الخلية المعقدة
«عالم النبات هو من يستطيع أن يعطي أسماء متشابهة لنباتات متشابهة، وأسماء مختلفة لنباتات مختلفة؛ حتى تكون معروفة ومميزة لكل إنسان.» هذا ما قاله العالم السويدي الكبير في علم تصنيف الكائنات كارولوس لينيوس، الذي كان هو نفسه عالم نبات. وقد نعتبر هذا الكلام بدائيًّا بعض الشيء أو طموحًا محدودًا في يومنا هذا، إلا أن لينيوس وهو يعمل على تصنيف العالم الأرضي الحي تبعًا لصفات الأنواع أرسى قواعد علم الأحياء الحديث. وقد كان بالتأكيد فخورًا بإنجازاته، حتى إنه كان يسعده أن يقول: «الله يخلق، ولينيوس يُصنِّف.» ولا شكَّ أنه كان سيسعد إذا علم أن العلماء سيظلُّون — حتى يومنا هذا — يستخدمون نظامه التصنيفي الذي يُقسِّم الكائنات الأرضية تحت عناوين: المملكة، والشعبة، والطائفة، والجنس، والنوع.
هذه الرغبة في التصنيف، واتباع النظام بدلًا من الفوضى، بدأت تجعل العالم الذي حولنا ذا معنى، وصارت أساسًا لعدد من العلوم التي تنفعنا. فأين يكون موقع علم الكيمياء بدون الجدول الدوري للعناصر؟ أو الجيولوجيا بدون معرفة الحِقَب والعصور؟ ولكن هناك أمر مختلف فيما يتعلق بعلم الأحياء. ففي علم الأحياء فقط لا يزال هذا التصنيف للكائنات جزءًا نشطًا من الأبحاث الجارية. وقد صارت الكيفية التي تُبنى بها «شجرة الحياة» — تلك الخريطة الكبيرة التي تُبيِّن العلاقات بين جميع الكائنات الحية — مصدرًا للحقد، بل والغضب بين علماء يُفترَض فيهم دماثة الأخلاق. وقد نشر أحد العلماء واسمه فورد دوليتل، ويُعتبَر من أكثر العلماء رقة وهدوءًا، مقالة يُعبِّر في عنوانها عن هذا الاتجاه، وهو «تشذيب شجرة الحياة».
وليست المشكلة فيمن كانوا يُعتبَرون رقيقي الطبع، بل في أمور تتعلق بأكثر الفروق والمميزات أهمية من الناحية المادية. فأغلبنا، مثل لينيوس، لا يزال بالفطرة يُقسِّم العالم إلى نباتات وحيوانات وجمادات، وهي على أي حال الأشياء التي يمكننا أن نراها. أليست هذه الفئات مختلفة بما يكفي؟ إن الحيوانات تضج بالحياة حولنا، مهتدية بأجهزتها العصبية الراقية المعقدة، وتأكل النباتات والحيوانات الأخرى. والنباتات تنتج مادة جسمها من ثاني أكسيد الكربون والماء، مستخدمة طاقة أشعة الشمس، وهي مغروسة في أماكنها فلا حاجة بها إلى المخ. والجمادات خالية من الحياة، حتى إذا كان نمو البلورات قد أقنع لينيوس بأن يضمها إلى تصنيفاته باعتبارها من مظاهر الحياة، في حين أن البلورات ليست حية.
إن جذور وأسس علم الأحياء بوصفها مادة دراسية تنقسم إلى علم الحيوان وعلم النبات، ولم يلتقِ الاثنان قط على مدى أجيال. بل إن اكتشاف أشكال الحياة المجهرية لم يفعل إلا القليل لكسر هذا التقسيم القديم؛ فالحيوانات الدقيقة، مثل الأميبا التي تتحرك حولنا بنشاط، أُدرِجَتْ ضمن المملكة الحيوانية، وأُطلِق عليها فيما بعد اسم الحيوانات الأولية أو الأوليات، بينما أُضِيفَتِ الطحالب الملوَّنة والبكتيريا إلى عالم النباتات. ولو كان لينيوس حيًّا بيننا اليوم وسرَّه أن يجد أن نظامه التصنيفي لا يزال يُستخدَم، لصُعِق عند اكتشافه أنه انخدع كثيرًا بالمظاهر الخارجية. فاليوم ضاقت كثيرًا الفجوة التي نجدها بين النباتات والحيوانات، بينما انفتح بحر واسع بين البكتيريا وبقية صور الحياة المعقدة. وعبور هذا البحر يُسبِّب الكثير من النزاع بين العلماء، ويجعلهم يتساءلون: كيف انتقلت الحياة من بساطة البكتيريا البدائية إلى تعقيد النباتات والحيوانات الراقية؟ هل كان هذا الانتقال مُرجَّح الحدوث، أم غير محتمل الحدوث بشكل مؤكد؟ هل حدث في مكان آخر في الكون الفسيح، أم أن الكون خارج الأرض خالٍ من الحياة؟
وخشية أن يستغلَّ البعض حالة عدم اليقين هذه في الترويج لأفكار غير علمية؛ فقد صدرت أفكار كثيرة جديرة بالتصديق، ولكن تكمن المشكلة في وجود الأدلة والبراهين، وتحديدًا في تأويل الأدلة المتعلقة بالأزمنة السحيقة في القِدَم، وهي أزمنة ربما تعود إلى ٢٠٠٠ مليون سنة مضت حينما نشأتْ أُولى الخلايا المعقدة حسبما يعتقد العلماء. وأعمق الأسئلة يتعلَّق بسبب ظهور الحياة المعقدة دفعة واحدة فقط في تاريخ الحياة على كوكبنا بأكمله؛ فكل النباتات والحيوانات بلا شك ترتبط بعلاقات فيما بينها، بمعنى أننا جميعًا نتشارك في سلف واحد حسبما يقول العلماء؛ فالحياة المعقدة لم تنبثق بشكل متكرر من البكتيريا في أوقات منفصلة، بمعنى انبثاق النباتات من نوع من البكتيريا، والحيوانات من نوع آخر، والفطريات أو الطحالب من أنواع أخرى. بل على العكس، ففي وقت واحد نشأت خلية معقدة من البكتيريا، واستمرت ذرية تلك الخلية لتنشأ عنها الممالك الكبيرة للحياة المعقدة؛ وهي: النباتات، والحيوانات، والفطريات، والطحالب. وتلك الخلية الأم، أي السلف الأكبر لكل صور الحياة المعقدة، تختلف كثيرًا عن البكتيريا؛ فإذا نظرنا إلى شجرة الحياة، فكأن البكتيريا تشكل جذورها، بينما تشكل الكائنات المعقدة المألوفة أغصانها. ولكن ماذا بشأن جذع الشجرة؟ مع أننا يمكن أن نعتبر الكائنات الأولية وحيدة الخلية، مثل الأميبا، أشكالًا وسيطة؛ فإنها في الواقع ومن نواحٍ كثيرة تُعتبَر معقدة مثل النباتات والحيوانات. إنها بالتأكيد تستقر عند فرع سفلي أدنى، ولكنها مع ذلك تظل فوق مستوى جذع الشجرة.
ذلك البون الشاسع بين البكتيريا والكائنات الأخرى الأكثر رقيًّا هو بالأساس مسألة تنظيم على مستوى الخلايا. فمن حيث موروفولوجيتها على الأقل — أي شكلها وحجمها ومكوناتها — تُعتبَر البكتيريا بسيطة؛ فشكلها بسيط عادة، وأغلبها كروي أو عصوي. وهذا الشكل يدعمه جدار خلوي صلب يحيط بالخلية من الخارج، ولا يُوجَد في داخلها سوى القليل لنراه، حتى مع استخدام قوة تكبير المجهر الإلكتروني. فالبكتيريا اختزلت أجسامها لأقل درجة تتفق مع نمط حياتها حر المعيشة، وحياتها تسير في خط واحد لا تَحِيد عنه؛ فكل شيء مسخَّر للتكاثر والتضاعف السريع، والكثير منها يحتفظ بأقل قَدْر ممكن من الجينات الوراثية لتعيش حياتها، ولديها قابلية لأن تنتزع المزيد من الجينات من بكتيريا أخرى حينما تتعرض للضغوط؛ وذلك حتى تدعم احتياجاتها الجينية، ثم تفقد تلك الجينات الزائدة مجددًا عند أقرب فرصة، ويتم نسخ جينوماتها الصغيرة بسرعة. وبعض أنواع البكتيريا يمكنها أن تتضاعف كل ٢٠ دقيقة؛ مما يتيح لها نموًّا مضاعفًا بسرعات مذهلة طالما بقيت المواد الخام اللازمة لذلك، فإذا حصل أحدها — يزن واحدًا على تريليون من الجرام — على ما يكفيه من موارد بغير حدود (وهو أمر مستحيل بالفعل)، يمكنه أن يتكاثر بِحُرِّية حتى يصل وزن مجموع أعداده إلى ما يعادل وزن الكرة الأرضية نفسها في أقل من يومين.
النواة هي «مركز القيادة» في الخلية، وهي معبأة بالدي إن إيه؛ المادة الجينية الوراثية. وفضلًا عن وجود النوى في حد ذاتها، هناك أوجه أخرى عدة مميزة للخلايا حقيقية النوى لا تُوجَد في البكتيريا. فالخلايا حقيقية النوى ليس لديها كروموسوم دائري واحد، مثل البكتيريا، ولكن لديها عدد من الكروموسومات المستقيمة التي تكون غالبًا مقترنة في أزواج. كما أن الجينات نفسها ليست مصفوفة على طول الكروموسومات كحبات المسبحة، كما في البكتيريا، ولكنها تنقسم إلى قِطَع وأجزاء، مع وجود مسافات أو امتدادات واسعة من مادة الدي إن إيه غير المشفرة فيما بينها؛ أي إن حقيقيات النوى لديها جينات تأخذ شكل قطع لسبب ما. وفي النهاية، فإن جينات الخلايا حقيقية النوى ليست مكشوفة مثل جينات البكتيريا، ولكنها مغطاة بالبروتينات، وهو نسق يجعلها منيعة ضد العبث والاختراق مثل الأغلفة البلاستيكية الحديثة التي تُغلَّف بها الهدايا.
