فحتى إثبات وجود البكتيريا الزرقاء، أو أسلافها على الأقل، لا يثبت أنها تمكنت من تحليل الماء بالفعل. ولعل أسلافها اعتمدت على صورة من البناء الضوئي أكثر بدائية. لكن هناك طرق أخرى لاستقاء المعلومات من العصور السحيقة، التي يمكن أن يثبت أنها أكثر نفعًا؛ وهي الأسرار المدفونة داخل الكائنات الحية نفسها، في داخل جيناتها الوراثية وأيضًا في تراكيبها الجسمانية، لا سيما في تراكيبها البروتينية.
فعلى مدى ما يزيد عن العقدين أو العقود الثلاثة الماضية، تعرَّضَت التراكيب الجزيئية التفصيلية للأنظمة الضوئية النباتية والبكتيرية للتدقيق والفحص العميق، مع استخدام العلماء لترسانة كبيرة من التقنيات لها أسماء تُثِير الرهبة؛ مما يدل على أن طرق عملها ليست أقل بثًّا للرهبة في القلوب، بدءًا من استخدام جهاز التصوير البلوري بالأشعة السينية إلى استخدام مطياف الرنين بالتدويم الإلكتروني. لا تعنينا الآن كيفية عمل تلك التقنيات المعقدة، بل يكفي أن نعرف أنها استُخدِمت لرسم صور وتكوينات مركبات عملية البناء الضوئي بدرجة تقارب الوضوح الذري؛ وإن كانت للأسف لا تصل إليها. وحتى يومنا هذا تستعر المجادلات في الاجتماعات، ولكنها مجادلات تخص التفصيلات. وأثناء تأليفي لهذا الكتاب، كنت قد رجعت توًّا من لقاء للمناقشة في الجمعية الملكية بلندن، وكان اللقاء ثريًّا بالجدل عن المواضع المحددة لخمس ذرات مهمة في مركب إنتاج الأكسجين. وسرعان ما صارت المجادلات ذات جانبين أحدهما سطحي والآخر عميق. فأما الجانب العميق فلأن المواضع المحددة للذرات تحدد الآلية الكيميائية الدقيقة التي يتم بمقتضاها تحليل الماء، وتُعَدُّ معرفة هذا الأمر هي الخطوة المفتاحية لحل أزمة الطاقة العالمية. وأما الجانب السطحي فهو أن مشاجرات العلماء في هذا الصدد كانت عن تحديد مواضع تلك الذرات الخمس داخل مسافة أقطار قليلة للذرة؛ أي بضعة أنجسترومات (أي أقل من واحد على المليون من المليمتر). ومما يثير دهشة الجيل الأكبر سنًّا من الباحثين، أنه لا يُوجَد إلا القليل من الخلاف بشأن مواضع جميع الذرات الأخرى التي تخص النظام الضوئي ٢ وعددها ٤٦٦٣٠ ذرة، والتي حدَّدها فريق جيم باربر في جامعة إمبريال كوليدج في عام ٢٠٠٤، بل وحُدِّدَتْ في وقت أحدث بتفصيل أكثر.
اختصارًا، التقط النظام الضوئي ١ صبغًا بسيطًا نسبيًّا هو البورفيرين، وأضاف قدرته الكيميائية التي تتأثر بالضوء تلقائيًّا إلى تفاعلات تحدث في الخلايا البكتيرية على أي حال. وكان نتاج ذلك صورة بدائية من البناء الضوئي يمكنها أن تستخدم الضوء لسحب إلكترونات من مصادر «سهلة» مثل الحديد وكبريتيد الهيدروجين، وتمرير الإلكترونات إلى ثاني أكسيد الكربون لصنع السكريات. ومن ثم؛ فإن تلك البكتيريا تستخدم الضوء لصنع الغذاء.