هذه مجرد فروق في المظهر. أما في السلوك، فإن الخلايا حقيقية النوى رائعة بنفس الدرجة، كما أنها مختلفة تمامًا عن البكتيريا. ويمكننا القول إن جميع حقيقيات النوى — فيما عدا استثناءات قليلة — لها جنس محدد؛ فهي تولِّد خلايا جنسية مثل المني والبويضات، والتي تندمج معًا لتكوِّن خلية هجينًا (مخصبة) بها نصف عدد الجينات من الأب والنصف الآخر من الأم (وسنذكر المزيد عن هذا في الفصل التالي). وجميع الخلايا حقيقية النوى تنقسم من خلال ممارسة الكروموسومات لما يشبه رقصة الجافوت الفرنسية الساحرة؛ إذ تُضاعِف أعدادها وتصفُّ أنفسها في شكل مغزل من الأنيبيبات الدقيقة قبل أن تتراجع صوب الطرفين المتضادين للخلية، وكأنها تحيي بعضها في كياسة. تتوالى قائمة السلوكيات المدهشة لحقيقيات النوى، وأود أن أذكر مجرد واحدة أخرى وهي البلعمة، أو قدرة الخلية البلعمية على ابتلاع خلايا أخرى بكاملها وهضمها في داخلها. وهذه السمة يبدو أنها عتيقة حتى وإن كان ثمة مجموعات قليلة من الكائنات، مثل الفطريات والنباتات، قد فقدتها مجددًا. ومن ثم على سبيل المثال، مع أن أغلب الخلايا الحيوانية والنباتية لا تحتشد من أجل ابتلاع خلايا أخرى، فإن الخلايا المناعية تفعل هذا تمامًا حينما تلتهم البكتيريا، فهي تسلك في هذا سلوك الأميبا.
كل هذا يتعلق بجميع الخلايا حقيقية النوى، سواء أكانت نباتية أم حيوانية أم أميبية. هناك بالطبع فروق كثيرة بينها أيضًا، ولكن إذا وضعنا تلك الفروق أمام الخصائص المشتركة بينها فإنها تكون غير ذات بال. كثير من الخلايا النباتية تحتوي على حبيبات الكلوروفيل على سبيل المثال، وهي عضيات مسئولة عن عملية البناء الضوئي. وتلك الحبيبات، شأنها في هذا شأن الميتوكوندريا، كانت في قديم الزمان بكتيريا حرة المعيشة (في هذه الحالة من البكتيريا الزرقاء)، ثم ابتلعها بكاملها سلف مشترك لجميع النباتات والطحالب. وأيًّا كان السبب، فإن تلك الخلية السلف أخفقت في هضم وجبتها الشهية، ومن خلال حالة من عسر الهضم اكتسبت تلك الخلايا كل ما يلزمها للاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس؛ إذ تحصل على طاقتها من الشمس والماء وثاني أكسيد الكربون فقط. وهكذا، في بلعة واحدة تحرك قطار الظروف الحياتية التي فصلت في نهاية الأمر بين عالم النباتات الساكن وعالم الحيوانات المفعم بالحركة. إلا أن وجود حبيبات الكلوروفيل تلك ما هو إلا فارق واحد مقابل ألف صفة مشتركة. ويمكننا أن نستمر في هذا؛ فالنباتات والفطريات تكوَّنَتْ لديها جدر خلوية خارجية لتدعم بنية أجسامها، وبعضها لديه فجوات خلوية، وهكذا. ولكن كل ذلك ليس أكثر من فروق طفيفة؛ إذ لا تُوجَد أي فروق تضاهي تلك الهوة الساحقة التي تفصل الخلايا حقيقية النوى عن البكتيريا.
إلا أنها هوة تثير الحيرة؛ فهي حقيقية وخيالية في آنٍ واحد. فيُوجَد شيء من التراكب أو التداخل بين البكتيريا والخلايا حقيقية النوى في جميع الصفات — تقريبًا — التي تأمَّلْناها. فثمة عدد قليل من البكتيريا كبيرة الحجم، كما يُوجَد كثير من الخلايا حقيقية النوى صغيرة الحجم، وهناك تراكب في المدى الحجمي بينهما. كما أن للبكتيريا هيكلًا خلويًّا داخليًّا؛ يُبطِّن جدارها الخلوي ويتكوَّن من ألياف تشبه كثيرًا الهيكل الخلوي حقيقي النواة، بل إنه يبدو ديناميكيًّا إلى حدٍّ ما. وهناك بكتيريا لديها كروموسومات مستقيمة (وليست دائرية)، ولها تراكيب تحاكي النواة وبها أغشية داخلية. قليل من البكتيريا يفتقر للجدر الخلوية، في جزء من دورة حياتها على الأقل. وبعضها يعيش في مستعمرات ذات طبيعة مُعقَّدة، وربما يمكن اعتبارها بمنزلة كائنات متعدِّدة الخلايا، وهذا بالطبع في رأي المدافعين عن البكتيريا. بل إن هناك حالة أو حالتين من البكتيريا التي تحمل بكتيريا أخرى أصغر جحمًا في داخلها، وهو اكتشاف غامض، خاصة في ضوء أنه لا يُوجَد نوع واحد من البكتيريا تُعرَف عنه القدرة على ابتلاع الخلايا بخاصية البلعمة. ورأيي أن البكتيريا بدأت طريقها محتوية على كل الصفات حقيقية النواة الممكنة تقريبًا، ثم توقَّفَتْ متخلفة عن الرَّكْب، غير قادرة على الاستمرار في تلك التجربة الحياتية، لأي سبب من الأسباب.
قد تشعر — معذورًا في ذلك — بأن هذا التراكب الذي ذكرناه ما هو إلا تدرج متصل للسمات؛ ومن ثَمَّ فلا شيء يحتاج إلى تفسير. وكان من الممكن ألا يُوجَد بون شاسع بين البكتيريا وحقيقيات النوى إذا كان ثمة طيف متصل بدءًا من البكتيريا البسيطة عند إحدى النهايتين وحتى حقيقيات النوى المعقدة عند النهاية الأخرى من ذلك الطيف. وهذا صحيح بشكلٍ ما، ولكني أعتقد أنه مضلل؛ فبالرغم من وجود درجة ما من التراكب حقًّا، فإنه تراكب من طيفين مختلفين بالفعل. أحدهما طيف مبتور خاص بالبكتيريا، يتراوح بين «البساطة المتناهية» و«التعقيد المحدود»، والآخر أطول كثيرًا يخص حقيقيات النوى، ويتراوح بين «التعقيد المحدود» و«التعقيد الشديد والمحير للعقل». نعم؛ هناك تراكب ولكن البكتيريا لم ترتقِ كثيرًا على طيف حقيقيات النوى، وحدها حقيقيات النوى هي التي فعلَتْ ذلك.
ويظهر الفارق جليًّا في التاريخ بقوة؛ فعلى مدى ثلاثة الآلاف مليون سنة الأولى تقريبًا من الحياة على الأرض (منذ أربعة آلاف مليون إلى ألف مليون سنة مضَتْ)، سادت البكتيريا تلك الحياةَ. لقد غيَّرَتْ وجه العالم تمامًا، ولكنها بالكاد غيَّرَتْ نفسها؛ فالتغيُّرات البيئية التي سبَّبَتْها البكتيريا كانت هائلة، لدرجة يصعب علينا نحن البشر أن نتخيَّلها. فكل الأكسجين الذي بالهواء، على سبيل المثال، مشتقٌّ من عملية البناء الضوئي، التي كانت ممارستها — في الفترة المبكرة — ملقاة على عاتق البكتيريا الزرقاء وحدها. كما أن «واقعة الأكسدة العظيمة» حين تشبع الهواء وكذلك أسطح المحيطات المشمسة بكميات هائلة من الأكسجين، وذلك منذ حوالي ٢٢٠٠ مليون سنة، أدَّتْ إلى تغيير كبير في كوكبنا إلى الأبد، ولكن هذا التغيير لم يترك بصماته على البكتيريا ذاتها، بل كان هناك مجرد تحوُّل في النظام البيئي تجاه نوع البكتيريا التي تحب الأكسجين؛ فحدَثَ تفضيل لنوع واحد من البكتيريا على الآخر، ولكن بقيت أفراد النوع كلها بكتيرية بشكل واضح ومؤكد. ونفس الشيء ينطبق على سائر التحولات البارزة في الظروف والأحوال. كانت البكتيريا مسئولة عن خنق أعماق المحيطات بكبريتيد الهيدروجين، فترة وصلت إلى ٢٠٠٠ مليون سنة، ولكنها بقيت دائمًا كما هي؛ بكتيريا. وكانت البكتيريا مسئولة عن أكسدة غاز الميثان الجوي؛ مما أدَّى إلى حدوث ظاهرة تجمد أرضي شامل، وكان هذا أول حَدَث من نوعه في تاريخ الأرض، ولكنها بقيت كما هي؛ بكتيريا. ولعل أهم تغيير من نوعه بالنسبة للبكتيريا قد حَدَث بسبب نشوء حقيقيات النوى عديدة الخلايا المعقدة خلال اﻟ ٦٠٠ مليون سنة الماضية. فقد قدَّمَتْ حقيقيات النوى طرقًا جديدة للحياة للبكتيريا، مثل تسبب البكتيريا في الأمراض المعدية، ولكن بقيت البكتيريا كما هي؛ بكتيريا. فلا شيء من الكائنات أكثر مقاومة للتغيير من البكتيريا.
وهكذا بدأ التاريخ بحقيقيات النوى؛ فلأول مرة صار من الممكن أن نجد «شيئًا مختلفًا عما سبقه» بدلًا من التكرار النمطي الممل لنفس النمط على مَرِّ الزمان. وفي أحيان قليلة، حدثت بعض الأشياء بسرعة. الانفجار الكمبري، على سبيل المثال، كان بالأساس انتشارًا سريعًا لطرز بدائية من الخلايا حقيقية النوى. كان ذلك الانفجار لحظة جيولوجية من عمر الزمان؛ إذ استمر مليونَيْ عام فقط. ظهرت حيوانات كبيرة فجأة، وتركت آثارها في سجل الحفريات لأول مرة. لم تكن تلك الأنواع مختلفة اختلافات ظاهرية وحسب، وإنما كانت حيوانات عجيبة الأشكال، رائعة الأجسام، اختفى بعضها مجددًا سريعًا كما ظهر سريعًا. فكأن تلك الحيوانات كانت نائمة خامدة في سِجِلِّ القَدَر ثم استيقظت فجأة لتعوض دهورًا سابقة خالية.
ثمة مصطلح تقني لهذا الانفجار هو «الإشعاع»، الذي يظهر فيه نوع من الأنواع فجأة، لسبب من الأسباب، ويستمر مطلق العنان فترة قصيرة من التطور. وهكذا نشأت أنواع جديدة إبداعية من أسلافها القديمة كأشعة ضوء خرجت من مصباح. صحيح أن الانفجار الكمبري هو الأكثر شهرة في هذا الصدد، إلا أن هناك أمثلة أخرى كثيرة؛ مثل: استعمار الأرض بالكائنات، ونشوء النباتات الزهرية، وانتشار الحشائش، ونشوء الثدييات وتباين أنواعها. وهذا قليل من كثير. وتلك الأحداث تَمِيل للحدوث حينما يكون التطور الجيني في مواجهة حدث بيئي غير مبرر، كأن تسود حالة انقراض جماعي. ولكن أيًّا كان السبب، فإن تلك الإشعاعات الهائلة يميزها أنها حقيقية النوى. ففي كل مرة لم تزدهر إلا حقيقيات النوى؛ أما البكتيريا فبقيت كما هي. ولا يسع المرء منا إلا أن يستنتج أن الذكاء البشري والوعي، وسائر الخصائص التي نعتز بها ونبحث عنها في أنحاء الكون، لم تكن لتنشأ في البكتيريا — التي تعيش على كوكبنا الأرضي على الأقل — بل إنها صفات حقيقية النواة محضة.
هذه التفرقة تثير الأسى؛ ففي حين أن البكتيريا تجعلنا نعجب بها ونغبطها لما فيها من صفات كيميائية حيوية عملاقة، فإنها تتصف بالتقزم الشديد فيما يختص بإمكاناتها المورفولوجية. ويبدو أنها عجزت عن التطور لتصل إلى مستوى الكائنات الراقية، نباتية كانت أم حيوانية، كالتي نراها حولنا ونُعجَب بها. ولعل هذا يجعل الانتقال من البكتيريا البسيطة إلى حقيقيات النوى المعقدة أهم عملية انتقالية في تاريخ كوكبنا.
•••
لا شك أن سجل الحفريات يبدو منقطع التسلسل، ولكن تُوجَد في الحقيقة أنواع بينية أكثر بكثير مما تريد أن تعترف به قلة صاخبة من المتشددين. وحينما كان داروين يؤلف كتابه، كانت تُوجَد بالفعل «حلقة مفقودة» بين القردة العليا والبشر؛ إذ لم يجد أحد وقتها أي حفريات لأشباه البشر الذين لديهم صفات بينية. ولكن على مدى نصف القرن الأخير اكتشف علماء الحفريات نماذج منها، وكانت بصفة عامة تتوافق تمامًا مع ما قد يتوقعه المرء فيما يختص بالصفات الشخصية مثل حجم المخ وطريقة المشي. وبغضِّ النظر عما كان يبدو من قبل من غياب للأنواع البينية، فإننا الآن في مواجهة حالة من الإحراج سببها كثرة هذه الأنواع. وتكمن الصعوبة في أنه من الصعب أن نعرف أي تلك الأشكال شبه البشرية هم أسلاف البشر الحاليين، وأيها اختفى دون سبب واضح. ولأننا لا نعرف جميع الإجابات (حتى الآن) فما زلنا نسمع ادعاءات عالية الصوت بأن الحلقة المفقودة تلك لم تُوجَد قط، وهذا افتراء على مبدأي النزاهة والحقيقة.
ولكن من وجهة نظري، بوصفي اختصاصيًّا في الكيمياء الحيوية، ما الحفريات إلا تسلية جميلة مشتتة. ففي ضوء عدم احتمالية العثور على حفريات وعدم القدرة على التنبؤ بأماكن وجودها — فضلًا عما تتسم به عملية البحث عن الحفريات من انحياز ضد الكائنات ذات الأجسام اللينة؛ مثل قنديل البحر، وضد النباتات والحيوانات التي تعيش على تربة جافة — فإن الحفريات يجب ألا تُعتبَر سجلات غير قابلة للمناقشة عن الماضي. فإذا حدث هذا فيجب أن نشتبه في وجود غش وخداع. وإذا حدث أن أمدَّتْنا الحفريات بسجل للماضي بين الحين والآخر، فيجب أن نعتبر هذا من قبيل الحظ السعيد نتيجة لتحالف نادر من الظروف التي أتاحت لنا التوصُّل إليها، وأنها ليست أكثر من تأكيد للدليل الحقيقي على حقيقة الانتقاء الطبيعي. ذلك الدليل الحقيقي نجده حولنا دائمًا — في عصر علوم الجينوم — في تسلسلات الجينات الوراثية.
إن تلك التسلسلات الجينية تحفظ في داخلها شيئًا أقرب إلى جوهر النشوء والتطور من أي حفريات. خُذْ أيَّ جين تريده، وستجد تسلسله نظمًا طويلًا للحروف، وهذا النظم يتضمَّن شفرة من تتابع الأحماض الأمينية في البروتين. يُوجَد في المعتاد نحو مائتي حمض أميني في أي بروتين، وكلٌّ منها يشفِّره ثلاثة من أحرف الدي إن إيه (انظر الفصل الثاني). وكما لاحظنا بالفعل فإن جينات حقيقيات النوى غالبًا ما تشمل فواصل طويلة من الدي إن إيه غير المشفِّر، تكون منثورة بين امتدادات مشفِّرة أقصر طولًا. بجمع كل ذلك معًا، فإن تسلسل أحد الجينات يصل طوله إلى آلاف من الحروف. ثم إن هناك عشرات الآلاف من الجينات، وكلٌّ منها ينتظم بطريقة مماثلة. وإجمالًا، يتألَّف الجينوم من شريط من مليارات الحروف، وتكشف طريقة انتظام هذه الحروف الكثير عن الميراث التطوري للكائن الحي الذي يحتويه.
إن الجينات التي تُشفِّر البروتينات المسئولة عن أداء نفس المهام في أنواع متباينة من الكائنات متماثلة، بدءًا من البكتيريا وحتى البشر. وعلى مدى الزمن التطوري، حدثت طفرات ضارة في التسلسلات الجينية، وتمَّ التخلص منها بالانتقاء الطبيعي، وكانت نتيجة ذلك أن تَمَّ الاحتفاظ بنفس الحروف في مواضع متكافئة في التسلسل الجيني. ومن وجهة نظر عملية بحتة، فإن هذا يعني بدوره أنه يمكننا التعرُّف على الجينات ذات الصلة في الأنواع المختلفة بالرغم من مرور دهور لا تُحصى. لكن كقاعدة عامة، نسبة ضئيلة فقط من آلاف الحروف الموجودة في أي جين هي التي تُعتبَر فعليًّا ذات أهمية، أما بقيتها فيمكن أيضًا أن تتفاوت بحرية مع تراكم الطفرات بمرور الزمن؛ ذلك لأن التغيُّرات في هذه الحالة ليست ذات أهمية كبيرة؛ ومن ثم لا يتم التخلص منها بالانتقاء الطبيعي. وكلما مَرَّ المزيد من الوقت زاد تراكم تلك الطفرات، وكذلك يصير التسلسلان الجينيان أكثر تمايزًا. وهكذا يكون لدى الأنواع التي تشترك معًا في سلف مشترك حديث نسبيًّا، مثل الشمبانزي والبشر، تسلسلات جينية عدة مشتركة، بينما التي تشترك في سلف مشترك آخر أكثر بعدًا، مثل النرجس البري والبشر، تحتفظ بقَدْر أقل منها. وتنطبق نفس القاعدة إلى درجة كبيرة على اللغات، التي تتباعد بمرور الزمن بين الجماعات، فتفقد باطراد أي تشابه لها مع السلف المشترك فيما عدا بعض نقاط من التشابه الخفي التي ما زالت تجمعها.