ماذا عن النظام الضوئي ٢؟ إن البكتيريا التي تستخدم هذا النظام الضوئي تستخدم الضوء لتنجز مهمة مختلفة تمامًا. فلا ينتج هذا النوع من البناء الضوئي مادة عضوية، ولكنه يُحوِّل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية، وهي في الواقع طاقة كهربية يمكن استخدامها لشحن الخلية. وآلية ذلك بسيطة؛ فحينما يصطدم أحد الفوتونات بجزيء من الكلوروفيل، ينفصل منه إلكترون ويرتفع إلى مستوى طاقة أعلى، كما ذكرنا سابقًا، حيث يلتقطه أحد الجزيئات القريبة. ثم يتم تمرير هذا الإلكترون سريعًا من حامل للإلكترونات إلى آخر على طول سلسلة هابطة ناقلة للإلكترونات، مع إطلاق القليل من الطاقة في كل مرة، إلى أن يعود مجددًا إلى مستوى طاقة أقل. ويتم التقاط بعضٍ من الطاقة المنطلقة في هذه العملية لإنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وفي النهاية، يعود الإلكترون الذي أضناه الجهد إلى نفس الكلوروفيل الذي خرج منه في البداية، وبهذا تتم دورة كاملة. ومختصر القول إن الضوء يُسبِّب انفصال إلكترون ورفعه إلى مستوى طاقة عالٍ، وحينما يرجع لأسفل إلى مستوى «مستقر» فإن الطاقة المنطلقة يتم التقاطها لتكوين ثلاثي فوسفات الأدينوسين؛ وهو نوع من الطاقة التي يمكن أن تستعملها الخلية. فهي إذن بمنزلة دورة كهربية تُشحَن بالضوء.
من أين جاءت هذه الدورة؟ نقول مجددًا إنها جاءت من مصادر متعددة هي الأخرى. إن سلسلة نقل الإلكترونات مماثلة تقريبًا لتلك المستخدمة في التنفُّس، التي نشأت وتطوَّرت في الفوهات كما رأينا في الفصل الأول، فكأنها استُعِيرَتْ منها لأداء غرض أكثر حداثة قليلًا. ففي التنفس، كما لاحظنا، يتم نزع الإلكترونات من الغذاء وتمريرها في نهاية الأمر إلى الأكسجين لتكوين الماء. ويتم استخدام الطاقة المنطلقة لتوليد ثلاثي فوسفات الأدينوسين. وفي هذا النوع من البناء الضوئي يحدث نفس الشيء؛ إذ يتم تمرير الإلكترونات عالية الطاقة على طول سلسلة، ولكن ليس إلى الأكسجين، وإنما إلى نوع «جشع» (مؤكسِد) من الكلوروفيل. وكلما كان الكلوروفيل أكثر قدرة على «نزع» الإلكترونات (أي كلما كان أقرب إلى الأكسجين في طبيعته الكيميائية) كانت السلسلة أكثر كفاءة، وهي تمتص الإلكترونات أولًا بأول وتسحب طاقتها منها. والميزة الكبيرة هي أن تلك العملية لا تحتاج إلى وقود، ولا غذاء، على الأقل لتوفير الطاقة (ولكن الطاقة مطلوبة لتركيب جزيئات عضوية جديدة).
•••
لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نعطي أي إجابة. إن القيمة الكبيرة للفرضيات النظرية في العلوم هي أنها تلجأ إلى القيام بقفزات تخيلية إلى المجهول، فتقترح زوايا وتجارب جديدة يمكن أن تؤكِّد الافتراضات أو تُفنِّدها. وفيما يلي واحدة من أفضل تلك الفرضيات؛ وهي فكرة جميلة من جون ألِن أستاذ الكيمياء الحيوية في كلية كوين ماري بجامعة لندن وصاحب العقل المبدع. تحدثت عن ألِن في ثلاثة كتب متتابعة، وفي كل مرة كنتُ أقدِّم فكرة إبداعية مختلفة صادرة عنه. وفرضيته هي مثل أفضل الأفكار في العلوم، تتميَّز بالبساطة التي تُمزِّق سريعًا طبقاتٍ عدَّةً من التعقيد. قد لا تكون صحيحة؛ فليست كل الأفكار الكبيرة في العلوم صحيحة. ولكن حتى إذا كانت خطأ، فإنها تُظْهِر كيف «يُحتمَل» أن تكون الأمور قد صارت إلى ما هي عليه، كما أنها عن طريق اقتراح التجارب المطلوبة لاختبار تلك الأمور، ترشد الباحثين إلى الطريق الصحيح. إنها تُقدِّم الفكرة الثاقبة والحافز في الوقت ذاته.