كل هذا جيِّد إلى الآن، ولكن هناك بعض المشكلات أيضًا، وهي في أغلبها نتيجة لأخطاء إحصائية في قياس التغيُّر الحادث على مدى زمن بالغ القِدَم. والمشكلة الأساسية هي أنه تُوجَد أربعة حروف مختلفة فقط في الدي إن إيه، وعادة ما تُبدَّل الطفرات الجينية (على الأقل بالنسبة للنمط الذي نحن بصدده هنا) حرفًا بآخر. فإذا تم استبدال معظم الحروف مرة واحدة فقط؛ فلا بأس، ولكن على مدى المسافات الشاسعة من الزمن التطوري، لا بد أن يحدث استبدال لأكثر من مرة. ونظرًا لأن كل تغيُّر ينطوي على الحظ، فمن الصعب أن نعرف ما إذا كان كل حرف قد تمَّ استبداله مرة أم خمسًا أم عشر مرات. وإذا لم يكن قد حَدَث تغيُّر لأحد الحروف مطلقًا، فربما لم يكن قد تم استبداله مطلقًا، أو ربما تم استبداله مرات عدة، مع وجود فرصة في كل مرة بنسبة ٢٥ بالمائة أن يتم استعادة الحرف الأصلي. ونظرًا لأن تلك التحليلات هي مسألة احتمالية إحصائية، فإن من المتوقع أن تأتي مرحلة لا نستطيع وقتها أن نُميِّز بين الاحتمالات المختلفة. وقد يسوء الحظ، فيتصادف أن يكون الوقت الذي نتخبَّط فيه في بحر من الشك الإحصائي متوافقًا — تقريبًا — مع انبثاق الخلية حقيقية النواة نفسها. والانتقال الحاسم والمهم من طَوْر البكتيريا إلى حقيقيات النوى غارق في بحر من الشك وعدم اليقين من الناحية الجينية. والطريقة الوحيدة للخروج من هذه المشكلة هي أن نستخدم «غربالًا» إحصائيًّا ذا فتحات أدقَّ؛ لتُنتقى جيناتنا بحرص وعناية أكبر.
•••
يقول البعض الآخر إن الجينات التوقيعية لحقيقيات النوى لا تخبرنا بشيء عن الميراث التطوري لحقيقيات النوى؛ إذ ليست لدينا طريقة نعرف بها السرعة التي يمكن أن تكون الجينات قد تطورت بها في الماضي البعيد، ولا سبب يدعونا لافتراض أنَّ تباعُدها كان له معدل منتظم كالساعة. نحن نعرف بالتأكيد أن بعض الجينات تتطوَّر بسرعة أكبر من جينات أخرى اليوم. كما أن الحقيقة القائلة إن الساعات الجزيئية تشير إلى ذلك الماضي العتيق المشكوك فيه توحي بأنه إما أن الحياة قد تَمَّ بَذْرها من الفضاء — وهو تفسير لا يَفِي بالمطلوب في رأيي — وإما أن تلك الساعات خطأ. فلماذا تكون خطأ؟ لأن السرعة التي تتطوَّر بها الجينات تعتمد كثيرًا على ظروف الحياة وأحوالها، ولا سيما نوع الكائن الذي تجد نفسها فيه. وكما قلنا منذ قليل، فإن البكتيريا كائنات متحفظة تقاوم التغيير، فبقيت كما هي على مَرِّ الزمان بينما تبدو حقيقيات النوى أكثر استجابة لنوبات من التغيير الكبير، كما حدث فيما سُمِّي بالانفجار الكمبري الذي ذكرناه سابقًا. ويمكن القول إنه لا تُوجَد نوبة من التغيير أقوى وأشد تأثيرًا، من وجهة النظر الجينية، من تكوُّن الخلية حقيقية النواة ذاتها، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن نتوقَّع أنه قد حَدَث معدل هائل من التغيير في تلك الأيام المبكرة التي تشكَّلَتْ فيها حقيقيات النوى. فإذا كانت حقيقيات النوى قد نشأت في وقت أحدث من البكتيريا، كما يعتقد أغلبُ الباحثين، فإن جيناتها لا بد أن تكون مختلفة جدًّا؛ لأنها في وقتٍ ما، أو على مدى فترة ما، تطوَّرَتْ بسرعة كبيرة، وتحوَّلَتْ وتكاثرت وتضاعفت، ثم تحوَّلَتْ مجددًا.
وهكذا، فإن الجينات التوقيعية لحقيقيات النوى ليس لديها سوى القليل لتخبرنا به عن تطوُّر حقيقيات النوى. ببساطة هي تطوَّرَتْ بسرعة وبقدرٍ كبير لدرجة أن أصولها فُقِدَتْ في غياهب الزمن. ماذا عن المجموعة الثانية من الجينات؛ تلك التي لديها مكافئات معروفة في البكتيريا؟ هذه الجينات مفيدة أكثر من الناحية التعريفية؛ إذ يمكننا عن طريقها أن نبدأ في المقارنة بين المتشابهات منها. فالجينات التي تُوجَد في كلٍّ من البكتيريا وحقيقيات النوى غالبًا ما تشفر عمليات أساسية في الخلية، سواء أكانت من الأيض الأساسي (والأيض هو الطريقة التي يتم بمقتضاها توليد الطاقة ويُستخدَم في بناء اللبنات المهمة للحياة؛ مثل: الأحماض الأمينية والدهون)، أو العمليات التعريفية الأساسية (أي الطريقة التي تتم بمقتضاها قراءة الدي إن إيه وترجمته إلى عملة نشطة من البروتينات). وتلك العمليات الأساسية عادة ما تتطوَّر ببطء؛ نظرًا لوجود الكثير غيرها مما يعتمد عليها. فإذا استطعنا تغيير وجه واحد من وجوه تركيب البروتينات، فسوف تتغير عمليات تصنيع جميع البروتينات وليس بروتينًا واحدًا فقط. وبالمثل، فإن تغيير عملية توليد الطاقة، ولو بقدر طفيف، يُعرِّض نظام الخلية ككلٍّ للخطر. ونظرًا لأن التغيُّرات في الجينات الأساسية تكون أكثر قابلية لأن ترصدها عملية الانتقاء الطبيعي وتزيلها، فإن هذه الجينات تتطور ببطء، ومن ثم يجب أن تعطينا تحليلًا أدق للنشوء والتطور. وإذا بُنِيَتْ شجرة من تلك الجينات فيمكنها مبدئيًّا أن تُظْهِر العلاقة بين حقيقيات النوى والبكتيريا. ولعلها تشير إلى المجموعة التي نشأت منها الجينات، بل وربما أعطت تلميحًا عن سبب تلك النشأة.
كان عالم الأحياء الدقيقة الأمريكي كارل وويس أول مَنْ بَنَى شجرةً بهذا الشكل في أواخر سبعينيات القرن العشرين. وقد اختار أحد الجينات التي تشفر جزءًا من العمليات التعريفية بالخلية — وتحديدًا، جزءًا من تلك الآلات الجزيئية الدقيقة التي تُسمَّى الريبوسومات، التي تضطلع بعملية تخليق البروتينات. ولأسباب تقنية، لم يستخدم وويس الجين نفسه أصلًا، وإنما استخدم نسخة تتكوَّن من الآر إن إيه، وتلك تُقرَأ من الجين، ثم تُدخَل مباشرة إلى الريبوسوم. وقد عزل وويس ذلك الآر إن إيه الريبوسومي من أنواع مختلفة من البكتيريا وحقيقيات النوى، وحدَّد تتابعاتها ورسم شجرة بمقارنة التتابعات. وكانت النتائج صدمة؛ إذ تحدَّتْ أفكارًا طالما تمسَّك بها العلماء قبل ذلك عن الكيفية التي ينبغي أن يكون العالم الحي قد تشكَّل بها.
وبعد كل ما نشب من معارك، صار أغلب الباحثين اليوم متقبلين لشجرة وويس، أو على الأقل متقبلين للمكان البارز الذي تحتله العتائق. والحقيقة أن العتائق على المستوى الكيميائي الحيوي تختلف عن البكتيريا من جميع النواحي تقريبًا؛ إذ يتكوَّن الغشاء الخلوي فيها من دهون مختلفة، يتم تركيبها بمساعدة مجموعة مختلفة من الإنزيمات. ولا شيء مشترك بين جدرها الخلوية والجدر الخلوية البكتيرية، ويُوجَد تراكب طفيف بين مساراتها الأيضية ومسارات البكتيريا. وكما رأينا في الفصل الثاني، فإن الجينات التي تتحكَّم في تضاعف الدي إن إيه في الحالتين مختلفة تمامًا ولا علاقة بينهما. والآن وقد صارت تحاليل الجينومات الكاملة شيئًا مألوفًا، صرنا نعرف أن العتائق تشترك مع البكتيريا في أقل من ثلث جيناتها، والباقي يُعتبَر فريدًا ومميَّزًا. وبصفة عامة، فقد ساعدت شجرة الآر إن إيه — التي لم تكن في الحسبان — لوويس في التركيز على سلسلة من الاختلافات الكيميائية الحيوية الرئيسية بين البكتيريا والعتائق، وإن كانت طفيفة إلى درجة عدم ملاحظتها؛ مما يجعلها معًا تدعم ما أقدم عليه من جرأة في إعادة تصنيف الكائنات الحية.
مشكلة شجرة وويس أنها بُنِيَتْ من جين واحد؛ ومن ثم تفتقد القوة الإحصائية التي تُكتسَب بمطابقة الأشجار الجينية بعضها ببعض. ويمكننا فقط أن نعتمد على شجرة جينية واحدة إذا أمكننا التأكد من أن الجين المختار يعكس الميراث الحقيقي للخلايا حقيقية النوى. وأفضل طريقة لاختبار ما إذا كان هذا هو الحال حقًّا ومعرفة ذلك؛ هي أن نطابق جينات أخرى بطيئة التطور لمعرفة ما إذا كانت هي أيضًا تكرِّر نفس ذلك النمط شديد التفرع. وحينما يتم هذا، تصير الإجابات مُحيِّرة. فإذا اخترنا الجينات المشتركة فقط بين كل المجموعات الثلاث من الكائنات الحية (أي التي تُوجَد في البكتيريا والعتائق وحقيقيات النوى) فيمكننا حينئذٍ أن نُعِيد إنشاء أشجار قوية للبكتيريا والعتائق ولكن ليس لحقيقيات النوى. فحقيقيات النوى خليط يثير الارتباك؛ فبعض جيناتها مشتق ظاهريًّا من العتائق والبعض الآخر من البكتيريا. وكلما زاد عدد الجينات التي ندرسها — وقد جمَّع أحد التحاليل الحديثة ٥٧٠٠ جين، أُخِذَتْ من ١٦٥ نوعًا مختلفًا في «شجرة فائقة» — زاد الاقتناع بالحقيقة القائلة إن الخلية حقيقية النواة لا تتطوَّر بطريقة «داروينية» قياسية، ولكن بنوعٍ ما من الالتحام الجيني الهائل. ومن وجهة النظر الجينية، كانت الخلية حقيقية النواة الأولى هجينًا؛ نصفه من العتائق والنصف الآخر من البكتيريا.
•••
طبقًا لما قاله داروين، فإن الحياة تتطوَّر بتراكم بطيء للاختلافات بمرور الزمن، مع تشعُّب الذريات المختلفة بعيدًا عن سلفها المشترك. النتيجة هي شجرة متفرعة، ولا ريب أن تلك الأشجار هي خير وسيلة لاستيضاح تطوُّر أغلب الكائنات التي يمكن أن نراها، وهي — بالأساس — أغلب حقيقيات النوى الكبيرة. ولكن من الواضح بدرجة متساوية أن تلك الأشجار ليست أفضل وسيلة لإيضاح تطوُّر الميكروبات، سواء من البكتيريا أو العتائق أو حقيقيات النوى.
وفيما يخص الخلية حقيقية النواة يُسمِّي العالم كريستيان دي دوف المجموعتين: «الخلية البلعمية البدائية»، و«المصادفة القَدَرية». فأما فكرة الخلية البلعمية البدائية فتندرج ضمن المفهوم الدارويني، وأكثر العلماء اقتناعًا بها وتأييدًا لها هما توم كافالير سميث ودي دوف نفسه. وتقول تلك الفكرة أساسًا إن سلف الخلية حقيقية النواة تراكمت فيه تدريجيًّا جميع خصائص الخلية حقيقية النواة الحديثة، بما فيها وجود النواة، والتكاثر الجيني، والهيكل الخلوي، وأهمها جميعًا؛ وهي خاصية البلعمة الخلوية — أو القدرة على ابتلاع خلايا أخرى. ويتم ذلك بأن تُغَيِّر شكلها ثم تبتلع الخلايا الأخرى وتهضمها في داخلها. والصفة الوحيدة التي تنقص هذه الخلية البلعمية البدائية، مقارنة بحقيقيات النوى الحديثة، هي الميتوكوندريا، التي تولِّد الطاقة باستخدام الأكسجين. ومن المفترض أن تلك الخلية البلعمية البدائية اعتمدت على عملية التخمُّر للحصول على الطاقة، وهي عملية أقل كفاءة بكثير.
لكن بالنسبة للخلية البلعمية كان التهام أسلاف الميتوكوندريا مجرد جزء من نشاطها اليومي المفيد. فماذا يمكن أن يكون أسهل من ذلك؟ في الواقع، هل من طريقة أخرى كان يمكن بمقتضاها أن تدخل خلية في خلية أخرى؟ حقًّا؛ إن امتلاك الخلية البلعمية البدائية للميتوكوندريا أعطاها ميزة مهمة — فقد حققت لها ثورة في توليد الطاقة — ولكنها لم تُغَيِّر كيانها بشكل أساسي؛ فقد كانت خلية بلعمية قبل أن تبتلع الميتوكوندريا وبقيت خلية بلعمية بعدها، وإن صار لديها المزيد من الطاقة. ولكن ربما انتقل الكثير من الجينات من الميتوكوندريا الحبيسة إلى جينوم خلية العائل، وربما كان هذا الانتقال هو السبب في الطبيعة الهجينة للخلية حقيقية النواة الحديثة. والجينات المشتقة من الميتوكوندريا ذات ميراث بكتيري أصلًا. ومن ثم، فإن من يدافعون عن فكرة الخلية البلعمية البدائية لا يتشكَّكون في الطبيعة الهجينة لحقيقيات النوى الحديثة، ولكنهم يفترضون نمطًا غير هجين للخلية البلعمية الأصلية، باعتبارها خلية العائل، وهو أمر منطقي إذا اعتبرناها خلية حقيقية النواة بدائية.
في بدايات عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ألقى توم كافالير سميث الضوءَ على مجموعة مُكَوَّنة من ألف نوع أو أكثر من حقيقيات النوى وحيدة الخلية التي تبدو بدائية وتعوزها الميتوكوندريا. وقال كافالير سميث إن قليلًا منها ربما نجا وعاش منذ الأيام المبكرة من حياة الخلية حقيقية النواة، مع اعتبارها ذرية مباشرة للخلية البلعمية البدائية التي لم تكن تمتلك ميتوكوندريا مطلقًا. إذا كان الأمر كذلك، فمن المفترض ألا تظهر عليها أي علامات على التهجين الجيني، على أساس أنها نشأت وتطورت بعمليات تتفق تمامًا مع النظرية الداروينية. ولكن على مدى العقدين التاليين لمقولة ذلك العالم تبيَّنَ أنَّ جميع تلك الخلايا ظهرت عليها علامات التهجين الجيني؛ فجميعها على ما يبدو كانت لديها ميتوكوندريا في وقتٍ ما ثم فقدَتْها بعد ذلك، أو تعدَّلَتْ لديها إلى شيء آخر. والحقيقة إن «جميع» الخلايا حقيقية النوى المعروفة إما تمتلك ميتوكوندريا اليوم، وإما امتلكتها في الماضي. وإذا كانت تُوجَد خلايا بلعمية بدائية تعوزها الميتوكوندريا، فلا بد أنها لم تُخلِّف وراءها أي ذرية مباشرة. وذلك لا يعني أننا نقول إنها لم تُوجَد مطلقًا، ولكن نقول ببساطة إن كلامنا عن وجودها ضرب من الحدس.
وتُعتبَر نظريات «المصادفة القَدَرية» جميعها غير داروينية بالأساس، وذلك في كونها لا تفترض حدوث تغيرات صغيرة كأسلوب للتطور، ولكن تفترض نشأة مفاجئة نسبيًّا لكيان جديد تمامًا. المهم أن هذا الافتراض يقول إن جميع الصفات الوراثية لحقيقيات النوى نشأت فقط «بعد» حدوث الاتحاد القدري. كانت الخلايا المتحدة نفسها من بدائيات النوى بالتحديد، وتعوزها خواص البلعمة الخلوية والتكاثر الجنسي ووجود هيكل خلوي فعال، ونواة، وهكذا. ولم تظهر صفاتها إلا بعد ثبات الاتحاد وتماسكه. يعني هذا أنه كان هناك شيء متعلِّق بالاتحاد نفسه حول الخلية بدائية النواة المتحفظة أساسًا، المقاومة للتغيير، إلى النقيض: خلية حقيقية النواة نشيطة دائمة التغير.
كيف يمكننا أن نُميِّز بين هذين الاحتمالين؟ رأينا بالفعل أن الجينات التوقيعية لحقيقيات النوى لا يمكنها أن تساعدنا. ولا وسيلة أمامنا لمعرفة ما إذا كانت قد نشأت وتطوَّرت على مدى ٤ مليارات سنة، أم مليارَيْ سنة، وما إذا كانت قد نشأت قبل حدوث الاندماج بالميتوكوندريا أم بعد ذلك. وحتى الجينات المتطورة ببطء التي لها نظائر من بدائيات النوى لا يمكن الوثوق بها؛ فالأمر يعتمد على أيها نختار منها. مثلًا، إذا نظرنا إلى شجرة الآر إن إيه الريبوسومية لوويس، نجد أن البيانات متسقة مع نموذج الخلية البلعمية البدائية. السبب هو أنه في شجرة وويس تُعتبَر حقيقيات النوى والعتائق مجموعتين «شقيقتين» تتشاركان في سلف مشترك؛ أي إن لديهما نفس «الأم». وهذا يعني أن حقيقيات النوى لم تنشأ «من» العتائق، تمامًا مثلما لا تلد الأخت أختها. كان السلف المشترك في هذه الحالة خلية بدائية النواة، وهذا أمر شبه مؤكد (وإلا فلا بد أن جميع العتائق قد فقدت نواها)، ولكن فيما وراء ذلك، لا يُوجَد سوى القليل الذي يمكننا أن نقوله يقينًا. من المحتمل أن السلسلة حقيقية النواة تطورت إلى خلية بلعمية بدائية قبل أن تبتلع الميتوكوندريا، ولكن لا يُوجَد أي دليل جيني يدعم هذا الزعم.
على العكس من هذا، إذا بنينا أشجارًا جينية أكثر تعقيدًا، مستخدمين عددًا أكبر من الجينات، فإن صلة الأخوة بين حقيقيات النوى والعتائق ستبدأ في التحطم، بل سيبدو كأن العتائق بالفعل قد تولَّدَتْ عنها حقيقيات النوى. ليس من المؤكد من أي العتائق تحديدًا تولدت حقيقيات النوى، ولكن أكبر دراسة أُجْرِيَتْ حتى الآن — التي ذكرتُ توًّا أنها بنَتْ شجرة عملاقة مكوَّنة من ٥٧٠٠ جين — توصَّلَتْ إلى أن خلية العائل كانت من العتائق، ولعلها أقرب ما تكون إلى الثرموبلازما الحديثة. هذا الفرق حاسم تمامًا؛ فإذا كانت خلية العائل من العتائق (وهو ما يعني أنها من بدائيات النوى؛ نظرًا لعدم وجود نواة، ولا هيكل خلوي فعال، ولا صفات التكاثر الجنسي ولا البلعمة الخلوية … إلخ)، فمن الواضح أنها لم تكن خلية بلعمية بدائية. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن تكون نظرية «المصادفة القدرية» صحيحة؛ بمعنى أن الخلية حقيقية النواة قد انبثقت من اتحاد بين خلايا بدائية النوى. لم يكن ثمة خلية بلعمية بدائية مطلقًا، وبهذا ينقلب غياب الدليل على وجودها إلى دليل على غيابها.