يقول ألِن إن كثيرًا من أنواع البكتيريا تشغل الجينات الوراثية أو تُعطِّلها استجابةً لتغيُّرات في بيئتها؛ وهذه في حدِّ ذاتها تُعَدُّ من المعلومات العامة، ومن أهم المفاتيح البيئية المسئولة عن تشغيل الجينات وتعطيلها وجود المواد الخام أو غيابها. وبصفة عامة، فإن البكتيريا لا تُهْدِر الطاقة في بناء بروتينات جديدة بهدف معالجة مواد خام إذا لم تجد أيًّا منها حولها، بل إنها تكتفي بإيقاف أنشطتها إلى حين صدور إشعار آخر. ومن ثم؛ فإن ألِن يتخيَّل بيئةً متقلبةً — ربما كانت في شكل ستروماتوليتات في البحار الضحلة، أو عند فوهة حرمائية تُطلِق كبريتيد الهيدروجين إلى العالم. وتتفاوت الأحوال تبعًا لتأثير المد والجزر البحري، والتيارات الأخرى، والوقت من العام، والنشاط المائي الحراري وغيرها. والعامل الحاسم هو وجوب أن يكون لبكتيريا ألِن الافتراضية كلا النظامين الضوئيين، كما هو حال البكتيريا الزرقاء في يومنا هذا، ولكن تلك البكتيريا تختلف عن البكتيريا الزرقاء في كونها تستخدم أحد النظامين فقط في كل مرة. فحينما يكون كبريتيد الهيدروجين موجودًا، فإن البكتيريا تشغل النظام الضوئي ١ وتستخدمه لإنتاج المادة العضوية من ثاني أكسيد الكربون، ويمكنها أن تأخذ هذه المادة الجديدة وتستخدمها في النمو والتكاثر، وهكذا. ولكن إذا تغيَّرَتِ الظروف، وصارت الستروماتوليتات بغير مواد خام فإن تلك البكتيريا تنتقل إلى تشغيل النظام الضوئي ٢. وحينئذٍ تكف تلك البكتيريا عن صنع مواد عضوية جديدة (فهي لم تَعُدْ تنمو ولا تتكاثر)، ولكن يمكنها الحفاظ على وجودها عن طريق استخدام ضوء الشمس في صنع ثلاثي فوسفات الأدينوسين مباشرة إلى أن تتحسَّن الأحوال. لكلا النظامين الضوئيين فائدته، وكلٌّ منهما نشأ وتطوَّرَ من خلال سلسلة من الخطوات البسيطة كما رأينا سابقًا.
ولكن ماذا يحدث إذا اندثرت إحدى الفوهات الحرمائية، أو أدَّتِ التياراتُ الهوجاء إلى تغيُّرات طويلة الأمد في البيئة؟ لا بد حينئذٍ أن تعتمد البكتيريا على دورة الإلكترونات للنظام الضوئي ٢ في أغلب أحوالها. ولكن هنا تكمن مشكلة محتملة؛ إذ يمكن أن تنسَدَّ الدورة بإلكترونات من البيئة، حتى إذا حدث هذا ببطء في محيطها الفقير في الإلكترونات. إن دورة الإلكترونات تشبه إلى حدٍّ ما لعبة تمرير الطرود، فإما أن يكون لدى حامل الإلكترونات إلكترون وإما لا، تمامًا مثل الطفل؛ فإما أن يكون لديه طرد حينما تتوقَّف الموسيقى وإما لا. ولكن تخيَّلِ الآن مشرفًا وغدًا على هذه اللعبة معه كومة من الطرود، فهو مستمر في تمريرها إلى دائرة الأطفال الواحد تلو الآخر. وفي نهاية اللعبة يكون لكل طفل طرد واحد، ولا يمكن لأحد منهم أن يمرر طرده لمن يليه؛ فتتوقف اللعبة بسبب حالة الارتباك تلك.
نفس هذه الحالة تنطبق في أغلبها على النظام الضوئي ٢؛ إذ تكمن المشكلة في ضوء الشمس، لا سيما في تلك الأيام التي سبقَتْ وجود طبقة الأوزون؛ حيث كان المزيد من الإشعاع فوق البنفسجي يشق طريقه وصولًا إلى مستوى سطح البحر. ولا يقتصر تأثير الأشعة فوق البنفسجية على تحليل الماء، ولكن يمكن أيضًا أن تفصل الإلكترونات عن الأملاح المعدنية والمعادن الذائبة في المحيطات، وعلى رأسها المنجنيز والحديد. وهذا يُوضِّح بالضبط نوع المشكلة التي تحبط لعبة تمرير الطرود التي لدينا؛ إذ يتسرَّب بعضٌ من الإلكترونات إلى دورة الإلكترونات دون استعداد لها.