لكن ليس من المرجح أن تكون هذه الإجابة النهائية؛ إذ يعتمد الكثير على أي الجينات أو الأنواع بالضبط يتم انتقاؤها، وما هي ضوابط الانتقاء. ففي كل مرة تتغيَّر هذه الأشياء، وتعيد الشجرة تشكيل نفسها إلى نمط ذي تفرُّع مختلف، يحدث ارتباك وخلط بين الأمور بسبب افتراضات إحصائية، أو عمليات نقل جانبي بين بدائيات النوى، أو غير ذلك من المتغيرات غير المعروفة. وليس معروفًا ما إذا كان الموقف يمكن حلُّه بالمزيد من البيانات الجينية أم أنه ببساطة لا يمكن الإجابة عنه بعلم الجينات؛ وهذا هو المرادف البيولوجي لمبدأ عدم اليقين الذي وَفْقَه كلما اقتربنا من شيءٍ ما ازدادت الأشياء غموضًا. ولكن إذا لم يكن بالإمكان حل هذه المسألة بالبيانات الجينية، فهل كُتِبَ علينا أن نبقى واقفين مُلطَّخين من كرات الوحل التي تتقاذفها حولنا فِرَق متصارعة من العلماء الذين امتلأت نفوسهم بالغل؟ لا بد أن هناك طريقة أخرى.
•••
إن جميع الخلايا حقيقية النوى المعروفة إما تحتوي على الميتوكوندريا الآن، وإما كانت لديها في وقتٍ ما في الماضي. ومن المثير للاهتمام أن كل الميتوكوندريا التي ما زالت تؤدِّي وظيفتها المحددة — بمعنى أنها تُولِّد الطاقة مستخدمةً الأكسجين — تحتفظ في داخلها بعدد من الجينات من بقايا حياتها السابقة كبكتيريا حرة المعيشة. وفي اعتقادي أن هذا الجينوم الميتوكوندري الدقيق يخفي السر العميق للخلية حقيقية النواة.
لقد استمرَّتْ حقيقيات النوى في التشعُّب على مدى جزء كبير من المليارَيْ عام الماضية، وخلال هذا الزمن كانت تَفْقِد جيناتها الميتوكوندرية. وقد فقُدِتْ جميعها ما بين ٩٦ إلى ٩٩٫٩ بالمائة من جيناتها الميتوكوندرية، وربما نُقِلَتْ أغلبها إلى نواة الخلية، ولكن لم يحدث أن فقدَتْها جميعًا أيُّ خلية دون أن تَفْقِد — في نفس الوقت — القدرةَ على استخدام الأكسجين. هذا لا يبدو إذن أمرًا عشوائيًّا، بل إن عملية نَقْل جميع الجينات الميتوكوندرية إلى النواة عملية منطقية ومُرتَّبة. فلماذا يتم الاحتفاظ بمئات من القواعد الجينية في كل خلية، في حين أن ٩٩٫٩ بالمائة من الجينات يتم اختزانها كنسخة واحدة، مع وجود نسخة احتياطية، داخل النواة؟ وإن الاحتفاظ بأي جينات على الإطلاق في الميتوكوندريا يعني أن الجهاز — بكامله — المخصص لقراءتها وترجمتها إلى بروتينات يجب أيضًا أن يتم الاحتفاظ به في كل ميتوكوندريون بلا استثناء. لا بد أن مثل هذا التبذير من شأنه أن يزعج المحاسبين الماليين، والانتقاء الطبيعي هو أكثر المحاسبين تشددًا، أو هكذا ينبغي أن يكون.
وهناك المزيد؛ فالميتوكوندريا تُعَدُّ مكانًا غير مناسب لاختزان الجينات. غالبًا ما يُطلَق عليها — باختصار — اسم محطات توليد الطاقة بالخلية، وهذا التشبيه ملائم للغاية. فأغشية الميتوكوندريا تُولِّد شحنة كهربية، وهذه تعمل على نطاق أجزاء قليلة من المليون من المليمتر مع فَرْق جهد يساوي شحنة صاعقة من البرق، وهو أقوى ألف مرة من التيار الكهربي المنزلي. واختزان الجينات هنالك يشبه تخزين نفائس كتب المكتبة البريطانية في محطة دائمة الحركة لتوليد الطاقة النووية. والتهديد هنا ليس نظريًّا وحسب؛ فالجينات الميتوكوندرية تتطافر بسرعة تَفُوق بكثير جينات النواة. فمثلًا، في الخميرة، وهذا مثال تجريبي سهل، تتطافر هذه الجينات بسرعة تزيد بحوالي عشرة آلاف مرة. ولكن مع ذلك، من المهم أن نعرف أنَّ الجينومَيْن الاثنين (أي جينومي النواة والميتوكوندريا) يعملان معًا بشكل سليم. ويتم توليد القوة عالية الفولتية التي تشحن الخلايا حقيقية النوى مِنْ قِبَل بروتينات يتم تشفيرها بدورها مِنْ قِبَل كلا الجينومين. فإذا أخفقا في العمل بشكل جيِّد معًا تكون العاقبة هي الموت، أي موت الخلية، وكذلك موت الكائن نفسه. ومن ثم، يجب أن يعمل الجينومان معًا لتوليد الطاقة. فأي إخفاق في التعاون بينهما ينتهي بالموت، ولكن الجينات الميتوكوندرية تتطافر بسرعة أسرع عشرة آلاف مرة من جينات النواة؛ مما يجعل ذلك التعاون المحكم قريبًا من المستحيل. هذا بالتأكيد أكثر صفة مميزة للخلايا حقيقية النوى. ولو أغفلنا هذا الأمر، معتبرين إياه مجرد نادرة من النوادر، وهو ما تتجه إليه معظم الكتب الدراسية، فهذا يشبه إغفال قرينة مهمة من القرائن. ولو كان من المفيد أن يتم التخلص من جميع الجينات الميتوكوندرية، لكان الانتقاء الطبيعي قد فعل هذا بالتأكيد قبل الآن بزمان، على الأقل بالنسبة لنوع واحد من الأنواع. لا بد إذن أن تكون تلك الجينات موجودة لحكمة ما.
لماذا يبقى الجينوم الميتوكوندري محفوظًا إذن؟ يقول العالم جون ألِن الذي ناقشنا أفكاره في الفصل الثالث إن الإجابة ببساطة هي: للتحكم في التنفس. ولا يُوجَد سببٌ آخرُ ذو أهمية نسبية كبيرة. والتنفس يعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين؛ فلمعظم الناس هو يعني مجرد التنفس الذي نعرفه، ولكن بالنسبة لعلماء الكيمياء الحيوية فالتنفس يُقصَد به تفاصيل عملية التنفُّس على المستوى الخلوي، وهي سلسلة من خطوات دقيقة يتم فيها التفاعل بين الغذاء والأكسجين لتوليد طاقة فولتية داخلية لها قوة البرق. ولا يمكنني التفكير في ضغط انتقائي أكثر مباشرة وفورية من التنفس، ونفس الشيء ينطبق على المستوى الجزيئي داخل الخلايا. فالسيانيد، على سبيل المثال، يُعَطِّل التنفس الخلوي ويقضي على وظائف الخلية وأنشطتها بأسرع مما يفعله كيس من البلاستيك يُربَط على الرأس لِتُكْتَم به الأنفاس. وحتى حين يعمل التنفس على نحوٍ طبيعيٍّ، فلا بد أن «يُنغَّم» بدقة بصفة مستمرة؛ مثل ضبط النغمة الموسيقية، وذلك بضبط الطاقة حسب الحاجة. وتقضي وجهة نظر ألِن المهمة بأن أقلمة الطاقة حسب الحاجة بهذه الطريقة تتطلَّب مرجعية ثابتة، وهذا يمكن فقط تحقيقه بالتحكم «الموضعي» في النشاط الجيني. وتمامًا مثلما يجب ألا يجري التحكم في التنظيم التكتيكي لأحد الجيوش على الأرض من قبل حكومة مركزية بعيدة، فإن النواة ليست في موقع مناسب لكي تضطلع بعملية التنغيم، بالزيادة أو النقص، لمئات عديدة من وحدات الميتوكوندريا داخل الخلية. ولذا فإن الميتوكوندريا تحتفظ بجينوم صغير لضبط التنفس، وملاءمة الطاقة للحاجة.
نظريًّا، تستطيع البكتيريا أن تتجنَّب مصاعبها التنفسية بأن تكون لها أغشية داخلية مُولِّدة للطاقة. وهذا يحدث عمليًّا لدرجة ما، كما أوردنا سابقًا؛ فبعض البكتيريا لديها أغشية خلوية داخلية مما يعطيها مظهرًا من مظاهر حقيقيات النواة. ولكنها لا تذهب إلى أبعد من هذا كثيرًا؛ فالخلية حقيقية النواة العادية لديها أغشية داخلية مُكرَّسة لتوليد الطاقة أكثر بمئات الأضعاف حتى من أكثر أفراد البكتيريا نشاطًا. وكما هو الحال في صفات أخرى كثيرة، بدأت البكتيريا في صعود سلم التطور، ثم توقَّفَتْ بعد فترة. فلماذا؟ إنني أشتبه في أن السبب هو عدم قدرتها على التحكم في التنفس من خلال مساحة أوسع تشغلها الأغشية الداخلية. فلكي تفعل هذا سيلزمها أن تجمع وتدخر في داخلها مجموعات عديدة من الجينات، كما في الميتوكوندريا، وهذا ليس من السهل تحقيقه كله. فكل الضغوط الانتقائية الملقاة على عاتق البكتيريا — بأن تتضاعف سريعًا؛ بحيث لا يكون لديها سوى أقل جينوم ممكن — تعمل ضد البكتيريا الكبيرة المُعقَّدة.
ولكن ذلك بالضبط هو ما تفرضه البلعمة الخلوية. فالخلايا البلعمية يلزمها أن تكون كبيرة الحجم لدرجة تكفي لأن تبتلع خلايا أخرى. ولكي تنجز عملية البلعمة؛ فإنها تحتاج إلى الكثير من الطاقة حتى تتحرك، وتغير شكلها، وتلتهم فريستها. ومشكلة البكتيريا أنها كلما كبرت في الحجم، صارت أقل نشاطًا وأقلَّ قدرة على استبقاء الطاقة لإنفاقها في التحرُّك وتغيير الشكل. ويبدو لي أن البكتيريا الصغيرة القادرة على التضاعف السريع يمكنها أن تسود على البكتيريا الأكبر حجمًا والأقل نشاطًا في كل مرة بشكل ملموس، وذلك قبل أن تتمكن تلك الخلية الأكبر من أن تُطوِّر جميع الخصائص متعددة الجوانب للخلية البلعمية.
إلا أن نظرية «المصادفة القَدَرية» هي شيء مختلف؛ ففيها يعيش اثنان من الخلايا بدائية النوى معًا في تناغم أيضي متبادل، وكلٌّ منهما تُقَدِّم للأخرى خدمةً ما. وتُعتبَر العلاقات التكافلية من هذا النوع شائعة بين بدائيات النوى، لدرجة أنها تكون القاعدة وليس الاستثناء. أما ما يُعتبَر أمرًا شديد الندرة، ولكن تمَّ تسجيل حدوثه في بدائيات النوى، فهو الابتلاع الحقيقي من أحد الشريكين للآخر. فإذا حدث هذا بالفعل؛ فإن الخلية بكاملها، بما فيها البكتيريا التي داخلها، تتطوَّر حينئذٍ ككيان واحد. وبينما يستمر كلٌّ منهما في تقديم الخدمة للآخر، يحدث تآكل تدريجي للصفات الزائدة عن الحاجة، إلى أن يُترَك للبكتيريا التي تَمَّ إدخالها مهمة بسيطة وحسب تُؤدِّيها لخلية العائل، ألا وهي توليد الطاقة؛ وذلك في حالة البكتيريا التي تحوَّلَتْ إلى ميتوكوندريا.
•••
في بدايات هذا الفصل أوردتُ أنَّنا لن نستطيع أن نفهم أو نُفسِّر أصل الخلية حقيقية النواة إلا حينما ندرك أهمية رمزها المميز؛ وهو النواة ذاتها. ومن ثم يجب الآن أن نعرض للنواة لكي نختتم هذا الفصل.
وفي مواجهة ندرة الأدلة القوية، أودُّ أن أعرض فرضية تخيلية رائعة أخرى، قَدَّمَها الثنائي البارع الذي صادفناه في الفصل الثاني؛ بيل مارتن ويوجين كونين. ولفكرتهما ميزتان عظيمتان؛ فهي تُفَسِّر السبب في أن النواة يجب أن تنشأ في خلية هجينة بصفة خاصة، وبالذات التي يكون نصفها عتائق ونصفها بكتيريا (وهو، كما عرفنا سابقًا، الأصل الأكثر مصداقية للخلية حقيقية النواة ذاتها). وهي تفسر السبب في أن نوى جميع الخلايا حقيقية النوى، في الواقع، يجب أن تمتلئ بالدي إن إيه حتى لو لم تكن تشفر لأي شيء، وهي في ذلك تختلف تمامًا عن البكتيريا. وحتى لو كانت الفكرة خطأ، فأعتقد أنها من «نوعية» الأفكار التي ينبغي أن ننشدها، وهي تعرض مشكلة حقيقية تواجه حقيقيات النوى المبكرة التي يجب أن تحلها بشكلٍ ما. وهذه هي نوعية الأفكار التي تُضِيف السحر إلى العلم، وأتمنَّى أن تكون صحيحة.
تدبَّرَ مارتن وكونين تركيبةَ «الجينات المقطعة» العجيبة التي تتسم بها الجينات حقيقية النوى، وهو الاكتشاف الذي جاء بوصفه واحدًا من أكبر مفاجآت علم الأحياء في القرن العشرين. فبدلًا من أن تترتَّب الجينات حقيقية النوى في خطوط بشكل منتظم مثل الجينات البكتيرية، فإنها تنقسم إلى فتات وقِطَع تَفْصِل بينها تسلسلاتٌ غير مشفِّرة. وهذه التسلسلات غير المشفرة تُسمَّى «المناطق داخل الجين» أو «الإنترونات»، ولم يدخل تاريخها التطوري الذي طالما حيَّرَ العلماء إلى دائرة الضوء إلا مؤخرًا.
بالرغم من وجود فروق كثيرة بين الإنترونات، فإننا الآن نعرف بعض التفاصيل المشتركة التي تكشف عن أنَّ سَلَفها المشترك هو نوع من «الجينات القافزة»، وهذا النوع قادر على أن يُصِيب جينومًا ما بالعدوى بأن يضاعف نفسه بلامبالاة كأنه جين أناني مجنون لا يهتم إلا بنفسه، وحيلته بسيطة إلى حدٍّ ما؛ فحينما تتمُّ قراءة الجين القافز على أنه من الآر إن إيه، وعادة ما يكون هذا جزءًا من تسلسل أطول، فإنه ينطوي تلقائيًّا إلى شكل يشبه مقصًّا من الآر إن إيه ويَفْصل نفسه عن الشريط الأطول، ثم يعمل كقالب ليولِّد نفسه بشكل متكرر على صورة دي إن إيه. ويتم إدخال الدي إن إيه الجديد إلى الجينوم، وذلك بطريقة شبه عشوائية؛ لتتكوَّن نُسَخ مطابقة للجين الأناني الأصلي. وثمة أنماط كثيرة من الجين القافز، وهي أنواع عجيبة أساسها واحد. وقد تَمَّ التأكيد على نجاحها التطوُّري المذهل من جانب مشروع الجينوم البشري وغيره من الجهود الهادفة لتحديد التسلسل الجيني. إن حوالي نصف الجينوم البشري يتكوَّن من جينات قافزة أو بقاياها البالية (الطافرة). وفي المتوسط، تَحْوي جميعُ الجينات البشرية في داخلها ثلاثةَ جينات قافزة أنانية؛ ميتة أو حيَّة.
بطريقةٍ ما، يكون الجين القافز «الميت» — وهو الذي فَسَد وذَوَى لدرجة أنه لم يَعُدْ قادرًا على «القفز» — أسوأ من الجين القافز «الحي». فعلى الأقل، الجين القافز «الحي» يَفْصِل نفسه عن الآر إن إيه دون أن يُسبِّب ضررًا حقيقيًّا، أما الجين الميت فإنه يبقى مكانه كقاطع طريق. فإذا لم يستطع أن يفصل نفسه، تكون خلية العائل مضطرة للتعامل معه، وإلا فقد يتحوَّل إلى بروتين ويسبب أضرارًا للخلية. ولقد ابتكرت الخلايا حقيقية النوى طريقةً لفصل أي آر إن إيه غير مطلوب في فترة مبكرة من تطوُّرها. وعلى نَحْوٍ مثير للاهتمام، تتلقَّف هذه الخلايا ببساطة مقص الآر إن إيه من الجين القافز، فتُجَنِّده وتشحنه بالبروتينات. وكل حقيقيات النوى الحية — من النباتات إلى الفطريات إلى الحيوانات — تستخدم هذا المقص العتيق لفَصْل الآر إن إيه غير المشفر. وبهذا نكون في مواجهة موقف غير عادي، تكون فيه جينومات الخلايا حقيقية النوى مُرصَّعة بالإنترونات المشتقة من جينات قافزة أنانية. وهذه تُفصَل عن الآر إن إيه في كل مرة يتم فيها التعامل مع أحد الجينات باستخدام مقص الآر إن إيه مسروق من الجينات القافزة ذاتها. وتكمن المشكلة — والسبب في علاقة تلك المشكلة بموضوع أصل النواة — في أن ذلك المقص العتيق بطيء القص شيئًا ما.