لا يُوجَد الحديد ولا المنجنيز بتركيزات عالية في مياه البحار اليوم؛ لأن مياه المحيطات تُأكسِد ما فيها تمامًا من هذين المعدنين، ولكن في الأزمنة الغابرة كانا بكميات وفيرة؛ فالمنجنيز، على سبيل المثال، يُوجَد بكميات هائلة في قاع البحر على شكل عقيدات عجيبة مخروطية الشكل، تراكمت على مدى ملايين السنين حول أشياء مثل أسنان أسماك القرش، وهي واحدة من قليل من الأشياء الحيَّة التي يمكنها أن تتحمَّل الضغوط الهائلة للماء عند قاع المحيط. ويُعتقَد أن هناك تريليون طنٍّ من العقيدات الغنية بالمنجنيز مبعثرة على قيعان البحار، وهو مخزون هائل ولكنه غير اقتصادي. وحتى المخزونات الأكثر اقتصادية مثل حقول المنجنيز الهائلة في كالاهاري بجنوب أفريقيا (وتحتوي على كمية أخرى مقدارها ١٣٫٥ مليار طنٍّ من الخام) فقد ترسَّبَتْ أصلًا في المحيطات منذ ٢٤٠٠ مليون سنة. خلاصة القول إن المحيطات كانت في قديم الزمان مليئة بالمنجنيز.
وبالنسبة للبكتيريا، يُعَدُّ المنجنيز بضاعة قيِّمة؛ فهو يعمل كمضاد للأكسدة ليحمي الخلايا من التأثير المدمِّر للإشعاع فوق البنفسجي. وحينما تمتص ذرة المنجنيز فوتونًا من الإشعاع فوق البنفسجي فإنها تُطلِق إلكترونًا، فتتأكسد ضوئيًّا، وفي هذه العملية تكون قد «عادلت» الأشعة. وبهذا تتم «التضحية» بالمنجنيز بدلًا من قطع وأجزاء الخلية الأكثر أهمية، مثل البروتينات والدي إن إيه، التي لولا ذلك لتفتتت بفعل الأشعة؛ ومن ثم ترحب بشِدَّةٍ البكتيريا بوجود المنجنيز لديها. وتكون المشكلة أنه حينما تَفْقِد ذراتُ المنجنيز إلكترونًا؛ فمن المرجَّح دائمًا أن يتلقَّفه ذلك النوع «البخيل الطماع» من الكلوروفيل في النظام الضوئي ٢. ومن ثم تنسد الدائرة تدريجيًّا بالإلكترونات، تمامًا مثلما غرقت دائرة الأطفال — التي ذكرناها — في الطرود. وما لم يكن ثمة وسيلة لاستنزاف الإلكترونات الزائدة التي تعوق الدائرة فإن النظام الضوئي ٢ يصير أقل كفاءة رويدًا رويدًا.
ولكن كيف يمكن أن تستنزف البكتيريا الإلكترونات من النظام الضوئي ٢؟ هنا تكمن عبقرية فرضية ألِن كلها؛ فالنظام الضوئي ٢ يكون قد انسَدَّ بالإلكترونات، بينما يبقى النظام ١ عاطلًا عن العمل بسبب نقص الإلكترونات لديه. إن كل ما تحتاجه البكتيريا هو تعطيل مفتاح التشغيل الذي يمنع عمل كلا النظامين الضوئيين في الآن عينه، إما بطريقة فسيولوجية وإما عن طريق طفرة من الطفرات. فماذا يحدث حينئذ؟ تدخل الإلكترونات النظام الضوئي ٢ مجلوبة من ذرات المنجنيز المؤكسدة، ثم يتم إطلاقها إلى مستوى عالٍ من الطاقة، بينما يمتص النوع «البخيل الطماع» من الكلوروفيل شعاعًا من الضوء. ومن هنا يتم تمريرها لأسفل عَبْر سلسلة نقل الإلكترونات، مع استخدام الطاقة المنطلقة لتوليد قليلٍ من ثلاثي فوسفات الأدينوسين، ثم تحدث هنا عملية التغيير. فبدلًا من العودة إلى النظام الضوئي ٢ المعاق بكثرة الإلكترونات، يقوم النظام الضوئي ١ النشط بالتقاط تلك الإلكترونات الجديدة الزائدة التي هو متعطِّش لها. ثم يتم إطلاق الإلكترونات لمستوى مرتفع من الطاقة مجددًا، مع امتصاص نوع «البائع المتجول» من الكلوروفيل لشعاع من الضوء. ومن ثم — بطبيعة الحال — يتم تمرير الإلكترونات في نهاية الأمر إلى ثاني أكسيد الكربون، لتكوين مادة عضوية جديدة.
والآن صِرْنا على بُعْد خطوة واحدة من البناء الضوئي الأكسجيني بكل عنفوانه؛ فنحن نسحب الإلكترونات من المنجنيز، وليس من الماء. كيف إذن يحدث التحوُّل النهائي المطلوب؟ الإجابة المدهشة هي أننا في غير حاجة إلى شيءٍ مُعيَّن لإحداث التغيير.
•••
يُعتبَر المُركَّب المطلق للأكسجين مثل كسارة البندق؛ إذ يكبل الماء حتى يتم ضربه وإطلاق الإلكترونات منه الواحد تلو الآخر. وحينما تتم إزالة الإلكترونات ينطلق الأكسجين، ذلك الناتج الثانوي الثمين، إلى العالم. وذلك المركب المطلق للأكسجين في حقيقته أحد مكونات النظام الضوئي ٢، ولكنه يستقر عند آخر حافته، مواجهًا للعالم الخارجي، ومعطيًا انطباعًا بأنه «مثبت» في موضعه، وهو صغير بدرجة عجيبة. ويتكون ذلك المركب من عنقود من أربع ذرات من المنجنيز وذرة واحدة من الكالسيوم، ترتبط كلها معًا بشبكة من ذرات الأكسجين. هذا كل ما في الأمر.
وأيًّا كانت طريقة تكوُّن ذلك العنقود الصغير من ذرات المنجنيز فإنه فتح عالمًا جديدًا، ليس للبكتيريا التي احتفظت به منذ زمن البداية فحسب، ولكن لجميع صور حياة الكائنات على ظهر الأرض. فبمجرد تكوُّن ذلك العنقود الصغير من الذرات، بدأ في تحليل الماء، وبدأت ذرات المنجنيز المؤكسَدة الأربع بتجميع شراهتها الطبيعية لانتزاع الإلكترونات من الماء، ومن ثم إطلاق الأكسجين كناتج ثانوي. ويُلاحَظ أن تحليل الماء الذي تَمَّ حفزه بفعل الأكسدة المستمرة للمنجنيز بتأثير الإشعاع فوق البنفسجي، لا بد أنه كان بطيئًا في بادئ الأمر. ولكن بمجرد أن صار العنقود مرتبطًا بالكلوروفيل بدأت الإلكترونات في التدفُّق. ومع تأقلم الكلوروفيل مع هذه العملية ازدادت سرعته، وبدأ سحب الماء وتحليله، وسحب إلكتروناته وإخراجها، وطرد الأكسجين. وهذا التدفق المانح للحياة للإلكترونات — الذي بدأ ببطء ثم تسارع كالفيضان الغامر — وراء جميع مظاهر ازدهار الحياة على الأرض. إننا يجب أن نشكر تلك العملية الحيوية مرتين: مرة لأنها مصدر جميع أنواع الغذاء الذي نأكله، ثم مجددًا لما انطلق بسببها من الأكسجين الذي نحتاجه لحرق الغذاء الذي يبقينا أحياء.
تلك العملية هي أيضًا مفتاح حل أزمة الطاقة العالمية؛ فلا حاجة بنا لوجود نظامين ضوئيين؛ إذ لا يعنينا صنع المادة العضوية في هذا الصدد. بل نحتاج فقط إلى منتجين ينطلقان من تحليل الماء — وهما الأكسجين والهيدروجين — فجعلهما يتفاعلان معًا مجددًا يُولِّد كل الطاقة التي نحتاجها، والنفاية الوحيدة الناتجة هي الماء. وبتعبير آخر، نقول إننا بذلك العنقود الصغير من المنجنيز يمكننا استخدام طاقة الشمس في تحليل الماء، ثم نجعل المكونين الناتجين يتفاعلان معًا مرة أخرى لتوليد الماء مجددًا؛ ما يمكن تسميته اقتصاد الهيدروجين. فلا مزيد من التلوث، ولا مزيد من أنواع الوقود الحفري، ولا مزيد من أضرار غازات الكربون ومركباته الضارة، ولا مزيد من الاحترار العالمي الذي تسبب فيه البشر، وذلك إذا استثنينا احتمالات حدوث بعض الانفجارات. وإذا كان ذلك العنقود الصغير من الذرات قد غيَّرَ تركيبة العالم منذ زمن بعيد، فإن معرفتنا لتركيبته الذرية لا بد أن تكون الخطوة الأولى نحو تغيير عالمنا اليوم. وأثناء كتابتي لهذا الفصل، يتسابق الكيميائيون في أنحاء العالم في تخليق ذلك العنقود المنجنيزي الدقيق في المعمل، أو أي شيء مشابه له يحقق الفائدة مثله. وإنني مُوقِن أنهم سريعًا ما سيحققون النجاح. حينئذٍ لن يمر وقت طويل حتى نتعلم أن نعيش حياتنا بقدر من الماء وشيء من أشعة الشمس.