على العموم، لا تتحمَّل بدائيات النوى وجود الجينات القافزة ولا الإنترونات؛ ففي بدائيات النوى لا يُوجَد فَصْل بين الجينات نفسها وبين الجهاز المخصص لبناء بروتينات جديدة. ففي غياب النواة، تختلط الآلات البانية للبروتينات، أي الريبوسومات، بمادة الدي إن إيه ويتم التعامل مع الجينات ضمن قالب آر إن إيه، وذلك يُترجَم في آنٍ واحدٍ إلى بروتين. المشكلة أن عملية بناء البروتينات على يد الريبوسومات سريعة جدًّا، بينما يكون مقص الآر إن إيه الذي يتخلَّص من الإنترونات بطيئًا. ففي الوقت الذي يكون فيه المقص قد فصل أحد الإنترونات، تكون البكتيريا قد بَنَتْ عدة نسخ معيبة وظيفيًّا من البروتين المعتمد على الإنترون. ليس معروفًا كيف تخلص البكتيريا نفسها من الجينات القافزة والإنترونات (ويمكن معرفة ذلك بتنقية عملية الانتقاء ضمن مجموعات كبيرة من البكتيريا)، ولكن الواقع يقول إنها تستطيع ذلك، وأغلب البكتيريا تمكَّنَتْ من طرد جميع الجينات القافزة والإنترونات تقريبًا، وإن كان بعضها، بما فيها أسلاف الميتوكوندريا، لا يزال لديها بعضها. وحتى تلك البكتيريا يكون لديها فقط حوالي ثلاثين نسخة بكل جينوم، مقارنة بكميات هائلة تصل إلى آلاف أو ملايين النسخ في جينوم الخلية حقيقية النواة!
يبدو من الظاهر أن السلف الهجين لحقيقيات النوى قد استسلم لغزو من الجينات القافزة الآتية من الميتوكوندريا الخاصة به. ونحن نعرف هذا؛ نظرًا لأن الجينات القافزة في حقيقيات النوى تشابه في بنيتها تلك القليلة التي في البكتيريا. وفضلًا عن هذا، فإن أغلب الإنترونات في حقيقيات النوى الحية تُوجَد في نفس المكان تمامًا ضمن جينات حقيقيات النوى من الأميبا إلى النبات الشوكي، ومن الذبابة إلى الفطر إلى الإنسان. من المفترض أنه حدثت عدوى شاملة مبكرة من الجينات القافزة، التي نسخت نفسها في أنحاء الجينوم، ثم «ماتت» في نهاية أمرها وفسدت مُتحوِّلة إلى إنترونات ثابتة داخل سلف مشترك لجميع حقيقيات النوى. ولكن لماذا تندفع الجينات القافزة كالمسعورة داخل تلك الخلايا حقيقية النوى المبكرة؟ أحد الأسباب هو أن الجينات القافزة البكتيرية كانت تلهو وتتقافز على كروموسوم خلية العائل، من العتائق، الذي من الواضح أن لم تكن لديه فكرة عن كيفية التعامل معها. وسبب آخر هو أن المجموعات الأولى من الخلايا الهجينة لا بد أنها كانت صغيرة، ومن ثم لم يعمل الانتقاء التطهيري الذي يتخلَّص من العيوب الموجودة في أي مجموعات كبيرة من البكتيريا.
وأيًّا كان السبب، فإن حقيقيات النوى المبكرة واجهت مشكلة عويصة؛ إذ كانت موبوءة بالإنترونات، وكثير من تلك بدوره كان قد أُدْخِل ضمن بروتينات؛ وذلك لأن مقص الآر إن إيه لم يستطع أن يفصلها بسرعة كافية. صحيح أن ذلك الموقف لا يقتل الخلايا بالضرورة — إذ إن البروتينات التي اختلَّتْ وظيفيًّا تتحلل وفي نهاية الأمر ينهي «المقص» البطيء مهمته حتى يتم إنتاج بروتينات صالحة وظيفيًّا — إلا أنه تضمَّنَ قَدْرًا كبيرًا من الفوضى بالتأكيد. ولكن كان يُوجَد حلٌّ واضح أمام تلك الخلايا المشوشة. فكما يقول مارتن وكونين، هناك وسيلة بسيطة لاستعادة النظام، ولإنتاج بروتينات صالحة وظيفيًّا طوال الوقت، وهي أن نتأكد من أن «المقص» يحصل على وقتٍ كافٍ لينهي مهمته في القص قبل أن تتابع الريبوسومات مُهمَّتَها في بناء البروتينات. بتعبير آخر، أن نتأكد من أن الآر إن إيه، مع إنتروناته، يتَّجِه أولًا إلى المقص، وحينئذٍ فقط يتم تمريره إلى الريبوسومات. وهذا الانفصال في الوقت يمكن تحقيقه ببساطة بانفصال مكاني، وذلك باستبعاد الريبوسومات من جوار الدي إن إيه. فكيف يتم هذا؟ يتم باستخدام غشاء به فتحات واسعة نسبيًّا! فإذا خصصت الخلية غشاءً موجودًا بالفعل، وجمعت الجينات داخله، وتأكَّدَتْ من وجود مسامات كافية لنقل الآر إن إيه إلى الريبوسومات، فسيكون كل شيء على ما يرام. وهكذا فإن النواة، التي هي الشيء المميز لجميع حقيقيات النوى، لم تنشأ وتتطوَّر لتحمي الجينات مطلقًا، على حد قول مارتن وكونين، ولكن لكي تستبعدها من مصانع بناء البروتينات في السيتوبلازم.
قد يبدو هذا الحل حادًّا ومتسرعًا (وإن كان مفيدًا من المنظور التطوُّري) ولكنه قدَّم على الفور بعض المزايا؛ فبمجرد أن تصير الجينات القافزة مأمونة لا تُشكِّل تهديدًا، فإن الإنترونات نفسها تتحوَّل إلى نعمة بدلًا من أن تكون نقمة. السبب الأول هو أنها مَكَّنَت الجينات من التجمُّع معًا بشكل مختلط، بطرق مختلفة وغير عادية، فأنتجت خليطًا «فسيفسائيًّا» من البروتينات الفعالة، وهو مظهر أساسي لجينات حقيقيات النوى اليوم. فإذا كان جين مُعيَّن يتكوَّن من خمس مناطق تشفيرية مختلفة، فإن الإنترونات يمكن فصلها بطرق مختلفة؛ مما يعطي تشكيلة من البروتينات ذات الصلة من نفس الجين. وإذا كان هناك حوالي ٢٥ ألف جين فقط في الجينوم البشري، فإنها عند خلطها عشوائيًّا — بالطريقة المذكورة توًّا — ينتج عنها ما لا يقل عن ٦٠ ألف بروتين مختلف، وهي ثروة من الاختلاف والتباين. فإذا كانت البكتيريا هي أكثر الكائنات تحفظًا، فإن الإنترونات حَوَّلت حقيقيات النوى إلى كائنات دائمة التجريب بلا هوادة!
ثمة نعمة أخرى، هي أن الجينات القافزة مكَّنَتْ حقيقيات النوى من أن تزيد حجم جينوماتها. فبمجرد أن اتخذت حقيقيات النوى الأسلوب البلعمي للحياة، لم تَعُدْ مُقيَّدة بأسلوب الكدح على طول الزمان الذي يُمَيِّز الحياة البكتيرية، ولا سيما حاجتها لكبح أنفسها بهدف التضاعف السريع. لم يَعُدْ يتعيَّن على حقيقيات النوى أن تتنافس مع البكتيريا، بل يمكنها أن تلتهمها وتهضمها في داخلها في وقت فراغها. وحينما تحرَّرَتْ حقيقيات النوى الأولى تلك من الحاجة إلى السرعة، استطاعت أن تجمع وتركُم الدي إن إيه والجينات، مع إعطائها مجالًا لمزيد هائل من التعقيد. وقد ساعدت الجينات القافزة على زيادة حجم جينومات حقيقيات النوى إلى آلاف الأضعاف أكثر من الحجم البكتيري العادي. صحيح أنَّ قَدْرًا كبيرًا من الدي إن إيه الزائد كان قليل الفائدة، فإن بعضه تعاوَنَ لتشكيل جينات وتسلسلات تنظيمية جديدة. وتَبِع ذلك قَدْرٌ أكبرُ من التعقيد كأثر جانبي.
لا أبالغ إذا تحدثت عن حتمية الحياة المعقدة على الأرض أو حتمية الوعي الإنساني؛ فالعالم ينقسم إلى قسمين: بدائيات النوى طويلة الأمد، وحقيقيات النوى المتنوعة والمتعددة الأشكال والألوان. ويبدو أن الانتقال من الأولى إلى الثانية ليس تطورًا تدريجيًّا، وليس صعودًا بطيئًا نحو التعقيد؛ إذ هناك مجتمعات لا حصر لها من بدائيات النوى تظهر عليها كل علامات التنوع. بالتأكيد هناك مجتمعات شاسعة من البكتيريا ملكَتْ طرقًا كثيرة من التنوع والنجاح بوصفها بكتيريا، ولكنها بقيت هكذا على الدوام؛ فهي مقيدة بعدم قدرتها على زيادة حجمها وطاقتها في نفس الوقت. ولم يكسر حاجز الفشل هذا إلا حَدَثٌ نادر عَرَضي؛ وهو تعاون بين خليتين من بدائيات النوى، دخلت إحداهما بطريقة ما في الأخرى. إنها مصادفة عجيبة. وقد واجهت الخلية الهجينة الجديدة العديد من المشكلات، ولكن تحقق لها شيء جديد ومهم من الحرية الرائعة؛ وهي الحرية في الزيادة في الحجم دون التعرض لعقوبة تضر بطاقتها ونشاطها قد تسبب لها العجز والتوقف، والحرية في أن تصير خلية بلعمية، وتخرج عن الطوق البكتيري. ولما واجهتها مشكلةُ تفشِّي الجينات الأنانية، فلربما لم يقتصر الحل السعيد على مجرد تكوُّن نواة للخلية ولكن الميل كذلك إلى جمع الدي إن إيه وإعادة ضمِّه ضمن تلك الكوكبات الرائعة التي لا حصر لها من الكائنات التي تعيش حولنا. وهذه مصادفة أخرى. يبدو إذن أن هذا العالم من الروائع حولنا قد انبثق عن مصادفتين مقصودتين كبيرتين، وعلى هذه الخيوط الرقيقة تتعلق أقدارنا. وإنه من حسن حظنا أننا نعيش جميعًا هنا من الأساس.